التصرف الذي يتم بإرادة واحدة - الهبة والصدقة
مواضيع وعروض في القانون العقاري و الحقوق العينية في مختلف المواضيع. المحررات الاكترونية في المعاملات العقارية، عروض في القانون العقاري، عروض في الحقوق العينية، الملكية في القانون المغربي، قراراتالمحافظ، التعرضات، النظام العقاري في المغرب، المساطر الخاصة للتحفيظ، المسطرة الادارية للتحفيظ، المسطرة القضائية للتحفيظ
التصرف الذي يتم بإرادة واحدة - الهبة والصدقة:
نتكلم على الهبة والصدقة لأنهما يكونان سببا لكسب الملكية التامة بخلاف غيرهما من أنواع التبرعات كالحبس و العرية فإنها أسباب لكسب المنفعة فقط لذلك عالج المشرع المغربي الهبة في الفصل الثاني بالمواد من 273 إلى 289، والصدقة في الفصل الثالث بالمادتين 290 و 291 من الباب الثاني من الكتاب الثاني تحت عنوان أسباب كسب الملكية والقسمة من مدونة الحقوق العينية.
إذا فالهبة والصدقة من الأسباب التي تكتسب بها الملكية، مثل البيع و المعارضة والوصية ..... فهذه كلها عقود تنصب أساسا عـلــــى نقل الملكية مـن شخص إلـــى آخــــر. وكلها اختيارية، فلا يدخل في ملك الإنسان شيء بغير تراض. وهذا التراضي قد يكون بعوض كما في عقود المعاوضات، أو على سبيل التبرع كما في عقود التبرعات أو على سبيل التبرع ابتداء والمعاوضة انتهاء كالقرض والهبة بشرط العوض. وفي الهبة أو الصدقة يتخلى الواهب أو المتصدق مجانا عن ملكية شيء أو حق إلى الغير، فالملكية تنتقل من الواهب أو المتصدق إلى الموهوب له أو المصدق عليه نقلا تاما في العناصر الثلاث لحق الملكية، من الرقبة '' الحق في التصرف'' إلى الاستعمال و الاستغلال. ويترتب على هذا الانتقال أن يبسط الموهوب له أو المتصدق عليه إرادته على الشيء أو الحق الموهوب أو المتصدق به، يتصرف فيه ويستعمله ويستغله وفق مشيئته إرادته وفي ضوء الضوابط الشرعية والقانونية والاتفاقية.
وعليه، لدارسة موضوع الهبة والصدقة كسبب من أسباب كسب الملكية فقها وقانونا، يحمل بنا التعرض لمفهوم عقد الهبة وعقد الصدقة، وأوجه الاشتراك والاختلاف بينهما، ثم أركانهما وشروطهما، ونختم بالأحكام والآثار المترتبة عن هذه العقود التبرعية.
1) تعريف الهبة والصدقة فقها وقانونا وأوجه الاشتراك والاختلاف بينهما:
يقصد بالهبة لغة: "العطية الخالية من العواض". أما اصطلاحا: فعرف الفقهاء الصدقة بأنها:''تمليك ذي منفعة لوجه الله بغير عوض''. وعرف ابن عرفة الهبة بقوله:'' الهبة لا لثواب تمليك ذي منفعة لوجه المعطى بغير عوض. بينما عرف المشرع المغربي الهبة في المادة 273 من م.ح.ع التي جاء فيها :''الهبة تمليك عقار أو حق عيني عقاري لوجه الموهوب له في حياة الواهب بدون عوض''. وعرفت المادة 290 من م.ح.ع الصدقة: "بأنها تمليك بغير عوض لملك ويقصد بها وجه الله تعالى".
عمل القانون على تعريف الهبة والصدقة ولو أن الأصل في التعاريف أنها من أعمال الفقه لا من أعمال القانون والتعريف ينبغي أن يكون جامعا مانعا فوقع المشرع في المحظور فقد بدأت المادة 273 من م.ح.ع بمصطلح الهبة على التعميم والإطلاق دون تخصيص ولا تقييد مع أن الكلام فيها انصرف إلى العقار والحقوق العينية العقارية وكأن الهبة تقع على العقار دون المنقول وهذا غير صحيح فالهبة تقع على مختلف الأموال العقارية والمنقولة والحقوق المادية والمعنوية فكان أن يرد النص على الصيغة التالية :''فالهبة تمليك عقار أو منقول أو حق عيني عقاري...''
فضلا على ذلك ما المقصود من مصطلح الحق العيني الوارد في نص المادة المذكورة؟
إن السر من طرح هذا التساؤل أن المادة السالفة الذكر عممت في مصطلح الهبة حتى اشتمل الحقوق العينية العقارية كلها مع أن هذه الحقوق منها ما يقع على المنفعة فقط كحق الانتفاع والعمري والاستعمال والوقف. وهذه وإن جرت عليها العطية لا تسمى بالهبة وإنما بمسمياتها وأحكامها الخاصة والذي يؤكد هذا الكلام أن مدونة الحقوق العينية نظمت أحكام الوقف كما أن مصطلح الحق العيني العقاري الوارد في المادة السالفة الذكر،حددته المواد:8و9و10 من نفس المدونة فجاء في المادة 8 منها:'' الحق العيني العقاري هو سلطة مباشرة يخولها القانون لشخص معين على عقار معين ويكون الحق العيني أصليا وتبعيا".
لكن حتى نوفق بين ما ورد في المادة 273 و المواد :8و9و10، وجب حمل مصطلح الحق العيني الوارد في المادة 273 على الحقوق العينية المتعلقة بالأشياء برمتها لا على مجرد المنافع منها، فيخرج بذلك حق الانتفاع والاستعمال والعمرى والحبس'' الوقف'' من مصطلح الهبة.
يستفاد مما سبق بأن عقود التبرع متعددة من هبة وصدقة ووقف وعمري...والهبة والصدقة يترتب عليهما تمليك الرقبة والمنفعة أي الانتقال التام للملكية، وأما في الوقف والعمرى فلا تمليك إلا للمنفعة فقط تمليك تأبيد في الوقف أو توقيت في العمرى واستبقاء الرقبة بين يدي الواقف أو المعمر أو ورثتهما. ورغم هذا الخلاف فان الأركان والأحكام واحد إلا فيما يستثنى وهو قليل، كذلك الهبة والصدقة شيء واحد والفارق بينهما أن الصدقة يقصد بها التقرب إلى الله تعالى ونيل ثواب الآخرة، في حين أن الهبة يقصد بها شخصية الموهوب له والتقرب إليه. وتطبق عليهما نفس الأحكام إلا في الوجهين الآتيين:
الأول: أنه لا ينبغي( أي يكره وقيل يحرم) للمتصدق أن يرجع ما تصدق به إلى ملكه بشراء أو هبة أو غير ذلك، بخلاف الهبة، فإنه يمكن للواهب أن يرجع ما وهبه إلى ملكه بشراء أو هبة، باستثناء ما وهبه للأيتام أو للفقراء أو لأولى الأرحام كالعمة والخالة والبنت فلا ينبغي للواهب أيضا أن يرجعه إلى ملكه لأنه بمثابة الصدقة.
الثاني: أنه يحق لمن وهب ابنه شيئا أن يسترده منه عن طريق ما يسمى بالاعتصار بخلاف من تصدق بشيء حيث لا يحق له أن يسترده.
2)أركان الهبة والصدقة، وشروطهما:
تنعقد الهبة والصدقة بما تنعقد به جميع العقود المدنية، على اعتبار أن الهبة والصدقة وإن كانتا التزام بإرادة منفردة إلا أنها لا تنعقد ما لم تتم بالتراضي أي اقتران الإيجاب بالقبول، ولم يتطلب المشرع أن يكون التراضي في مجلس العقد، بل يمكن أن يأتي لاحقا على ذلك أو في وثيقة مستقلة عن عقد الهبة. ورتب البطلان على عدم تحرير عقد الهبة في محرر رسمي. وفي المقابل اعتبر الهبة من العقود الشكلية الذي لا يقوم إلا إذا أخد شكل محرر رسمي.
وعلم من تعريف الهبة والصدقة بأنه جامع لهما، وإنما التغاير بقصد ثواب الآخرة وقصد وجه المعطى، وبذلك تكون أركان الهبة وشروطها تنطبق على الصدقة، وذلك ما أكدته المادة 291 من م.ج.ع بالعبارة التالية: "تسري على الصدقة أحكام الهبة...''
فتتمثل هذه الأركان في أربعة: الواهب(المتصدق)،الموهوب له(المتصدق له) والوهوب (المتصدق به) ثم الشكلية أو الصيغة.
أ/ الواهب:
يقصد بالواهب الشخص الذاتي أو المعنوي الذي أقدم على هبة مال أو حق مالي لفائدة الغير سواء كان هذا الغير شخصيا ذاتيا أو معنويا، بل و حتى الجنين في بطن أمه إلى أن يولد.
ويشترط في الواهب مجموعة من الشروط نجملها فيما يلي:
- أن يكون كامل الأهلية: هذا ما نصت عليه المادة 275 من م.ج.ع بقولها: "يشترط لصحة الهبة أن يكون الواهب كامل الأهلية...'' التساؤل الذي يطرح نفسه من خلال هذه المادة ما المقصود بالأهلية؟ وكيف تتحقق في الشخص الواهب؟
الأهلية نوعان أهلية أداء وأهلية وجوب، ويقصد بأهلية وجوب كما عرفها بعض الفقه: "بأنها صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه"، أما أهلية الأداء فهي: "صلاحية الشخص لممارسة حقوقه الشخصية والمالية، ونفاذ تصرفاته".
وعلى هذا الأساس فإن كل شخص وصل سن الرشد القانوني "18 سنة شمسية كاملة'' متمتعا بقواه العقلية ولم يحجر عليه يكون كامل الأهلية لإبرام جميع العقود سواء كانت عقود اغتناء أو عقود إدارة أو عقود تصرف أو عقود تبرع.
وقد ورد في القوانين الفقهية لابن جزي أن من شروط الهبة أن يكون الواهب مالكا أمر نفسه، وهذا مجمع عليه، غير أن التساؤل المطروح عن حكم الهبة في مرض الموت؟
عرف فقهاء المالكية مرض الموت بأنه: '' ما حكم أهل الطب بأنه يكثر الموت في مثله ولو لم يغلب''.
وقد قضى المجلس الأعلى(محكمة النقض): بأن من أهم شرط لاعتبار المرض مرض الموت هو أن يكون مخوفا، أي أن يكون من الأمراض الخطيرة التي لا يرجى منها أي شفاء من الناحية الطبية وتؤدي بصاحبها غالبا إلى الوفاة. وأن مرض تشمع الكبد والنزيف الهضمي، مرض مخوف وقاتل ويعتبر مرض الموت.
والتساؤل الذي يطرح نفسه، هل تضمين العدلين في رسم الهبة أو الصدقة عبارة الأثمينة التي تعني في عرفهم الصحة والطوع والجواز تقوم مقام الشهادات الطبية لإثبات حالة الواهب او المتصدق الصحية أثناء إبرام العقد؟
يجيبنا عن ذلك قرار صادر المجلس الأعلى: (محكمة النقص) الذي جاء في حيثياته بأن: '' الأثمية التي يضمنها العدلان في رسم الصدقة إنما تتعلق بصحة التعاقد ظاهريا، ولا تثبت عدم إصابة المتصدق بمرض الموت الذي يمكن الاستعانة بالأطباء المختصين لإثباته''.
وعند الإمام مالك انه يجري مجرى المريض كل ما يخاف منه الموت، مثل الكون بين الصفين وقرب الحامل من الوضع، وراكب البحر المرتج ، وفيه اختلاف وهذا الاتجاه أخد به قانون المعاملات المدنية السوداني حين نص في المادة 224 منه'' ويعتبر في حكم مرض الموت الحالات التي يحيط الإنسان فيها خطر الموت، ويغلب في أمثالها الهلاك ولو لم يكن مريضا''.
وفي ضوء ما سبق نتساءل عن موقف المشرع المغربي من هذه الحالات المشاهبة لمرض الموت، خاصة وأنه سكت عن ذلك ولم ينص على تلك الحالات لا على سبيل الحصر أو المثال، وإنما اكتفى بمرض الموت فقط بقوله صراحة في الفقرة الأولى من المادة 280: '' تسري على الهبة في مرض الموت أحكام الوصية". وبالتالي هل يمكن الاستناد على قانون الالتزامات و العقود كما أشارت إلى ذلك المادة 1 من م.ج.ع الذي نص في المادة 54 منه على أن :" أسباب الإبطال المبنية على حالة المرض و الحالات المشابهة متروكة لتقدير القضاء".
و بناء عليه، إذا ثبت أن الواهب كان في مرض الموت، فما حكم هذه الهبة ؟
ميز السلف الصالح بين حالتين، الحالة الأولى التي تكون فيها الهبة لفائدة الأجنبي غير الوارث، و الحالة التي تجري فيها الهبة لفائدة أحد الورثة.
- الحالة الأولى: يرى جمهور الفقهاء بأن هبة المريض مرض الموت لغير الوارث تقوم مقام الوصية و تنفذ في حدود ثلث التركة.
- الحالة الثانية: إذا كان المتبرع عليه من ورثة المتبرع أمكن لباقي الورثة أن يردوها، ويصير المتبرع به إرثا.
أما إذا صح المتبرع من ذلك المرض المخوف و لم يمت داخل عدة أشهر من شفائه فإن تبرعه يكون صحيحا. غير أن الجمهور يرى أن هبة جميع المال لبعض الورثة دون البعض أو تفضيل بعضهم عن الآخر فهو مكروه و روي عن مالك المنع، لما فيه من عدم العدل بين الورثة.
و قد حسم المشرع المغربي هذا الخلاف عندما نص في المادة 280 م.ج.ع على أنه : "تسري على الهبة في مرض الموت أحكام الوصية". إلا أنه إذا لم يكن للواهب وارث صحت الهبة في الشيء الموهوب بكامله. غير أنه إذا قتل الموهوب له الواهب عمدا حق لورثته إبطال الهبة".
و إذا كان الطعن في التبرع الواقع في مرض الموت لا يثير إشكالا بالنسبة للوارث الراشد، فله أن يمارس الطعن أمام محكمة الموضوع على شرط إثبات واقعة هذا المرض، و أنه مرض موت حقا، و الأمر يوكل تقديره للقاضي في ضوء تقارير الأطباء و شهادة الشهود. لكن بالنسبة للوارث القاصر فإن المسألة تثير استفسارا إذا امتنع أو تهاون الحاجر في إقامة هذه الدعوى و غيرها من الإجراءات التحفيظية نيابة عن محجوره، فهل على القاصر أن ينتظر بلوغ سن الرشد، و في ذلك ضرر بين عليه ؟أم أنه له إقامة الدعوى و لو قبل هذه السن ؟ خلافا لما يقضي به الفصل 1 من ق.م.م من شرط ثبوت أهلية التقاضي ؟
أذهب إلى القول بأنه لا مانع يمنع القاصر من إقامة هذه الدعوى، و هو لم يبلغ سن الرشد، لما في هذا الإجراء من نفع ظاهر له، و خاصة أن المشرع في الفصل 5 من ق.ل.ع أجاز للقاصر و لناقص الأهلية أن يجلبا لنفسهما نفعا، و لو دون إعانة من الحاجر، جاء في هذا الفصل: "يجوز للقاصر و لناقص الأهلية أن يجلبا لنفسهما نفعا و لو بغير مساعدة الأب أو الوصي أو المقدم، بمعنى أنه يجوز لهما أن يقبلا الهبة أو أي تبرع آخر من شأنه أن يثريهما أو يبرئهما من التزام دون أن يحملهما أي تكليف". كما اعتبرت المادة 225 من م.أ تصرفاته النافعة نفعا محضا نافذة. و المادة 276 من م.ج.ع أجازت لناقص الأهلية قبول الهبة و لزمه وجود حاجره.
- أن يكون مالكا للشيء الموهوب وقت الهبة : إن من شروط صحة الهبة أن يكون المال الموهوب ملكا للواهب، إذ لا يعقل أن يهب شخص مال الغير.
لكن في اعتقادنا لا يجب السير على منهج التأويل الحرفي للنص، ذلك أ المادة 275 من م.ح.ع اشترطت لصحة الهبة أن يكون الواهب مالكا للعقار الموهوب أثناء الهبة، و رتب البند الثاني من المادة 277 من نفس المدونة البطلان على هبة عقار الغير، حيث يجب في نظرنا أن تكون الهبة موقوفة لا باطلة، وتصبح نافذة متى أقرها المالك. و يكون حكم الهبة في هذه الحالة حكم بيع ملك الغير، لا يقع صحيحا إلا إذا أقره المالك أو كسب الواهب فيما بعد الشيء الموهوب و إذا رفض المالك إقرار الهبة اعتبرت الهبة و كأن لم تكن لعدم صحتها.
- أن لا يكون الواهب معسرا: نصت المادة 278 من م.ح.ع : "لا تصح الهبة ممن كان الدين محيطا بماله".
إن تطبيق المادة أعلاه خلق جملة من المشاكل، لا سيما بالنسبة للمحافظين على الأملاك العقارية، بالنظر إلى التأويلات المتباينة مما حدا بالمحافظ العام إلى إصداره دورية في موضوع تطبيق هذه المادة.
و قد تضمنت هذه الدورية أنه : "وتبعا لاستشارة الأمانة العامة للحكومة التي اقترحت تقديم طلب لوزارة العدل و الحريات لتميم مقتضيات المادة 278 المذكورة، وذلك من أجل تلافي الاختلاف في تأويل مقتضياتها، فقد تمت مراسلة وزارة العدل و الحريات في الموضوع، التي أوضحت من خلال رسالتها الجوابية عدد 24 بتاريخ 5 فبراير 2015، أن الأمر لا يحتاج إلى تعديل تشريعي حيث جاء فيها ما يلي: "ونظرا لكون الإشكال المطروح قد صدر فيه قرار قضائي عن محكمة النقض يفسر مقتضيات المادة 278، فإنه يبدو أن الأمر أصبح لا يحتاج لتعديل تشريعي مستندة في ذلك إلى قرار محكمة النقض رقم 309/1 بتاريخ 3 يونيو 2014 في الملف عدد 2013.11.5299 و الذي تضمن في تعليله : "إن مقتضيات المادة 278 من مدونة الحقوق العينية و إنما تقررت لفائدة الدائنين الذين لهم وحدهم الصفة لطلب إبطال الهبة إذا أحاط الدين بمال الواهب المدين. وأنه أمام موافقة الدائن المرتهن المقيد الوحيد كدائن على الرسم العقاري موضوع الهبة، فإنه ليس هناك مجال للمحافظ على الأملاك العقارية للتمسك بمقتضيات الفصل 278 المذكور.
و بناء عليه، فإنه لا مانع من الاستجابة لطلبات تقييد أو إيداع عقود الهبة المرفقة بموافقة الدائن المرتهن، و ذلك في حالة عدم الإدلاء برفع اليد عن الرهن، و متى استوفت باقي الشروط المتطلبة قانونا"
و هكذا يتضح أن صياغة المادة 278 م.ح.ع كانت معيبة و خلقت مشاكل عند التطبيق و كان من الأجدر إتباع ما ذهب إليه السلف الصالح من حيث التمييز بين أن يكون الدين حدث قبل القبض أو بعده.
ففي المذهب المالكي ليس لمن أحاط الدين بذمته أن يتصرف في أمواله إضرارا بدائنيه، و إذا فعل كان تصرفه باطلا، يقول ابن رشد في المقدمات الممهدات: "و من أحاط الدين بماله فلا تجوز له هبة و لا صدقة و لا عتق و لا إقرار بدين لمن يتهم عليه، و يجوز بيعه و ابتياعه، ما لم يحجز عليه.... و إن وهب أو تصدق و عليه ديون كثيرة و بيده مالا يدري إن كان يفي بما عليه من الديون أم لا، فالهبة و الصدقة جائزة حتى يعلم أن ما عليه من الدين يستغرق ماله". و في هذا المعنى يقول الشيخ خليل: "وبطلت إن تأخر لدين محيط". فالهبة و ما في حكمها تبطل بعد إحاطة الدين بالواهب. كما تبطل و لو انعقدت قبله إذا لم تحز إلا بعده. فالشرط في العطية حصول الحوز قبل مانع الموت و الفلس و المرض و الجنون و العته و السفه في المذهب المالكي. يقول الخرشي في شرح قول خليل: "ثم إن الهبة تبطل إذا تأخر حوزها عن الواهب في صحته حتى لحقه دين محيط بما له سواء كان قبل الهبة أو بعدها لفقد الشرط وهو الحوز" ويقول صاحب التحفة:
صدقة تجوز إلا مع مرض موت وبالدين المحيط تعترض.
وتجدر الإشارة بأن القضاء المغربي لا يقضي بإبطال عقد الهبة كلما طلب منه ذلك ولكن بعد أن يكون الطالب قام بما يلزم من إجراءات قانونية موازية ولا سيما إذا كان الطالب مبنيا على حالة الإعسار.
وهكذا قضى بأن إبطال عقد الهبة رهين بإثبات الدائن عسر المدين الواهب، وأنه تبرع بماله للغير وإضرارا بدائنيه فإنه كان عليه بدءا أن يسعى إلى التنفيذ الجبري للحكم ولتحقيق الرهن بدل المطالبة بإبطال عقد الهبة بدعوى الصورية.
ب- الموهوب له:
إذا كانت صفة الواهب لا تقوم إلا إذا كان كامل الأهلية، ولا سيما أهلية الأداء فإنه بالنسبة للموهوب له يكفي أهلية الوجوب، فقد نصت المادة 276 من م.ج.ع على أنه: "إذا كان الموهوب له فاقد الأهلية، فيقبل عنه الهبة نائبه الشرعي، فإن لم يكن للموهوب له نائب شرعي عين له القاضي من ينوب عنه في القبول، أما إذا كان الموهوب له ناقص الأهلية فقبوله الهبة يقع صحيحا ولو مع وجود النائب الشرعي''.
ورغم أن الهبة تنعقد بالإيجاب والقبول فإنه مع ذلك يبقى عقدا متوقفا على حصول الحوز قبل حصول المانع حتى يعتد به وترتيب أثاره، ويحصل المانع إما بالوفاة أو الإفلاس أو الجنون. وفي هذا يقل خليل:'' ولا إن بقيت عنده''. يقول الخرشي في شرحه: "والمعنى أن الهبة إذا بقيت عند واهبها إلى أن أفلس أو إلى أن مات فإنها تبطل لفوات الحوز"..
وقد اعتبر فقهاء المالكية القبض في الهبة من شروط التمام لا من شروط الصحة، في حين يرى الشافعي وأبي حنيفة أن القبض شرط صحة، بينما قال أحمد وأبو ثور : تصح الهبة بالعقد وليس القبض من شروطها أصلا، لا من شروط تمام ولا من شرط صحة. وقد روي عن أحمد بن حنبل أن القبض من شروطها في المكيل والموزون فعمدة من لم يشترط القبض في الهبة تشبيهها بالبيع وعمدة من اشترط القبض أن أبا بكر رضي الله عنه حين حضرته الوفاة قال لابنته عائشة رضي الله عنها:'' والله يا بنية ما من الناس أحد أحب إلي غنى بعدي منك وأعز عليا فقرا بعدي منك وأني كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا فلو كنت جددتيه واحتزتيه كان لك وانما اليوم مال وارث...''
أما إذا طلب الموهوب له الهبة من الواهب فامتنع من دفعها له، فجد في تحصيل القبض فلم يتمكن منه حتى مات الواهب فان الهبة لا تبطل قاله ابن الماجشون ومذهب ابن القاسم. وقيل بجبر الواهب على تمكين الموهوب له من الشيء الموهوب لان الهبة تملك بالقبول على المشهور فله طلبها من حيث امتنع ولو عند الحاكم ليجبره على تمكين الموهوب له منها.
وهو ما أخد به ضمنيا المجلس الأعلى (محكمة النقض) عندما قضى بأنه: "ما دام المتبرع لا زال على قيد الحياة و ليس ممن أحاط الدين بماله، فإن المجال يبقى مفتوحا أمام المتبرع له، للجد في طلب الحصول على الحيازة رضاء أو قضاء، و لو في مواجهة المتبرع. و لا تستجيب المحكمة لطلب إبطال التبرع لانتفاء شرط الحوز مادام لم يفت أجل المطالبة به لموت المتبرع أو فلسه.
و بالرجوع إلى المادة 273من م.ح.ع التي اشترطت تمليك الموهوب له للعقار الموهوب في حياة الواهب، و أحكام الهبة تسري على الصدقة. إلا أن المادة 274من م.ح.ع في الفقرة الاخيرة منها نصت على أن إدراج الهبة بمطلب التحفيظ، يغني عن الحيازة الفعلية و عن الإخلاء. فما هو وجه التوفيق بين المادتين، و الحال أن مطلب التحفيظ لا يدل على التملك النهائي لاحتمال التعرضات، و المطلب قد يصمد أو يسقط أو يعدل؟
و للتوفيق بين المادتين يجب حذف قول بإدراج الهبة بمطلب التحفيظ و أنه يغني عن الحيازة الفعلية و الإخلاء من نص المادة 274، لأن الأحكام لا تنبني على الاحتمال و الشك لا يزول إلا باليقين، من ثم يبقى الحوز الفعلي هو الأسلم في العقارات غير المحفظة و الحقوق العينية الواقعة عليها.
أما بالنسبة للعقارات المحفظة فهناك اتجاه اشترط الحوز الشرعي على أساس أن عقود التبرع و من في حكمها لا يخضع لقانون التحفيظ العقاري، و إنما بصفة حصرية للفقه الإسلامي، في حين يرى جانب من الفقه بأن الحيازة القانونية تغني عن الحيازة الفعلية مستندين على مقتضيات الفصلين 66 و 67 من قانون التحفيظ العقاري الصادر في 12 غشت 1913، اللذان ينصان على أنه إذا لم يقع تسجيل عقد التبرع فلا يعتد به و لا يعتبر من الناحية القانونية موجودا، حتى مع وجود الحيازة الفعلية.
لذلك نرى بأن التدخل التشريعي كان موقفا لحسم النقاش بصفة قطعية و توحيد الاتجاهات الفقهية و القضائية بخصوص الحوز في التبرعات و اعتبر الحيازة القانونية كافية لصحة الهبات بكافة أنواعها، وذلك عندما جاء بصريح العبارة، بأن التقييد بالسجلات العقارية يغني عن الحيازة الفعلية وإخلاء الواهب. و لو أن التعبير غير سليم بالقول بالسجلات العقارية فالصواب الرسوم العقارية. و هذا الموقف لا يتناقض مع المالكية التي لا تشترط القبض لصحة الهبة و لا للزومها، و إنما هو شرط لتمامها.
و تجدر الإشارة، إلى أن الحوز في المنقولات يتم بين الواهب و الموهوب له بالتسليم و القبض عن طريق المناولة و المعاطاة من اليد إلى اليد، إما بالأصالة أو بالنيابة، فالواهب أو غيره حين يخرج الشيء الموهوب من حرزه و يده و يضعه في حرز و يد الموهوب له، يــكــــون قـــد حـــوزه إيـــاه. و الحيازة في المنقول سند الملكية. و ذمة الواهب لا تبرأ إلا بتسليم ما ورد عـــلـــيـــه الالــــتــــزام قـــــدرا و صنفا. و ليس له أن يجبر الموهوب له على قبول شيء آخر.
ج- الموهوب :
المحل في الهبة و الصدقة: هو الشيء أو الحق الذي يلتزم الواهب بتسليمه إلى الموهوب له، بدون مقابل. و استنادا على المادة 273 من م.ح.ع يمكن لكل شخص أن يهب لغيره العقارات أو الحقوق العينية العقارية.
و ينقسم العقار إلى نوعين، عقار بالتخصيص و عقار بالطبيعة، و بالتالي، هل يمكن أن يكون محلا للهبة العقارات بالطبيعة و كذا بالتخصيص ؟
في اعتقادنا يجب التمييز بين أن تنصب الهبة على العقار و ملحقاته، و بين أن تقتصر على العقار بالتخصيص. فإذا تعلقت الهبة بالعقار بالطبيعة و كذا المنقول الذي رصد لخدمته أو من ملحقاته، تكون الهبة شاملة لكلاهما قياسا على عقد البيع، ذلك أن الالتزام بتسليم الشيء يشمل أيضا توابعه، و بيع الأرض يشمل ما يوجد فيها من مبان و أشجار، كما أن البناء قد يشمل ملحقاته المتصلة به اتصال قرار كالأبواب و النوافذ...
أما إذا تعلق الأمر فقط بالعقار بالتخصيص، تكون الهبة قد انصبت على منقول بعد فصله عن العقار بالطبيعة، و مدونة الحقوق العينية لم تأخذ صراحة بهبة المنقول، عكس القانون المدني الأردني مثلا الذي نص في المادة 566 على انه يكون عقد الهبة في المنقول بالقبض دون حاجة إلى تسجيل.
لكن هل يمكن أن يكون محل الهبة حقوقا شخصية، كالديون مثلا ؟
لم تتطرق مدونة الحقوق العينية كذلك لهذا الجانب، غير أنه بالرجوع إلى قانون الالتزامات و العقود، و كذا الراجح و المشهور و ما جرى به العمل من الفقه المالكي، يمكن استنباط إمكانية هبة الديون.
فقد اتفق فقهاء المالكية على جواز هبة الدين، و لم يختلفوا إلا في تكييف هذا الإبراءـ فقيل إنه نقل للملك فيكون من قبيل الهبة و هو الراجح، و قيل إنه إسقاط للحق. فعلى الأول يحتاج لقبول، و على الثاني فلا يحتاج له كالطلاق و العتق فإنهما من قبيل الإسقاط فلا تحتاج المرأة لقبول فض العصمة و لا العبد لقبول الحرية، و ظاهر المذهب المالكي جواز تأخير القبول عن الإيجاب.
و هكذا نص الفصل 341من ق.ل.ع على أنه : "يمكن أن يحصل الإبراء صراحة، بأن ينتج عن اتفاق أو توصيل أو أي سند آخر يتضمن تحلل المدين من الدين أو هبته إياه".
و بناء على ذلك، فإن هبة الدين لا تصح إلا إذا قبلها المدين صراحة أو دلالة. لكن التساؤل المطروح هل الهبة تنعقد بالوعد ؟ و هل تصح إذا تعلقت بمال مستقبل ؟
الواقع أن المشرع حسم في هاتين الحالتين وأضاف حالة أخرى عندما اعتبر باطلا:
- الوعد بالهبة،
- هبة عقار الغير،
3- هبة المال المستقبل.
لكن ما هي مبررات هذا البطلان ؟ و ما هي طبيعته ؟
إن الإجابة على هذين السؤالين، يدخل في إطار نفاد الهبة، و قد عرفنا الهبة بأنها تمليك مال أو حق عينــــي عقاري لآخر بــــدون عـــوض، والتمليك يعني تخــويـــل المـــوهــــوب لـــه حــــق الــــتـــصـــرف و الاستغلال و الاستعمال للعين الموهوبة. في حين أن الوعد بالهبة يدخل في مجال التعبير عن الإرادة الصادرة من طرف واحد، غير أنه لا ينشئ أي التزام تبعا للفصل 14 ق.ل.ع كما أنه لا يخول الموهوب له حق قبض الموهوب.
أما بالنسبة لهبة المال المستقبل، فالقاعدة أنه يجوز أن يكون محل الالتزام شيئا مستقبلا أو غير محقق فيما عدا الاستثناءات المقررة بمقتضى نص قانوني. و يدخل في مجال هذه الاستثناءات هبة عقارات أو حقوق عينية عقارية مستقبلية، فلا يجوز إبرام عقدها إلا بناء على أن يكون الواهب مالكا ملكية حقيقية و واقعية للمال الموهوب، فلا تجوز الهبة على مال محتمل و متوقع في المستقبل إرثا أو وصية أو غير ذلك. و لعل المبرر في ذلك أنه في هذه الحالة ينعدم الحوز، سواء كان الحوز المادي أو القانوني. إذ لا يمكن تصور قيام المحافظ بتنفيذ هذا الوعد بالسجلات العقارية متى كان العقار محفظا أو في طور التحفيظ، و كذلك الشأن بالنسبة للعقار غير المحفظ عند مطالبته بإدراج مطلب لتحفيظه. لكن التساؤل الذي يطرح نفسه هل هبة العقارات في طور الإنجاز باطلة أم أن هناك وجها للتأويل ؟
الذي يظهر أن وجود الأشياء إما وجود حقيقي، أو وجود حكمي وثائقي، ففي العقارات في طور الإنجاز، فإن القانون اعتد بالوجود الحكمي بالوثائق و التصاميم و دفاتــر التحملات و جواز التقييد الاحتياطي بالرسم العقاري طبقا للفصل (5-618 ق.ل.ع من ق. 44.00).
و ما يسري من بطلان على الحالتين أعلاه يسري كذلك على هبة عقار الغير، ذلك أنه إذا كان من الجائز بيع ملك الغير متى أقره هذا الأخير أو حدث ما يفيد اتحاد الذمة، فإن المشرع رتب البطلان على الهبة بملك غير الواهب المالك للشيء الموهوب لأن الواهب لا يجوز له التبرع إلا بما يملكه و يتصرف فيه تصرفا تاما.
هذا الاتجاه لم يسير فيه مثلا قانون المعاملات السوداني الذي نص في المادة 231 منه بأنه: "لا ينعقد عقد الهبة إذا كان المال الموهوب غير مملوك للواهب ما لم يجزه المالك و يتم القبض برضاه".
و نحن نعتقد بأن هذا الاتجاه الذي سار فيه المشرع السوداني اتجاه سليم يتماشى مع الفلسفة التي يقوم عليها قانون الالتزامات و العقود المغربي و لا سيما في مجال البيوعات و بالأخص بيع ملك الغير.
و صفوة القول فإن من أهم شروط الموهوب أن يكون من العقارات أو الحقوق العقارية الداخلة في دائرة التعامل، و يدخل في حكمها جميع الأشياء و الحقوق التي لا يحرم القانون صراحة التعامل بشأنها. كما أنه لا يوجد ما يمنع من هبة الديون شريطة قبول ذلك من طرف المدين.
د- شكلية إبرام عقد الهبة:
الصيغة أو الشكلية في الهبة شرط صحة و انعقاد، فهي التعبير الصريح عن اقتران الإيجاب بالقبول: فالإيجاب هو أول كلام يصدر من أحد المتعاقدين و هو إما صريح مثل أن يقول الواهب: وهبت هذا الشيء لك، أما ما يجري مجرى الصريح، كقوله: ملكته له، أو جعلته له، أو هو لك، أو خذ هذه الدار و نوى به الهبة. و أما القبول فهو : أن يرد الموهوب له على إيجاب الواهب بقوله: قبلت أو رضيت، أو يعبر عن موافقته بفعل أو إشارة ذات دلالة كافية. أورد ابن جزي في كتابه القوانين الفقهية: أما الصيغة فكل ما يقتضي الإيجاب و القبول من قول أو فعل كلفظ الهبة و العطية و النحلة و شبه ذلك. و هكذا نصت المادة 274 م.ح.ع على أنه : "تنعقد الهبة بالإيجاب و القبول".
و اشتراط قبول الموهوب له على الهبة مرجعه أن الهبة و إنا كانت تبرعا، إلا أنها تثقل عنق الموهوب له بالجميل، و تفرض عليه واجبات أدبية نحو الواهب، و قد يوثر الموهوب له رفض الهبة كما لو استشف من ورائها غايات للواهب لا يحمدها.
كما أن الصيغة يلزمها الإثبات حتى تخرج من طور الكلام إلى طور الالتزام و انشغال الذمة، لذا جعل المشرع الكتابة في الهبة شرط صحة و انعقاد، و اشترط في الكتابة أن يأتي محرر الهبة على شكل محرر رسمي تحت طائلة البطلان.
و هكذا إذا اتفق العاقدان الواهب و الموهوب له، على إبرام عقد الهبة شفويا أو في محرر عرفي، تعتبر الهبة باطلة و كأنها لم تكن. و النتيجة إذا تقدم أطراف العقد أو أحدهما سواء لتسجيل عقد الهبة الخالي من الرسمية لدى إدارة الضرائب أو تقييده في السجلات العقارية أو لفتح مطلب استنادا له متى كان العقار الموهوب غير محفظ، وجب على مفتش الضرائب أو المحافظ المختص رفض ترتيب أي أثر على هذا العقد. كما أنه في حالة هلاك الموهوب له يحق للورثة استرجاع حيازة العقار من هذا الأخير إذا كان مدخله للعقار عقد هبة باطل.
و يستفاد من هذه الوضعية أن المشرع يسعى إلى استبعاد المحررات العرفية من مجال الهبات و حصرها في المحررات الرسمية التي يحررها العدول و الموثقون.
غير أن ما يمكن الاستفسار عنه أنه إذا اختل شرط من الشروط الشكلية التي يفرضها القانون في العقود التي يتلقاها الموثق، و كانت تحمل توقيع الأطراف تكون لها قيمة العقد العرفي. مما يدفعنا إلى التساؤل ما قيمة هذا العقد بالنسبة للهبات ؟
نعتقد أن المشرع قد حسم هذا الإشكال و لا سيما من خلال المادة 274 ق.ل.ع التي نصت على وجوب تحرير عقد الهبة في محرر رسمي، و هذا يعني أنه إذا أخل شرط من الشروط القانونية المتطلبة في عقود الهبة التي يتلقاها الموثق يكون مصيرها البطلان و لا تتحول إلى عقود عرفية.
و البطلان هنا ليس تلقائيا، و إنما تصرح به المحكمة بناء على طلب كل من له مصلحة أو النيابة العامة، و يتعين إثارة هذا البطلان قبل أي دفع في جوهر القضية.
و قد قضت محكمة النقض بأنه: "بمقتضى المادة 274 من مدونة الحقوق العينية فإن عقد الهبة، يجب تحت طائلة البطلان أن يبرم في محرر رسمي و إنه استنادا لمفهوم المخالفة المستفاد من المادة 4 من نفس المدونة، فإن عقد الهبة الذي رفض المطلوب ( المحافظ) تقييده بالرسم العقاري، ليس محررا رسميا و إنما هو مجرد محرر تابث التاريخ مبرم من طرف محام مقبول لدى محكمة النقض. و بالتالي فإنه وقع تحت طائلة البطلان المذكور مما يجعل قرار المحافظ برفض تقييده بالرسم العقاري معللا في إطار السلطة المخولة له بمقتضى الفصل 74 من ظهير التحفيظ العقاري الذي أوجب عليه التحقق من أن الوثائق المدلى بها أمامه تجير له التقييد".
و خلاصة الأمر، أن الهدف من الشكلية في عقود الهبات هو تحقيق الأمن التعاقدي أولا من حيث ضرورة ترجمة التراضي في الهبة في محرر كتابي، و ثانيا من حيث الرسمية، و هذا ما يعطي للالتزام مصداقية و قطعية ما لم يطعن فيه بالزور.
3- آثار الهبة :
لدراسة أثار يجب التمييز بين آثارها بالنسبة للواهب، وآثارها بالنسبة للموهوب له، وذلك من خلال ما يلي:
أ/ أثار الهبة بالنسبة للواهب:
حددت المادة 281 من م.ح.ع التزامات الواهب حيادا عن التزامات البائع سواء من حيث ضمان الاستحقاق أو العيوب الخفية، فنصت على أنه : ''لا يلتزم الواهب بضمان استحقاق الملك الموهوب من يد الموهوب له، كما لا يلتزم بضمان العيوب الخفية. ولا يكون الواهب مسؤولا عن فعله العمد أو خطئه الجسيم''.
فما المقصود بهذه المقتضيات؟ و إلى أي حد كانت مسايرة للقواعد العامة الواردة في قانون الالتزامات والعقود وما سار عليه السلف الصالح؟
- عدم ضمان الاستحقاق: إن القراءة المتأنية لمقتضيات المادة السالفة الذكر، تفيد بان الواهب لا يلتزم بضمان استحقاق الملك الموهوب من يد الموهوب له، بمعنى أنه ليس من حق الموهوب له الرجوع على الواهب في الحالة التي يتم فيها استحقاق الملك الموهوب، لأنه عقد تبرع، والإحسان لا يرد بالإساءة، جاء في المدونة الكبرى للإمام دار الهجرة:'' قلت: ما الفرق بين الهبة وبين البيع. قال: لأن في البيع تصير له الغلة إلى الضمان ، والهبة ليس فيها الضمان''.
وفي المقابل فإن الواهب يضمن التعرض الصادر عنه، فلا يجوز له أن يأتي أعمالا مادية أو يقوم بتصرفات قانونية تتضمن اعتداء على حقوق الموهوب له. كما يضمن الواهب التعرض الصادر عن الغير وذلك إذا ادعى الغير حقا على الموهوب سابقا على الهبة، أو تاليا لها وكان مستمدا من الواهب، فإذا رفعت على الموهوب له دعوى باستحقاق الشيء الموهوب، ونجح المتعرض الأجنبي في دعواه، فإن الموهوب له يرجع على الواهب بضمان الاستحقاق في حالتين:
الأولى: إذا كان الواهب قد تعمد إخفاء سبب الاستحقاق.
الثانية: إذا كانت الهبة بعوض، ولو كان الواهب يجهل سبب الاستحقاق على أنه لا يكون مسؤولا إلا بقدر ما أداه له من عوض.
لكن إذا كان الواهب سيء النية في هبته للموهوب له، فترتب عن ذلك أضرارا لهذا الأخير،فان التساؤل الذي يطرح نفسه . هل يكون مسؤولا عن ذلك؟ وما هي التوابع التي يتحملها هذا الواهب من جراء سوء نيته؟ .
هذا ما تجيبنا عنه صراحة بإعمال مفهوم المخالفة للفقرة الأخيرة من المادة 281 من م.ح.ع التي جاء فيها:'' لا يكون الواهب مسؤولا إلا عن فعله العمد أو خطئه الجسيم.'' و هكذا فإن الضمان في هذا الحالة يتحمل به الواهب، ويسأل عنه عند الاقتضاء مدنيا وحتى زجريا. فليس لأحد أن يسخر من الآخر أو أن يدفع به إلى الخسارة والمشقة، أو أن يمكر وينصب عليه تحت غطاء التبرع، فالواهب وهو يهب عن علم ملكا مملوكا للغير، أو مسروقا، أو مثقلا بدين أو حجز، أو عبء ضريبي ، والهبة وغيرها في هذا الوضع ليست بالهبة أصلا فهي منعدمة. ومن ثم فالواهب يسأل عن ذلك وهذا ما أكدته الفقرة الأخيرة من الفصل 203 من ق. ل. ع الذي ينص على أن: '' من أحال بدون عوض لا يضمن حتى وجود الدين أو الحق المحال وإنما يكون مسؤولا عما يترتب عن تدليسه'' .
- عدم ضمان العيوب الخفية: كما أن الواهب لا يلتزم بضمان العيوب الخفية. المنصبة على العقار الموهوب والمقصود بهذه العيوب تلك التي لا يمكن التعرف على وجودها إلا بإجراء خبرة أو نتيجة تغيير في طبيعة العقار الموهوب بسبب القدم أو غش في المباني أو غير ذلك.
وبمفهوم المخالفة للفقرة الأخيرة من المادة 281 من م.ح.ع التي جاء فيها : "لا يكون الواهب مسؤولا إلا عن فعله العمد أو خطئه الجسيم، و كذا العبارة الواردة في الفقرة الأولى من نفس المادة: " كما يلتزم بضمان العيوب الخفية". فإن ضمان العيوب الخفية في العين الموهوبة يقع على الواهب في الأحوال الذي يضمن فيها الاستحقاق، و هي:
أولا: إذا تعمد الواهب إخفاء العيب، فإن كان عالما بالعيب و لكنه لم يتعمد إخفاءه، لم يجب عليه الضمان.
ثانيا: إذا ضمن الواهب بإنفاق خاص خلو العين الموهوبة من العين، ثم ظهر عيب.
ثالثا : إذا نقصت قيمة الموهوب نقصا محسوسا يجعله غير صالح للاستعمال فيما أعد له. و الضمان هنا لا يتعلق إلا بتلك العيوب التي كانت موجودة عند التسليم.
- تسليم الشيء الموهوب: والتسليم طبقا للقواعد العامة لا يتم إلا بإخلاء المحل الموهوب، و وضعه تحت تصرف الموهوب له بحيث يمكن حيازته بدون عائق، كما يلتزم الواهب بتسليم العقار بالحالة التي هو عليه مرفقا بتوابعه و مشتملاته حسب العقد أو ما جرى العرف عليه.
و الملاحظ أن المشرع لم يشترط لصحة الهبة، أن يقع تسليم الموهوب ماديا بل يكفي التسليم الحكمي، ويكون ذلك إما عن طريق التقييد في السجلات العقارية أو إيداع مطلب التحفيظ لدى المحافظة العقارية لموقع العقار الموهوب إذا كان العقار غير محفظ.
ب- آثار الهبة على الموهوب له:
نصت المادة 282 م.ح.ع على هذه الآثار بقولها: "نفقات عقد الهبة و مصروفات تسليم الملك الموهوب و نقل ملكيته تكون على الموهوب له، ما لم يتفق على غير ذلك". و هذا ما سنحاول تبيانه كالتالي:
- الالتزام بتحمل نفقات عقد الهبة و نقل ملكية الموهوب: يقصد بنفقات عقد الهبة، نفقات تحرير المحرر الرسمي و كذا مصروفات التسجيل لدى مصالح الضريبة بالإضافة إلى مصاريف التقييد أو التحفيظ.
و في الحالة التي يكون الموهوب متكفل بتحملات عقارية، يكون الموهوب له ملتزما بالتشطيب على هذه التحملات و أداء الديون التي كانت سببا لرهنه.
و قد أحسن المشرع حينما جعل طبيعة الالتزامات ليس من القواعد الآمرة، فنص بالعبارة التالية في المادة السالفة الذكر: "ما لم يتفق على غير ذلك" لأن الأصل الغالب في الهبة المحضة أن يكون الواهب قد أراد تحمل هذه النفقات فتتحقق رغبته، فيلتزم بذلك، و يعفي الموهوب له من ذلك و خاصة إذا كانت معسرا.
- الالتزام بمصروفات التسليم: إذا كان الواهب ملزما بتسليم العقار الموهوب، فإنه في المقابل يكون الموهوب له ملزما بمصاريف هذا التسليم.
و مصاريف التسليم أو التملك هي بالإضافة إلى مصاريف الحيازة الفعلية أو القانونية، المصروفات القضائية التي قد ينفقها على دعوى الضمان و كذا الخسائر المترتبة عن الاستحقاق في الحالة التي لا يسند للواهب أي خطأ أو تقصير كما أسلفا، ما لم يتفق على خلاف ذلك.
4)الاعتصار في الهبة :
إذا كان المشرع منع الاعتصار في الصدقة مطلقا، كما هو مقرر فقها، فإنه أجازها في الهبة متى كانت هناك أعذار قانونية مقبولة.
وبالرجوع لمدونة الحقوق العينية نلاحظ أن المشرع المغربي قد أطلق على الرجوع في الهبة الاعتصار، والذي يعد مصطلحا مالكيا صرفا انفرد به الفقه المالكي دون غيره من المذاهب الفقهية الإسلامية، وذلك بمقتضى المواد من 283 إلى 289.
ويعتبر الاعتصار في الهبة لغة:" الاستخراج من يد الموهوب له"، واصطلاحا: عرفه ابن عرفة :''هو ارتجاع المعطي دون عوض بلا طوع المعطي" . وعرفته مدونة الحقوق العينية ضمنيا بقولها في المادة 283 '' يراد بالاعتصار رجوع الواهب في هبته...''.
وعليه سندرس في هذا المبحث متى يمكن الرجوع في الهبة، وموانع الاعتصار وآثاره من ثلاث فقرات:
الفقرة الأولى: جواز الرجوع في الهبة.
الأصل في العقود اللزوم أي أن العقد يلزم طرفيه، ولا يستطيع أحد الطرفين المتعاقدين بعد العقد التحلل من الالتزامات التي رتبها العقد بإرادته المنفردة، وسند هذا الأصل قوله سبحانه وتعالى: '' يأيها الذين أمنوا أوفوا بالعقود''. وسندها في القانون ما نص عليه الفصل 18 ق. ل. ع الذي جاء فيه: الالتزامات الصادرة من طرف واحد تلزم من صدرت منه بمجرد وصولها إلى الملتزم له.''
ولما كانت الهبة من العقود الرضائية، فإنها تخضع لهذا المبدأ العام، أي أنها عقد ملزم، لا يجوز لأحد طرفيه أن يستقل بنقضه أو تعديل أحكامه، إلا في الحدود التي يسمح بها الاتفاق والقانون.
لكن المشرع المغربي أثر كغيره من التشريعات الأخرى، أن يخالف هذه القاعدة بالنسبة لعقد الهبة، فأجاز بعد تقريره الأصل العام بعدم اعتصار الواهب في هبته مهتديا بأحكام الفقه الإسلامي، في حالات معينة اعتصار الواهب حتى بعد التوثيق والحوز وفق ضوابط معينة.
وقد اختلف السلف الصالح بخصوص الاعتصار في الهبة، فذهب الإمام مالك وجمهور علماء المدينة بأنه لا يجوز الرجوع في الهبة إلا في حالة هبة الوالد لولده وإن وقع القبض فله أن يعتصر ما وهبه لابنه، والأم كذلك بشرط أن يكون ولدها وقت الهبة كبيرا كان للولد أب أو أم لا، وإن كان صغيرا كان لها الاعتصار إن كان له أب، فان تيتم الصغير بعد الهبة ليس لها الاعتصار. والأصل في ذلك يرجع إلى حديث طاوس، أنه صلى الله عليه وسلم قال: '' لا يحل لأحد يهب هبة ثم يعود فيها إلا الوالد". والحديث كما يتبن استثنى الأب، وأما الأم فمن باب القياس، فقد قاسها مالك عليه، جاء في المدونة الكبرى:'' قلت ، أرأيت إن وهبت الأم لأولادها وهم كبار أيجوز لها أن تعتصرها قبل أن يحدثوا فيها شيئا أم لا في قول مالك، قال : نعم يجوز لها أن تعتصرها في قول مالك لأن مالك قال لي في الأب له أن يعتصر والأم مثله.'' بينما الشافعي قال يعتصر الأب والأم وأضاف الجد والجدة. وقال أبو حنيفة لا يعتصر من وهب لذي رحم محرم بخلاف الأجنبي، وقال ابن حنبل والظاهرية لا يجوز الاعتصار لأحد وسندهم في ذلك أخذهم بعموم حديث ابن عباس، قال فيه صلى الله عليه وسلم :'' العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه''. عكس الصدقة فلا رجوع فيها أصلا ولا ينبغي للواهب أن برتجعها بشراء ولا غيره ما لم يكن سبب الارتجاع ميراثا.
وحتى بالنسبة للاعتصار في الهبة فلا يجوز عند المالكية إلا بتحقق خمسة شروط التالية:
- أن لا يتزوج الولد بعد الهبة.
- ولا يحدث دينا لأجل.
- ألا تتغير الهبة عن حالها.
- أن لا يحدث الموهوب له فيها حدثا
- وأن لا يمرض الواهب أو الموهوب.
وعليه فما هي مبررات الاعتصار أو الرجوع في الهبة في التقنين المغربي؟ وهل سار على نهج ما ذهب إليه الفقه الإسلامي، وخاصة الراجح والمشهور وما جرى به العمل في الفقه المالكي؟ أم سار على خلاف ذلك لأسباب معينة؟
كمبدأ عام استند المشرع في سنه لمبررات الرجوع في الهبة إلى الفقه المالكي إلا انه عادل بين الأب والأم في الرجوع عن ما وهبه لولدهما دون مراعاة الاستئناءات التي تحدثنا عنها بالنسبة للأم عند المالكية، وكأنه تأثر بمبدأ المساواة والمناصفة الفضفاضة فخالف الراجح والمشهور وما جرى به العمل عند المالكية.
وفي جميع الأحوال فإن الرجوع في الهبة يكون بالتراضي أو عن طريق القضاء. فإذا نحا الواهب إلى التراضي وجب تحقق ثلاثة شروط التالية:
- الإشهاد على الاعتصار: إلا أن المشرع لم يبين كيفية هذا الإشهاد، هل عن طريق اللفيق أو محرر كتابي عرفيا أو رسمي.
- التنصيص على إمكانية الرجوع في عقد الهبة: وفي هذه الحالة يكون الاعتصار في الهبة معلقا على شرط فاسخ وقد تحقق.
وهذين الشرطين تم استنباطهما من المادة 284 من م.ح.ع التي جاء فيها: '' لا يجوز للوالد أن يعتصر ما وهب إلا إذا أشهد بالاعتصار، وتم التنصيص عليه في عقد الهبة وقبل ذلك الموهوب له.''
لكن التساؤل ما هو الأجل الذي يتعين فيه على الواهب الإعلان عن رغبته في الإعتصار؟
للأسف لا نجد جوابا في مدونة الحقوق العينية، غير أنه في اعتقادنا يمكن القياس على البيع المعلق على شرط واقف أو ما يسمى بيع الخيار وفي هذه الحالة يمكن الرجوع إلى الأجل المتفق عليه في العقد، وفي حالة سكوت أثناء التعاقد يفترض أن المتعاقدين ارتضوا الأجل المقرر عرفا. وفي جميع الأحوال داخل 60 يوما من تاريخ إبرام عقد الهبة لما في ذلك من حفاظ على استقرار المعاملات.
- قبول الموهوب له شرط الاعتصار: وهذه الحالة تقتصر على الاعتصار بالتراضي وقد تكرس هذا الاتجاه عندما أكد المشرع على أنه لا يمكن الاعتصار إلا بحضور الموهوب له وموافقته.
أما في حالة النزاع فلابد من الرجوع إلى القضاء للمطالبة بفسخ عقد الهبة مع ما يترتب على ذلك من آثار قانونية. وفي هذه الحالة يتعين على الواهب المعتصر إثبات ما يلي: توفر الشروط الشكلية لقبول الدعوى طبقا للمادة 1 من ق.م.م –تبرير الاعتصار بأسباب مقبولة – انتقاء المانع من الرجوع في الهبة ، كما سنوضحه في الفقرة الموالية.
الفقرة الثانية: موانع الاعتصار:
إذا كانت القاعدة هي عدم جواز الاعتصار في الهبة إلا في حالات استثنائية، فإن المشرع المغربي جعل لهذا الاستثناء الأصلي استثناءات فرعية، بحيث منع فيها الاعتصار حفاظا إما على أواصر المحبة والروابط العائلية أو استقرار المعاملات.
وقد أوردت مدونة الحقوق العينية من خلال المادة 285 من م.ح.ع ثمانية حالات لا يقبل الاعتصار فيها، وهي واردة على سبيل الحصر، والتي تتمثل فيما يلي:
- قيام رابطة الزوجية: ارتأت مدونة الحقوق العينية حفاظا على دوام العشرة بين الزوجين، واستقرار الأسرة الذي تنشده المادة الرابعة من مدونة الأسرة، منع الزوج من الرجوع في الهبة التي سبق أن منحها لزوجه الاخر مادامت العلاقة الزوجية قائمة، كما يظهر أنه لا يحق الرجوع ولو عجز عن الإنفاق على نفسه وعلى من تلزمه نفقته.
ومما يجدر ذكره أن بعض التشريعات العربية لم تحصر موانع الرجوع فقط في العلاقة الزوجية قائمة، بل أضافت إليها الهبة لذي رحم محرم ما لم يترتب عليها المفاضلة بين هؤلاء بدون مبرر. أما إذا كانت لذي رحم غير محرم كأولاد العم أو الخال فيمكن الرجوع فيها.
ونحن نعتقد بأنه كان على المشرع الأخذ بهذا الاستثناء كذلك لأنه يحافظ على أواصر العلاقة العائلية. ومن ثم يمكن الرجوع في الهبات التي قد تكون قبل الزواج أي فترة الخطوبة أو بعد انحلال ميثاق العلاقة الزوجية وانتهت العدة إذا كان طلاقا رجعيا، وكذلك لمحرم غر ذي رحم كأم الزوجة أو أبوها.
- موت أحد العاقدين قبل الاعتصار: ما دامت الهبة من العقود الرضائية التي يكون فيها للعامل الشخصي محل اعتبار، فإنه لا يورث حق الاعتصار لورثة الواهب سواء مات الواهب أو الموهوب له، لأن الهبة تصبح حقا لورثته.
- مرض أحد العاقدين مرضا مخوفا يخشى معه الموت: أي أنه إذا مرض الواهب، ووهب على ولده وهو في المرض المخوف. فإنه لا يجوز له اعتصار الهبة في هذه الحالة. كما إذا كان مرض الموهوب له مرض الموت، كمرض الولد الموهوب له المتصل مرضه بموته، فمنع على الأب أو الأم الرجوع في الهبة، لأنه إذا مات كانت الهبة حق لورثته.
أما إذا زال المرض عاد الحق في الاعتصار، وتقدير المرض الذي يغلب عليه الموت من عدمه مسـألة فنية يحددها أهل الخبرة.
- زواج الموهوب له بعد إبرام عقد الهبة ومن أجلها: قد يبني الموهوب له حياته الخاصة على ما دخل في ذمته المالية من هبة ، ويبادر بتأسيس عائلته الصغيرة على هذا الوضع المالي المريح، فهنا منع المشرع الاعتصار في الهبة لما قد يلحق الموهوب له وغيره من أضرار قد تعصف بالعائلة.
- تصرف الموهوب له في الهبة تصرفا يخرجه من ملكيه: إذا تصرف الموهوب له في الشيء الموهوب ببيع أو رهن أو صدقة وغيرها من أنواع التصرفات التي تشمله بالكلية، منع الواهب في هذه الحالة من الرجوع في هبته. وإذا اقتصر التفويت فقط على جزء من الشيء الموهوب، في هذه الحالة جاز للواهب الرجوع في الجزء غير المشمول بالتفويت.
- تعامل الغير مع الموهوب له تعامل ماليا اعتمادا على الهبة: أي من موانع الرجوع في الهبة، فيما إذا تعامل شخص أجنبي مع الموهوب له، في عملية مالية، بأن عقد الغير معه ببيع أو تصرف ما له ارتباط بالهبة أو موضوعها، واعتمادا عليها فلا يجوز الاعتصار والرجوع في الهبة.
- مانع تغير حالة الموهوب: نظرا لأن الهبة هي تمليك للشيء الموهوب بدون عوض، فإن الموهوب له قد يتعامل في الموهوب تعامل المالك في ملكه فينشئ عليه منشأت وأغرس قد تكون مكلفة مالية وتكون سببا في فائض القيمة بالنسبة للموهوب ومراعاة لاستقرار المعاملات ورغبة في تشجيع الاستمرار في المجال العقاري، منع المشرع الاعتصار في مثل هذه الحالات.
وقد جاء في قرار للمجلس الأعلى(محكمة النقض) ما يلي:'' إن بناء الدار على الأرض التي أعطيت للمعطى له بعد القسمة لا يمكن الرجوع في العطية بسبب التغيرات الحاصلة في الأرض.''
- مانع الهلاك: يقصد بهلاك الموهوب الحالة التي يكون محل الهبة قد هلك إما بحسب طبيعته أو بحكم القانون. وقد يكون بحكم الطبيعة عندما يندثر هذا المحل بسبب القدم أو عيب في البناء، كما قد يكون بحكم القانون نتيجة المساهمة في إنجاز الطرق العامة الجماعية مثلا.
وقد ميز المشرع بين الهلاك الكلي فهناك لا مجال للاعتصار أما إذا كان جزئيا أمكن الرجوع في الهبة فيما تبقى من الموهوب.
وخلاصة الأمر، فإن الاعتصار مسطرة قانونية يعتمدها الواهب من أجل استرداد الموهوب، ما لم تكن هناك موانع قانونية تمنع من الاعتصار.
5) آثار الاعتصار في الهبة:
ينجم عن الاعتصار في الهبة حبيا أو عن طريق القضاء، فسخ العقد ورد الملك الموهوب إلى صاحبه، ويترتب على هذا الاعتصار آثار سواء بالنسبة للواهب أو بالنسبة للموهوب حددها المشرع في المواد 287 و288 و289من مدونة الحقوق العينية يمكن إجمالها فيما يلي:
- فسخ عقد الهبة من تاريخ الاعتصار
- رد الموهوب للواهب
ج-رجوع الواهب بالثمرات
د-رجوع الموهوب له بالمصروفات
وسنحاول تفصيل كل أثر على حدة من خلال الفقرات التالية:
الفقرة الأولى:فسخ عقد الهبة من تاريخ الاعتصار.
من أهم النتائج المترتبة على الاعتصار، فسخ عقد الهبة، ولا يمكن اعتصار كما سبق الكلام إلا في الحالتين الواردتين في المادة 283 من م.ج.ع، لكن تنفيذ الفسخ يتوقف على إجراءات أو استنفاذ لطرق الطعن وصوائر يتحمل بها الواهب.
ويسري أثر الفسخ من تاريخ الإشهاد به على الطرفين، أو من تاريخ الحكم النهائي القاضي به.
الفقرة الثانية: رد الموهوب للواهب.
بمجرد ما يقع الاعتصار يتعين إرجاع حيازة الموهوب إلى الواهب بصفة تلقائية، أما ملكيته فلا تنتقل إلى الواهب إلا بعد تقييد الاتفاق أو الحكم النهائي بالمحافظة العقارية متى كان العقار محفظا أو في طور التحفيظ. و قد حدد الفصل 65 مكرر من قانون التحفيظ العقاري الأجل القانوني لإنجاز هذا التقييد في 3 أشهر بالنسبة للأحكام و القرارات القضائية ابتداء من تاريخ حيازتها لقوة الشيء المقضى به، و العقود الرسمية ابتداء من تاريخ تحريرها.
أما الحالة التي يطالب المعتصر الموهوب له رد الموهوب و يتثاقل رغم إنذاره، فإنه يكون مسؤول عن هلاك الموهوب.
و في المقابل لا يمكن للمعتصر أن يسترد الموهوب في الحالة التي لا يقع هناك اتفاق و التجأ إلى القضاء و تم رفض طلبه، و إذا استرده عنوة يكون مسؤولا عن هلاكه مع التعويض عند الاقتضاء
الفقرة الثالثة: رجوع الواهب بالثمار.
يستفاد من الفقرة الثانية من المادة 287 من م.ح.ع بعدم إلزام الموهوب له برد الثمار إلا من تاريخ الاتفاق أو تاريخ الحكم النهائي في الدعوى.
و الجدير بالتنبيه أن بعض التشريعات العربية سارت في اتجاه أن رد الثمار يكون من تاريخ رفع الدعوى لا من تاريخ صدور الحكم فيها، و هذا حال القانون المدني العراقي الذي نص في مادته 264/2 على أنه لا يرد الموهوب له الثمار إلا من وقت الاتفاق على الرجوع أو من وقت رفع الدعوى.
و نحن نعتقد أن الاتجاه الذي سار فيه المشرع العراقي أقرب إلى الصواب على اعتبار أن يد الموهوب له قبل رفع الدعوى تكون يد حسن النية، أما بعد رفع الدعوى فلا مجال للتمسك بحسن النية.
الفقرة الرابعة: رجوع الموهوب له بالمصروفات الضرورية التي أنفقها على الموهوب:
خولت الفقرة الثانية من المادة 287 من م.ح.ع الموهوب له حق استرداد النفقات الضرورية التي أنفقها على الموهوب، أما النفقات النافعة و نفقات الزينة فلا يسترد منها إلا ما زاد في قيمته.
و هذا يعني أنه لا شيء يمنع الموهوب له في استثمار بعض أمواله في الموهوب طالما أنه المالك له، غير أنه في الحالة التي يتم الاعتصار في الهبة فإنه لا يمكنه المطالبة باسترجاع كامل المصاريف التي أنفقها باستثناء النفقات الضرورية التي أنفقها حفاظا على الموهوب، و لا يمكنه بالتالي المطالبة بالنفقات النافعة أو نفقات الزينة إلا بمقدار ما أضافته من قيمة الموهوب. و هنا نتساءل عن ما المقصود بالنفقات الضرورية ؟
المقصود بها تلك النفقات التي قد ينفقها الموهوب له من أجل حسن تدبير و تسيير الموهوب كنفقات الزراعة و الري و الصيانة و جني الثمار متى كان العقار الموهوب فلاحيا مثلا، و مصاريف إعادة أساسات العقار متى كان البناء قديما أو آيلا للسقوط.