دعوى المسؤولية المدنية لمزوّدي الخدمات عبر الإنترنت

مجموعة مواضيع تهتم بالقانون الرقمي و الدولي للتحضير لليحوث والمقالات القانونية

دعوى المسؤولية المدنية لمزوّدي الخدمات عبر الإنترنت

وهنا لا بد لنا من تحديد أطراف دعوى المسؤولية المدنية لمزوّدي الخدمات عبر الإنترنت وتعريفهما وكذلك بيان أركان المسؤولية المدنية لمزوّدي الخدمات عبر الإنترنت.

 

أولاً: أطراف دعوى المسؤولية المدنية لمزوّدي الخدمات عبر الإنترنت.

" لم يقم المشرع الأردني في قانون أصول المحاكمات المدنية الأردني رقم 24 لسنة 1988 وكذلك المشرع الفرنسي والمصري والسوري واللبناني في قوانين المرافعات بتعريف الدعوى إلا أن مجلة الأحكام العدلية عرّفت الدعوى في المادة 1613 بأنها : طلب أحد حقه بحضور الحاكم ويقال للطالب المدعي وللمطلوب المدعى عليه " ( القضاة ، 1998، ص164-165 ).

" ويمكن إجمال شروط الدعوى في شرط واحد هو شرط المصلحة، ويدخل في معناها كل الشروط الأخرى ، فتوصف المصلحة بأنها قانونية وهي شخصية ومباشرة وكذلك لا بد أن يكون هناك حق في المصلحة باعتباره شرطاً لقبول الدعوى مقترناً بالصفة , أي أن يكون المدعي هو صاحب الحق " (القضاة ، 1998، ص178 ).

نص قانون أصول المحاكمات المدنية الجديد على أنه " لا يقبل أي طلب أو دفع لا يكون لصاحبه فيه مصلحة قائمة يقرها القانون " (قانون أصول المحاكمات المدنية ، رقم 24لسنة 1988 ، ف1 ، م3 ).

" والمصلحة لها شروط لا بد من توافرها أولها أن تكون المصلحة قانونية ، ويقصد بذلك أن تكون مصلحة المدعي مستمدة من حق أو وضع قانوني تهدف إلى الأعتراف بهذا الحق ، أو هذا الوضع القانوني وحمايتها ، وقد تكون المصلحة القانونية مادية وهي التي تحمي المنفعة المادية لرافع الدعوى كدعوى المطالبة بالدين وقد تكون المصلحة أدبية وهي التي تحمي حقاً أدبياً لرافع الدعوى كدعوى التعويض عن السب والقذف ، وثانيهما أن تكون المصلحة شخصية ومباشرة ويقصد بذلك أن يكون رافع الدعوى هو صاحب الحق أو المركز القانوني المراد حمايته أو من ينوب عنه كالولي أو الوصي بالنسبة للقاصر ، إلا أن هناك إستثناء من قاعدة أن الدعوى لا تقبل إلا من صاحب الحق أو نائبه وهي الدعوى غير المباشرة التي يرفعها الدائن للمطالبة بحقوق مدينه دون أنابة منه وهي التي جاءت بنص المادتين 366 و 367 من القانون المدني الأردني مراعاة لمصلحة الدائن ضد مدينه الذي قصر بالمطالبة بحقوقه قصداً أو إهمالاً وثالث شروط المصلحة هي المصلحة القائمة أي أن يكون الإعتداء قد وقع فعلاً على الحق أو المركز القانوني المراد حمايته " ( القضاة ، 1998، ص179 - 183).

  1. المدعى عليه ( مزوّد الخدمات ) .

لقد تعرضنا إلى تعريف مزوّد الخدمات في الفصل الأول وهو أي شخص يتولى أو يقوم بأدوار فنّية و تقنّية تتمثل في توصيل المستخدم بشبكة الإنترنت وتمكينه من الحصول على المعلومات والخدمات التي يريدها ويقدم خدمات فنّية متنوعة حسب العقد المبرم, ويكون متضامناً في المسؤولية المدنية في الحالات التي يقوم فيها بدور المورّد لمحتوى المعلومة أو المنتج لها أو الناشر لها أذا ثبت أن له القدرة على رقابه هذا المحتوى وفحصه قبل نشره وذلك عند إخلاله بأي التزام سواء أكان تعاقدياً  تجاه الشخص المتعاقد معه أم التزاماً قانونياً تجاه الغير المتضرر ، وهم : متعهد الوصول، متعهد الإيواء، ناقل المعلومات، مورّد المعلومات أو كما سمّاه البعض متعهد الخدمات و منتج المعلومة.

وقد يكون مزوّد الخدمات مسؤولاً عن الضرر الذي سببه للطرف الآخر بصفته طرفاً في عقد وذلك في إطار المسؤولية العقدية أو بصفته مرتكباً لفعل ضار تضرر منه الغير وذلك في إطار المسؤولية التقصيرية وبالتالي ، المدعى عليه قد يكون متعهد الوصول أو متعهد الأيواء أو ناقل المعلومات أو مورّد المعلومات أو منتجها وتكون مسؤوليته عقدية إذا كان هناك إخلال منه بالتزام عقدي مفروض عليه تجاه المتعاقد معه سواء أكان ذلك المتعاقد أحد مزوّدي الخدمات أم أياً من العملاء وتكون مسؤوليته تقصيرية إذا حدث ضرر للغير نتيجة ممارسته لنشاطه على الشبكة أو من خلال الموقع الذي يديره وهذا ينطبق على جميع المزوّدين.

  1. المدعي ( المضرور).

  " تبدأ الخصومة القضائية بالمطالبة القضائية ، والتي هي أول عمل في الخصومة وهي عمل إجرائي موجه من المدعي أو ممثله إلى المحكمة ، يقرر فيه وجود حق أو مركز قانوني معين أعتدي عليه ويعلن رغبته في حمايته بإحدى صور الحماية القضائية في مواجهة المدعى عليه ويكون إستعمال المدعي بالمطالبة رفعاً للدعوى أمام القضاء لنظرها" (القضاة ، 1998، ص190 ).

  • المضرور في إطار المسؤولية العقدية.

  " تقوم المسؤولية العقدية حينما يحدث إخلالاً بالتزام عقدي , كإخلال البائع بتسليم الشيء المبيع والأمر يُفترض في هذه الحالة أن يكون هناك عقد صحيح بين المسئول والمضرور, فإذا كان العقد باطلاً أياً كان سبب البطلان لتخلف التراضي مثلاً , أو  المحل أو السبب أو شرط من شروطها عندئذ لا تقوم المسؤولية العقدية , وكذلك الأضرار التي تحدث بعد زوال العقد أو قبل قيامه فهذه لا تُعد أضراراً ناجمة عن العقد ولا ترتب مسؤولية عقدية وإنما مسؤولية  تقصيرية " (منصور، 2001، ص 247).

فالمسؤولية العقدية هي الإخلال بالتزام عقدي ، فكل إخلال بالعقد من قبل أحد الأطراف وهو هنا مزوّد الخدمات يرتب مسؤوليته عن الضرر الذي يسببه للطرف الآخر المتعاقد معه سواء أكان هذا الإخلال من قبل أحد مزوّدي الخدمات مع غيره من المزوّدين أم مع أحد العملاء.

" ويشترط لقيام الإخلال بالتزام عقدي وجود التزام عقدي أولاً ثم عدم قيام المدين بتنفيذ التزامه كلياً أو جزيئاً , أو تأخره في تنفيذه أو تنفيذه له بشكل معيب ثانياً , ويجب أخيراً أن ينسب هذا الإخلال إلى تعد أو تقصير المدين , وتتم التفرقة في الخطأ العقدي بين الالتزام ببذل عناية والذي لا يفرض فيه على المدين الوصول إلى نتيجة مرجوة , وإنما عليه فقط بذل العناية للوصول إليها والعناية المطلوبة هي عناية الرجل المعتاد  ومثاله التزام الطبيب بإجراء عملية فقد تنجح وقد لا تنجح , وبين الالتزام بتحقيق غاية إذ يجب على المدين تحقيق نتيجة مرجوة من العقد , وهنا يجب على المدين تحقيق الغاية المرجوة من العقد , فإن لم تتحقق اعتبر المدين مخلاً بالتزامه العقدي واُفترض الخطأ من جانبه" (السرحان، وخاطر، 2000، ص 313).

" وفي عقود الخدمات الإلكترونية نجد أن الالتزام فيها ينبغي أن يكون بتحقيق نتيجة بحسب ما اتجهت إليه إرادة المتعاقدين من جهة ، وبذل العناية المعتادة على ضوء التقنّيات الحديثة يجعل النتيجة مؤكدة من جهة أخرى ، وبالتالي فإن تقاعس الشركات عن زيادة النفقات اللازمة لتحديث وتعميق معداتها , لا يعفيها من الالتزام بتحقيق نتيجة حتى لو تحفظت بحيث يبطل هذا التحفظ كشرط للإعفاء من المسؤولية " (منصور، 2006، ص 73) .

ويرى الباحث هنا بالنسبة لقيام مسؤولية أحد مزوّدي الخدمات العقدية , يستطيع المدعي (الدائن) إثبات أن المدعى عليه مزوّد الخدمات قد أخلّ بالتزامه بتحقيق نتيجة , وذلك نظراً للفارق الكبير بين مزوّدي الخدمات وغيرهم من جمهور المستخدمين بالنسبة لأمور المعرفة الفنّية وتوفر المعدات المتطورة  والأشخاص ذوي الخبرة العالية الذين يتولون إدارة المواقع العائدة إليهم والتي تقدم الخدمات المعلوماتية عبر الإنترنت وبالتالي , فإن التزامهم بتحقيق نتيجة هو أمر مفروض ويذهب الباحث هنا مع ما ذهب إليه الرأي السابق فيستطيع الدائن إثبات عدم تحقق النتيجة للحصول على حقه في التعويض عما لحق به من خسارة وما فاته من كسب .

أما فيما يتعلق بالإعفاء من المسؤولية العقدية, فإنه لا يجوز الإعفاء من المسؤولية أو تحديدها, وذلك تحقيقاً لمصلحة طرفي العقد, ولذلك نص القانون المدني الأردني على أنه " لا يكون البائع مسؤولاً عن العيب القديم في الحالات التالية ومنها : إذا باع البائع المبيع شريطة عدم مسؤوليته عن كل عيب فيه, أو عن عيب معين إلا إذا تعمد البائع إخفاء العيب أو كان المشتري بحالة تمنعه من الاطلاع على العيب " (القانون المدني الأردني, 1976, ف 4 , م514 ) وهو ما نص عليه القانون المدني السوري والذي جاء فيه " إذا ذكر في عقد البيع أن المشتري عالمٌ بالمبيع , سقط حقه في طلب إبطال البيع بدعوى عدم علمه به إلا إذا ثبت تدليس البائع " (القانون المدني السوري, 1949, م 387).

" وإذا لم يقم المدين بتنفيذ التزامه نتيجة خطأ جسيم , وكان هذا المدين قد اشترط على الطرف الآخر عدم مسؤوليته عن التنفيذ, أو عن التأخير في تنفيذه , كان هذا الشرط باطلاً لا أثر له وإلزام المدين بالتعويض الذي يستحقه الطرف الآخر , كما لو لم يكن لشرط الإعفاء أي وجود" (الذنون، 2006، ص 241).

وهذا ما نص عليه القانون المدني الأردني, حيث جاء فيه أنه " وفي كل حال يبقى المدين مسؤولاً عما يأتيه من غش أو خطأ جسيم " (القانون المدني الأردني , 1976, ف 2 , م 358)، أما في قانون التجارة الإلكترونية المصري فقد نص على أنه  " يقع باطلاً كل شرط تعسفي يتعلق بتحديد المقابل المالي, أو بتخفيف أو إعفاء بائع السلعة أو مقدم الخدمة من المسؤولية " (قانون تنظيم أحكام التجارة الإلكترونية المصري, 2008, م19).

أما القانون المدني المصري فيجوز الاتفاق بين المتعاقدين على الإعفاء من المسؤولية العقدية, ويقع باطلاً مثل هذا الاتفاق في المسؤولية التقصيرية (القانون المدني المصري, 1948,ف 2 م217و ف 3 م317 ), أما القانون المدني السوري فقد نص على الإعفاء من المسؤولية العقدية ولكنه حددها بالإعفاء من المسؤولية عن الغش أو الخطأ الجسيم الذي يقع من أشخاص يستخدمهم في تنفيذ التزامه , ويقع باطلاً كل شرط يقضي بالإعفاء من المسؤولية المترتبة على العمل غير المشروع (القانون المدني السوري, 1949, ف 3 م 218) . 

"وتعتبر التشريعات المدنية الغش والخطأ الجسيم, من قبيل الأخطاء غير العقدية أي من الأخطاء الناتجة عن الفعل الضار، وبالتالي لا يجوز اشتراط الإعفاء منها أو تحديد المسؤولية فيها، وذلك طبقاً للقواعد العامة للمسئولية عن الفعل الضار, التي تحرّم الإعفاء من المسؤولية لأنها من النظام العام" (السرحان، وخاطر، 2000، ص 334).

وهنا يذهب الباحث مع ما ذهب إليه - الدكتور أمجد محمد منصور بأنه يقع باطلاً كل اتفاق يقضي بالإعفاء من المسؤولية سواء العقدية أو التقصيرية, و يمكن تطبيق ذلك على مزوّدي الخدمات عبر الإنترنت, بحيث إنه تقوم مسؤولية أي منهم متى وقع الفعل الضار سواء أكان هناك عقد أم لم يكن, وذلك على خلاف ما جاء به البعض "من أنه يجوز الاتفاق على الإعفاء من المسؤولية العقدية دون التقصيرية" (ناصيف, 2009,ص 257).

ويمكن التوصل ومعرفة مزوّد الخدمة الذي كان الفعل الضار هو نتيجة لفعله أو لفعل المستخدم عن طريق استخدام تقنّيات التتبع للمسار الذي سلكه الاتصال, لمعرفة الهوية الحقيقية  للمسؤول عن الفعل الضار, سواء أكان مزوّد الخدمة أم الشخص المستخدم وذلك بتحديد الموقع الذي سمح للأخير بالدخول إلى الشبكة وبث المعلومات ليتم من خلاله تحديد هوية ذلك الشخص.

"ويمكن دائماً معرفة الـ ( Server ) الذي استعمله مستخدم شبكة الإنترنت للدخول إلى مواقع معينة من خلال مورّد خدمة الاتصال بالشبكة وذلك من خلال تتبع المسار الذي سلكه الاتصال المقصود , بغية الوصول إلى تحديد الموقع أو مورّد خدمة الاتصال ( Server ) الذي سمح له بالدخول إلى الشبكة, ومن هذا الأخير يمكن بالطبع معرفة الهوية الحقيقية للمستخدم لأن مورّد الخدمة لا يقدم الخدمة للمشترك إلا بعد معرفته جيداً " (زريقات، 2007، ص 280) .

أما فيما يتعلق بحدوث الضرر نتيجة لسبب أجنبي خارج عن الإرادة , فيستطيع المدعى عليه إثبات أن الضرر يرجع إلى ذلك السبب , وقد نص القانون المدني الأردني على أنه " إذا أثبت الشخص أن الضرر قد نشأ عن سبب أجنبي لا يد له فيه , كآفة سماوية أو حادث فجائي أو قوة قاهرة أو فعل الغير أو فعل المتضرر , كان غير ملزم بالضمان ما لم يقض القانون أو الاتفاق بغير ذلك " (القانون المدني الأردني, 1976, م 261) , وهو ما نص عليه القانون المدني المصري بحيث جاء فيه أنه "  إذا أثبت الشخص أن الضرر قد نشأ عن سبب أجنبي لا يد له فيه كحادث مفاجئ أو قوة قاهرة أو خطأ من المضرور أو خطأ من الغير , كان غير ملزم بتعويض هذا الضرر ما لم يوجد نص أو اتفاق على غير ذلك"  ( القانون المدني المصري, 1948, م 165) وقد جاء القانون المدني السوري مطابقاً لما نص عليه القانون المدني المصري في المادة السابقة ( القانون المدني السوري , 1949, م 166) بحيث اختلفا عن المشرع الأردني وذلك بأنهما لم يتطرقا إلى ذكر الآفة السماوية .

والآفة السماوية هي مجملها أمور تحدث وليس للإنسان أي تدخل وعلم بوقوعها كالصواعق والأمطار وغير ذلك , فإذا وقع الضرر نتيجة الآفة السماوية , انتفت عندئذ مسؤولية المدعى عليه من ضمان الأضرار , وكذلك الحوادث المفاجئة والقوة القاهرة كالحروب والزلازل والحرائق وغيرها , إلا أنه يشترط للآفة السماوية وللحادث المفاجئ أو القوة القاهرة عدم إمكان التوقع واستحالة الدفع , وكذلك الأمر بالنسبة لفعل المتضرر, فإذا استطاع المدعى عليه إثبات أن  الضرر قد نجم عن فعل المضرور , وأن هذا الفعل كان هو السبب الوحيد للضرر عندئذ تنتفي علاقة السببية , أيضاً بالنسبة لفعل الغير فلا تقوم مسؤولية المدعى عليه إذا اثبت أن الضرر يرجع إلى فعل شخص ثالث –الغير- وأن هذا الفعل كان وحده سبب الضرر الذي حدث  وبالتالي يستطيع المتضرر أن يرجع بالتعويض على الغير (منصور، 2001، ص 299- 303).

ويرى الباحث بالنسبة للآفة السماوية والحوادث المفاجئة والقوة القاهرة , أنه بإمكان مزوّدي الخدمات عبر الإنترنت الدفع بها, وأنه لا يد له فيه شريطة أن يثبت عدم إمكان التوقع واستحالة الدفع.

 أما بالنسبة لفعل المتضرر فلا يتصور قيامه عبر الإنترنت إلا خلال المسؤولية العقدية أي إذا ارتكب المضرور خطأ ( فنّياً ) خلال استخدامه للإنترنت , وأن فعله هو السبب المنتج للضرر له, إلا أنه لا يتصور أن يرتكب المضرور من خلال استخدامه لشبكة الإنترنت فعلاً يشكل ضرراً يلحق بحق من حقوقه الشخصية أو ضرراً يلحق بذمته المالية , كأن يقوم بالتشهير بنفسه أو بث معلومات قد تسيء إلى سمعته أو اسمه.

 وبالنسبة لفعل الغير الذي يسبب ضرراً بالآخرين إذا لم يتم معرفة الشخص المُحدث بفعله الضرر , فإن مزوّد الخدمة يكون مسؤولاً عن ذلك , لأنه يتوجب على مزوّد الخدمة أن يكون لديه سجل تتبع للرسائل المبثوثة عبر الإنترنت للتحقق من هوية الشخص , وأن يلتزم بعدم السماح ببث المعلومات إلا بعد التأكد منها , واستخدام كافة الوسائل التقنّية الحديثة في سبيل تحقيق ذلك , وبخاصة وأن شبكة الإنترنت أصبحت الآن وسيلة من الوسائل عالية الاعتمادية في بث المعلومات وعقد الصفقات وإبرام العقود الإلكترونية وعرض للسلع والخدمات بحيث أصبح روّاد هذه الشبكة يتزايدون باطراد وبأعداد كبيرة. 

وترتيباً على ذلك يقترح الباحث على المشرع الكريم أن يضّمن قانون المعاملات الإلكترونية  نصاً يتماشى مع طبيعة المسؤولية العقدية لمزوّد الخدمات عبر الإنترنت , بحيث يعتبر فيها مزوّد الخدمات عبر الإنترنت مسؤولاً تجاه الطرف المتعاقد معه عن كل ما يتم تداوله عبر الموقع الذي يديره  باعتباره مراقبا لكل ما يتم بثه عبر الإنترنت وقيامه بهذا الواجب ينبغي أن يكون بتحقيق نتيجة وليس ببذل عناية, بحيث يكون المزوّد مخلاً بالتزامه العقدي إذا لم تتحقق النتيجة , ويكون مخلاً بالتزامه القانوني والذي هو الالتزام العام بعدم الإضرار بالغير إذا حدث للغير ضرر من جرّاء بث المعلومات على الشبكة, على اعتبار أنهم هم الذين مكّنوا المستخدمين من الاتصال بالشبكة ومستخدم الإنترنت قد لا يخضع إلى أي شروط وبخاصة عبر المواقع التي تقدم خدمات الاتصال بالمجان , وبالتالي قد يسيء الاستخدام بحيث قد يتعدي على حقوق الغير, كحق المؤلف وحق الملكية الفكرية , وكذلك التعدي على الحقوق الشخصية للآخرين  ببث معلومات تؤدي إلى الإضرار بهم , وهنا نسترجع السؤال عن ماهية الدور الرقابي لمزوّدي الخدمات عبر الإنترنت .

" وقد أوجبت بعض التشريعات التعرّف على شخص الناشر , عبر شبكة المعلومات الدولية , لأن هذه الشبكة تعطي مجالاً واسعاً للتخفي تحت غطاء إغفال اسمه ، أو التخفي تحت اسم مستعار أو انتحال اسم شخص من الغير ، فالقانون الفرنسي رقم 719/2000  الصادر في 1آب  2000 والمتعلق بتعديل بعض أحكام قانون حرية الاتصالات رقم 1067/86 والصادر في  الثلاثين من أيلول 1986 , ألزم ناشري المعلومات عبر تقنّيات الاتصال السمعية والبصرية بضرورة ذكر الاسم والموطن , وإذا كان الناشر شخصاً معنوياً فيشترط ذكر اسم الشركة ومركزها وعنوانها واسم مدير النشر أو المسؤول عنه" (ناصيف، 2009، ص 258) .

وعلى ذلك, فإن التحقق لا يتم إلا من خلال المتابعة والمراقبة التي يجب أن تُلقى على عاتق مزوّدي الخدمات عبر الإنترنت, حتى لا يتم مستقبلاً استخدام شبكة الإنترنت استخداماً غير مشروع , كونها أصبحت الآن من الضروريات والتي لا يستطيع المرء أن يبقى بمنأى عن استخدامها , وإذا افترضنا أن مزوّدي الخدمات مكلفون بالرقابة على كل ما يتم بثه من قبل المستخدمين للشبكة , أو على الأقل معرفة هوية كل منهم ، فيتوجب عليهم أداء الضمان للمتضرر حتى لا يضيع حقه , ولكن بالمقابل يكون لهم الرجوع بما دفعوه للغير على مرتكب الفعل الموجب للمسؤولية حيث نص القانوني المدني الأردني على أنه " ولمن أدى الضمان أن يرجع بما دفع على المحكوم عليه به" (القانوني المدني الأردني, 1976, ف2,م288), ونص القانون المدني المصري على أنه " للمسؤول عن عمل الغير حق الرجوع عليه في الحدود التي يكون فيها هذا الغير مسؤولاً عن تعويض الضرر " (القانون المدني المصري, 1948, م 175).

وهنا  لا بد من الإشارة إلى ما جاءت به بعض وجهات النظر – في فرنسا – بالنسبة لمسؤولية أشخاص الإنترنت , بحيث كانت أولها ترى تطبيق واعتماد ما يسمى بالمسؤولية التعاقبية المعمول بها في الصحافة ووسائل الإعلام , بحيث تقع على كل من مدير النشر ثم المؤلف ثم الطابع وهكذا , وثانيها ترى أنه لا سبيل لتطبيق المسؤولية التعاقبية هنا لكون الإنترنت فضاء جديدا للمعلومات , ولا علاقة له بعالم  الصحافة والوسائل السمعية وتفضّل وجهة النظر هذه تطبيق قواعد القانون العادي حول المسؤولية العقدية أو التقصيرية لمزوّدي خدمات الإنترنت ، وذلك من خلال وضع نظام قانوني للإنترنت يقوم على قواعد القانون المدني وبالمقابل وضع قواعد خاصة تحدد مسؤولية مزوّدي الخدمات عبر الإنترنت وبشيء من التفصيل ( راجع حول ذلك الخلايلة، 2009، ص 305-308).

وبناءً على ما سبق فإنه يمكن تحديد المضرور في إطار المسؤولية العقدية لمزوّدي الخدمات من خلال بيان المسؤولية العقدية لمزوّدي الخدمات عبر الإنترنت .

(1)- المسؤولية العقدية لمتعهد الوصول :

يقوم متعهد الوصول بتوصيل جمهور المستخدمين بشبكة الإنترنت بموجب عقود اشتراك مع الجمهور , بحيث يمكنّهم من الدخول إلى المواقع التي يرغبونها – أي يؤمن الاتصال فيما بينهم وبين باقي مقدّمي الخدمات المعلوماتية .

" فهو يعد وسيطاً بين مستخدم الإنترنت ومورّد الخدمات, وعن طريقه يتم اتصال مستخدمي الإنترنت بالمواقع التي يرغبون في الدخول إليها " (الخلايلة، 2009، ص 321) .

وتقوم مسؤولية متعهد الوصول العقدية طبقاً للقواعد العامة كما لو حدث خلل في الأداء الفنّي لارتباط العميل بالشبكة" (منصور، 2004، ص211) .

ويعتبر البعض أن مورّد منافذ الدخول – متعهد الوصول – انطلاقاً من كونه من المهنيين المتخصصين في مجال المعلوماتية , تكون مسؤوليته على أساس الالتزام بتحقيق نتيجة وليس ببذل عناية  (ناصيف، 2009، ص 263) .

لذلك يكون متعهد الوصول مسؤولاً مسؤولية عقدية إذا أخل بأحد التزاماته التعاقدية مع عملاءه , كما لو أنه لم يوفر الوسائل التي تمكّن العميل من الاتصال بالشبكة مما يحول ما بين العميل وبين الحصول على الخدمات التي تم التعاقد بموجبها معه.

 

 

(2)- المسؤولية العقدية لمتعهد الإيواء :

"تقوم مسؤوليته العقدية في حال إخلاله بأحد بنود الاتفاق – عقد الاشتراك – مع المشتركين ، كإخلاله بالالتزام بتوفير وسائل الاتصال الفنّية, التي تمكّن عملاءه من الحصول على المعلومات التي يرغبون في الأطلاع عليها, أو الإخلال بأحد بنود عقد التوريد الذي يرتبط به مع منتج المعلومات, وهو لا يكون مسؤولاً عن مضمون المعلومات أو الخدمات التي يوفرها لعملائه إلا إذا تخطى دوره ومارس دور المنتج للمعلومات , وتطبيقاً لأحكام المادة الرابعة عشرة من التوجيه الأوروبي رقم 31/2000 تاريخ الثامن من حزيران عام 2000 ، المتعلق بالتجارة الإلكترونية , يشترط لقيام المسؤولية الجزائية والمدنية لمتعهد الإيواء , ثبوت علمه بالمضمون غير المشروع للمعلومات التي ينقلها عبر أجهزته الفنّية , أو أن يكون النشاط غير المشروع ظاهراً , أو أن تكون لدية الوسائل والتقنّيات الفنّية التي تمكّنه من التحكم في المعلومات التي يبثها عبر تقنّياته" (ناصيف، 2009، ص 267- 268) .

"فالشخص المسئول عن الإيواء يقوم بخدمة تخزين المعلومة, وإدارة محتواها بشكل يسمح لمورّد المعلومة بعرضها على الجمهور, وذلك من خلال إعداد مكان للجمهور يمكّنه من الاتصال بشبكة الإنترنت والحصول على المعلومات" ( الخلايلة، 2009، ص 314).

وبالتالي , تقوم مسؤوليته العقدية تجاه الطرف الآخر المتعاقد معه في حالة الإخلال بالتزامه, وهنا يرى الباحث بأن مسؤولية متعهد الإيواء لا تقتصر فقط على ثبوت علمه بالمضمون غير المشروع وإنما يُفترض به كونه مهنيّاً متخصصاً أن تتوافر لديه الوسائل التقنّية الحديثة للتحكم ببث المعلومات , والتأكد من مشروعيتها وبالتالي متى تحققت عدم المشروعية للمعلومات , فإن مسؤوليته العقدية تقوم ويستطيع الطرف الآخر المتضرر المطالبة بالتعويض.

 

(3)- المسؤولية العقدية لناقل المعلومات :  

" تتمثل مهمة ناقل المعلومات في نقل المعلومات بالوسائل الفنّية المتوافرة لديه وذلك بالربط بين الشبكات , ويمكن أن تثور مسؤوليتهم هنا حسب ما استقر عليه القضاء طبقاً لأحكام العقد الذي يلتزم بمقتضاه في مواجهة العميل" (منصور، 2006، ص166).

فإذا أخل بأي التزام تعاقدي تجاه العميل قامت مسؤوليته العقدية لا محالة فإذا لم يقم ناقل المعلومات بتزويد العميل بوسائل الاتصال الفنّية التي تمكّنه من الدخول على الموقع والاطلاع على المعلومات , أو إخلاله بعقد التوريد الذي يربط بينه وبين مورّد المعلومات وذلك بعدم نقل المعلومة المتفق على توريدها وبثها عبر الشبكة (الخلايلة، 2009، ص 313).

فإخلاله بالتزامه العقدي يتمثل بعدم تزويد العميل بالوسائل اللازمة (البرامج الحاسوبية مثلاً) حتى يتمكن من الدخول إلى الموقع على الإنترنت والحصول على المعلومات أو عدم القيام بنقل المعلومات المتفق على بتوريدها فيما بينه وبين المورّد.

(4)- المسؤولية العقدية لمنتج المعلومات :

تثور المسؤولية العقدية لمنتج المعلومات إذا ما ارتبط بموجب اتفاق مع طرف آخر بتوريد معلومات معينة عن شيء معين يدخل في نطاق تخصصه , أو بجمع معلومات متعلقة بأمر معين على اعتبار أنه صاحب اختصاص فإنه يُسأل عن أي إخلال بالتزاماته تجاه الطرف الآخر .

"وقد قضي بمسؤولية وكالة الاستعلامات التجارية – وكالة تقوم بجمع المعلومات الحديثة عن المؤسسات التجارية وكل ما يتعلق بالعمل التجاري - عن تزويدها العميل بمعلومات مقتضبة وقديمة انتهت صلاحيتها, لأن ذلك يعتبر خطأ, وكذلك بمناسبة نشر كتاب عن الفواكه والنباتات المفيدة حيث ورد فيه وصف وصورة للجزر البري ولكن بطريقة غير واضحة على نحو أثار اللبس مع نبات آخر مشابه يحتوي على مادة سامة تناوله أحد القراء ومات بسببه"  (Cass. Com 30 jan . 1974. B.C. IV, n .14 ؛ نقلاً عن منصور، 2006، ص221).

ويجب على منتج المعلومة التأكد من حداثة وصحة المعلومات التي يقوم بوضعها على الشبكة ليتم بثها وتداولها فيما بين جمهور المستخدمين سواء أكانوا مرتبطين معه بموجب عقد أم غير ذلك وبالتالي , يكون مخلاً بالتزامه العقدي عندما يقوم ببث معلومات غير صحيحة قد تؤدي إلى أن يتضرر منها الطرف المتعاقد معه .

(5)- المسؤولية العقدية لمورّد المعلومات : 

تقوم مسؤوليته العقدية عند إخلاله بأحد التزاماته العقدية فيما بينه وبين مستخدمي الشبكة – عملائه – أو أحد مزوّدي خدمات الإنترنت, ولكونه يعتبر ناشراً للموقع يجب أن يكون مالكاً للوسائل الفنّية التي تمكنه من السيطرة على بث المعلومات .

"ويرى جانب من الفقه أن التزام مورّد المعلومات يعتبر التزام وسيلة, أو التزاماً ببذل عناية, وبالتالي لا يعتبر مقصراً إذا بذل ما بوسعه من عناية، ويرى جانب آخر من الفقه أن التزام المورّد, هو في جميع الأحوال التزام بنتيجة بحيث يكتفي من المتعاقد معه إثبات عدم تحقق النتيجة" (ناصيف، 2009، ص 270 – 271).

"فمتعهد الخدمات وكمحترف إنتاج وبث للمعلومات , يمكن أن تثور مسؤولية التعاقدية والتقصيرية بحسب الأحوال عن المعلومات المزيفة والناقصة والمشينة أو الفاضحة التي يُعدها وينشرها على موقعه" (Chand, 1996, P.3 ؛ نقلاً عن الخلايلة , 2009, ص58).

ووفقاً لما جاء سابقاً , فإن الباحث يرى أن مورّد المعلومات لابد أن يكون فنّياً محترفاً وإن التزامه هو التزام بتحقيق نتيجة , ولذلك يكفي الطرف الآخر المتعاقد معه أن يثبت عدم تحقق النتيجة لتقوم المسؤولية العقدية لمورّد المعلومات.

وللإجابة عن السؤال الذي تم طرحه وهو , هل مسؤولية مزوّدي الخدمات عبر الإنترنت هي مسؤولية عقدية ناتجة عن الإخلال بالرابطة العقدية بين الطرفين؟.

إن إخلال مزوّد الخدمات عبر الإنترنت بالتزاماته التعاقدية تجاه الطرف الآخر سواء أكان مع غيره من مزوّدي الخدمات أم أحد العملاء -المشترك- يرتب قيام مسؤوليته التعاقدية , فالتزام المزوّد هنا هو تمكين المشترك من الاتصال بالشبكة والحصول على الخدمات التي تم التعاقد عليها , وذلك بمقابل مالي يقوم المشترك بدفعه لمزوّد الخدمات, فإن لم يقم بدفع المقابل لمزوّد الخدمات فإن من حق الأخير حجب خدمة الاتصال عن المشترك وبالمقابل قد يترتب على إخلال مزوّد الخدمات بالتزاماته إلحاق ضرر بالمشترك, وبالتالي يكون لهذا المشترك الحق بالمطالبة بالتعويض عمّا لحق به من ضرر ولذلك حبذا لو قام المشرع الكريم بتنظيم هذه الحالات وذلك بالنص عليها صراحة في قانون المعاملات الإلكترونية الأردني.

  • المضرور في إطار المسؤولية التقصيرية.

المسؤولية التقصيرية تقوم في حالة الإخلال بالالتزام والواجب العام الذي يفرضه القانون على الكافة - أي على كل شخص- بعدم الإضرار بالآخرين, فإن حدث هذا الإخلال قامت المسؤولية التقصيرية لمحدث الضرر بالغير وذلك بتعويض الغير عن الأضرار التي أصابته .

" الالتزامات والواجبات التي تقوم بها المسؤولية التقصيرية هي واجبات عامة – واجبات عدم الإضرار بالغير – وهي كلها واجبات سلبية يقصد بها الامتناع عن أي مسلك يكون من شأنه الإضرار بالغير بدون حق, أما في المسؤولية العقدية فتوجد التزامات بالمعنى الحقيقي يتنوع مضمونها فقد يكون سلبياً وقد يكون ايجابياً" (حجازي، 1982، ص186).

وقد نص القانون المدني الأردني على أنه " كل إضرار بالغير يلزم فاعله ولو غير مميز بضمان الضرر" (القانون المدني الأردني, 1976 , م 256)، فالقانون المدني الأردني يقيم المسؤولية التقصيرية على مجرد وقوع فعل الإضرار وليس على الخطأ, فطالما أن هناك فعلاً ( عمل غير مشروع أو تعدٍ) وهذا الفعل أدى إلى ضرر بالآخرين تقوم المسؤولية على مجرد حدوث الضرر , وبالمقابل يتوجب على الشخص الذي أحدث ضرراً بالغير نتيجة فعله أن يعوض المضرور عما لحق به من ضرر ولو لم يكن ناتجاً عن خطأ ، فالعدل يقضي بأن يتحمّل الشخص المسبب للضرر المسؤولية لأن الضرر حصل بفعله سواء أكان عملاً غير مشروع أم تعدياً .

وقد نص القانون المدني المصري على أنه " كل خطأ سبب ضرراً للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض" (القانون المدني المصري , 1948 , م 163) وهو ما نصت عليه المادة 164 من القانون المدني السوري.

" وعرّفت المحاكم المصرية الخطأ بأنه عدم الوفاء بالتزام أوجبه القانون , وأهم هذه الالتزامات , الالتزام العام بعدم الأضرار بالغير وبناءً على ذلك, إذا وقع الفعل الضار من شخص وهو قاصر غير مميز أو مجنون أو سكران وفاقدٌ الوعي ، فلا مسؤولية على ذلك الشخص إلا إذا كان جنونه أو فقده الوعي راجعاً إلى خطأ منه ، وبعد أن قرر المشرّع تأسيس المسؤولية بوجه عام على الخطأ نص على بعض الأسباب التي تزيل صفة  الخطأ عن الفعل الضار الذي يعتبر في أصله خطأ هو الدفاع الشرعي وتنفيذ أمر الرئيس والضرورة " (مرقس، 1998، ص 497-499).

"وقد نقل الدكتور إياد عبد الجبار الملّوكي في كتابه - المسؤولية عن الأشياء عن بعض أساتذته أن تطور المسؤولية في الفقه الغربي قد خطى بها خطوة أخيرة فصارت تقوم بدون خطأ  وهذا هو تحمل التبعة وهو ما تقول به الشريعة الإسلامية " (الزرّقا، 1988، ص 66).

"وذهب اتجاه في الفقه إلى القول بمسؤولية عديم التمييز في حالة التسبب الناتج عن إهمال وتقصير , وأن العبرة بالنظر إلى ذات الفعل وليس إلى الشخص الفاعل , ونرى رجحان هذا الاتجاه إذ إن واقعة التلف قد حدثت , وبالتالي يتعين رفع هذا الضرر الذي وقع ، وذلك لا يكون إلا بالتعويض عن هذا الفعل الضار , حيث لا ضرر ولا ضرار كما قال الرسول -عليه الصلاة والسلام-  كما أن الفقهاء لم يفرّقوا في تحمل عبء تبعة الفعل الضار بين العامد والمخطئ والعاقل والمجنون والبالغ والصبي" (منصور، 2001، ص 268-269) .

إلا أن هناك بعض الحالات نص عليها المشرع لا يمكن قيام المسؤولية التقصيرية – عن الفعل الضار – لمرتكبها حتى وإن سبب ضرراً للغير , بحيث نص القانون المدني الأردني على أنه " من أحدث ضرراً وهو في حالة دفاع شرعي عن نفسه أو ماله أو عن نفس الغير أو ماله ، كان غير مسئول على ألا يجاوز الضرورة وإلا أصبح ملزماً بالضمان بقدر ما جاوزه " (القانون المدني الأردني, 1976 , م362)، وهذا ما نص عليه القانون المصري حيث إنه " من أحدث ضرراً وهو في حالة دفاع شرعي عن نفسه أو ماله أو نفس الغير أو ماله كان غير مسؤول على ألا يجاوز دفاعه القدر الضروري وإلا أصبح ملزماً بتعويض تراعى فيه مقتضيات العدالة " (القانون المدني المصري , 1948 , م 166) وهو ما نصت عليه المادة /167 من القانون المدني السوري.

وكذلك حالة أداء الواجب حيث نص القانون المدني الأردني على أنه "  لا يكون الموظف العام مسؤولاً عن عمله الذي أضر بالغير إذا قام به تنفيذاً لأمر صدر إليه من رئيسه, متى كانت إطاعة هذا الأمر واجبة عليه أو كان يعتقد أنها واجبة ...." (القانون المدني الأردني, 1976, ف 2 م 363) ، وهنا لا يُسأل الفاعل عن الضرر الذي نتج عن فعله، إذا كان هذا الفعل أداءً للواجب وإن هذا الموظف جاء بفعله هذا بحسن نية واعتقاداً منه بأنه تنفيذ للواجب.

وهنا يرى الباحث أن ما ورد في نص المادة /362 و 363 من القانون المدني الأردني و المادة/ 166 من القانون المدني المصري والمادة /167 من القانون المدني السوري, لا يمكن تطبيقه على مزوّدي الخدمات كأن يكون فعله الذي سبب ضرراً للغير هو دفاع عن النفس أو عن المال أي أنه في حالة دفاع شرعي , وذلك لأن مزوّدي الخدمات يقدمون خدمات سواء بالمجان أو بمقابل لتوصيل الجمهور بالشبكة , وكذلك القيام بنقل المعلومات من مصدرها وصولاً إلى المستخدم بدون أن يكون هناك اتصال مادي فيما بينهم .

 وبالنسبة لتحديد متى تقوم  المسؤولية التقصيرية لمزوّدي الخدمات, فإن الصعوبة تكمن في معرفة محدث الضرر بالغير , بحيث يجب على مزوّدي الخدمات على اعتبار أنهم يراقبون كل ما يبث من معلومات على شبكة الإنترنت , وذلك من خلال المواقع التي يديرونها وبالتالي إذا لم يتم تتبع مسار الرسائل ومعرفة الشخص الذي سبب ضرراً للغير قامت مسؤوليتهم التقصيرية- مزوّدي الخدمات - ويكونون متضامنين وذلك بتعويض الغير المتضرر .

أما فيما يتعلق بالإعفاء من المسؤولية التقصيرية , فقد نص القانون المدني الأردني على أنه " يقع باطلاً كل شرط يقضي بالإعفاء من المسؤولية المترتبة على الفعل الضار" (القانون المدني الأردني, 1976, م270)، بحيث لا يجوز الاشتراط بالإعفاء من المسؤولية عن الفعل الضار – المسؤولية التقصيرية – لعدم وجود علاقة سابقة ما بين مسبب الضرر والمضرور .

 

 

 

 

وبناءً على ما سبق فإنه يمكن تحديد المضرور في إطار المسؤولية التقصيرية لمزوّدي الخدمات من خلال بيان المسؤولية التقصيرية لمزوّدي الخدمات عبر الإنترنت .

(1)- المسؤولية التقصيرية لمتعهد الوصول :

" أعتبر البعض أن مورّد منافذ الدخول – متعهد الوصول – لا يكون مسؤولاً لمجرد عمله بوجود معلومات غير مشروعة على الشبكة, إلا إذا كانت لدية الوسائل اللازمة لمحو هذه المعلومات أو منع الدخول إليها" (ناصيف، 2009، ص 263).

" وقضي بعدم مسؤولية متعهد خدمة الوصول عن نشر المعلومات على الرغم من إقرار الحكم بوجود واجب الرقابة والفحص على عاتق هذا الوسيط , إلا في الحالات التي يتعهد فيها بالقيام بهذا الدور فإنه يُسأل عن محتواها إذ بإمكانه الاطلاع عليها مسبقاً ورقابتها" (الخلايلة، 2009، ص 322) .

وهنا ندعو المشرع إلى إلزام متعهد الوصول بالرقابة والفحص طالما أن لديه القدرة على ذلك, بحيث لا يكون تعهداً منه هو فقط وحسب رغبته وإنما التزام يلقى على عاتقه بالقيام بالرقابة والفحص لمضمون المعلومات التي يتم بثها وتداولها ، وذلك تلافياً لعدم حصول مخالفات غير مشروعة قد تلحق ضرراً بالغير.

فمتعهد الوصول تقوم مسؤوليته التقصيرية عن أي نشاط يمكن ممارسته من خلال إتاحته الفرصة للغير ببث المعلومات والتي قد تسبب ضرراً بالغير , لأنه كما بيّن الباحث عند الحديث عن المسؤولية العقدية لمتعهد الوصول يُفترض به أن يكون لديه الوسائل التقنّية الحديثة للتأكد من مشروعية المعلومات التي تبث عبر المواقع التي يديرونها وإلا قامت مسؤوليته العقدية تجاه المتعاقد المتضرر,  وعليه إذا ما وقع هناك فعل ضار خلال ممارسته لنشاطاته وأدى إلى إحداث ضرر بالغير , فإن لهذا الأخير الرجوع على هذا المزوّد إذا لم تُعرف هوية دى أدى

مرتكب الفعل الضار وبذلك تقوم مسؤوليته التقصيرية في مواجهة الغير المتضرر .

(2)- المسؤولية التقصيرية لمتعهد الإيواء : 

"إذا كان متعهد الإيواء يعلم بعدم مشروعية المعلومات أو البيانات ولم يعمل على منع دخولها أو وصولها, فيكون مسؤولاً ومسؤوليته مرهونة بعلمه الحقيقي بالصفة غير المشروعة للمعلومات والبيانات التي يقوم بتخزينها أو نقلها, وبالتالي تنتفي مسؤوليته إذا لم يتوفر لديه العلم الحقيقي وهذا ما قضت به محكمة استئناف باريس بقولها : ينبغي على متعهد الإيواء أن يضمن التخزين المباشر والمستمر للرسائل والمعلومات ووضعها تحت تصرف عملائه , ولا يكون مسؤولاً عن العرض الشائن أو الفاضح الذي يُقدم للمستخدمين إلا إذا امتنع عن وقف بث هذه المعلومات بسرعة فور علمه بطبيعتها غير المشروعة "  ( Paris, 18 fe'v. 2002, telecom city. Macia et Baker C/ Finance. ؛ نقلاً عن ناصيف، 2009،ص 269).

ويرى الباحث أن ما جاء بالحكم  السابق ملائماً فيما يتعلق بوجوب أن يضمن متعهد الإيواء التخزين المباشر والمستمر للرسائل, وتقوم مسؤوليته التقصيرية إذا امتنع عن وقف بث المعلومات عند علمه بطبيعتها غير المشروعة والتي قد تُلحق ضرراً بالغير, إلا أنه غير ملائم فيما يتعلق بأنه لا يعتبر مسؤولاً عن العرض الشائن أو الفاضح وذلك لأنه يفترض به العلم بالمعلومات غير المشروعة من خلال الوسائل التي يجب عليه توفيرها ليتمكّن من السيطرة على المعلومات والتأكد من سلامتها بحيث لا تُلحق ضرراً بالغير عند بثها وتداولها عبر الشبكة.

" ففي قضية كان موضوعها قيام سيدة برفع دعوى بمناسبة نشر صورها عبر الإنترنت تطالب بالتعويض , باعتبار ذلك يشكل مساساً بحقها في الصورة ، حيث قررت المحكمة أن نشاط مقدم خدمة الإيواء لا يقتصر على مجرد الأداء التقني لنقل المعلومات , ويمكن أن تترتب مسؤوليته طبقاً للمادة 1383 من القانون المدني فرنسي فهو وإن لم يكن مكلّفاً بإجراء رقابة دقيقة وعميقة لمضمون المواقع التي يؤويها ، إلا أنه يتعين عليه – على الأقل – اتخاذ الإجراءات المعقولة التي يمكن لمهني حذر القيام بها" (TGI de Nanterre 8 de'c.1999, Jcp, E, 2000, P.657, note varet  ؛ نقلاً عن منصور, 2009, ص163-164 وكذلك الخلايلة,2009, ص317).

" وبالمقابل فقد أوجب قانون حرية الاتصالات الفرنسي وفي الفقرة التاسعة من المادة الثالثة و الأربعين منه على متعهد الإيواء ضرورة توفير الوسائل التي تمّكن من التحقق من كل شخص يساهم في وضع محتوى الخدمات , حتى يكون من السهل توجيه دعوى المسؤولية إلى المسؤول عن الضرر" ( قانون حرية الاتصال الفرنسي الجديد , 2000, ف 9 /م43 ؛ نقلاً عن الخلايلة , 2009, ص319)  .

ويؤيد الباحث ما جاء به الدكتور عايد رجا الخلايلة في مؤلفه - المسؤولية الإلكترونية - من أن لمتعهد الإيواء دوراً فنياً تقنياً مهماً , إلا أن الباحث يخالفه الرأي ( راجع حول ذلك الرأي ؛ الخلايلة , 2009, ص321) بالنسبة لإعفاء متعهد الإيواء من المسؤولية إلا في حالة واحدة وعلى سبيل الحصر وهي تردده عن التدخل الفوري بناء على طلب السلطة القضائية لمنع الوصول إلى هذا المحتوى بحيث تقوم مسؤوليته في هذه الحالة فقط ، بل يرى الباحث أنه لا بد من قيام مسؤوليته لأنه يفترض به أن يكون مكلفاً بإجراء رقابة لمضمون المواقع التي يؤويها وبدون ذلك سيلجأ إلى إثبات عدم مسؤوليته حتى وإن كان لديه علم بالمضمون غير المشروع للمعلومات مستنداً إلى أنه لا يوجد طلب بوقف الوصول إلى ذلك المضمون من قبل السلطة القضائية.

 

(3)- المسؤولية التقصيرية لناقل المعلومات : 

" لا تثور المسؤولية التقصيرية لناقل المعلومات حسب ما استقر عليه القضاء , إلا إذا ثبت علمه بالطابع غير المشروع للمعلومات التي تعبر من خلال شبكته، فقد قُضي بأن هيئة الاتصالات الفرنسية ملزمة بضمان احترام نصوص النظام وذلك في حدود ممارسة حرية الاتصال" (منصور، 2006، 166). 

فكيف يتم إثبات علمه بالمضمون غير المشروع للمعلومات ، طالما القاعدة العامة هي عدم مسؤوليته عن مضمون المعلومات وذلك بناء على ما جاء سابقاً , بحيث يجب أن يكون القول هو عدم قيام المسؤولية التقصيرية لناقل المعلومات على الإطلاق , وهذا يتنافى مع خصوصية التعامل عبر الإنترنت وباعتباره من المحترفين فيكون الالتزام القانوني المفروض عليه هو عدم الإضرار بالغير وبالتالي يكون للمتضرر (المدعي) الحق بالمطالبة بالتعويض عن الضرر الذي لحق به وذلك برفع دعوى على ناقل المعلومات إذا لم يتم تحديد ومعرفة هوية مسبب الضرر.

" وقد ثار جدل حول السماح لناقل المعلومة بالنسخ المؤقت للمضمون كخطوة أولية ولازمة لنقل المضمون المعلوماتي إلكترونياً , ويتجه الرأي إلى السماح بذلك كاستثناء على حق المؤلف والحقوق الأخرى المجاورة له، حيث يُعد ذلك ضرورياً ولا مفر منه لعملية النقل ومن ثم لا تثور مسؤولية الناقل إذا قام بذلك لأنه جزء من عمله ، ولا يجوز اللجوء إلى استخدام ذلك بطريقة تؤثر في حق صاحب المضمون " (الخلايلة، أطروحة دكتوراه غير منشورة, 2006، ص 313-314).

ويرى الباحث أن السماح لناقل المعلومة بالنسخ المؤقت هو من الضروريات , وذلك حتى يتمكن من تنفيذ التزاماته التعاقدية , لأنه بدونها لا يستطيع الوفاء بالتزاماته, وكذلك الأمر في حالة إن حدث ضرر للغير من جرّاء المعلومات التي قام بنقلها فإنه , وهذه الحالة يستطيع مع غيره من مزوّدي الخدمات تحديد ومعرفة هوية مسبب الضرر لتتم مساءلته .

(4)- المسؤولية التقصيرية لمنتج المعلومات : 

بالنسبة لمنتج المعلومة ليس هناك أدنى شك في قيام مسؤوليته التقصيرية عن الفعل الضار إذا أحدث فعله -أي مضمون الرسالة التي ألفها – أي إضرار بالغير، مثال ذلك إذا كانت الرسالة تتضمن عبارات الشتم والقذف, وصوراً وأخباراً عن الآخرين مما يعتبر انتهاكاً للخصوصية لأنه صاحب المعلومة ومؤلفها مما توجب مساءلته.

" ويمكن أن تُلحق المعلومة غير الصحيحة ضرراً بالشخص سواء أكان طبيعياً أم معنوياً وذلك عن طريق المساس بمكانته وسمعته, ويؤدي ذلك بالنسبة له إلى إحجام الشركات والأفراد عن التعامل أو إبرام العقود معه ولذلك , فإن القضاء وبهدف منع تفاقم الأضرار يفرض على المهنيين أو بصفة خاصة الصحفيين وشركات المعلومات التجارية , الالتزام بالتحقق من جدية المعلومات قبل إذاعتها , وإن ثبوت المسؤولية يرتب القضاء عليه التعويض مع الالتزام بتصحيح المعلومات غير الصحيحة كنوع من التعويض العيني" (منصور، 2006، ص 223).

وبالتالي, تقوم مسؤوليته التقصيرية في مواجهة كل من تضرر من المعلومات التي قام بتأليفها أو تجميعها ومن ثم نشرها وبثها عبر الإنترنت وبالتالي فإن المدعي هنا هو المتضرر من المعلومات التي قام بتأليفها ونشرها منتج المعلومات.

(5)- المسؤولية التقصيرية لمورّد المعلومات : 

تقوم مسؤوليته عن الفعل الضار عندما يرتكب فعلاً مخالفاً للقواعد القانونية التي تفرض عليه احترام حقوق الغير , وعدم الاعتداء على حياتهم الخاصة أو بث معلومات مسيئة تمس بسمعتهم أو شرفهم , أو بث معلومات خطأ أو غيرها مما يستوجب معه قيام مسؤوليته التقصيرية في مواجهة الغير المتضرر والذي يترتب عليه تعويضه عن الضرر الذي لحق به لأن مورّد المعلومة في هذه الحالة  يُفترض به أن يتحقق من جدية المعلومة ومشروعيتها قبل بثها حتى وإن قام بتوريدها له ابتداءً منتج المعلومات أو مؤلفها .

" ووفقاً لأحكام التوجيه الأوروبي رقم 31/2000 المتعلق بالتجارة الإلكترونية يعتبر مورّد المعلومات مسؤولاً عن مضمون المعلومات التي يتم بثها عبر تقنّيات الاتصال الحديثة  ولكنه وفقاً لنص المادة 14 من التوجيه المذكور تنتفي مسؤوليته إذا اثبت أنه لا يعرف مضمون هذه المعلومات غير المشروعة, وعليه أن يوقف بثها أو نشرها فور علمه بعدم مشروعيتها " (ناصيف، 2009، ص271).

" وقد استقر الرأي على أن تلك المسؤولية التقصيرية تتوقف على مدى العلم بالمضمون غير المشروع أو المعلومات المخالفة للقانون التي يتعامل معها مقدم الخدمة " (منصور، 2006، ص169).

إلا أن الباحث يؤيد ما جاء به البعض بأن مورّد المعلومات هو مصدر التدفق المعلوماتي وهو المسؤول الأول عن المعلومات التي تعبر الشبكة , لأنه صاحب السلطة الحقيقية لمراقبة المعلومات التي يتم بثها, ولأنه محترف إنتاج وبث للمعلومات وبالتالي تثور مسؤوليته التعاقدية والتقصيرية (الخلايلة، 2009،ص 58).

وإن ما جاء في التوجيه الأوروبي رقم 31/2000 هو علاج لمسألة قيام مسؤولية مورّد المعلومات عن مضمون المعلومات التي يتم بثها, ولكن ما جاء بالمادة الرابعة عشرة والتي تنفي المسؤولية عن مورّد المعلومات إذا أثبت أنه لا يعرف مضمون هذه المعلومات, لا يتماشى مع كونه هو الذي يملك السيطرة المباشرة في مراقبة مضمون هذه المعلومات , وبالتالي التزامه هنا هو التزام بضمان عدم نشر معلومات غير مشروعة من خلال الموقع الذي يديره لأنه إذا لم يتم فرض هذا الالتزام عليه سيكون من السهل عليه إثبات عدم علمه بمضمون المعلومات غير المشروعة وبالتالي إنتفاء مسؤوليته .

وأخيراً, بالنسبة لتكييف المسؤولية التقصيرية لمزوّدي الخدمات عبر الإنترنت على أسـاس أنها مسؤولية من نوع خاص, أي مسؤوليته كونه حارساً للشيء الذي يحتاج إلى عناية خاصــة  فلــو نظرنا إلى شبكة الإنترنت التي يقوم مزودو الخدمات بتزويد خدماتهم عن طريقهـا  ابتداءً مـن تأليف الرسالة من قبل مؤلفها ومـروراً بمواقع البـث على الشبكـة ووصولاً إلى المستفيـد, فإن قيام مسؤولية مزوّدي الخدمات التقصيرية تجاه الغير ليست من فعل الأشياء أو الحواسيب الممتدة التي تعود إلى مزودي الخدمات , ولكن هي نتيجـة فعــل شخصي أو فعل ضار بالتسبب من قبل مزوّدي الخدمات , وذلك لأن دورهم هو الدور الأساسي الذي من خلاله مكّنوا الغير من الاتصال بالشبكة ومن إساءة الاستخدام دون أدنى رقابة وسيطرة.

فتداول المعلومات وبثها عبر الشبكة لا يتم إلا من خلال مزوّدي الخدمات , وما رآه الباحث بالنسبـة لمسؤوليتهم نابع من خطورة البث للمعلومات عبر شبكة الإنترنت ، لأن عدم المراقبـة والتدقيــق فــي المعلومات هو بحد ذاته خطير جداً , وإن إزالة الضرر بعد وقوعه لا يمكن تداركه بسهولــة, نظراً لأن هذه المعلومات سيتم بثها بسرعة عالية من خلال الشبكة, و بث المعلومـات هنا هو عمل مهني بحت وبالتالي, يجب أن يكون مزودو الخدمات من ذوي الاختصاص ومن المهنييـن المحترفين وأن تتوافر لديهم الوسائل التقنّية والفنّية والبرامج الحاسوبية المتطورة التي تمكنّهم من مراقبة مشروعية جميع المعلومات التي يتم بثها وتداولها على شبكة الإنترنت وذلك من خلال المواقع التي يقومون بإدارتها وتمكين جمهور المستخدمين من الاتصال بها.

 ثانياً: أركان المسؤولية المدنية لمزوّدي الخدمات عبر الإنترنت.

" المسؤولية في اللغة: هي حال أو صفة من يُسأل عن أمر تقع عليه تبعتهُ ، يقال : أنا بريء من مسؤولية هذا العمل، والمسؤولية في القانون تنشأ عن إخلال بالتزام سابق ، فإذا كان مصدره الإرادة فهي مسؤولية عقدية وهي التي تنشأ عن الإخلال بما التزم به المتعاقد، وإذا كان الالتزام مصدره الواقعة المادية فهي مسؤولية تقصيرية وهي التي تترتب على ما يحدثه الفرد من ضرر للغير بخطئه, ومحل المسؤولية على اختلاف أنواعها هو إصلاح الضرر الواقع من جرّاء الإخلال بالالتزام ويكون ذلك عادة بالتعويض ، فالمسؤولية المدنية هي المؤاخذة التي تلحق بشخص ما نتيجة  فعل ارتكبه أو وقع فيه , يفرض عليه الالتزام أن يفي به" (خريسات، رسالة ماجستير, 2006، ص 5-6) .

وا��مسؤولية القانونية قد تكون جنائية عندما يقترف الشخص جريمة تشكل اعتداءً على حق للمجتمع , والعقوبة المترتبة على هذه الجريمة هي للردع وحق للمجتمع لا يجوز التنازل عنه وقد تكون المسؤولية القانونية مسؤولية مدنية عندما يلحق شخص أضراراً بالآخرين ويقع عليه حق هو تعويض الآخرين عن الأضرار التي أحدثها, وبالتالي فإنه يمكن أن يتنازل المضرور عن هذا الحق  على عكس ما هو في المسؤولية الجنائية (الدناصوري ، الشواربي, 2002، ص 6-7).

ويمكن القول بأن المسؤولية هي الجزاء على المخالفة والتي تكون عموماً مصدرها القانون فأي إخلال بواجب قانوني يرتب المسؤولية القانونية.

وموضوع دراستنا هو المسؤولية المدنية لمزوّدي الخدمات عبر الإنترنت وهذه المسؤولية تنقسم بشكل عام إلى مسؤولية عقدية وتقصيرية .

"إن هاتين المسؤوليتين رغم أنهما تتحدان في أن كلاً منهما تشكل التزاماً بتعويض ضرر نشأ عن إخلال بالتزام سابق , إلا أنهما تخضعان إلى نظامين مختلفين يتميز كل منهما بأنه يتيح للمضرور بعض المزايا التي لا يتيحها له النظام الآخر ، ففي مجال المسؤولية العقدية يتمتع المضرور بإعفائه من عبء إثبات الخطأ متى كان الأمر يتعلق بالإخلال بالتزام بنتيجة, ويجوز له الإفادة من التقادم طويل المدة, وبالعكس من ذلك تكون للمضرور بعض المزايا في التمسك بالمسؤولية التقصيرية وبخاصة إذا كان لديه الدليل على خطأ الفاعل, ولا يشكل أمر إثباته عبئاً بالنسبة إليه أو إذا كان في حالة من الحالات التي يُفترض فيها خطأ الفاعل , أو تُفترض فيها مسؤولية هذا الأخير ، لأنه في هذه الحالات يستطيع أن يحصل على تعويض كامل يُغطي ليس فقط الأضرار التي كانت متوقعة كما في نظام المسؤولية العقدية، بل كافة الأضرار متوقعة كانت أو غير متوقعة فضلاً عن مزايا أخرى يخوّلها له نظام المسؤولية التقصيرية كاستبعاد اتفاقات الإعفاء من المسؤولية أو تضييقها في حدود معينة" (مرقس، 1998، ص 50-51).

فالمسؤولية العقدية تقوم متى كان هناك إخلال بالتزام عقدي وتغطي الأضرار المتوقعة فقط باستثناء حالتي الغش والخطأ الجسيم , أما المسؤولية التقصيرية فتقوم متى كان هناك إخلال بالتزام يفرضه القانون وتغطي الأضرار المتوقعة وغير المتوقعة.

  ومن خلال تعريف مزوّد الخدمات كما أسلفنا في الفصل الأول وتعريف المسؤولية المدنية يمكن تعريف  المسؤولية المدنية لمزوّدي الخدمات عبر الإنترنت بأنها: المساءلة التي تترتب على مزوّد الخدمات عبر الإنترنت سواء أكان شخصاً طبيعياً أم اعتبارياً، بسبب ما قام به أو امتنع عنه – الامتناع عن القيام بالرقابة على ما يجري من بث للمعلومات على الموقع العائد له – وأحدث ضرراً بالمتعاقد معه أو بالغير , وترتب عليه نتيجة لذلك جبر الضرر بالضمان .

"وتقوم المسؤولية المدنية سواء أكانت عقدية أم تقصيرية على ثلاثة أركان هي الخطأ ، والضرر والعلاقة السببية بين الخطأ والضرر" (ناصيف، 2009، ص 255 ؛ وكذلك اللصاصمة, 2002,ص51) .

وهنا لا بد من دراسة أركان المسؤولية المدنية سواء العقدية أو التقصيرية .

1- الإضرار أو الخطأ العقدي:

الفعل الموجب للمسؤولية المدنية التقصيرية حسب نص القانوني المدني الأردني هو الإضرار أي العمل غير المشروع (التعدي) حيث نص على أنه " كل إضرار بالغير يلزم فاعله ولو غير مميز بضمان الضرر"  (القانوني المدني الأردني, 1976, م256), فهذا النص جاء بحيث أعتبر كل فعل أحدث ضرراً بالغير وكان عملاً غير مشروع هو فعل موجب لقيام المسؤولية حتى لو قام بالفعل عديم التمييز, وتعتبر مسؤولية كاملة في الضمان وتعويض المضرور عما لحق به من ضرر.

أما الفعل الموجب لقيام المسؤولية العقدية حسب نص القانون المدني الأردني فهو الإخلال بالالتزام العقدي حيث نص على أنه " 1. في العقود الملزمة للجانبين إذا لم يوف أحد المتعاقدين بما وجب عليه بالعقد جاز للعاقد الآخر بعد اعذاره المدين أن يطالب بتنفيذ العقد أو فسخه  2. ويجوز للمحكمة أن تلزم المدين بالتنفيذ للحال أو تنظره إلى أجل مسمى ولها أن تقضي بالفسخ وبالتعويض في كل حال إن كان له مقتضى"  (القانوني المدني الأردني,1976, م246) .

  فعدم الوفاء بالالتزام من قبل أحد المتعاقدين في العقود الملزمة للجانبين يعد إخلالاً بالالتزام العقدي وهو فعل موجب لقيام المسؤولية العقدية وتعتبر مسؤولية كاملة في الضمان وتعويض المتعاقد اللآخر المتضرر عما لحق به من ضرر .

" كمانصت المادة ( 1382) من القانون المدني الفرنسي على أن  كل فعل أياً كان يسبب ضرراً للغير، يلزم من وقع الضرر بخطئه بتعويضه , ثم نصت المادة (1383) كذلك على أنه  يكون الإنسان مسؤولاً عن الضرر الذي يحدثه , ليس بفعله فقط بل أيضاً بإهماله وعدم تبصره وقد وجد واضعو القانون المدني الفرنسي أن هذا الأساس يصلح لتحقيق هدفين للمسؤولية, أولهما معاقبة مرتكب الخطأ على  السلوك المنحرف الذي خان به الثقة المشروعة التي منحت له  باعتباره كائناً مسؤولاً ومن وراء ذلك تقّوم سلوكه , وثانيهما تعويض المضرور عن ضرره" (السرحان، وخاطر، 2000، ص 370).

" فالقانون المدني الفرنسي يقيم المسؤولية على أساس الخطأ وقد عرّف بعضهم الخطأ – ديموج- بأنه اعتداء على حق يدرك المعتدي فيه جانب الاعتداء, ومن التعريفات الحديثة التي قيلت في الخطأ أنه الإخلال بالواجب القانوني العام بعدم الإضرار بالغير"(الخلايلة،2009،ص 71).

وينص القانون المدني المصري على أنه " كل خطأ سبب ضرراً للغير يلزم من ارتكبه التعويض" (القانون المدني المصري , 1948 , م163)، " وكذلك نص المادة 164من القانون المدني السوري" (القانون المدني السوري, 1949,م 164) , فهنا نجد أن المشرع المصري والسوري لم يقم المسؤولية المدنية على الفعل الإضرار وإنما أقامها على الخطأ, وبالتالي نجده سواء من قريب أو بعيد يستبعد في نصه هذا فعل عديم التمييز , لكون الخطأ لا يصدر إلا من مميز وبالتالي, لا يُسأل الغير مميز عن فعله الذي أحدث ضرراً بالغير وهذا ما ينافي العدالة لكون من أصابه الضرر هنا هو من يتحمل ذلك الضرر الذي أصابه , لأن محدث الضرر هو غير مميز .

"فالعمل غير المشروع أو الإضرار والذي هو مناط المسؤولية المدنية في الفقه الإسلامي والقانون المدني الأردني ، ذو طبيعة موضوعية بحته فهو لا يستند إلى أي عنصر شخصي كامن في إرادة الفاعل أو مستوى إدراكه أو تمييزه ، لذلك لا يشترط أن يتوافر لدى الفاعل قصد الإضرار, كما لا يشترط أن يكون مرتكب الفعل الضار مميزاً مدركاً لأفعاله ونتائجها ، وهذا ما أراد القانون المدني الأردني أن ينبه إليه كمبدأ عام ينطبق على كل حالات الإضرار دون استثناء" (السرحان، وخاطر، 2000، ص 378).

" فالقانون المدني الأردني يقيم المسؤولية عن الفعل الضار على وجود الإضرار وليس على الخطأ , فهي مسؤولية تقوم على مجرد الضرر , بينما يقيم القانون المدني المصري هذه المسؤولية على الخطأ" (منصور، 2001، ص263).

2- الضرر:

تقول القاعدة الفقهية المستمدة من - حديث الرسول صلى الله عليه وسلم " لا ضرر ولا ضرار" (العسقلاني,1989,ص475) وهو ما نص عليه القانون المدني الأردني وذلك بأنه " لا ضرر ولا ضرار, والضرر يُزال " (القانون المدني الأردني, 1976, م62), فالأصل إذا ألحق شخص بفعله الغير مشروع ضرراً بآخر أو ضرراً بالمتعاقد معه عند إخلاله بالتزامه العقدي فله – أي المتضرر – الحق في الحصول على تعويض يعوضه عن خسارته أي يجبر له الضرر .

"ويمكن تعريف الضرر بأنه الأذى الذي يلحق بالشخص في ماله أو جسده أو عرضه أو عاطفته وعموم الضرر واجب التعويض يقتضيه ما أخذ به القانون المدني الأردني في المادة /256 / المشار إليها سابقاً.

فالضرر قد يؤدي إلى إتلاف المال أو موت المصاب أو جرحه أو المساس في شرفه وكرامته ولذلك , فإن المضرور كما يطالب بالتعويض عن الضرر المادي أو الجسدي الذي أصابه فإنه يمكن أن يطالب بالتعويض عن الضرر الأدبي أيضاً" ( السرحان، وخاطر، 2000، ص 409).

" فالمدعي بالتعويض يجب أن يثبت الضرر الذي أصابه قبل أي ركن آخر من أركان المسؤولية ويستوي في ذلك أن يكون الضرر خسارة لحقت المدعي أو كسباً فاته، ويجوز أن يكون الضرر مادياً أو أن يكون أدبياً، غير أنه في هذه الحالة الأخيرة لا يجوز أن ينتقل الحق في  التعويض إلى الغير , إلا إذا تحدد بمقتضى اتفاق أو طالب الدائن به أمام القضاء " (مرقس، 1998، ص 502-503).

"فالإضرار والذي هو مناط الضمان والمسؤولية هو أمر ذو طبيعة موضوعية يقوم على السببية المادية ، فطالما أن فعل الشخص قد أدى إلى ضرر بالآخرين فهو ملزم بتعويضهم سواء أكان في ذلك مدركاً لما يفعل أم لم يكن مدركاً لذلك ، وسواء أكان مخطئاً أم لا ، لكن الفقهاء المسلمين والذين أخذ عنهم المشرع الأردني يفرقّون في كيفية حصول الضرر بين المباشرة والتسبب" (منصور، 2001، ص 264).

وقد نص القانون المدني الأردني على أنه " يكون الإضرار بالمباشرة أو التسبب" (القانوني المدني الأردني, 1976, م257), فالإضرار بالمباشرة أي أن فعل الفاعل هو الذي أدى إلى النتيجة – الضرر – دون تدخل من أحد , "أما الإضرار بالتسبب فقد يكون بالفعل ، أو بعدم الفعل أو بالتقصير, وأن التعدي شرط فيها جميعاً لأجل المسؤولية وهو المجاوزة الفعلية إلى حق الغير أو ملكه المعصوم ومثال التسبب بالتقصير ما لو حفر شخص حفرة في الطريق العام بإذن ولي الأمر , ولكن أهمل بعض القيود ، فلم يضع مثلاً حواجز حول الحفرة ، فوقع فيها حيوان فتلف" (الزرقا، 1988، ص 78-82).

"فالمتسبب ينشئ وضعاً يترتب على إنشائه حدوث الضرر، إلا أنه لا يستقل بمفرده في إحداث الضرر ، فإذا استقل بمفرده في إحداث الضرر وكان الضرر واقعاً لا محالة كنّا أمام مباشرة وليس تسبباً ، أما إذا لم يكن كذلك كان الفعل تسبباً وفاعله متسبب" (الخلايلة، 2009، ص 82).

وهنا يمكن القول بأن مزوّدي خدمات الإنترنت يكونون مسئولين مسؤولية تقصيرية إذا حصل ضرر للغير بسبب المواقع التي يتولون إدارتها ورقابتها وذلك بعد تمكّين الجمهور من الاتصال  بها .

وبالتالي فإن مسؤوليتهم هي الإضرار بالتسبب وهي هنا بالتقصير وذلك على أساس أنه أنشأ موقعاً أو قدم خدمةً على الإنترنت, ومكّن الجمهور من الاتصال بها ولكنه في المقابل أهمل بعض القيود ، فلم يقم بالرقابة مما أدى إلى وقوع الإضرار بالغير من خلال هذه المواقع والخدمات التي قدمها .

"وقد علّق بعض الفقه على قاعدة المباشر ضامن وإن لم  يتعد والمتسبب لا يضمن إلا إذا كان متعدياً بالقول بمسؤولية عديم التمييز في حالة التسبب الناتج عن إهمال وتقصير , وسندهم بأن العبرة بالنظر إلى ذات الفعل وليس شخص الفاعل ، فمتى كان الفعل محظوراً وآتاه شخص كان من قبيل التعدي الموجب للضمان" (منصور، 2001، ص 268).

و هنا يذهب الباحث مع هذا الرأي ومع ما جاء به المشرع الأردني لكونه أقرب إلى العدالة ولكون الشيء المهم للمضرور هو جبر الضرر وضمانه له. 

What's Your Reaction?

like
0
dislike
0
love
0
funny
0
angry
0
sad
0
wow
0