الملكية المفرزة في القانون العقاري المغربي
مواضيع وعروض في القانون العقاري و الحقوق العينية في مختلف المواضيع. المحررات الاكترونية في المعاملات العقارية، عروض في القانون العقاري، عروض في الحقوق العينية، الملكية في القانون المغربي، قراراتالمحافظ، التعرضات، النظام العقاري في المغرب، المساطر الخاصة للتحفيظ، المسطرة الادارية للتحفيظ، المسطرة القضائية للتحفيظ
مقدمة:
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
لقد عرف المغرب تطبيق الشريعة الإسلامية منذ الفتح الإسلامي لهذا البلد واختيار المذهب المالكي كمذهب رسمي ومرجع أساسي في النهل من أحكامه وجزئياته، مع الأخذ ببعض الأعراف المحلية والممارسات العملية التي تتوافق مع المبادئ الأساسية لهذا الفقه.
لكن مع بداية التغلغل الاستعماري للدولة المغربية على إثر توقيع معاهدة الحماية في 30 مارس 1912، بدأت القوانين الأجنبية التي جاء بها المستعمر، تزاحم الفقه المالكي ليتم تكريس هذا الوضع من الناحية القانونية على الأقل، حيث تم تقنين مجموعة من القوانين بشكل يتناسب مع أهداف المستعمر.
وترتب على هذا أن أصبحت القواعد المنظمة للملكية العقارية تعرف ازدواجا في القواعد الواجبة التطبيق، حيث أصبح العقار مقسما إلى قسمين: عقارات محفظة وعقارات غير محفظة، فضلا عن الأراضي الخاصة (أراضي جماعية، أراضي الكيش...). الشيء الذي أدى إلى خلق تضارب في القرارات والأحكام الصادرة عن المحاكم ولو في النازلة الواحدة.
وهذه الازدواجية في القواعد الواجبة التطبيق هي التي دفعت المشرع إلى إصدار م ح ع سنة 2011 لتفادي ما فات، وبالتالي لم الشتات وإحداث مرجعية قانونية موحدة وسن قواعد قانونية تطبق على العقار المحفظ وغير المحفظ بالإضافة إلى تنظيم بعض الحقوق التي لم تكن منظمة في نصوص قانونية، وهذا يعتبر من الإيجابيات التي تحتسب للمشرع، وما يحسب له أيضا أن أغلب هذه المواد التي جاء به المشرع في هذه المدونة تجد سندها في الفقه المالكي.
ولعل من أهم المسائل التي نظمها المشرع المغربي في م ح ع والمستمدة من الفقه المالكي مسألة الملكية المفرزة التي تعني: حق الفرد في الاستئثار بما يستطيع تملكه من أموال، وتخول لصاحبها سلطة مباشرة الاستغلال والاستعمال والتصرف مع مراعاة الحقوق التي رسمها القانون والنظام العام.
وعليه فإن حق الملكية يعتبر من أهم الحقوق العينية الأصلية بل وأقواها وأشملها، وأنه حق مطلق، بمعنى أن من حق المالك أن يتصرف في المملوك التصرف الذي يراه، إلا أن هذا الإطلاق مقيد بقيود وحدود لا يجوز للمالك تجاوزها.
وقد نظم المشرع المغربي الأحكام المتعلقة بالملكية المفرزة وقيودها في مواد متفرقة من الباب الأول والثاني م م ح ع، إلى جانب مواد أخرى متناثرة في قوانين أخرى. ومن خلال هذا يمكن طرح الإشكالات التالية:
إلى أي حد يعتبر حق الملكية العقارية الخاصة حق مطلق؟ وما هي أهم الحدود التي تحد منه؟ وإذا كان هذا الحق مقيدا فما هي أهمية الملكية الفردية لدى الأفراد؟ وكيف عالج المشرع المغربي الأحكام المتعلقة بهذه الملكية؟
هذا ما سنحاول الإجابة عليه ضمن التصميم التالي:
المبحث الأول: الملكية المفرزة مفهومها، وعناصرها، ونطاقها.
المبحث الثاني: القيود الواردة على الملكية الخاصة.
المبحث الأول: الملكية المفرزة مفهومها، وعناصرها، ونطاقها.
المطلب الأول: مفهوم الملكية المفرزة
الملكية لغة احتواء الشيء أو القدرة على الاستبداد به[1]. وفي الاصطلاح الفقهي عرفه القرافي بأنه: "حكم شرعي مقدر في العين أو المنفعة يقتضي تمكين من يضاف إليه من انتفاعه بالمملوك والعوض عنه من حيث هو كذلك[2]".
أما فيما يخص التعريف القانوني نلاحظ أن المشرع المغربي في القانون الجديد رقم 08-39 المتعلق بمدونة الحقوق العينية قد عرف حق الملكية على أنه: "يخول حق الملكية مالك العقار دون غيره سلطة استعماله واستغلاله والتصرف فيه ولا يقيده في ذلك إلا القانون أو الاتفاق".
وقد تضاربت الآراء الفقهية حول هذا التعريف، فمنهم من ناصروه واعتبروه أكثر ضبطا وتنظيما، ومنهم من ذهب إلى أن التعريف الذي جاء به المشرع المغربي في ظهير 2 يونيو 1945 المطبق على العقارات المحفظة الملغى بمقتضى المادة 334 م ح ع، كان أكثر شمولا ووضوحا بحيث عرف الملكية العقارية في الفصل 9 على أن: "الملكية العقارية هي حق التمتع والتصرف في العقار بطبيعته أو بالتخصيص على أن لا يستعمل هذا الحق استعمالا تمنعه القوانين والأنظمة".
ويرد أصحاب الرأي الأول على هذا التعريف بأنه اقتصر على حق الاستعمال والتصرف دون الاستغلال، كما لم يشر إلى أن المالك لا يجوز له أن يتعسف في استعمال حقه. غير أن ما يمكن قوله أن هذا يدخل ضمنيا ضمن التعريف، حيث أن حق التمتع يشمل كل من الانتفاع والاستغلال. كما أن التعسف في استعمال الحق يمكن إدخاله ضمن استعمال الحق استعمالا تمنعه القوانين والأنظمة.
وبناء على ما نص عليه المشرع في المادة 14 م ح ع يمكن طرح الإشكال التالي: هل أراد المشرع من خلال هذه المادة إعطاء تعريف لحق الملكية أم تبيان عناصرها فقط؟
وما يمكن الإجابة عليه هو أن المشرع المغربي في المادة 14 كان ذكيا فقد أعطى تعريفا لحق الملكية وفي نفس الوقت أدرج عناصرها؛ لأن تعريف حق الملكية لا يمكن تصوره بدون ذكر عناصرها.
ولهذا نجد بعض التعريفات الفقهية التي نصت على عناصر الملكية ضمن تعريفها من ذلك تعريف الأستاذ والفقيه القانوني مأمون الكزبري: "حق الملكية هو حق عيني على شيء معين يخول صاحبه دون غيره بصورة مطلقة استعمال هذا الشيء واستغلاله والتصرف فيه وذلك في حدود القانون والنظام ودون تعسف".
هذا وتختلف الملكية المفرزة عن الملكية الشائعة فيما يلي:
- الملكية الفردية يكون الشيء المملوك فيها لشخص واحد، أما الملكية الشائعة أساسها اشتراك أكثر من شخص في ملكية الشيء.
- محل الملكية الفردية محدد تحديدا ماديا، أما الملكية الشائعة فيكون التحديد معنوي يرمز له بحصص.
- إدارة الشيء المملوك في الملكية الفردية تختلف عن إدارة الشيء المملوك في الملكية الشائعة.
وانطلاقا مما سبق ذكره فإن حق الملكية يمنح صاحبه سلطات ثلاث، وهو ما سنتطرق إليه في المطلب التالي.
المطلب الثاني: عناصر حق الملكية
يعتبر حق الملكية من أوسع الحقوق العينية الأصلية نطاقا نظرا لما يخوله لصاحبه من سلطات وهي: الاستعمال والاستغلال والتصرف طبقا لأحكام المادة 14 و 19 م م ح ع.
الفرع الأول: حق الاستعمال
يقصد بحق الاستعمال سلطة المالك في استخدام ملكه فيما يصلح له من وجوه الاستخدام[3]، فاستعمال الأرض يكون بزراعتها واستعمال الدار يكون بسكناها وما أشبه ذلك، إلا أنه لا يسوغ لمالك العقار أن يستعمله استعمالا مضرا بجاره ضررا بليغا والضرر البليغ يزال (م 21).
الفرع الثاني: حق الاستغلال
وهو الحصول على ما ينتج عن الشيء من ثمار، وهذه الثمار إما أن تكون مادية وإما قانونية، فتكون مادية إذا نتجت عن الشيء ذاته، كنتاج الحيوان والمزروعات، وتكون قانونية إذا نتجت مقابل الانتفاع بالشيء كأجرة المنازل والأراضي الزراعية.
الفرع الثالث: حق التصرف
وهو حق إجراء سائر التصرفات عليه سواء أكانت هذه التصرفات مادية كتغيير شكله ومعالمه أو إتلافه جزءا أو كلا أم كانت قانونية كبيعه أو رهنه أو هبته أو غير ذلك من ضروب التصرف. غير أنه إذا تعلق حق الغير بعقار فلا يسوغ لمالكه أن يتصرف فيه تصرفا ضارا بصاحب الحق.
وتجدر الإشارة إلى أن التصرف هو العنصر الذي يميز حق الملكية عن غيره من الحقوق العينية الأصلية الأخرى. ولذلك يبقى دائما في يد المالك. أما سلطة الاستعمال والاستغلال فيجوز ثبوتها لغير المالك.
المطلب الثالث: نطاق الملكية المفرزة
إن نطاق الملكية واسع يشمل العقار المملوك، وما يتفرع عنه من ثمار ومنتجات، فإن كان العقار أرضا فان ملكيتها تشمل ما فوقها وما تحتها، وتبعا لذلك سوف نتناول في هذا المبحث نطاق حق الملكية من حيث التفرعات (فرع أول) ونطاق حق الملكية من حيث الموضوع (فرع ثاني).
الفرع الأول: نطاق حق الملكية من حيث التفرعات
إن المبدأ العام أن كل ما يغله الشيء منقولا كان أو عقارا محفظا أو غير محفظ، وكل ما يلتصق به يعود للمالك. إلا أن مبدأ منح الغلة للمالك ليس مطلقا بل توجد عليه استثناءات حيث تعود فيها الغلة لغير المالك وهو ما سنتحدث عنه في الفرعين التاليين:
الفقرة الأولى: حق المالك في غلة الشيء
فالمالك له الحق في جميع ما يغله الشيء ما لم يوجد نص أو اتفاق يخالف ذلك، وهذا ما صرحت به المادة 16 بنصها على أن: "مالك العقار يملك كل ملحقاته وما يدره من ثمار أو منتجات وما يضم إليه أو يدمج فيه بالالتصاق" كما نصت المادة 17 على أنه: "يحق لمالك الأرض قنص ما بها من الوحيش على أن يراعي في ممارسته لهذا الحق الضوابط التي يفرضها القانون"
وقد عزز المشرع هذه المادة بالمادة 231 ونصها: "إن ثمار الأرض الطبيعية أو الصناعية والثمار المدنية ونتاج الحيوان هي للمالك بطريق الالتصاق".
ويتضح من النصوص السابقة أن المشرع قرر أن كل ما يغله العقار أو يلتصق به يعود للمالك من ثمار الأرض طبيعية كانت أو صناعية وثمار مدنية ومنتجات.
ويقصد بالثمار الطبيعية ما يغله الشيء مباشرة من غير أن يحتاج إلى عمل الإنسان، وذلك مثل ما تنبته الأرض من كلأ وما يتولد من الماشية من صوف وغيرها.
ويقصد بالثمار الصناعية ما يغله الشيء بتدخل الإنسان وعمله، وذلك مثل ثمار الأشجار و المحاصيل الزراعية.
أما الثمار المدنية فيقصد بها المبالغ المالية التي يحصل عليها المالك في فترات معينة مقابل تنازله عن منفعة الشيء لغيره، وذلك كأجرة كراء الدار، وأجرة كراء الأراضي الزراعية .
أما المنتجات: فهي كل ما ينتج عن الشيء المملوك في فترات منتظمة أو غير منتظمة، ويترتب على ذلك الإنتاج أن يلحق بالشيء المملوك تلف أو نقص في هيأته، وذلك مثل الأشجار المثمرة حينما تقطع أو تقلع من الأرض، والأحجار حينما تؤخذ من المقالع، والأنقاض التي تؤخذ بعد هدم الأبنية[4].
وعليه فإن كل هذه الثمار والمنتجات تعتبر في الأصل مملوكة لمالك الشيء الذي تفرعت عنه، لأن نطاق حق الملكية يمتد إليها ويشملها.
وإضافة إلى الغلة فإن كل ما يضم إلى العقار أو يدمج فيه فهو للمالك، وهو ما نصت عليه المادة 233 م م ح ع كما أضافت المادة 235 أن: "كل البناءات والأغراس والمنشآت الموجودة فوق الأرض أو داخلها تعد محدثة من طرف مالكها وعلى نفقته وتعتبر ملكا له ما لم تقم بينة على خلاف ذلك"
غير أن مبدأ منح الغلة للمالك ليس على إطلاقه، فثمة استثناءات تعود فيها غلة الشيء لشخص غير المالك، ويكون ذلك بمقتضى نص في القانون أو بمقتضى اتفاق وهو ما سنتحدث عنه في الفرع التالي:
الفقرة الثانية: الحالات الإستثنائية التي تعود فيها الغلة لغير المالك
على الرغم من قاعدة أن الثمار والمحاصيل والمنتجات تعود للمالك، فإن هناك حالات استثنائية تكون فيها الثمار والمنتجات لغير المالك إما عن طريق اتفاق أو بمقتضى نص قانوني.
أولا :الغلة لغير المالك بمقتضى اتفاق
يمكن للشخص أن يتنازل بمحض إرادته لمصلحة شخص آخر عن الثمار أو المنتجات التي يغلها هذا الشيء كأن ينشئ عليه انتفاعا حيث تكون الثمار للمنتفع، أو كأن يهب أو يبيع أنقاض بناء هدمه حيث تكون الأنقاض للموهوب له أو للمشتري[5].
ثانيا: الغلة لغير المالك بمقتضى القانون.
يمكن بمقتضى نص قانوني أن تعود الثمار لغير المالك ومن أمثلة تلك الحالات التي نص عليها القانون في المادة 232 والمادة 74 من م ح ع والمادة 103 و 101 من قانون الالتزامات ق ل ع.
أ. حالة الشخص الذي يزرع أرض غيره.
تنص المادة 232 على أنه "إذا زرع شخص أرضا مملوكة للغير بسوء نية فإن أخذها مالكها قبل فوات وقت الزراعة، فهو مخير بين المطالبة بقلع الزرع مع التعويض إذا كان له ما يبرره، وبين تملك الزرع مع دفع نفقاته إلى الزارع منقوصا منها أجرة القلع، وإن أخذها بعد فوات وقت الزراعة فله الحق في أجرة المثل مع التعويض إن كان له ما يبرره.
أما إذا زرع شخص أرض غيره بحسن نية كمن استأجر أرضا من غير مالكها فان استحق المالك أرضه قبل فوات وقت الزراعة فللزارع أجرة المثل، وإن استحق المالك أرضه بعد فوات وقت الزراعة فليس له إلا الحق في المطالبة بالتعويض عما لحقه من ضرر من المتسبب فيه"
ب. حالة الحائز الشيء حسن النية
حينما يحوز شخصا شيئا ما بنية تملكه وهو يعتقد أن حيازته وتملكه متوفرين على الشروط المتطلبة قانونا أي أن يكون حسن النية كما إذا اشترى عقارا أو منقولا بمقتضى عقد لم يطلع على ما به من عيب يجعله باطلا أو قابلا للإبطال. ثم يرفع عليه المالك الحقيقي دعوى برد الشيء إليه ويحكم له بذلك، فإن كل ما أخذه من غلة ومنتجات طيلة مدة وجود الشيء في يده وقبل رفع الدعوى المذكورة يكون لهذا الحائز.
أما ما كان موجودا من الغلة في تاريخ رفع الدعوى، فإنه يلزم برده لمالك الشيء ولو كان قد نتج قبل رفع هذه الدعوى، كما يلزم برد ما نتج من الغلة بعد ذلك، وهذا ما نص عليه الفصل 103 من ق ل ع.
غير أن هذا الحكم لا يطبق على الحائز سيء النية، وإنما يكون ملزما برد الثمار التي جناها والتي يمكن أن يجنيها عن المدة التي بقي فيها ذلك الشيء تحت حيازته بعد أن يسترد منها المصروفات التي أنفقها في جني تلك الثمار وهذا ما يشير اليه الفصل 101 من ق ل ع[6].
ج. الحالة التي تتساقط فيه ثمار الأشجار على ملك الغير
حينما تتساقط ثمار الأشجار الممتدة على أرض الغير وذلك فيما إذا غرس المالك أشجارا على حدود أرضه وامتدت فروعها الى أرض الجار فإن ما يتساقط بصفة تلقائية من ثمار تلك الفروع على أرض الجار يكون لهذا الجار بدون مقابل، وهو ما نصت عليه المادة 74 من ق ل ع بقولها: "إذا امتدت أغصان الأشجار فوق أرض الجار فله أن يطالب بقطعها إلى الحد الذي تستوي فيه مع حدود أرضه، وتكون له الثمار التي تسقط منها طبيعيا" وبذلك لا يحق لمالك تلك الأشجار أن يلزم الجار برد تلك الثمار له ما لم يكن هو الذي قطفها أو تسبب في سقوطها أو سقطت حين قيام المالك بقطفها وإلا لزم بردها لصاحبها.
وبطبيعة الحال يكون من حق كل شخص امتدت فروع أشجار جاره إلى أرضه أن يطالب مالكها بقلعها، وهو ما نصت عليه المادة 73 من م ح ع التي جاء فيها "لا يجوز للجار أن يغرس أشجارا بجوار بناء جاره إذا كانت هذه الأشجار تمتد جذورها، فإذا غرسها فإنه يحق لمالك هذا البناء المطالبة بقلعها".
هذا بالنسبة لنطاق حق الملكية من حيث التفرعات، فماذا عن نطاق الملكية من حيث الموضوع ؟ وهوما سنحاول التطرق إليه في الفرع التالي:
الفرع الثاني: نطاق حق الملكية من حيث الموضوع
من خلال المادة 15 التي تنص على أن "ملكية الأرض تشمل ما فوقها وما تحتها الى الحد المفيد في التمتع بها إلا إذا نص القانون أو الاتفاق على ما يخالف ذلك".
وعليه يمكن تحديد نطاق الملكية من حيث الموضوع وذلك بالتطرق إلى نطاقها من حيث العلو (فقرة أولى )ومن حيث العمق (فقرة ثانية)
الفقرة الأولى: ملكية العلو
يخول حق الملكية للمالك ملكية ما يعلو فوق أرضه، أي الفضاء العمودي الذي يرتفع فوق الأرض أو البناء، غير أن حقه هذا لا يعني أنه استأثر بالتمتع بالهواء إلى ما لانهاية في الارتفاع، بل حقه محصور في الاستفادة من العلو إلى الحد المفيد في التمتع به وهو ما نصت عليه المادة 15 م م ح ع.
كما أنه على المالك مراعاة الضوابط التي تفرضها الارتفاقات القانونية، وتلك التي تنص عليها القوانين والضوابط الخاصة بالتخطيط وتصاميم وتوسيع المدن والطرق بوجه عام إلى غير ذلك من الاستثناءات المقيدة لحق الملكية كما سنرى في حديثنا عن قيود الملكية.
وفي نطاق هذا الحد المفيد يبقى من حق المالك إقامة ما يشاء فوق أرضه من أبنية ومنشآت وأغراس حيث نصت المادة 234 م م ح ع على أنه: "يجوز لمالك الأرض أن يقيم عليها جميع أنواع المغروسات والبناءات التي يؤتيها مع التقيد بالقوانين والأنظمة".
وفي هذا الصدد يقول الفقيه التسولي: "من ملك أرضا يملك هواءها إلى ما لانهاية له". وهذا يعني أنه يحق لصاحب العقار أن ينشئ على عقاره ما شاء من الأبنية والأغراس، وأن يتصرف في الفضاء الذي فوق عقاره بكل أنواع التصرفات، كما يحق له أن يمنع كل من يتدخل في حقه هذا إما بمنعه من التصرف في هوائه أو باستعماله بغير إرادة مالكه، ولهذا قرر الفقهاء أن من كانت له في أرضه أشجار أو بناء فلا يحق لأي واحد من جيرانه أن يطالبه بتقصيرها أو قطع أغصانها مهما علت تلك الأشجار، أو ارتفع ذلك البناء، وقد ورد في المدونة ما يلي: "ومن رفع بنيانه فتجاوز به بنيان جاره وأفسد عليه كواه فأظلمت أبواب غرفه وكواه ومنعه الشمس لم يمنع من هذا البنيان[7]".
لكن إذا امتدت أغصان أشجار الجار فوق علو أرضه حق له أن يطالبه بقطعها، كما يحق للمالك أيضا أن يتصرف في علو أرضه عن طريق تفويته، فمالك الأرض الذي شيد عليها بناء من طابق واحد يمكن له أن يبيع الهواء العلوي لشخص آخر ليشيد فوقه طابقا ثانيا وهو ما نص عليه الفصل 483 من ق ل ع الذي جاء فيه: "يقع صحيحا بيع جزء محدد من الفضاء الطليق أو الهواء العمودي الذي يرتفع فوق بناء قائم فعلا ويسوغ للمشتري أن يبني فيه بشرط تحديد طبيعة البناء وأبعاده، ولكن لا يسوغ للمشتري أن يبيع الهواء العمودي الذي يعلوه بغير رضى البائع الأصلي".
الفقرة الثانية: ملكية العمق
التمتع بالعمق كالتمتع بالعلو لا يعني استئثار المالك بما تحت أرضه إلى ما لا نهاية في الأعماق، بل إن حقه كما في نطاق العلو قاصر على الاستفادة من العمق إلى الحد المفيد في التمتع به، وفي حدود القوانين والضوابط الجاري بها العمل، وهو ما نصت عليه المادة 234 في فقرتها الأخيرة، وهذا هو المعتمد عند المالكية يقول التسولي:" من ملك أرضا يملك باطنها على المعتمد". بحيث يحق لهذا المالك أن يستغل عمق أرضه وأن ينتفع بما يوجد في باطنها، وأن يقيم في ذلك العمق ما يشاء من المنشآت كما يحق له أن يمنع كل من يريد استعمال عمق أرضه بغير رضاه[8]. فإذا ما أقام مالك أرض حفريات أو نفقا في أرضه وتجاوزت الحفريات أو تجاوز النفق حدود أرض الجار فللجار أن يبادر إلى جعل حد لكل تجاوز.
وكما أن للمالك التصرف في عمق أرضه فله أن يتنازل عنه للغير بعوض أو بغير عوض عما يوجد في باطنها من مواد داخلة في التعامل أو كان يسمح لجاره بإقامة نفق أو أي منشآت أخرى تحت أرضه.
لكن هذه التصرفات كما سبق مقيدة بالضوابط والقوانين كما هو الشأن بالنسبة للقانون المتعلق بالمناجم والمقالع، وغيرها من القيود التي سنتحدث في المبحث الآتي.
المبحث الثالث: القيود الواردة على حق الملكية
لقد بحث الفقه القيود التي ترد على حق الملكية، فاختلفت منهجيتهم في تبيانها، فمنهم من صاغها انطلاقا من التمييز بين القيود القانونية والقيود الاتفاقية. وباحثون درسوها انطلاقا من النبع الفياض للفقه الإسلامي الذي اهتم بدراسة كنه طبيعة الملكية العقارية في الإسلام وقيودها، وآخرون فرعوها إلى قيود مقررة منعا لاستعمال حق الملكية وقيود مقررة في سبيل النفع العام، وأخرى مقررة لرفع ضرر الجوار، وأخيرا قيودا اتفاقية (مأمون الكزبري). وفقه قسمها إلى قيود للمصلحة العامة وأخرى للمصلحة الخاصة (السنهوري). وكذلك قسم بعض الفقه هاته القيود إلى قيود ترد على حق الملكية قبل قيامه وبعد قيامه...
وعليه فإن من الصعوبة بمكان تصنيف مختلف هذه القيود لتنوعها وتشعبها، ومن تم اعتمدنا على التصنيف الذي تبناه الفقيه القانوني مأمون الكزبري لكونه التصنيف الذي يمكننا من مقارنة ما جاء به الفقه المالكي والقانون المغربي، وذلك من خلال تقسيم القيود إلى فئات أربع: وهي القيود المقررة منعا لإساءة استعمال حق الملكية، ثم المقررة في سبيل النفع العام، فالمخصصة رفعا لمضار الجوار، وأخيرا القيود الاتفاقية.
المطلب الأول: القيود التي تمنع المالك من التعسف في استعمال حقه
لقد أقرت الشريعة الإسلامية مبدأ منع المالك من التعسف في استعمال حقه، وذلك منذ أن أرسل الله رسوله وأنزل عليه قرآنه واعتنقه الناس دينا وطبقوه في قضاياهم وسائر علاقاتهم. فما المقصود بالتعسف في استعمال الحق؟ وما هو معيار تحديده؟
يقصد بالتعسف: استعمال الحق على وجه غير مشروع[9]. وهناك أمثلة كثيرة وردت في الفقه المالكي كلها تؤكد على منع المالك من التعسف في استعمال حقه، منها:
_ إذا أحدث الرجل في عرصته ما يضر بجيرانه من بناء حمام أو فرن أو لسبك ذهب أو فضة أو كير لعمل الحديد أو رحى مما يضر بجاره، فقد قال ابن القاسم في المجموعة يمنع من ذلك، ووجه الضرر في هذا هو أن الدخان الذي يحصل من الفرن والحمام يدخل على الجيران في دورهم ويضرهم وهو من الضرر الكبير المستدام[10].
_ إذا حفر شخص بئرا فإنه إذا كان يضر بجدار جاره فإنه يمنع منه، وإن كان لا يضر بالجدار ولكن يضر ببئر جاره بتقليل مائها أو إعدامه بالكلية ففيه أقوال:
- روى أشهب عن مالك أنه لا يمنع من ذلك؛ لأنه قد أضر به تركه كما أضر بجاره حفره، فهو أحق أن يمنع جاره من أن يضر به في منعه الحفر.
- قال ابن القاسم يمنع من حفرها وإن اضطر إلى ذلك واستدل اللخمي بهذا القول بأن الماء أصبح تحت حيازة من أحفر الماء أو لا فلا تمنع منه هذه الحيازة[11].
من خلال هذا يتبين أن فقهاء المالكية يمنعون المالك من استعمال ملكه فيما يلحق ضررا بغيره ووضعوا شروطا لذلك وهي:
- أن يكون الضرر حاصلا فعلا، ولا يكفي أن يكون الضرر متوقعا.
- أن يكون الضرر غير مادي، فإن كان ماديا فلا يمنع من ذلك كأن يبني شخص حماما قرب حمام أو فرن قرب فرن فتقل بذلك غلة الأول فإن ذلك لا يمنع.
- أن يكون الضرر كبيرا، أما إذا كان يسيرا فإن المالك لا يمنع من استعمال ملكه ومن ذلك دخان المطابخ.
ويبقى التساؤل المطروح في هذا الصدد حول ما إذا كان الضرر يتقادم وتنفع فيه الحيازة، فهل يسقط حق المتضرر في المطالبة أم يبقى له الحق فيها مهما طال سكوته؟
يرى فريق من العلماء بأن حق المطالبة لا يسقط، ويرى فريق آخر بأنه يتقادم بمضي مدة معينة إذا كان مما يبقى على حالة واحدة. بينما يرى فريق ثالث أن الضرر يسقط بمضي المدة المعتبرة في الحيازة[12].
وقد أخذت معظم التشريعات الحديثة بنظرية التعسف في استعمال الحق شأنها شأن الفقه الإسلامي مثل القانون المدني الألماني والسويسري والفرنسي.
أما فيما يخص التشريع المغربي نلاحظ أن ظهير 19 رجب 1333ه الملغى، نجده سكت عن نظرية التعسف في استعمال الحق العقاري ولم يتطرق إليها[13]. وهو ما سلكه المشرع أيضا عندما أصدر م ح ع حيث لم ينص بشكل صريح وواضح على نظرية التعسف في استعمال الحق، إلا أنه من خلال استقراء المواد 14.19.20.21 من م ح ع، نستشف أنها قد أقرت نظرية التعسف في استعمال الحق ولكن بشكل غير صريح، وبالرجوع إلى ق ل ع م نجد مجموعة من الفصول التي تقر هذه النظرية منها الفصول 94 و77 و92 و 91.
وفي هذا الصدد جاء في حكم صادر عن المحكمة الابتدائية يدعي فيه المدعي أن المدعى عليه يملك منزلا مجاورا له والذي تتسرب منه مياه عادمة عبر الجدران وفي باطن منزل العارض، مع انتشار رائحة كريهة داخل منزله، وبعد تأكد المحكمة من الأضرار الاحقة بمنزل المدعي، حكمت على المدعى عليه برفع الضرر وذلك بتحويل القادوس المقام بجانب منزل المدعي مع أدائه تعويض للمدعي قدرها 30.000 درهم[14].
وقد أعطت المادة 71 م ح ع للجيران الحق في أن يطالبوا بإزالة المضار التي تتجاوز الحد المألوف ولا يحول الترخيص الصادر من السلطات المختصة دون استعمال هذا الحق أي دون طلب إزالة المضار إذا تجاوزت الحد المألوف.
وفي المقابل فقد منعت الجيران من المطالبة بإزالة مضار الجوار المألوفة التي لا يمكن تجنبها.
من خلال هذه المادة تبين أن المشرع المغربي لم يحدد الضرر الذي يتجاوز الحد المألوف وبالتالي كيف يمكن للقضاء تكييف كون الضرر مألوفا أو غير مألوف؟
وقد تدارك المشرع هذا الأمر ورفع اللبس حيث أعطى للقاضي المعايير في تكييف الضرر بالاعتماد على طبيعة العقار والعرف والغرض الذي خصص له العقار (م 71).
المطلب الثاني: القيود المقررة للمصلحة العامة
من القواعد المقررة في الفقه الإسلامي كما هو معلوم، بأنه إذا اجتمع ضرران ارتكب أخفهما، فيتعين التضحية بالمصلحة الخاصة عندما تتعارض مع المصلحة العامة.
وهذا المقتضى هو ما سارت عليه القوانين الحديثة حينما اعتبرت الملكية نظاما اجتماعيا يجب أن يحقق النفع العام إلى جانب تحقيقه لمصلحة صاحب هذا الحق ولذلك فرضت هذه القوانين عدة قيود على حق الملكية لتحد من سلطة المالك على ملكه، وتمنعه من استعمال ملكه لما في مصلحته الخاصة عندما تتعارض مع المصلحة العامة، وما ذلك إلا لأن هذه القوانين أصبحت تعتبر أن المصلحة العامة أولى بالرعاية من المصلحة الخاصة لأنها أهم وأعم.
وبالرجوع إلى م ح ع نجدها تشير في مادتها 14 على أنه: "يخول حق الملكية مالك العقار دون غيره سلطة استعماله واستغلاله والتصرف فيه، ولا يقيده في ذلك إلا القانون أو الاتفاق". كما نصت أيضا في م 19 على أنه: "لمالك العقار مطلق الحرية في استعمال ملكه واستغلاله والتصرف فيه، وذلك في النطاق الذي تسمح به القوانين والأنظمة الجاري بها العمل".
فمن خلال هاتين المادتين يمكن أن نستشف أن هناك قوانين وأنظمة تقيد حق الملكية وتمنع المالك من استعمال ملكه فيما يتعارض مع المصلحة العامة، وهي تتجلى في كل من القيود التي تحد من سلطة المالك على العلو الذي فوق أرضه، ثم القيود التي تحد من حق المالك في عمق أرضه، وأخيرا القيود التي تحد من حق المالك في التصرف في عقاره نتيجة نزع الملكية من أجل المنفعة العامة[15] .
الفرع الأول: القيود التي تحد من سلطة المالك على العلو الذي فوق أرضه
تتجلى القيود التي تحد من سلطة المالك على العلو الذي فوق أرضه فيما يلي:
- القيود التي تتطلبها القوانين والضوابط المتعلقة بتنظيم المدينة وتوسعتها ومد الطرقات، وذلك مثل الضوابط التي تمنع البناء في منطقة معينة، أو تفرض احترام نمط علو معين في البناء فإن المالك يصبح حقه في الهواء مقيدا بما تفرضه هذه الأنظمة. وهذه الأمور فصلها قانون التعمير 12.90 ولاسيما المواد 4-13-19-45-59. وكذا بعض مواد القانون 25.90 المتعلق بالتجزئات العقارية والمجموعات السكنية وتقسيم العمارات.
- القيود المتعلقة بالملاحة الجوية والتي تعطي الحق للمركبات الهوائية بالطيران فوق الأملاك الخاصة، ضمن حدود معينة الشيء الذي لم يبق معه الحق لملاك هذه العقارات في التعرض لأصحاب هذه المركبات ومنعهم من استعمال هواء عقاراتهم كما أن هذه الأنظمة تقررها العقارات المجاورة للمطارات ارتفاقات تحد بمقتضاها حرية أصحاب هذه العقارات في أن يقيموا عليها ما يشاءون من أبنية أو تجاوز حد معين في العلو، فيصبحون بذلك خاضعين لتلك الضوابط والحدود، ولا يبقى لهم الحق في أن يعلوا بناياتهم إلى ما يشاءون، وهذا ما جاء في الظهير المؤرخ في فاتح شعبان 1357ه م 26 شتنبر 1938 المتعلق بإحداث وضبط الحرمات الخصوصية المدعوة الحرمات المفروضة على منفعة الملاحة الجوية.
- القيود التي تتطلبها الارتفاقات المقررة على العقارات الخاصة لمصلحة الخطوط البرقية والهاتفية، وبمقتضاها يحق للدولة وضع الأعمدة والدعائم وهذه الأمور ينظمها ظهير فاتح يوليوز 1914.
- القوانين التي تمنع المالك من البناء قرب الأماكن الحربية والسكك الحديدية.
الفرع الثاني: القيود التي تحد من حق المالك في عمق أرضه
من بين القيود التي تحد من حق المالك في عمق أرضه نذكر منها:
- القيود المتعلقة بالمناجم والمقالع
- القيود المتعلقة بالمناجم
يقصد بالمناجم المكامن الطبيعية التي تحتوي على المواد المعدنية الوارد تعدادها في الفصل 2 من ظهير 16 أبريل 1951 المتعلق بالمناجم ومنها: الفحم الحجري والحديد والفضة والذهب والفوسفاط... وتعتبر هذه المناجم تابعة لملك الدولة ولو كانت في أرض مملوكة للخواص. وحسب الفصل السادس من الظهير السابق فللدولة وحدها الحق في التنقيب عن مادة الفوسفاط واستثمارها، أما المواد المنجمية الأخرى غير الفوسفاط فلا يمكن لأحد التنقيب عليها إلا بعد الحصول على إذن من إدارة الأملاك المنجمية.
- القيود المتعلقة بالمقالع
نصت المادة الأولى من ق رقم 27.13 المتعلق باستغلال المقالع على أنه يراد بلفظة مقلع كل مكمن طبيعي قابل للاستغلال يحتوي على مواد لا تخضع لنظام المناجم بمقتضى النصوص التشريعية الجاري بها العمل.
وتعتبر المقالع تابعة لسطح الأرض وجارية بالتالي بملكية صاحب هذه الأرض، مما يقتضي أن تكون مملوكة لصاحب الأرض وذلك طبقا للمادة 3 م ق 27.13 إلا أن القانون نظم كيفية استغلالها وبين القواعد التي تتبع في استخراجها. وذلك من خلال القانون رقم 27.13 المتعلق باستغلال المقالع الصادر بمقتضى الظهير الشريف رقم 66 15 1 صادر في يونيو [16] 2015.
- القيود الناجمة عن المحافظة على المباني التاريخية والتحف والآثار الفنية
ويقيد حق المالك لعقار في أن لا ينقب عن الآثار والتحف إلا ضمن شروط معينة في القانون رقم 80-22 المتعلق بالمحافظة على المباني التاريخية والمناظر والكتابات المنقوشة والتحف الفنية والعاديات كما وقع تتميمه وتغييره بمقتضى القانون رقم 05-19.
وبالرجوع إلى الفقه الإسلامي فإنه يعتبر الآثار الفنية والتحف القديمة من الركاز والكنوز.
فالركاز: هو ما عثر عليه في الأرض من المال المدفون قديما ( قبل الإسلام) كالحلي والتماثيل والأعمدة الرخامية. ويرى الفقهاء أن الذي عثر على شيء من ذلك يملك أربع أخماسه ويتعين عليه أن يدفع الخمس الآخر للإمام ليدفعه لمن يستحقه، إلا إذا احتاج استخراجه إلى نفقة أو كثير من الجهد والعمل فلا يلزمه حينئذ إلا أن يزكيه.
أما الكنز: فهو ما يعثر عليه في الأرض مما دفن فيها بعد الإسلام، ووجدت عليه علامة تدل على ذلك وحكمه حكم اللقطة، وهو أنه يعرف به سنة، بأن يعلم من عثر عليه بواسطة النداء في أبواب المساجد والأسواق، فإن طالب به شخص وأثبت ملكيته له ولو بإعطاء علامات تحدده دفعه له، ويمكنه أن يطالبه بما أنفق عليه في استخراجه وصيانته، وإن مضت السنة ولم يطلبه أحد أمكن لهذا الذي عثر عليه أن يتملكه[17]. وفي هذا الصدد قد نص المشرع في المادة 18 م م ح ع على أن "الكنز الذي يعثر عليه في عقار معين يكون ملكا لصاحبه وعليه الخمس للدولة.
الفرع الثالث: القيود المتعلقة بنزع الملكية من أجل المنفعة العامة
نص الدستور المغربي في الفصل 35 "يضمن القانون حق الملكية
يمكن الحد من نطاقها وممارسته بموجب القانون إذا اقتضت ذلك متطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد، ولا يمكن نزع الملكية إلا في الحالات ووفق الإجراءات التي ينص عليه القانون". وأشار المشرع إلى هذا المقتضى أيضا في المادة 23 م م ح ع "لاتنزع ملكية أحد إلا لأجل المنفعة العامة ووفق الإجراءات التي ينص عليها القانون ومقابل تعويض مناسب".
وقد نظم المشرع الأحكام المتعلقة بنزع الملكية من أجل المنفعة العامة من خلال القانون رقم 81-7 المتعلق بنزع الملكية لأجل المنفعة العامة وبالاحتلال المؤقت الصادر بمقتضى الظهير الشريف 254-81-1 بتاريخ 6 ماي 1982.
وبالرجوع إلى مقتضيات هذا القانون نلاحظ أن المعايير التي وضعها المشرع لتقدير التعويض لا ترقى إلى مستوى تعويض عادل، مع تغييب مفهوم محدد لشرط المنفعة العامة، وأن الضرر الذي يمكن التعويض عنه هو الضرر الحالي.
كما يمكن للدولة أن تعمد إلى حرمان المالك من استغلال ملكه دون نية نزعه وذلك تبعا لطبيعة النشاط الذي تزمع الدولة القيام به في أحوال طارئة أو مستعجلة وهو ما يعرف بالاحتلال المؤقت والحرمان من الاستغلال.
ومما تجب الإشارة إليه أنه لا يمكن للسلطة العامة أومن يقوم مقامها اللجوء إلى نزع الملكية إلا إذا توافرت الشروط التالية:
- الشرط الأول: نزع الملكية مرتبط بالمنفعة العامة
- الشرط الثاني: نزع الملكية مرتبط بالأملاك العقارية
- الشرط الثالث: حق الملكية يثبت للسلطة العامة أو من يقوم مقامها.
المطلب الثالث: القيود المقررة لرفع ضرر الجوار
إن المالك حر في مباشرة سلطاته التي تمكنه من استغلال ملكه واستعماله والتصرف فيه، إلا أنه قد ينتج من استعمال المالك لعقاره ضرر بمن يجاور ذلك العقار-إما ضررا بالغا أو غير مألوف- وكما سبقت الإشارة فإن الفقه الإسلامي والمالكي منه يمنع الإضرار بالغير، وقيد حق المالك بقيود تحد من هذه الأضرار وتعمل على رفعها، تطبيقا للقاعدة الفقهية "الضرر يزال".
وما ذهبت إلية الشريعة الإسلامية هو ما أخذت به القوانين الوضعية غير أنهم يختلفون في تنظيم نظرية مضار الجوار، فالقانون المصري والليبي أدرجوا هذه النظرية ضمن النصوص المخصصة لحق الملكية، بينما سارت القوانين الأخرى كالقانون الفرنسي والسوري إلى إدراجها ضمن النصوص المخصصة للكلام عن حقوق الارتفاق على أساس أن هذه القيود هي من قبيل الارتفاقات القانونية، وهو التوجه الذي كان يسير عليه ظهير 19 رجب الملغى (ف 115).
وهنا نطرح الإشكال التالي: ماهي أهم القيود المتعلقة بمضار الجوار؟ وكيف نظمتها م ح ع؟ وهل هذه الأخير أخذت بالتوجه الذي كان ينهجه ظهير 19 رجب الملغى؟
يمكن تلخيص القيود المتعلقة بمضار الجوار كما هي منظمة في م ح ع على النحو التالي:
الفرع الأول: الحائط المشترك
يقصد بالحائط المشترك هو الجدار الفاصل بين عقارين وهو مملوك على الشيوع ملكية مشتركة يملكنه صاحبهما على وجه الشيوع[18]. وهذا ما أشارت إليه المادة 28 م م ح ع على أن "الحائط الفاصل بين عقارين يعد مشتركا بينهما إلى نهاية خط الاشتراك ما لم يقم الدليل على خلاف ذلك".
وقد نصت المواد (28 إلى 31) المتعلقة بالحائط المشترك على أن لكل شريك في الحائط المشترك أن يستعمله بأن يقيم بجانبه بناء أو يضع فوقه عوارض أو دعائم شريطة ألا يتجاوز كل منهما ما لا يتحمله الحائط، كما أن نفقة إصلاحه تكون مناصفة بينهما كل بحسب حصته فيه، ولا يحق لأحدهما التصرف فيه دون أخذ إذن من الآخر إلا إذا كانت له مصلحة جدية، شرط ألا يلحق بشريكه ضررا بالغا ويتحمل لوحده نفقة التعلية.
فإذا لم يكن الحائط المشترك غير صالح لتحمل التعلية فعلى الراغب في التعلية أن يعيد بناءه على نفقته والأرض الازمة لزيادة سمكه تؤخذ من جهته، بينما يظل الحائط المجدد في غير الجزء المعلى مشتركا دون أن يكون لمن أحدت التعلية أي حق في التعويض.
وتجدر الإشارة أنه ليس للجار في جبر جاره على التنازل عن حصته في الحائط المشترك، إلا أنه في حالة التعلية يمكن للجار الذي لم يساهم في نفقاتها أن يصبح شريكا في الجزء المعلى إذا دفع نصيبه.
وقد تطرق فقهاء المالكية لأحكام الحائط المشترك في باب الضرر وناقشوه من خلال ما إذا كان مملوكا ملكية مستقلة لأحد الجيران أو كان مملوكا ملكية مشتركة. فإذا كان مملوكا ملكية خاصة فلمالكه الحق في أن يتصرف فيه كي ما يشاء بهدمه وغلق نوافذ جاره، ولا يحق لجاره أن يجبره على إعادة بنائه ولو كان قادرا على إعادته على المشهور، أما إذا تعمد هدمه بقصد أن يضر بجاره أو تعنتا حكم عليه بإعادته وحده إن كانت له قدرة على إعادته، وإن لم تكن له فيؤدب على فعله لا غير[19].
أما إذا كان مشتركا وهدمه أحد الشريكين لغير حاجة تدعوا إلى هدمه فإنه يجبر على إعادته لكونه تصرف في مال غيره بغير إذنه، إن كان هدمه لموجب يقتضي هدمه كخوف سقوطه فالحكم أنه يؤمر بالبناء مع شريكه بدون جبر عليه، فإن امتنع من البناء قسم موضعه بينهما عرضا إن أمكن قسمه، بحيث ينتفع كل منهما بالبناء في منابه، فإن لم يمكن أجبر على البناء مع شريكه أو على البيع له المعتمد[20] .
ونشير في آخر هذا الفرع إلى أن الأحكام التي تطبق على الحائط المشترك هي تقريبا نفس الأحكام التي تطبق على السياج المشترك، وبالتالي فإنه طبقا للمادة 76 م م ح ع يحق للمالك أن يسور ملكه على أن لا يحول ذلك دون استعمال مالك عقار مجاور لحقوقه، ولا يجوز له أن يهدم الحائط المقام مختارا دون عذر قوي إن كان هذا يضر بالجار الذي يستتر ملكه بهذا الحائط.
وأشارت الفقرة الأخيرة من هذه المادة على أنه ليس للجار أن يجبر جاره على تسوير أرضه إلا إذا تضرر من ذلك.
وجاء في حكم صادر عن المحكمة الابتدائية بالجديدة يدعي فيه المدعي الحكم على المدعى عليه بإزالة الضرر المتجلي في فتحه بابا على الحد الفاصل بين عقاره وعقار المدعي من جهة القبلة، علما أن هذه القطعة الأرضية مسيجة من جميع جهاتها بحائط من الأجور، الشيء الذي أدى إلى إحداث ضرر مباشر بالنسبة للعارض إذ أن المدعى عليه لا يمكنه الدخول والخروج من الباب المستحدث إلا بعد المرور من وسط بقعة العارض، وحيث أن هذه الوقائع ثابتة من خلال المعاينة التي أنجزها المفوض القضائي، حكمت المحكمة على المدعى عليه بإزالة الضرر، وذلك بإغلاق الباب الذي فتحه على عقار المدعى عليه تحت طائلة غرامة تهديدية قدرها 200 درهم عن كل يوم تأخير مع أداء تعويض قدره 30.000 درهم عن الضرر المحدث[21] .
الفرع الثاني: الطريق الخاص المشترك
نظم المشرع المغربي الأحكام المتعلقة بالطريق الخاص المشترك من المواد 32 إلى 36 م م ح ع، وطبقا للمادة 32 من هذه المدونة فإن الطريق الخاص المشترك هو ملك مشاع بين من لهم حق المرور فيه ولا يجوز لأحدهم أن يحدث فيه شيئا، سواء كان مضرا أو غير مضر، إلا بإذن من باقي شركائه.
ويمكن تلخيص الأحكام المتعلقة بالطريق الخاص المشترك فيما يلي:
لا يجوز للشركاء في الطريق المشترك أن يطلبو قسمته ولا أن يتفقوا على بيعه ولا سد مدخله إلا إذا أمكن الاستغناء عنه، كما لا يحق لأحدهم التصرف في حصته إلا تبعا لتصرفه في العقار المملوك له. وإذا أقام أحد الشركاء بإغلاق الباب المفتوح في الطريق المشترك، فلا يسقط حقه في المرور منه ويجوز له ولخلفه من بعده إعادة فتح الباب من جديد.
ولا يحق لغير الشركاء في الطريق المشترك فتح أبواب أو المرور فيه، ما لم يكن للمارة في الطريق العام الدخول إلى الطريق الخاص المشترك عند الضرورة. ويتحمل الشركاء المصاريف الضرورية لإصلاح وتعمير الطريق المشترك كل منهم نسبة حصته فيه، وإذا رفض أحد الشركاء المساهمة في هذه المصاريف جاز لباقي الشركاء القيام بإصلاح الطريق ومطالبته قضائيا بأداء ما يجب عليه من هذه المصاريف.
الفرع الثالث: حق المسيل أو الصرف
من المعروف أن سطوح الأبنية تتجمع فيها مياه الأمطار، ويكون مالك تلك الأبنية بحاجة إلى تصريف تلك المياه حتى لا تضر بها. وإذا تركت لهذا المالك الحرية في أن يصرف مياه سطوحه إلى حيث يشاء، إلى عقارات جيرانه وفي ذلك ضرر بهم، ولهذا قيد القانون حق المالك في تصريف مياه سطوحه. حيث أوجب عليه أن يعمل على أن تسيل تلك المياه على أرضه أو على الطريق العام، ومنع هذا المالك من أن يدع مياه سطوحه تسيل على ملك أحد جيرانه، وهذا ما نظمه المشرع المغربي في المواد من 60 إلى 63 م ح ع ضمن الإرتفاقات القانونية، كما أن هذا الحق نظمه قانون الماء رقم 10-95 من خلال المادة 29 منه والتي جاء فيها "يمكن لكل مالك يريد القيام بإفراغ المياه المضرة بعقاره الحصول على ممر لهذه المياه عبر أراض وسيطة وفق نفس الشروط المحددة في المادة السابقة.
إلا أنه يمكن لملاك الأراضي التي يتم المرور عبرها الاستفادة من الأشغال المنجزة لهذا الغرض، وذلك لتمرير المياه من أراضيهم شريطة مساهمة مالية في الأشغال المنجزة أو التي بقي إنجازها وكذا صيانة المنشآت التي أصبحت مشتركة".
وقد تطرقت م ح ع للأحكام المتعلقة بحق المسيل أو الصرف حتى تكون أكثر ضبطا وتنظيما، مع العلم أن هذه المقتضيات كان ينص عليها ظهير 19 رجب الملغى (الفصول 110 إلى 112 منه).
وهذا يتفق مع ما ورد عند فقهاء المالكية فقد ورد في التبصرة مايلي: وأما إحداث الميزاب لماء المطر يصب في دار الجار فذلك ممنوع، سواء أضر بجاره أو لا، إلا أن يأذن له في ذلك[22]. وجاء في كتاب الإعلان في أحكام البنيان: أنه إذا كان لرجل دار، فبناها وأراد إخراج ماء المطر منها إلى الزقاق فمنعه جاره، فإن شهد له أهل المعرفة أنه لا طريق لمائه إلا منها لم يمنع[23].
الفرع الرابع: غرس الأشجار بالقرب من حدود الجار
إذا كان حق الملكية يوفر لصاحبه سلطة الاستعمال والاستغلال والتصرف، ومن تم يكون له أن يغرس أرضه بما شاء من أغراس أو أشجار ولو بلغ علوها إلى ما بلغ، ونظرا إلى أن حق الملكية لا يتعدى حدود الأرض التي هي موضوع ذلك الحق ولا يمتد إلى ما وراء تلك الحدود، فإنه يتعين عليه أن يتقيد بقيود تحد من الأضرار التي يمكن أن تلحق جاره من غرس هذه الأغراس والأشجار بالقرب من حدود الجار، ويمكن تلخيص هذه القيود من خلال المواد 72 إلى 74 من م ح ع في ما يلي:
- على المالك أن يترك مسافة من حدود بلاده بدون غرس، وهذه الحدود تحدد كما يلي:
إذا كان هناك نظم محلي أو عرفي يفرض على المالك أن يترك مسافة معينة بينه وبين جاره عند قيامه بغرس أرضه، فيتعين مراعاة هذا النظام والعرف والتقيد به، فإذا لم يوجد عرف ولا نظام فيجب على من يريد غرس أشجار في أرضه أن يبتعد بغرسه المسافة التالية:
- إذا كانت الأشجار التي يريد غرسها مما يتجاوز علو مترين فيجب أن يترك مترين بين الخط الفاصل بين أرض الجار والأرض التي سيقام عليها الغرس.
- إذا كانت هذه الأشجار لا تتجاوز المترين فيتعين أن يترك مسافة نصف متر.
وإذا كان هناك حائط فاصل بين عقارين فإنه يمكن غرس الأشجار دون مراعاة أي مسافة شريطة أن لا تعلو قمة الحائط، وللجار حق المطالبة برفع ما قد تتسبب فيه من أضرار (المادة 72 م م ح ع).
- إذا امتدت جذور تلك الأشجار إلى أرض الجار فيحق لهذا الأخير أن يطالب بقلعها (م 73).
- إذا امتدت فروع تلك الأشجار المغروسة طبقا للقانون، فللجار أن يطالب بقطعها إلى الحد الذي تستوي فيه مع حدود أرضه، ويحق له تملك ما تساقط من ثمر تلك الأغصان على أرضه، ويمكن أن يقطعها بنفسه إذا خشي أن يصيب ضرر من ذلك.
- إذا امتدت أغصان الأشجار أو جذورها على الطرق أو جنباتها جاز لكل ذي مصلحة المطالبة بقطعها (م 74).
وما يمكن قوله أن هذه الأحكام المتعلقة بغرس الأشجار بالقرب من حدود الجار كان ظهير 19 رجب 1333 يدرجها ضمن الارتفاقات أما م ح ع فأدرجتها ضمن التحملات العقارية.
وفي هذا الصدد ذهب فقهاء المالكية أن من كان له في أرضه شجر فخرجت جذورها لأرض جاره، فنبتت وصار الشجر مثمرا، فإن من نبتت في أرضه مخير بين أن يقطعها أو يعطيه قيمتها مقلوعة، إلا أن يكون لصاحب الشجرة منفعة لو قلعها وغرسها بموضع آخر فنبتت فله قلعها وأخذها[24].
وإذا كانت الأشجار محاذية لجدار منتشرة عليه، فقد فرق المالكية بين ما إذا كان الجدار سابقا الأشجار أو كان الشجر سابقا الجدار.
- إذا كان الجدار سابقا الأشجار قطع منها ما يؤذيه بلا خلاف في ذلك.
- وإن كان الشجر سابقا على الجدار تشمر أغصانه الخارجة عن أرض ربه، وقيل: لا تشمر لأن من بنى بقرب الشجر داخل على أن أغصانه تمد عليه، والأشهر الأول[25].
وإذا امتدت أغصان أشجار على الطريق فيحق لكل ذي مصلحة قطعها، لأن الطريق حبس على سائر المسلمين وذلك يوجب الحكم بينه وبين الجار. وفي هذا يقول صاحب التحفة:
والحكم في الطريق حكم الجار في قطع ما يؤذي من الأشجار
الفرع الخامس: فتح المطلات على أرض الجار
يرى فقهاء المالكية أن المالك يمنع من أن يفتح في بنائه النوافذ والمطلات التي تشرف على الجار، ولو كان في فتح تلك النوافذ والمطلات منفعة لصاحبها في جلب الضوء والهواء إلى بنائه. كما لو فتح كوة في غرفة يشرف منها على ما في دار جاره أو بستانه الذي جرت العادة باترداد إليه بالأهل ولو في بعض الأوقات، فإذا كانت هذه الكوة قريبة من الأرض بحيث يكون النظر منها في متناول الجميع من غير أن يحتاج إلى الارتكاز على شيء آخر، فقد وقع الاتفاق بين المالكية على منع الجار من فتحها، وتغلق الكوة بالبناء وتقلع عتبتها؛ لئلا يحتج بها إذا طال الزمان، وإذا كانت الكوة عالية بحيث لا يمكن الاطلاع إلا بسرير أو نحوه، فالمعمول به عند المالكية أن مثل هذه الكوة المنحنية يجب غلقها وطمسها[26].
وبما أن المطلات يمتد النظر منها إلى أرض الجار، فيعتبر ذلك استغلالا لملك الغير، ثم إن المنفعة التي تجنى من فتحها وهي جلب الضوء والهواء يمكن الحصول عليها بواسطة ترك الفتحات والحلقات في فضاء البيت وعلوه، ولعل هذا هو السر في الهندسة المعمارية في البلاد الإسلامية التي تعتمد على الإضاءة العمودية.
أما فيما يخص القوانين الوضعية فقد حاولت أن توجد قواعد للمطلات والنوافذ تحقق بواسطتها مصلحة من يفتحها، وتعمل في نفس الوقت على التخفيف من تضرر الجار بها. فإذا كان الجدار مملوكا ملكية مشتركة بين الجيران ففي هذه الحالة لا يحق للجار أن يحدث في الجدار المشترك أي نافذة وفتحة بأي كيفية كانت إلا إذا وافق جاره على ذلك، أما إذا رفض فلا سبيل لفتح المطلات، وإذا كان مملوكا ملكية خاصة ففي هذه الحالة قد ميزت م ح ع بين المطلات المقابلة والمطلات المنحرفة:
- المطلات المقابلة أو المماثلة: وهي التي تقابل عقار الجار مباشرة وتواجهه بخط مستقيم، وهذه لا يجوز فتحها إلا إذا كانت المسافة التي تفصل بين الجدار الذي تفتح فيه وبين أرض الجار التي تطل عليها لا تقل عن مترين، سواء كانت أرض الجار مسورة أو غير مسورة (م 68 م م ح ع) عكس ما جاء في الفقرة الأولى من م 139 من ظهير 19 رجب.
- المطلات المنحرفة: هي التي لا تسمح بالنظر إلى عقار الجار إلا إذا انحنى المطل أو انحرف يمينا أو يسارا وهذه لا يجوز فتحها إلا على بعد متر تفصل الحائط المفتوح فيه المطل والأرض المجاورة (م 68).
ويبدأ حساب هذه المسافة من ظهر الحائط الذي فتحت فيه المطلات أومن خارج الشرفة وذلك إلى غاية الحد الفاصل بين عقار صاحبها والعقار الذي تشرف عليه مع مراعاة النصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل ( م68).
وإذا كانت المطلات والشرفات مفتوحة على الطريق العمومية فإنه لا يعمل بالمسافات المنصوص عليها في الفقرة الأولى من المادة 68 م ح ع.
ويتضح من خلال دراسة هذا المطلب أن م ح ع قد ميزت القيود المتعلقة بمضار الجوار فأدرجت الحائط المشترك والطريق الخاص المشترك ضمن الأحكام المنظمة لحق الملكية، بينما أدرجت حق المسيل أو الصرف أو فتح المطلات على أرض الجار ضمن الارتفاقات القانونية.
ويرى الأستاذ الفاخوري أن التوجه الذي نهجته م ح ع هو توجه صائب على اعتبار أن بعض القيود المتعلقة بمضار الجوار كالقيود المتعلقة بالمسيل أو الصرف أو فتح المطلات على أرض الجار هي في حقيقتها من قبيل الارتفاقات القانونية[27].
المطلب الرابع: القيود الاتفاقية أو الإرادية
يقصد بالقيود الاتفاقية أن يتفق المتعاقدان على ما يقيد حق المالك أو يمنعه من التصرف في عقاره على نحو معين، ويطلق الفقهاء على هذا النوع من القيود الاتفاقية بالشروط المصاحبة للعقد[28]، كأن يهب شخص ضيعة لآخر وينص في عقد الهبة على أنه لا يجوز للموهوب له أن يستغل تلك الأرض إلا في زراعة المحاصيل ولا يحق له أن يستعملها لتربية المواشي مثلا، فهل يصح التعاقد على هذا الأساس؟ وهل يتعين على المالك أن يتقيد بهذا الاتفاق؟ وهل يمكن التحلل منه؟
بالرجوع إلى الفقه نجد فقهاء المالكية يرون بأنه إذا كانت الإرادة هي التي تنشئ العقود وتبرم التصرفات فإن هذه الإرادة لا دخل لها في إنتاج العقد لآثاره؛ لأن الشارع هو الذي يحدد تلك الآثار ويعين الأحكام التي تترتب على كل عقد. فهم يرون أن سلطة المتعاقدين في تضمين عقودهم ما يشاءون من الشروط محدودة جدا، حيث إنه لا يجوز لهم أن يشترطوا إلا ما يحقق مقتضيات العقد، ويمنعون اشتراط كل ما يتنافى مع هذه المقتضيات؛ لأن الشروط عندهم مقسمة إلى أربعة أنواع:
النوع الأول: ما يقتضيه العقد ولا يتنافى معه.
النوع الثاني: ما لا يقتضيه العقد ولا يتنافى معه.
النوع الثالث: أن يكون الشرط مباحا في نفسه ولكنه يتنافي مع مقتضيات العقد.
النوع الرابع: أن يشترط شيئا محرما[29].
وإذا كان فقهاء المالكية قد تناولوا هذا الموضوع بإسهاب كبير، فإن المشرع المغربي قبل صدور م ح ع لم يتعرض له بشكل صريح لا في ظهير 19 رجب ولا في ظهير قانون الالتزامات والعقود المغربي، غير أن الفقه استند إلى مجموعة من النصوص للقول بأن المشرع المغربي أقر مبدأ صحة القيود الاتفاقية منها الفصل 492 الذي ورد فيه: "بمجرد تمام البيع يسوغ للمشتري تفويت الشيء المبيع وذلك ما لم يتفق العاقدان على خلافه". والفصل 285 م م أ "يصح تعليق الوصية بالشرط وتقييدها به إن كان الشرط صحيحا، والشرط الصحيح ما كان فيه مصلحة للموصي أو للموصى له لغيرهما ولم يكن مخالفا للمقاصد الشرعية".
فالشرط الذي يعتبر باطلا هو شرط منع التصرف المؤبد لأن فيه مخالفة للقواع الشرعية، أما شرط عدم التصرف الموقوف على مدة معينة فليس فيه أي مخالفة للقواعد الشرعية ومن تم يقع صحيحا كصحة العقد الذي بني عليه[30].
وبصدور م ح ع يمكن القول أنها وضعت حدا لهذا الغموض التشريعي حول صحة القيود الاتفاقية وسايرت بذلك التشريعات الحديثة في إقرار هذه القيود من خلال ما نصت عليه م 14 على أنه: "يخول حق الملكية مالك العقار دون غيره سلطة استعماله واستغلاله والتصرف فيه ولا يقيده في ذلك إلا القانون أو الاتفاق". وذلك شريطة أن يكون القيد غير مخالف للقانون أو النظام العام وأن يكون مما يحقق المنفعة المشروعة لأحد المتعاقدين أو الغير مع اقتصار القيد على مدة معقولة.
خاتمة:
انطلاقا مما سبق ومن غيره، يمكن القول بأن نظرة الفقه عموما إلى كون حق الملكية هو حق مطلق يرد عليه استثناءات، وهذه النظرة ضيقة لا تترجم وضعية ما أصبح عليه حق الملكية من تغيير، إذ أضحى هذا الحق حقا نسبيا، ومن ثم فإضفاء صفة المطلق على هذا الحق لا يتماشى ووضعية الملكية الحالية، وخصوصا مع تنامي الانعكاسات الاجتماعية والاقتصادية عليه، ما يجعلنا نقر بنظرية نسبية حق الملكية، هذه النسبية التي توصل إليها أخيرا فقهاء القانون الوضعي، كان للفقه الإسلامي السبق إلى إقرارها باعتبار أن الله سبحانه وتعالى هو المالك الحقيقي وأن لإنسان هو المستخلف، وانطلاقا من قاعدة هي من أهم قواعد الفقه الإسلامي وهي قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرر".
[1] الفيروز آبادي، القاموس المحيط، باب الكاف، فصل الميم.
[2] القرافي، الفروق، ج3، ص232.
[3] رمضان أبو السعود، الوسيط في شرح مقدمة القانون المدني، النظرية العامة للحق، مطبعة الدار الجامعية بيروت 1973، ص: 536-537.
محمد بن معجوز : الحقوق العينية في الفقه الاسلامي والتقنين المغربي الطبعة الثانية 1999 ـ1413 ص 61[4]
مأمون الكزبري: التحفيظ العقاري والحقوق العينية الأصلية والتبعية ص 284[5]
محمد بن معجوز المرجع السابق ص 64[6]
محمد بن معجوز المرجع السابق ص66[7]
محمد بن معجوز ص 67[8]
[9] عبد الله بن عبد العزيز المصلح، قيود الملكية الخاصة، مِؤسسسة الرسالة، بيروت 1988، ص :494
[10] عبد السلام التسولي، البهجة في شرح التحفة، ج2، دار الكتب العلمية بيروت لبنان، ص: 557
[11] نفس المرجع والصفحة
[12] محمد ابن معجوز، الحقوق العينية في الفقه المالكي والتقنين المغربي، ص: 77/78.
[13] مأمون الكزبري، التحفيظ العقاري والحقوق العينية الأصلية والتبعية، ص: 88.
[14] حكم صادر عن المحكمة الابتدائية بالجديدة، عدد 303/10 بتاريخ 27/12/2010، ملف مدني عدد 206/10 (غير منشور).
محمد المحبوبي، أساسيات في نظام التحفيظ والحقوق العينية العقارية وفق المستجدات التشريعية... طبعة 2014، ص: 124.[15]
[16] لجريدة الرسمية عدد 6374، 15 رمضان 1436، 2 يوليو 2015، ص 6082.
[17] محمد عبد الباقي الزرقاني، شرح الزرقاني على مختصر الشيخ خليل، ج7، ص 113.
[18] المحبوبي، المرجع السابق، ص 132.
[19] الكافي، إحكام الأحكام على تحفة الحكام، دار الرشاد الحديثة، ط 2013، ص:223.
[20] نفس المرجع والصفحة.
[21] حكم صادر عن المحكمة الابتدائية بالجديدة عدد 529/09 بتاريخ 15/11/2010 رقم 281/ 10. (غير منشور).
[22] التبصرة، ج2 ص:357
[23] كتاب الإعلان بأحكام البنيان، منشور في مجلة الفقه المالكي الأعداد 2، 3، 4 ص: 374.
[24] التسولي، ص: 268.
[25] الكافي، ص: 224.
[26] التسولي، ص:560.
[27] ادريس الفاخوري، الحقوق العينية وفق القانون رقم 08-39، طبعة 2013، ص:86.
[28] ابن معجوز، ص: 107.
[29] ابن معجوز، ص: 111- 112.
[30] ادريس الفاخوري، المرجع السابق ص: 94.