جريمة القتل بدافع الشفقة
مجموعة بحوث وعروض في القانون الجنائي والمسؤولية الجنائية للطبيب
فالقتل بدافع الشفقة يثير في عمقة مسألة حرية الإنسان في التصرف في حقه في الحياة، الذي كان موضوعا للعديد للمواثيق والاتفاقيات الدولية الصادرة في مجال حقوق الإنسان، اذا كانت بعض المجتمعات تعتبر هذا الحق قابل للتصرف مثل باقي التصرفات المالية والعقارية، في حين أن القتل بدافع الشفقة لا يمكن أن نعتبره كتصرف يخضع لإرادة الشخص في إنهاء حياته، لأن المسألة ترتبط بوجود المريض والطبيب، بالإضافة إلى ذلك أن القتل الطبي يعتبر مخالفا للشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية حتى أن الاعتراف به يؤدي إلى نتائج سلبية داخل المجتمع منها أنه يمس بالنظام العام .
ولعل ابرز الاشكالات التي يثيرها موضوع القتل بدافع الرحمة اتصاله المباشربالضوابط الاخلاقية٬ حيث أن اعتراف للمريض بحقه في إنهاء حياته بسبب فقدان الأمل في الشفاء من مرض لا علاج له، يعد في نفس الوقت فشل التجارب الطبية في التوصل إلى حلول لها، بالإضافة إلى ذلك أنه يؤدي إلى ارتكاب جرائم طبية عن طريق هذا الحق مما يكون له انعكاس سلبي على الصحة العامة.
فمزاولة الطبيب لمهنته وفق القواعد المنظمة لمهنة الطب والجراحة يقع عليه التزام بذل العناية للوصول إلى نتيجة المرجوة ، وليس تحقيق نتيجة معينة، حيث أنه يستند هذا الالتزام إلى العقد الطبي الذي يربطه بالمريض(2) ،ومن تم فان المريض عند عدم الشفاء لا يمكنه أن يطالب الطبيب بإنهاء حياته، لأن مهنة الطب حسب المادة 1 من قانون المنظم لمهنة الطب بالمغرب1996، مهنة إنسانية تهدف إلى الوقاية من الأمراض وعلاجها، وليس إنهاء حياة المريض٬ وتعرف هذه الظاهرة انتشارا واسعا في الدول الغربية٬ وبفعل العولمة أصبحت تهدد المجتمعات الإسلامية ومنها المغرب(1).
لذلك، فان القتل بدافع الشفقة يحتمل الصور الآتية : - الصورة الأولى : القتل العمد الإيجابي بدافع الشفقة : يتحقق القتل بدافع الشفقة في هذه الصورة عندما يرتكب الطبيب فعلا إيجابيا ضد المريض بقصد إنهاء حياته، ويهدف إراحته من آلامه التي يعاني منها بسبب مرض مستعص أو لتشوه خلقي أو نفسي أو عقلي، وذلك بحقنه بمادة سامة أو بكمية كبيرة من المخدرات بقصد إحداث الموت البطيء به٬وقد اثار هذا النوع من القتل ردود فعل عنيفة سواء في اوساط الفقه الإسلامي او على مستوى القوانين الوضعية.
فمن منظور الشريعة الإسلامية، فإنها لا تجيز القتل بدافع الشفقة، لقول الله تعالى (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا أليما) (2) ،وقوله تعالى ( وما كان لمؤمن ان يقتل مؤمنا إلا خطأ)(3)، فالشريعة الإسلامية سواء في الكتاب أو السنة السنوية أو الإجماع لا تعطي الحق للطبيب لارتكاب القتل الطبي بدافع الشفقة على المريض من معاناة المرضى (4) ، وهو ما أكده الفقهاء المسلمين في العديد من اللقاءات العلمية حول المشكلات الطبية المعاصرة، منها منظمة الطب الإسلامي المنعقدة بجنوب إفريقيا التي حددت القتل الرحمة والتلقيح الاصطناعي والإجهاض وغرس الأعضاء.
.
.
من بين المشاكل الطبية الحديثة، واعتبرت بأن القتل بدافع الشفقة غير جائز.
أما على مستوى القانون الوضعي فإن القتل الطبي محطة جدل بين رجال القانون والطب، ويمكن تصنيفه إلى ثلاث اتجاهات، الاتجاه الاول٬ يؤيد قتل الطبيب للمريض رحمة به، ما دام يعاني مرضا لا أمل في شفائه، وحجته في ذلك ان القانون لا يعاقب على الجريمة في حالة الإكراه المعنوي، والقتل إشفاقا يجد مسوغة في الإكراه والضغط الذي يمارسه المريض على طبيبه سواء بحالته الصحية المتدهورة أو بتوسلاته له لكي يدفعه إلى إنهاء حياته إشفاقا عليه.
أما الاتجاه الثاني ؛ فقد ذهب إلى انه لا يجوز أن يقتل الطبيب مريض وإن كان إشفاقا عليه، لأن رضاء المجني عليه لا يمكن أن يكون سببا لارتكاب القتل العمدي، كما أن الدافع الشفقة كباعث لإعلاقة له بالركن المعنوي ولا ثأتير له على المسؤولية الجنائية وإن كان له أثر على العقاب.
والاتجاه الثالث٬ هو الذي يبيح القتل بدافع الشفقة و يتبنى إعفاء من العقاب، من بين هذه التشريعات الجنائية التي تبنت هذا التوجه قانون العقوبات الإنجليزي الذي يبيح القتل بدافع الشفقة وفق شروط معينة : - أن يكون الطبيب مؤهلا علميا ومسجلا بنقابة الأطباء - ان يكون المرض مستعصيا لا أمل في الشفاء منه ويسبب آلاما للمريض - أن يكون المريض بالغ سن الرشد - أن يقدم المريض تصريحا كتابيا للطبيب بالموافقة على إنهاء حياته ويكون التصريح نافدا لمدة 30 يوما من إعلانه للطبيب إلى أن يبدي المريض الرجوع فيه (1).
اما المشرع الاماراتي فقد نص في المادة 13/1 من قانون المسؤولية الطبية والتامين الطبي٬ على انه لا يجوز إنهاء حياة المريض ولو بناء على طلبه أو طلب وليه أو وصيه أيا كان السبب سواء شديد او مرض مستعصي ميئوس من شفائه أو محقق به الوفاة أو ألم شديد وعاقب عليه بمقتضى العقاب المقرر للقتل العمد في قانون العقوبات الاتحادي.
.
فالمشرع الإماراتي واضح من خلال هذه المادة على عدم إباحة القتل بدافع الشفقة، أما قانون العقوبات السوري فقد تبنى العقاب المخفف على الفاعل سواء كان طبيب أو غيره، الذي يقتل مريضا بدافع الشفقة وفق المادة 249 قانون العقوبات(1) .
و الملاحظ ان المشرع المغربي، لم يتبنى أي من الاتجاهات المشار اليها سابقا٬ لانه لم ينص على القتل بدافع الشفقة لا في القوانين الصادرة في مهنة الطب والمنظمة للعمل الطبي، أوفي مجموعة القانون الجنائي، وبالتالي فان ارتكاب الطبيب لقتل بدافع الشفقة لا يخرج من نطاق تطبيق القانوني ٬ ولا يبقى من مجال لمساءلته سوى الاعتماد مقتضيات الفصل 398 ق.
ج.
م الذي تشير الى التسمم الذي قد يرتكبه الشخص من اجل القضاء على حياة شخص اخر .
- الصورة الثانية : القتل العمدي عن طريق وقف الإنعاش الاصطناعي : تتجلى هذه الصورة من خلال ارتكاب القتل بدافع الشفقة أو الرحمة عن طريق وقف الإنعاش الاصطناعي، ففي هذه الحالة عندما تعرض على الطبيب حالات مستعصية للعلاج من مرض الإشفاء له، او أن العلاج باهض التكلفة لا يمكن للمريض مسايرة تلك العلاجات كالأمراض الوبائية، السيدا، السرطان، السل، فيضطر المريض إلى التأثير على الطبيب لإيجاد طريقة أو وسيلة لإنهاء حياته، ومنها طريقة وقف الإنعاش الاصطناعي، مما يكون الطبيب في هذه الحالة مسؤولا جنائيا عن ذلك.
ولمساءلة الطبيب جنائيا في هذه الحالة عن القتل بدافع الشفقة يميز الفقه بين احتمالين : - الاحتمال الأول؛ عندما يكون الموت حقيقة مقدرة وواقعة في الحال عند وقف العلاج ومع وجود الإنعاش الاصطناعي يوجد استمرار حياة المريض لمدة غير محددة، دون أن يدفع استمرارها إلى استرداد الصحة، نظرا لتوقف وظائف المخ توقف تاما، فهنا لا مسؤولية جنائية على الطبيب الذي يوقف استخدام الإنعاش الاصطناعي لوقوعه على شخص ميت وفق المعيار العلمي الحديث للموت الذي يعتمد على موت جزع المخ.
وفي هذا الإطار نص المشرع الاماراتي في المادة 2/13 من قانون المسؤولية الطبيةوالتأمين الطبي على(ولا يعتبر في قبيل إنهاء حياة المريض وقف عمل أجهزة التنفس الصناعي عن المرضى متى ثبت يقينيا أن المريض قد توفي دماغيا بأن تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلا نهائيا لا رجعة فيه وأن جدع دماغه قد تلف.
.
.
)(1).
يتضح من خلال هذه المادة ،ان وقف جهاز التنفس الاصطناعي عن المريض متى ثبت يقينا بأنه توفي دماغيا لا يتعرض الطبيب للمسؤولية الجنائية عن وقف جهاز الإنعاش الاصطناعي، كما ان اثبات حالة الوفاة ترجع إلى الأطباء الخبراء في الطب المنصوص عليها في المادة 14 من نفس القانون، حيث أنها نصت على انه لا يجوز لغير الأطباء تقرير ثبوت الوفاة وعلى الطبيب أن يتأكد من ذلك بكافة الطرق العلمية والطبية المتاحة(2) .
فإن اثبات توقف وظائف المخ يتم عن طريق استخدام جهاز رسم المخ الكهربائي الذي يمكن بواسطته تسجيل إرسال او استقبال أي ذبذبات كهربائية، متى توقف هذا الجهاز عن إعطاء أية إشارات لأكثر من 24 ساعة، فإن ذلك يعني بالدليل القاطع موت خلايا المخ واستحالة عودتها للحياة حتى ولو ظلت خلايا القلب حية بفضل استخدام وسائل الإنعاش، وتعتبر هذه الوسيلة من أهم وسائل إثبات حالة توقف المخ لدى الأطباء.
- الاحتمال الثاني؛ عندما يكون للمخ لديه صلاحية للقيام ببعض الوظائف يجب على الطبيب الاستمرار في تقديم العلاج وإعطاء الدواء المناسب لإطالة حياة المريض بكل الوسائل الممكنة، أما إذا قام الطبيب بوقف جهاز الإنعاش الاصطناعي فانه يسأل على ذلك، ويتابع بجريمة القتل العمد، او ناتج عن الخطأ الطبي نتيجة لإهمال أو التقصير فانه يسأل عن القتل غير العمدي .
فالمشرع الفرنسي يعتبر القتل بدافع الشفقة قتلا عمديا تطبيقا للمادة 1/221 قانون العقوبات الفرنسي، غير أن القضاء الفرنسي في بعض الأحيان يؤسس المسؤولية الجنائية للطبيب على أساس القتل غير العمدي، رغم أن القتل بدافع الشفقة تعتبر من الجرائم العمدية وفي هذا الصدد(1) .
فقد عرضت على محكمة النقض الفرنسية قضية تتعلق بمسؤولية الجنائية للطبيب عن وقف الإنعاش، وتتلخص وقائعها في أن شخصا دخل إلى المستشفى على إثر حادثة سير، فأجريت له ثلاث عمليات جراحية متتالية، بعدها قرر الطبيب وقف إنعاش المريض مما عجل بوفاته وحال دون أي تدخل جراحي آخر وفق ما جاءت به الخبرة الطبية، فقضت محكمة النقض بمساءلة الطبيب جنائيا على أساس القتل خطأ(2) .
ذهبت محكمة النقض النقض الفرنسية في هذه الواقعة إلى ان قيام الطبيب بوقف الإنعاش الاصطناعي يعد خطأ طبيا يعرضه إلى المساءلة على أساس القتل الخطأ، في حين أن القتل بدافع الشفقة يعد قتلا عمديا وليس قتل خطأ، فالطبيب الذي يقدم على قتل مريضه عالما بأركان الجريمة، وعناصرها ثم تتجه إرادته إلى ارتكاب السلوك الإجرامي وتحقيق النتيجة الإجرامية التي تتمثل في إزهاق الروح للمريض بدافع الشفقة فانها تعد جريمة عمدية.
أما بالنسبة للقضاء المغربي فإنه يسجل فراغا على مستوى القتل بدافع الشفقة، هذا لا يعني بأن هذه الظاهرة بعيدة عن مجتمعنا المغربي، بل يمكن تصورها في المستقبل خاصة أمام نظام العولمة، وبالتالي يحتم على المشرع التدخل لتجريم هذا النوع من الجرائم الطبية ضمن القوانين المنظمة للعمل الطبي.
- الصورة الثالثة : القتل العمد السلبي بدافع الشفقة : تتحقق هذه الصورة عندما يترك المريض وهو يعاني من شدة الألم أو مرض مستعصي من قبل طبيب أو جراح، وهو يعاني الموت طبيعيا، و ذلك عن طريق الامتناع عن تقديم العلاج الطبي المحتمل معه إنفاد حياته، و يقصد بهذا الامتناع السلبي إلى التعجيل بوفاته وإحداث موت الرحم، وتختلف هذه الصورة عن جريمة الامتناع عن تقديم المساعدة لشخص في حالة خطر، في كون هذه الحالة أن المريض يطلب المساعدة من الطبيب في حين أن هذا الأخير يرفض تدخله للعلاج لأسباب غير موضوعية منها القيام بالإجراءات الإدارية إلى غيرها .
أما القتل السلبي بدافع الشفقة فانه يكون بناء على طلب المريض إو ذويه أو تلقائيا من قبل الطبيب لإنهاء حياة المريض الذي يعاني من مرض ميئوس من شفائه.
فالقتل السلبي بدافع الشفقة يتحقق من خلال اتخاذ الطبيب لسلوك سلبي في معالجة المريض للوصول إلى حالة لإنهاء حياة المريض، وفي هذه الحالة يسأل الطبيب جنائيا عن القتل السلبي بدافع الشفقة.
و الملاحظ ان المشرع المغربي من خلال الفصل 392 ق.
ج.
م.
نص على انه من تسبب عمدا في قتل غيره يعد قاتلا ويعاقب بالسجن المؤبد، والطبيب الذي يرتكب القتل العمدي السلبي بدافع الشفقة يسأل على أساس جريمة القتل العمد في الفصل 392 ق.
ج.
م.
في حين نجد المشرع الفرنسي في المادة 4-111L من قانون الصحة العامة الى التزام الطبيب بضرورة اقناع المريض الذي يرفض تلقي العلاج لأجل إنهاء حياته لقبول متابعة العلاج ، مع اخباره النتائج السلبية التي قد تترتب عن هذا العدول عن اخدذ ما يلزم لحفظ صحته، وفي حالة حصول تعبير صريح من المريض عن رفض العلاج، فان الطبيب وفق المادة 10-1110 L يقع عليه التزام باعلام الطاقم الطبي وعائلة المريض من أجل حمل المريض على العدول عن قراره،(1) كما أن هناك بعض الإجراءات الأخرى التي يتقيد بها الطبيب، منها إخبار أصدقاء المريض وفي حالة إصابة المريض بمرض خطير، ورفض بمحض إرادته تلقي العلاجات الطبية، فان المشرع الفرنسي ألزمه بتسجيل هذا الامتناع الصادر عن المريض في الملف الطبي لتأكيد ذلك ولعدم مساءلة الطبيب جنائيا .
أما بالنسبة للقانون الإماراتي، فانه يعتبر بأن الطبيب الذي يرتكب سلوك سلبي او إيجابي لحصول قتل بدافع الشفقة تخضع لجريمة القتل العمدي في المادة 332 من قانون العقوبات الاتحادي لسنة 1987، ولما كان القتل بدافع الشفقة قتلا ذو باعث شريف لذلك جعله المشرع الإماراتي عذرا قانونيا مخففا للعقاب تطبيقا للمادة 96 عقوبات الاتحادي الذي جاء فيه على انه ( يعد من الأعذار المخفضة حداثة سن المجرم، او ارتكاب الجريمة للبواعث غير شريرة.
.
.
)(1) .
وبناء عليه، فان القتل بدافع الشفقة تعتبر من بين الجرائم الحديثة في الطب وهي ظاهرة لا تقتصر على قطر دون آخر، بل يمكن ان تظهر في المجتمعات العربية والإسلامية ومنها المغرب، لذلك نرى أنه لابد من تعديل قانون 10.
94 الصادر 1996 المتعلق بمزاولة مهنة الطب في المغرب، وأن يتضمن قواعد خاصة بالجرائم الحديثة ومنها جريمة القتل بدافع الشفقة.