حرية الزوجة في التصرف في مالها
مجموعة بحوث وعروض ودروس حول النظام المالي للزوجين في القانون المغربي و مدونة الأسرة المغربية
غير أن فقهاء المذاهب في تناولهم لهذا الحق –حق تصرف الزوجة في مالها- وقفوا مواقف متباينة، بين من يقيد أهلية المرأة المتزوجة وبين من يطلقها.
فذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أن للمرأة المتزوجة البالغة العاقلة التصرف في مالها كله بالتبرع والمعاوضة ، لأن ذمتها مستقلة عن ذمة الزوج، واستدلوا في ذلك بقوله تعالى: "فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم" ، وقوله تعالى "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم" ، وبمفهوم المخالفة فإن الرشيدة من النساء لها أن تتبرع بمالها وتجري ما تشاء من المعاملات العوضية أو التبرعية مادامت لا تصادم الأخلاق ولا تجلب المضرة للزوج والأولاد.
إلا أن المالكية لهم رأي آخر في هذا فهم يقولون بوجوب حصول الزوجة على إذن من الزوج للتصرف في أموالها بالتبرع في ما جاوز الثلث، حيث استندوا إلى أحاديث يرى البعض أنها ضعيفة لخلل بسندهما، كحديث "لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها" .
ورد الإمام الشافعي على هذا الحديث فقال: "قد سمعناه وليس بثابت ليلزمنا أن نقول به والقرآن يدل على خلافه ثم السنة ثم الإثر ثم المعقول" .
ويبدو أن هدف المالكية من هذا التحجير الجزئي على أهلية المرأة، هو حماية الزوجة نفسها من التبرع بما لها بدون حد، حيث إذا فقدت زوجها القائم عليها وجدت في مالها ما يقوم به أودها.
كما أن الزوج الذي تجب عليه النفقة يجوز له أن يعترض على زوجته عند محاولتها منعه من الإرث عن طريق تفويت أموالها ، قياسا على بيع المريض مرض الموت، إلا أن هذا التبرير على الرغم من وجاهته فإنه لا يمكن اعتماده للنيل من أهلية المرأة في التبرع لأن حق الإرث لم يشرع في مقابل النفقة، وهذا ما يستفاد من الفصل 49 من مدونة الأسرة حيث لها أن تحتفظ بملكية أموالها مستقلة أو تتفق مع زوجها على استثمارها وتنميتها.
وإذا حق للزوجة تفويت أموالها بعوض أو بدونه دون أية رقابة، فمن باب أولى أن يعترف لها بحق كسب المال عن طريق التجارة أو العمل المأجور فيما لا يتنافى مع النظام العام والأخلاق الحميدة.
إلا أن فقهاء المالكية اعتمادا على العرف، وفي إطار توزيع العمل بين الزوجين أفتوا بإلزام الزوجة بالقيام بشؤون البيت الزوجي بدون مقابل، وأضافوا أن الزوجة لا يحق لها أن تعمل خارج البيت دون إذن زوجها، بل أكثر من هذا هناك رأيا يصادر حتى حقها في العمل لحسابها الخاص بحجة أن وقتها كله ملك للزوج، أو لأن عملها لنفسها يلحق ضررا بالزوج .
وفضلا عن ذلك فإن ممارستهما للتجارة تلزم تخصيص المرأة جل عملها اليومي لهذه المهمة وهو ما يؤكد إخلالها بالالتزام الملقى على عاتقها والمتمثل في الإشراف على البيت وتنظيم شؤونه.
وفي هذا الاتجاه جاء في مدونة الإمام مالك:"قلت أرأيت امرأة رجل أرادت أن تتجر فأراد زوجها أن يمنعها من ذلك فقال مالك: ليس له أن يمنعها من التجارة ولكن له أن يمنعها من الخروج" .
لكن السؤال المطروح في هذا الباب هو كيف للمرأة أن تمارس التجارة دون أن تغادر البيت؟ فهل تتوفق في إدارة أموالها واستثمارها وإجراء مختلف التصرفات مع غيرها دون غبن وهي تطل من نافذة البيت أو تسمع أخبار الوكلاء والتجار، خصوصا في عصرنا الحاضر الذي تشعبت فيه كافة الأعمال المدنية والتجارية بصورة تستدعي دقة النظر والاطلاع على حالة السوق والوسط، وأمام هذا الوضع لا يبقى للزوجة الراغبة في ممارسة التجارة إلا أن توكل لذلك زوجها أو أحد محارمها الموثوق فيهم.
وإذا أردنا أن نعرف محل هذا الرأي الفقهي من الشرع، فبرجوعنا إلى الشريعة الإسلامية نجد أنها لا تقيم أي تمييز بين الرجل والمرأة في الحقوق المدنية والاجتماعية وفي أهلية ممارستها، فالمبدأ العام هو المساواة بين الجنسين وبحق الزوجة في اختيار عملها سواء كان تجارة أو عملا مأجورا أو غيره، فالزوج والزوجة سواء في التمتع بحق العمل والكسب الحلال.
ومما لاشك فيه فإن ما قال به هذا الرأي الفقهي لا يستند على أساس شرعي، بقدر ما يجد سنده في العرف السائد والذي رد في النهاية إلى الشريعة الإسلامية فاكتسب بذلك الصفة الدينية وأصبح لا ينفصل عن العقيدة والإيمان بالشريعة فارتبط في حالات كثيرة بفكرتي الحلال والحرام.
ولعل في ذلك كما أشار إليه الدكتور أحمد الخمليشي دليلا "على ما للأعراف والتقاليد من قوة الصمود والتحدي للتغيير والتجديد، ومالها من تأثير على صياغة النصوص وعلى تطبيقها، وهو ما يفرض الاعتراف بدورها البارز في تطور القانون وتطبيق قواعده" .
وهذا الاتجاه هو الذي كان مكرسا في الفصل السادس من القانون التجاري الملغى والذي كان يمنع خروج المرأة لممارسة التجارة إلا بإذن زوجها، إلا أنه نظرا للإنتقادات التي تعرض لها هذا الفصل داخل الأوساط الحقوقية والنسائية، فقد تخلى عنه مشرع مدونة التجارة لسنة 1996 وتم تعويضه بالفصل 19 الذي أصبحت بمقتضاه المرأة المتزوجة حرة في ممارسة التجارة دون إذن من الزوج، كما أصبحت لها الأهلية الكاملة في التعامل بالأوراق التجارية إضافة إلى ذلك تم إلغاء الفصل 726 من قانون الالتزامات والعقود الذي كان يعلق حق ممارسة الزوجة للعمل المأجور على إذن زوجها.
كما أنه أصبح من حق المرأة المتزوجة مهما كانت جنسيتها أن تقوم بفتح حساب بنكي أو حساب ادخار لنفسها وبمباشرة جميع أنواع العمليات المتعلقة بهذا الحساب دون قيد على حريتها في ذلك .
لكن على الرغم من تمتع المرأة المتزوجة بالأهلية الكاملة في المجالين المدني والتجاري، فإن هذه الأهلية لا زالت مقيدة بنصوص موروثة عن عهد الحماية ومكرسة من طرف المشرع المغربي نفسه، فالقانون الصادر بتاريخ 21 يناير 1921 يحرم على المرأة ولو كانت تاجرة احتراف مهنة سمسرة البورصة كما أن الفصل 21 من ظهير 4 ماي 1925 المنظم لمهنة التوثيق والمطبق على المغاربة حاليا، يمنع المرأة المغربية المسلمة واليهودية من الإدلاء بالشهادة أمام الموثقين، ولا يمكن أن تكون شاهدة على العقد مع زوجها في آن واحد .
فكل هذه النصوص كانت تطبق على النساء بالمنطقة الجنوبية للمغرب في عهد الحماية غير أنها مددت بعد الاستقلال، وبالتالي أصبحت تتعارض مع عدة نصوص قانونية تعترف صراحة بالأهلية الكاملة للمرأة المتزوجة.
طبعا فهذا الاعتراف القانوني بكل هذه الحقوق يبقى توجها محمودا من طرف المشرع المغربي في اتجاه رفع الحيف عن المرأة المغربية، بل يظل شيئا مطلوبا ومرغوبا فيه بشرط احترام الأخلاق والآداب بما يصون شرف الأسرة المغربية وكرامتها ويرفع عنها لدغة القيل والقال.
هذا ونظرا لما ترسيه شريعتنا الإسلامية السمحاء من أسس المودة والرحمة والتضامن التي تبنى عليها الأسرة المسلمة يمكن القول انه يكون من الصواب التشاور بين الزوجين فيما يتعلق بمستقبل أموالهما، لما قد ينجم عن غيابه من أثر على اتصال التفاهم الروحي، ذلك أنه وإن كان الأصل أن للزوجة حرية كاملة للتصرف في مالها إلا أن هذا التصرف قد يؤدي إلى إفقار الأسرة والإضرار بمصالحها أو الإضرار بمصالح الزوج نفسه، لذلك فإن استشارة الزوجة زوجها قبل إجراء تصرف معين يكون أمرا سليما تفاديا لأي خلاف قد يستحكم بينهما بسبب ذلك.
وإذا ما تأملنا واقعنا الحالي نجد أن كثيرا من الزوجات يتوفقن في منع أزواجهن من الإقدام على تصرفات مالية معينة، وتصرفها هذا لا يرتكز على سند شرعي أو قانوني، كل ما في الأمر أنها ترى مصالح الأسرة أو مصالحها الشخصية مهددة أو ستضرر من جراء ذلك التصرف.
ففي هذا المجال تظل سياسة التشاور أفضل من سياسة الأمر الواقع.