ظهرت الجريمة مع بداية البشرية وقد حاربها الإنسان منذ اللحظة الأولى عندما أحس فيها بخطر يهدد كيانه و استقراره بل ويهدد حياته، وهي مظهر من مظاهر المجتمع ، لأنها ناتجة عن ما يحويه السلوك الإنساني في علاقاته المتداخلة لعنصري الخير والشر المتصارعين على مر السنين، وعليه فالمجتمع هو صاحب الحق في توقيع العقاب على الأفراد بمجرد ارتكابهم الأفعال المجرمة بنصوص قانونية تنظمها السلطة التشريعية لكل دولة، ولا يمكن معاقبة الشخص إلا إذا سبق ارتكابه للفعل نص قانوني يجرم سلوكه و هذا ما كرسته المادة الأولى من قانون العقوبات الجزائري حيث نصت على أنه " لا جريمة ولا عقوبة أو تدابير امن بغير قانون" كما انه لا تنفذ العقوبة إلا بعد صدور حكم نهائي بالإدانة فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته وهذا ما بينته المادة 38 من الدستور ويسبق الحكم بالإدانة عدة إجراءات تباشرها سلطة مختصة بالتحري و التحقيق عند وقوع جريمة بهدف البحث عن الأدلة التي تساعد على كشف الحقيقة التي تقودنا إلى المتهمين ومن ثم توقيع العقاب عليهم.
وقد شهد العقد الأخير من القرن العشرين غزوا تكنولوجيا أدى إلى ظهور اختراعات هائلة على المستوى التقني، من بينها ظهور الحاسبات الآلية التي أصبحت لها قيمة لما تحتوي عليه من معلومات يمكن تخزينها واسترجاعها في ثوان معدودة، مما سهل مختلف المعالمات التي شملت مختلف الميادين منها الميدان الاقتصادي،الاجتماعي،السياسي....الخ
إلا انه مع التقدم العلمي والتكنولوجي الذي مس مختلف مجالات الحياة، وجعل من العالم خلية مترابطة بشبكات إلكترونية حطمت الحواجز أمام التواصل بين الشعوب وسهلت المعالمات بين الأفراد من مختلف مناطق العالم، ظهر نوع جديد من الإجرام حيث أصبحت التقنيات الحديثة وسيلة لارتكاب مختلف الجرائم التقليدية في أسرع وقت دون أن تترك أي اثر يدل على المجرم وقد مرت هذه الجريمة بتطور تاريخي مصاحبا لتطور التقنية واستخداماتها حيث ظهر هذا النوع من الجرائم في بداية الستينيات بأول معالجة لما يسمى بالجريمة االاكترونية على المقالات والمواد الصحافية تناقش التلاعب بالبيانات المخزنة وتدمير أنظمة الكمبيوتر والاستخدام غير المشروع للبيانات المخزنة في نظم الكمبيوتر، وقد ثار جدل حول ما إذا كانت هذه الأفعال مجرد سلوكيات غير أخلاقية في بيئة الحوسبة، أم أنها تكتسب الصفة الجرمية وبالتالي تعتبر أفعال يعاقب عليها القانون، ومع بداية السبعينيات اكتسبت الصفة الإجرامية وذلك بعد إجراء عدة دراسات مسحية وقانونية اهتمت بالجرائم االاكترونية وعالجت عددا من القضايا الفعلية.
وتكمن أهمية الموضوع في أن الجريمة االاكترونية من الجرائم المستحدثة التي توجب الدراسة والتحليل أكثر، والتحقيق فيها يتطلب مهارات فنية وتقنية والخبرة في مجال الحاسب الآلي والانترنيت اللذين اعتبرا وسيلتين أساسيتين لارتكاب الجريمة االاكترونية، وما يزيد الموضوع أهمية هو خطورة هذه الجريمة وانتشارها بسرعة رهيبة وعجز القوانين التقليدية على مواكبة هذه السرعة.
ومن الدراسات السابقة التي تناولت موضوع إجراءات التحقيق في الجريمة االاكترونية كتاب فن التحقيق الجنائي في الجرائم االاكترونية للدكتور خالد إبراهيم، الطبعة الأولى لسنة 2009 ،حيث تناول هذا الموضوع بشكل موسع وتطرق للجريمة االاكترونية الواقعة على الأمولا والأشخاص وعالج بعض صور الجريمة االاكترونية كالقذف، السب عبر الانترنت والتنصت. وكتاب مبادئ الإجراءات الجنائية لجرائم الكمبيوتر والانترنت للدكتور عبد الفتاح بيومي حجازي، الطبعة الأولى، 2006 وتناول هو الأخر موضوع إجراءات التحقيق في الجريمة االاكترونية تفصيلا وتحليلا، حيث تطرق لمختلف المشكلات المتعلقة بالدليل االاكتروني والمتعلقة بسلطات الاستدلال والتحقيق .
وبناءا على ما سبق فإن ما دفعني لاختيار هذا الموضوع هو رغبتي في التعرف على هذا النوع المستحدث من الإجرام الذي انتشر بصورة ملفتة في المجتمع الجزائري مؤخرا، ولأنها ترتبط بالتقنية الحديثة وتعتبر من سلبياتها لابد من أنها تتميز بمجموعة من الخصائص مقارنة مع باقي الجرائم التقليدية، مما يستدعي الوقوف ومعرفة إن كانت هناك إجراءات خاصة في مجال البحث والتحري، ومدى إمكانية تطبيق القوانين التقليدية لمواجهة الجريمة االاكترونية كذلك دفعني الفضول لمعرفة بما يحكم به القاضي في مثل هذه الجرائم، إن كان يستعين بالنصوص التقليدية أم أن هناك قوانين خاصة يلجأ إليها ورغبتي في إزالة الغموض عن هذه الجريمة.
وتكمن إشكالية البحث في ما مدى قابلية تطبيق القواعد التقليدية لإجراءات التحقيق في الجريمة االاكترونية ؟ وتتفرع عن هذه الإشكالية عدة إشكاليات أخرى :
- ما المقصود بالجريمة الالكترونية ؟ - بما تتميز الجريمة االاكترونية عن غيرها من الجرائم ؟
- هل توجد أجهزة خاصة بالتحقيق فيها ؟
وللإجابة عن هذه الإشكالية قسمت البحث إلى فصلين:
الفصل الأول بعنوان: ماهية الجريمة الاكترونية والتحقيق فيها، حيث عالجت ماهية الجريمة الاكترونية في المبحث الأول منه والذي قسمته بدوره لمطلبين، خصصت المطلب الأول لدراسة مفهوم الجريمة الاكترونية، وعرضت الأركان التي تقوم عليها الجريمة الاكترونية في المطلب الثاني، أما المبحث الثاني من هذا الفصل فقد تناولت فيه التحقيق في الجريمة الاكترونية من حيث المفهوم في المطلب الأول، والمطلب الثاني ذكرت فيه جهاز التحقيق الجنائي في الجريمة الالكترونية وما يواجهه من صعوبات في سبيل الكشف عنها .
الفصل الثاني بعنوان : إجراءات التحقيق في الجريمة الالكترونية، بينت في المبحث الأول كيفية اتصال المحقق بالجريمة الالكترونية من خلال آلية التحقيق في الجريمة الالكترونية في المطلب الأول، والمطلب الثاني عالجت فيه إجرائي الاستجواب وسماع الشهود في الجريمة الالكترونية، والمبحث الثاني لهذا الفصل تطرقت للإجراءات المتبعة عند الانتقال لمصرح الجريمة، حيث تكلمت عن التفتيش وضبط الأدلة في المطلب الأول، والمطلب الثاني تناولت فيه الانتقال إلى المعاينة وندب الخبراء. وقد اعتمدت على المنهج التحليلي في دراستي هذه، لتبيان مفهوم كل من الجريمة االاكترونية والتحقيق، ومناقشة الإجراءات المتخذة للتصدي لهاته الجريمة المستحدثة.