مؤسسة الشرطة القضائية في المسطرة الجنائية المغربية
مجموعة عروض ومواضيع في قانون المسطرة الجنائية للتحضير للمباريات القانونية و دروس في المسطرة الجنائية للنحضير للسداسية السادسة
مقدمة :
يعتبر جهاز الشرطة القضائية من بين المؤسسات المتدخلة في العدالة الجنائية، يضطلع بوظائف ومهام في غاية الأهمية. وتنعت هذه المرحلة بكونها بحث enquete ، وتتعزز صلاحياتها عندما يتعلق الأمربالبحث في حالة التلبس، تثبت لضباط الشرطة القضائية صلاحيات واسعة بمقتضاها يخول لهم اتخذ تدابير متنوعة.
وقد تناول المشرع في الباب الثاني من القسم الأول من الكتاب الأول من ق م ج المواد من 16 إلى 35 تحديد مكونات الشرطة القضائية ومهامها ومراقبة أعمالها.
ولم يتطرق المشرع الإجرائي لتعريف الشرطة القضائية، وإنما اكتفى بتحديد أهميتها والاعمال التي تقوم بها في المادة 18 من قانون المسطرة الجنائية وهي:" التثبت من وقوع الجرائم وجمع الأدلة والبحث عن مرتكبيها". وأهمية هذا الجهاز تعود بالأساس إلى طبيعة المهام المنوطة به، حيث يعتبر جهازا مساعدا للنيابة العامة وقضاء التحقيق.
ومنذ نشأته، وهو يعرف بنية مركبة، خيث نجد من جهة المؤسسة القضائية قي شخص النيابة العامة، ومن جهة أخرى قضاء التحقيق، وينعت هؤلاء بالضباط السامين للشرطة القضائية. وهناك شرطة قضائية، اعتاد الفقه تسميتهم بضباط شرطة عاديون.
وقد أسند المشرع الإجرائي للشرطة القضائية مجموعة من المهام، لها أهميتها ووزنها، وتصب في اتجاه كشف الحقيقة. تتمثل بالأساس في التثبت من وقوع الجرائم، أو بعبارة أخرى القيام بالمعاينات، وجمع الأدلة، وكذا البحث عن المشتبه فيهم.
المبحث الأول: بنية جهاز الشرطة القضائية
كما مر معنا أن هذا الجهاز يعرف بنية مركبة، تتداخل فيه مجموعة من المؤسسات الأخرى، هناك المؤسسة القضائية في شخص النيابة العامة، وأيضاء قضاء التحقيق. لذا ارتأيت أولا التمييز بين الشرطة القضائية والشرطة الإدارية، ثم بعد ذلك أتناول أصناف رجال الشرطة القضائية. في حين أتحدث بعد ذلك عن الفرق الوطنية والجهوية للشرطة القضائية.
المطلب الأول: التمييز بين الشرطة الإدارية والشرطة القضائية
لم يعرف المشرع كل من الشرطتين الإدارية والقضائية، بل اكتفى بالإشارة إلى الأعمال التي تقوم بها. حيث نجد أغلب الشراح يتخذ من معيار أو ضابط طبيعة العمل الذي تقوم به كل واحدة منهما فيصلا لذلك[1].
فالشرطة الإدارية تتمثل مهمتها الأساسية في المحافظة على السلامة العامة، بما توفره من سكينة وهدوء واطمئنان، والمحافظة على الصحة للجميع. لذا فهي تلتقي في الهدف الذي تتوخاه الشرطة القضائية حينما يكونان معا يحاربان الظاهرة الإجرامية. لكن مهمة الشرطة الإدارية في محاربة الظاهرة الإجرامية تكون وقائية، بمعنى قبل حدوث الجريمة، حتى تتمكن من منع وقوعها ابتداء، أو على الأقل التقليل منها ما أمكن ذلك، وليس بعد وقوعها، من قبيل تحقق رجالها من هوية الأشخاص مواطنين كانوا أم أجانب، وتتبع المشكوك فيهم، وبث الأعين حولهم، وتنظيم حملات مفاجئة لبعض الأماكن التي يخشى وقوع جرائم بها كالحانات والمنتزهات العامة أو الغابات البعيدة نسبيا عن العمران، وحضور التجمعات التي يكون بها الحضورمكثفا وغفيرا، كالمسيرات والتظاهرات، وتنظيم حركة السير في المدن والقرى من قبل الشرطة والدرك...
أما الشرطة القضائية فمهمتها تنطلق بعد وقوع الجريمة وخرق القانون الجنائي، أي بعد فشل الوظيفة الوقائية التي تقوم بها الشرطة الإدارية لمنع الجريمة، وذلك من خلال معاينتها لكل المخالفات للقانون الجنائي النافذ وإنجازها لأبحاث تتحرى فيها عن ظروف وقوع الجريمة والبحث عن مرتكبيها وجمع الحجج والأدلة، والمحافظة عليها، التي تسندها لفاعليها وتحرير محاضر بذلك تضعها رهن إشارة النيابة العامة لتكتمل مسيرة الخصومة الجنائية، بغية اقتضاء حق الدولة في الجزاء إن رأت ذلك ملائما.
وجدير بالذكر أنه يمكن أن يقوم الشخص الواحد بمهام الشرطة الإدارية والقضائية في نفس الوقت، فمثلا على مستوى مفترقات الطرق يوجد الأمن أو الدرك، لتنظيم ومراقة حركة السير والجولان ومراقبة العربات وهي أعمال للشرطة الإدارية، وإذا خالف أحدهم ضوابط السير أو ما ينبغي توفره في العربة من شروط السلامة، حرر محضرا بذلك، وهو عمل من أعمال الشرطة القضائية، ولها إطار قانوني ينظمها. فضباط الشرطة القضائية يقومون بمهامهم تحت إشراف النيابة العامة.
المطلب الثاني: أصناف رجال الشرطة القضائية
تنص المادة 19 من قانون المسطرة الجنائية على أنه:" تضم الشرطة القضائية بالإضافة إلى الوكيل العام للملك ووكيل الملك ونوابهما وقاضي التحقيق بوصفهم ضباط سامين للشرطة القضائية:
أولا: ضباط الشرطة القضائية.
ثانيا: ضباط الشرطة القضائية المكلفين بالأحداث.
ثالثا: أعوان الشرطة القضائية.
رابعا: الموظفون والأعوان الذين ينيط بهم القانون بعض مهام الشرطة القضائية".
يتضح من النص أعلاه، أن بنية مؤسسة الشرطة القضائية مركبة، فمن جهة نجد المؤسسة القضائية ممثلة في شخص النيابة العامة وقضاء التحقيق، ومن جهة أخرى نجد ضباط شرطة قضائية اعتاد الفقه على تسميتهم بضباط شرطة قضائية عاديون.
الفقرة الأولى: الضباط السامون للشرطة القضائية
بالرجوع إلى النص السابق، يتضح أن ضباط الشرطة القضائية السامون هم:
ــ الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف ونوابه.
ــ وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية ونوابه.
ــ قضاء التحقيق لدى المحكمة الابتدائية أو محكمة الاستئناف.
يستشف من هذا أن الضباط السامين للشرطة القضائية، ورد ذكرهم على سبيل الحصر قي القانون، بحيث لا يمكن تخويل هذه الصفة لأي كان إلا بناء على قانون يصدر من الجهة المخولة لها بذلك، ومن ثم لا يعتبر المدير العام للأمن الوطني ولا ولاة الأمن ضباط سامين للشرطة القضائية، وإنما هم ضباط عاديون فقط مادام القانون لم يخولهم ذلك، وبنص صريح. كما أن الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض ونوابه (المحامون العامون) لا يعدون حسب الأستاذ عبد الواحد العلمي ضباطا سامين للشرطة القضائية، وذلك من منطلق أن النص القانوني لا يشملهم.
ومن هذا المنطلق فإن المواد 17 و18 و40 و45 و49 و71 و75 و78 من قانون المسطرة الجنائية تنيط بالضباط السامين للشرطة القضائية القيام بالبحث التمهيدي سواء كان عاديا أو تلبسيا، إما بأنفسهم أو بواسطة ضباط الشرطة العاديين، الذين يتكلفون غالبا بمهمة إنجاز البحث التمهيدي بناء على الأوامر والتعليمات التي يتلقونها من الضباط السامين للشرطة القضائية.
الفقرة الثانية: ضباط الشرطة العاديون
اعتاد الفقه أن ينعتهم بضباط الشرطة العاديين تمييزا تمييزا لهم عن الضباط السامين للشرطة القضائية، وقد تم تعدادهم في المادة 20 من قانون المسطرة الجنائية، حيث جاء فيها:
" يحمل صفة ضابط للشرطة القضائية:
ــ المدير العام للأمن الوطني وولاة الأمن والمراقبون العامون للشرطة وعمداء الشرطة وضباطها.
ــ ضباط الدرك الملكي وذووا الرتب فيه وكذا الدركيون الذين يتولون قيادة فرقة أو مركز للدرك الملكي طيلة مدة هذه القيادة.
ــ الباشوات والقواد.
ــ المدير العام لإدارة مراقبة التراب الوطني وولاة الأمن والمراقبون العامون للشرطة وعمداء الشرطة وضباطها بهذه الإدارة، فيما يخص الجرائم المنصوص عليها في المادة 108 من هذا القانون.
يمكن تخويل صفة ضابط للشرطة القضائية:
ــ لمفتشي الشرطة التابعين للأمن الوطني، ممن قضوا على الأقل ثلاث سنوات بهذه الصفة بقرار مشترك صادر من وزير العدل ووزير الداخلية.
ــ للدركيين الذين قضوا على الأقل ثلاث سنوات من الخدمة بالدرك وعينوا اسميا بقرار مشترك من وزير العدل والسلطة الحكومية المكلفة بالدفاع الوطني".
يتضح من المادة المشار إليها أعلاه، أن قائمة ضباط الشرطة القضائية وردت على سبيل الحصر وهم:
ــ ضباط شرطة قضائية عاديون تم تخويلهم هذه الصفة بقوة القانون وبدون أية شروط، وورد ذكرهم في الفقرات 1و2و3 . وهناك طائفة أخرى منصوص عليها في الفقرات 5 و6 لا يحملون هذه الصفة إلا بتوفر شروط. ويتعلق الأمر بمفتشي الشرطة، تسند لهم صفة ضابط الشرطة القضائية، بعد أن تتوفر فيهم أقدمية ثلاث سنوات، ويتم تعيينهم بقرار مشترك بين وزير العدل ووزير الداخلية عندما يتعلق الأمر بالأمن الوطني، وبالنسبة للدركيين والدرك الملكي بقرار مشترك بين وزير العدل والإدارة العامة للأمن الوطني.
الفقرة الثالثة: أعوان الشرطة القضائية
تنص المادة 25 من ق م ج على أن أعوان الشرطة القضائية هم:
" أولا: موظفو المصالح العامة للشرطة.
ثانيا: الدركيون الذين ليست لهم صفة ضابط الشرطة القضائية.
ثالثا: خلفاء الباشوات وخلفاء القواد".
هؤلاء لا يمكنهم تحرير المحاضر، لأن ليست لهم صفة ضابط، وينتمون إلى السلطة المحلية، وإما إلى الإدارة العامة للأمن الوطني وإما للدرك الملكي. وتناط بهم مجموعة من المهام، من بينها، وكما حددتها المادة 26 من ق م ج :
" تناط بأعوان الشرطة القضائية المهام التالية:
أولا: مساعدة ضباط الشرطة القضائية في مباشرة مهامهم.
ثانيا: إخبار رؤسائهم المباشرين بجميع الجرائم التي تبلغ إلى علمهم.
ثالثا: جمع كل المعلومات المؤدية إلى العثور على مرتكبيها وفقا لأوامر رؤسائهم ونظام الهيئة التي ينتمون إليها".
تأسيسا على ما سبق، يتضح أن أعوان الشرطة القضائية تكمن مهمتهم الأساسية في البحث التمهيدي، من خلال مد يد العون والمساعدة لضباط الشرطة القضائية بحكم القانون. لذا فعون الشرطة القضائية لا يمكنه أن يقوم بتوقيع الحراسة النظرية على مشبوه فيه، ولا يمكنه استجوابه، ولا يقوم بتفتيش المنازل، ولا تحرير محاضر البحث التمهيدي، حتى وإن فعل هذا، فإن هذا الاجراء يعتبر باطلا مع ما قد يترتب عن ذلك من مساءلة. لكن يمكنه مد يد المساعدة لضابط الشرطة القضائية إذا حضر معه.
يستشف من هذا، أن المسار الإجرائي ينطلق من أعوان الشرطة القضائية، عن طريق إخبار رؤسائهم بالجرائم التي تقع، وكذلك يسند لهم المشرع جمع المعلومات. لذا فالمسار الاجرائي ينطلق من معلومة ومن إخبار، وكل هذا مؤطر من الناحية الإجرائية[2] .
الفقرة الرابعة: الموظفون والأعوان المكلفون ببعض مهام الشرطة القضائية
جاء في المادة 27 من قانون المسطرة الجنائية أنه:" يمارس موظفو وأعوان الإدارات والمرافق العمومية الذين تسند إليهم بعض مهام الشرطة القضائية بموجب نصوص خاصة، هذه المهام حسب الشروط وضمن الحدود المبينة في هذه النصوص".
بناء على ما سبق، فإن هذه الطائفة من رجال الشرطة القضائية يقومون بالبحث التمهيدي عملا بالنصوص الخاصة التي تسمح لهم بذلك، ومهامهم تتحدد من خلال هذه النصوص. وإسناد المشرع لهؤلاء الاعوان القيام ببعض مهام الشرطة القضائية راجع بالأساس لخبرتهم وكفاءتهم بالمجالات التي أناط بهم المشرع القيام بالبحث فيه، كرجال الجمارك والمياه والغابات... كما يقومون بإخبار رؤسائهم بجميع الجرائم التي تبلغ إلى علمهم، وكل هذا مؤطر بقانون.
كما نجد المادة 28 من قانون المسطرة الجنائية تتحدث عن الوالي أو العامل الذين يمثلان الجهاز التنفيذي على مستوى العمالة أو الاقليم الذين خولا صفة ضابط الشرطة القضائية، وتنص هذه المادة على أن:" يجوز للوالي أو العامل، في حالة الاستعجال، عند ارتكاب جرائم تمس أمن الدولة الداخلي أو الخارجي، أن يقوم شخصيا بالإجراءات الضرورية للتثبت من ارتكاب الجرائم المثبتة أعلاه أن يأمر كتابة ضباط الشرطة القضائية المختصين بالقيام بذلك، ما لم يخبر بإحالة القضية إلى السلطة القضائية.
يجب على الوالي أو العامل في حالة استعماله لهذا الحق، أن يخبر بذلك فورا ممثل النيابة العامة لدى المحكمة المختصة، وأن يتخلى له عن القضية خلال الأربع والعشرين ساعة الموالية للشروع في العمليات ويوجه إليه جميع الوثائق ويقدم له جميع الأشخاص الذين ألقي عليهم القبض...".
يتضح من المادة المشار إليها أعلاه، أن تدخل الوالي أو العامل للقيام ببعض مهام الشرطة القضائية له شروط: أولا يجب أن نكون أمام حالة استعجال، ثانيا: أن تكون الجرائم ماسة بأمن الدولة الداخلي أو الخارجي، ثالثا، ألا يكون الوالي أو العامل قد أخذ العلم بكون السلطة القضائية شرعت في مباشرة البحث في القضية. فإما أن يقوم بهذا الإجراء شخصيا أو أن يكلف الضباط المختصين بذلك للقيام بالتثبت من ارتكاب الجرائم المذكورة. ولا بد أن يقع إخبار فوري للنيابة العامة، بمعنى أن هذا التدخل مرتبط بزمن معين، في إطار التثبت من الجرائم الماسة بأمن الدولة، داخل 24 ساعة. وبعد انتهاء المدة، تحال المسطرة على النيابة العامة بالوثائق المحصل عليها، والأشخاص الذين تم ضبطهم.
لكن إذا تبين للنيابة العامة أن القضية ليست من اختصاصها، بل من اختصاص المحكمة العسكرية، فإنها توجه الوثائق إلى السلطة الحكومية المكلفة بالدفاع الوطني، وتأمر فورا عند الاقتضاء بتقديم الأشخاص الملقى عليهم القبض إلى السلطة المختصة وهم في حالة اعتقال وتحت الحراسة.
الفقرة الخامسة: الفرق الوطنية والجهوية للشرطة القضائية
أدخلت تغييرات على مستوى بنية مؤسسة الشرطة القضائية، وذلك في اتجاه استشراف مستقبل واعد لهذه المؤسسة. حيث تم إحداث مؤسسة للضبط القضائي، بموجب ظهير 17 أكتوبر2011 وأعطى الصفة الضبطية للضباط التابعين للادارة العامة لمراقبة التراب الوطني، وتسمى "الفرقة الوطنية للشرطة القضائية" للبحث في بعض الحالات والقضايا. وتدخلهم يكون ليس في الجرائم العادية، بل في الجرائم المتميزة الخطورة.
وقد تضمن القانون رقم 11 . 35 الذي أضاف مادة مكررة تحت رقم 22 للقانون 01 .22 المتعلق بالمسطرة الجنائية نصت على أنه:" يمكن إنشاء فرق وطنية أو جهوية للشرطة القضائية بمقتضى قرار مشترك لوزير العدل والسلطة الحكومية المشرفة إداريا على الفرقة.
تخضع هذه الفرق لتسيير النيابة العامة التي تشرف على البحث.
يمكن للنيابة العامة إذا اقتضت ضرورة البحث أو طبيعة الجرائم أن تعهد بالبحث إلى فرق مشتركة تتألف من ضباط للشرطة القضائية ينتمون لجهات إدارية مختلفة يرأسها ضابط للشرطة القضائية تعينه النيابة العامة المختصة لهذا الغرض".
ما يلاحظ أن المشرع انتبه لما كان يشوب هذه الممارسة من افتقاد لغطاء الشرعية، فعمل على تنظيم تدخل هذا الجهاز بنص القانون، ومن ثم أصبح له سند قانوني، يمكنه من إجراء الأبحاث التمهيدية تحت مراقبة وتسيير النيابة العامة التي تشرف على البحث. ومن شأن هذا أن يساهم لا محالة في تثبيت مبدأ الشرعية الإجرائية.
ويمكن القول أن جهاز الشرطة القضائية بحاجة لمزيد من التحديث والتطوير، قصد مواكبة التغيرات التي تعرفها الظاهرة الإجرامية، خصوصا في ظل ما يشهده العالم من تطورات متسارعة على جميع الأصعدة.
المبحث الثاني: صلاحيات ووظائف ضباط الشرطة القضائية
أناط المشرع بضباط الشرطة القضائية مهام متعددة وحيوية، وتجد سندها في النصوص التي تنظمها، من أهمها:
1 ــ تلقي الشكايات والوشايات.
2 ــ القيام بالبحث التمهيدي بنوعيه العادي والتلبسي.
3 ــ تضمين العمليات المنجزة من قبلها أثناء البحث في محاضر.
4 ــ تنفيذ الإنابات القضائية المقدمة لها من قبل قاضي التحقيق.
5 ــ تنفيذ الإذن بالتسليم المراقب.
الفقرة الأولى: تلقي الشكايات والوشايات
إن خبر انتهاك حرمة القانون الزجري يصل إلى علم الشرطة القضائية بمختلف درجاتهم إما في صورة شكاية من طرف المتضرر، أو في صورة وشاية من طرف الغير، طبقا لما جاء في المادة 80 من قانون المسطرة الجنائية.
أولا: الشكاية
تعتبر الشكاية تقنية أساسية للإخبار عن الجريمة، مؤطرة من الناحية الإجرائية، بمقتضاها يوصل المعتدى عليهم بالجريمة خبر اقتراف هذه الأخيرة إلى أجهزة العدالة الجنائية مستنجدين بها، طالبين الاقتصاص لهم من المعتدين على الحقوق المحمية قانونا لهم.، فالذي يمارس عليه عنف أو إيذاء، أول ما قد يفكر به هو الاشتكاء بمن مارسه عليه إلى الضابطة القضائية بأنواعها ( نيابة عامة، ضباط عاديون للشرطة القضائية)، لتنطلق التحريات في موضوعها بعد ذلك[3]. ولم يحدد المشرع شكلا خاصا للشكاية، بل يمكن أن تتم عن طريق تصريح المتضرر من الجريمة، إما شفويا أمام ضابط الشرطة القضائية، الذي يعمل على تدوينها في محضر تلقي الشكايات يوقع عليها المصرح، وإما أن تأتي كتابة بواسطة رسالة أو برقية. ويتعين على المشتكي أن يبين هويته كاملة وهوية المشتكى به، أو من يعتقد بأنه مرتكب الجريمة، إذا كان معروفا. لكن في حالة ما إذا كان المشتكى به غير معروف، فإنه يصرح بأن الفاعل ظل مجهولا لديه. كما يتعين عليه تحديد ظروف الجريمة، وأدلة الإثبات، من أجل تسهيل الطريق أمام الشرطة القضائية للوصول للهدف من الشكاية.
وتكمن أهمية الشكاية في كونها تشكل آلية أساسية وحيوية في إحاطة جهاز العدالة الجنائية، خصوصا النيابة العامة بالجرائم المرتكبة، حتى تتمكن من إعطاء تعليمات بالبحث في موضوع الشكاية، ومن ثم اتخاذ الموقف الذي تقتضيه سلطة الملاءمة، سواء بتحريك الدعوى العمومية أو عدم تحريكها (الحفظ).
ثانيا: الوشاية
يقصد بالوشاية القيام بالتبليغ لأجهزة العدالة الجنائية (نيابة عامة، ضابطة قضائية) عن كل خرق للقانون الجنائي إما كتابة (برسالة مثلا) وإما شفويا ( بالهاتف، أو شريط تسجل فيه الوقائع...) وهي في هذا كله تشبه الوشاية الشكاية، لأنه بهما يقع إيصال خبر وقوع الجرائم إلى الجهة المكلفة بالبحث فيها ومتابعتها، إلا أن وجه الخلاف بينهما يظهر في أنه في الشكاية يكون الذي يبلغ هو الضحية المباشرة من الجريمة (المعني بها)، ومن ثم سيكون حتما معلوما ولا داعي لإخفاء هويته، في حين في الوشاية يكون القائم بها من الغير، ومن ثم فلا داعي لاشتراط أن يكون الواشي معلوم الهوية، ولا مانع أن يكون كذلك معلوما[4] .
ويمكن التمييز على مستوى الوشاية بين عدة صور، فهناك الوشاية الواجبة، وقد تم حصرها بالقانون، ومفادها أن الذي يعلم بارتكاب الجريمة ملزم بالتبليغ عنها إلى الجهة المختصة. فقد نصت الفصل 209 من القانون الجنائي على جريمة بخصوص " جريمة عدم التبليغ عن المس بسلامة الدولة".
ومن جهة أخرى، نجد صورة أخرى للوشاية تتعلق بالوشاية الكاذبة، حيث يقوم المبلغ عمدا بتلفيق واقعة إجرامية ونسبتها إلى الغير ظلما وعدوانا، وهو يعلم مسبقا أن لا أساس لها من الصحة، مما يجعل صاحبها يقع تحت طائلة القانون الجنائي. طبقا للفصل 445 من المجموعة.
الفقرة الثانية: الأبحاث المنجزة من طرف الشرطة القضائية
من بين أهم الصلاحيات التي تمارسها الشرطة القضائية هو إنجاز البحث التمهيدي بنوعيه، بحث منجز في حالة التلبس، وهو البحث الأصلي، وبحث تمهيدي أو أولي. ويتم القيام به إما تلقائيا، وإما بناء على تعليمات وتكليف من النيابة العامة، والهدف منه هو إعداد ملف كامل عن الجريمة المدعى ارتكابها ومرتكبيها. ويتضمن الملف كل الأعمال والتدابير والتحريات التي تم القيام بها. وهذه المرحلة لها أهميتها وخصوصيتها على مستوى الحصول على الدليل. لذا فهي تشكل منطلق المسار الإجرائي، ومن ثم أحاطها المشرع بالعديد من الضمانات، بهدف ترسيخ أسس المحاكمة العادلة.
أولا: البحث المنجز في حالة التلبس
يتخذ البحث المنجز من طرف الشرطة القضائية صورتين، إما أن يكون بمناسبة التلبس أو أن يكون تمهيديا. والهدف من ورائهما هو إعداد ملف كامل يتعلق بالنازلة ووضعه أمام السلطة القضائية المكلفة بالمتابعة، حتى تتمكن من اتخاذ المناسب فيه.
وتختلف طريقة البحث في حالة التلبس عن البحث التمهيدي في بعض النقط الأساسية، وذلك من منطلق أن البحث في حالة التلبس تستدعي التدخل السريع منعا لاختفاء الدليل، ومحو آثار الجريمة التي تكون لازالت قائمة. ولذلك توسع القانون في هذه الصور ومنح اختصاصات إضافية ومهمة لضابط الشرطة القضائية، إذا تعلق الأمر ببحث يجريه بشأن جناية أو جنحة متلبس بها، ولا يتيحه له إذا تعلق الأمر بالبحث في غير حالة التلبس.
أولا: التلبس بالجناية أو الجنحة
يقتصر البحث التلبسي حسب ق م ج على الجنايات والجنح المعاقب عليها بالحبس. وسنحاول التطرق لتعريف حالة التلبس وصورها المتعددة.
1 ــ تعريف حالة التلبس
لم يعرف المشرع المغربي حالة التلبس، بل اقتصر على تعداد صورها في المادة 56 من ق م ج. والتلبس هو وصف عيني يتعلق بماديات الجريمة، لا يهم إلا الجناية أو الجنحة، ولا يمكن تصوره في المخالفة.
أما النص الفرنسي للمادة 56 من ق م ج فقد استعمل لفظة Flagrance للتعبير عن هذه الوضعية وهي تفيد في اللغة الفرنسية" الوضوح الذي لا غبار عليه والذي لا يترك مدعاة للشك" ومن ثم فالذي يرتكب جريمة متلبسا بها flagrant délit يكون في وضعية تفيد بكيفية واضحة وصارحة على ارتكابها منه[5].
2 ــ صور حالة التلبس
بالرجوع للمادة 56 من ق م ج نجدها تنص على صور حالة التلبس، التي أوردها المشرع على سبيل الحصر ولا يمكن الزيادة فيها، نظرا لكونها تمنح صلاحيات استثنائية لضابط الشرطة القضائية.
الصورة الأولى: إذا ضبط الفاعل أثناء ارتكاب الجريمة أو على إثر ارتكابها
هذه الصورة تتضمن في واقع الأمر صورتين داخل صورة واحدة، حيث استعمل المشرع لفظ "أو"، بمعنى أن يتم ضبط الفاعل أثناء ارتكابها، وهو لم يستنفذ بعد مشروعه الإجرامي، وهي أسمى صور حالة التلبس. وإما على إثر ارتكابها، فالأولى تتحقق عندما يشاهد ضابط الشرطة بنفسه ارتكاب الفعل الإجرامي، كاطلاق الرصاص على المجني عليه في القتل. أما الثانية فتتحقق عندما يعاين ضابط الشرطة القضائية الجريمة عقب إنجاز الفعل الإجرامي بفترة وجيزة، والفترة الوجيزة هذه، وإن كان بعض الفقه يرى ترك تقديرها لمحكمة الموضوع، على أساس أنها من الوقائع. ومن ثم تمكن الفاعل من استنفاذ مشروعه الإجرامي، لكنه لازال متواجد بمكان ارتكاب الجريمة.
وتتم المشاهدة من طرف ضابط الشرطة القضائية، حتى يتحقق حالة التلبس بالجريمة، ولا يشترط فيها أن تكون برؤية العين فقط، بل يمكن أن تكون بحواس أخرى، كالشم والسماع واللمس.
الصورة الثانية: الحالة التي يكون فيها الفاعل مازال مطاردا بصياح الجمهور على إثر ارتكاب الجريمة. وهي تفترض أن مرتكب الفعل لم يتم ايقافه بمكان الجريمة، وأنه تمكن من الافلات، ولكن الجمهور طارده في الحين، وسواء تم توقيفه آنذاك أو لم يتم توقيفه، فإن الجريمة يعتبر متلبسا بها، ويطلق عليها الفقه حالة التلبس المفترض.
الصورة الثالثة: الحالة التي يعثر فيها على الفاعل بعد مرور وقت قصير على ارتكاب الجريمة، وهو يحمل أسلحة أو أشياء يستدل منها على مشاركته في الجريمة، أو توجد عليه آثار أو علامات تثبت مشاركته في الجريمة. وهناك من ينعت هذه الصورة بالضبط بالدليل، ولا يقوم بها إلا ضابط الشرطة القضائية.
الصورة الرابعة: وتعتبر أيضا بمثابة حالة تلبس بالجريمة، ويتعلق الأمر بالجريمة التي ترتكب داخل منزل خارج الحالات المشار إليها أعلاه، ويلتمس مالك المنزل أو ساكنه من السلطات معاينتها. والفقه ينعتها بالتلبس الحكمي، لأن القانون هو موجدها وباستقلال تام عن توفر الشروط التي تطلبتها الأرقام 1 و2 و3 من المادة 56 من ق م ج، لأن المطلوب فقط هو التقدم بالتماس من صاحب المنزل الذي وقعت فيه الجريمة إلى النيابة العامة أو الضابطة القضائية لتقوم حالة التلبس بها.
ما يلاحظ أن الصور الثلاث، يلعب فيها عنصر الزمن دورا أساسيا في تحديد حالة التلبس، حيث يختلف من صورة إلى أخرى. وكأننا نتلمس مراحل ارتكاب الفعل الجرمي من بدايته إلى نهايته. بمعنى هل عملية الضبط تتزامن فيها ارتكاب الجريمة مع ضبط الفاعل أم تم ضبطه وهو مطارد بصياح الجمهور، ومن ثم يتأخر اكتشاف الفاعل لحظات قليلة عن ارتكاب الجريمة. أما في الصورة الثالثة فيكون قد مر زمن ما بين ارتكاب الفعل الجرمي وبين التاريخ الذي يوجد فيه الفاعل، لكن مع ضبطه بالدليل على علاقته بالجريمة هو الأسلحة أو الأشياء التي تضبط معه، أو الأمارات أو العلامات. وعبر عنها المشرع بمرور الوقت القصير، دون أن يحدد زمنا معينا. وهذا ما يطرح مشكل على مستوى تحديد الوقت القصير. هل نقصد به الساعات أم اليوم؟ مما أدى إلى اختلاف الفقهاء بالنسبة لتحديد الوقت القصير.
3 ــ حالة التلبس قاصرة على الجنايات والجنح المعاقب عليها بالحبس
إذا كان مناط التلبس هو حالة الاستعجال التي تصاحبها، مما يدعو إلى إعطاء البحث فيها طابعا صارما وتدخل سلطات البحث بشأنها وفي وقت قريب جدا من اكتشاف الجريمة، بهدف جمع الأدلة والحجج قبل اندثارها وطمس الحقيقة، فإن المشرع قصر تطبيقها على جرائم على درجة من الخطورة هي الجنايات من جهة، والجنح المعاقب عليها بالحبس من جهة أخرى، وأقل مدة الحبس هي شهر واحد. بينما الجنح التي لا يعاقب عليها بالحبس فلا تطبق عليها مسطرة التلبس. ففي هذه الحالة يتعين سلوك إجراءات البحث التمهيدي، وكل إجراء يخالف هذا النوع من البحث يتعين عدم إنجازه.
وبالرجوع إلى قانون المسطرة الجنائية نجده حصر مجال التلبس في الجنايات والجنح في مستهل المادة 56 من ق م ج. وهذا يعني أنه لا يمكن تصور التلبس في المخالفات، ومن ثم وردت هذه الصور على سبيل الحصر.
[1] ــ عبد الواحد العلمي، شروح في القانون الجديد المتعلق بالمسطرة الجنائية، الجزء الأول، مطبعة النجاح الجديدة ــ الدار البيضاء، الطبعة السابعة 2018، ص: 358 .
[2] ــ مثلا التقارير وسيلة إخبار يرفعها موظف الأمن، وليس ضابط الشرطة القضائية، إلى رئيسه إثر تدخله في الطريق العام أو لإعطائه ملخص حول تحقيق إداري كلف به، قد يكون التقرير شفويا على خلاف المحضر هو وثيقة مكتوبة. كما يمكن أن يكون التقرير مكتوبا. ويكتسب طابعا شخصيا، بمعنى أن شخصية محرر التقرير بارزة فيه. وهذا ما لا نلمسه في المحاضر المنجزة من طرف ضباط الشرطة القضائية. لذا فالتقرير نتلمس فيه الطابع الذاتي والشخصي، عكس المحاضر فيها حيادية.
ومجال التقارير متسع، فقد يتضمن راي المقرر، يعطي رأيه، وهذا ما لا نجده في المحاضر.
ــ قد تعطى في التقارير توضيحات.
ــ قد يقدم في التقارير افتراضات.
ــ قد تقترح في التقارير تدابير.
وكل هذا لا نجده في المحاضر، الذي اشترط المشرع أن يتم تحريرها من طرف ضابط للشرطة القضائية.
ويمكن لأي موظف أمني أن يقوم بهذا التقرير.
بينما المحاضر تشدد فيها المشرع المغربي، ونصص عليها في المادة 24 من ق م ج، واشترط أن تتوفر فيه مجموعة من البيانات الضرورية. وهذا ما يعكس مبدأ الشرعية على مستوى تحرير هذه الوثيقة الأساسية. إلا أنها لا تلزم القاضي الجنائي، على أساس أنه يبني حكمه على ما نوقش شفويا علنيا وحضوريا أمامه، واقتنع به اقتناعا صميما. فالقاضي الجنائي فوق الدليل، أو بعبارة أخرى هو سيد الأدلة. لذا ليس هناك ما يلزم القاضي الجنائي باستثناء بعض الجرائم ألزم فيها المشرع وسائل إثبات معينة.
[3] ــ عبد الواحد العلمي، مرجع سابق، ص: 375 .
[4] ــ عبد الواحد العلمي، مرجع سابق، ص: 377 .
[5] ــ عبد الواحد العلمي، مرجع سابق، ص: 386 .