أنواع الخطأ الطبي في القانون المغربي

مجموعة بحوث وعروض في القانون الجنائي والمسؤولية الجنائية للطبيب

أنواع الخطأ الطبي في القانون المغربي
-أولا : الخطأ الجسيم والخطأ اليسير : يختلف الفقه والقضاء حول درجة الخطأ الجنائي الذي يسأل عنه الشخص فانقسم إلى اتجاهين، اتجاه يقيم المسؤولية الجنائية للطبيب على أساس الخطأ الجسيم، واتجاه يقيم المسؤولية الجنائية على أية درجة من الجسامة سواء كان جسميا أم يسيرا.

فالخطأ الجسيم في نظر بعض الفقه، بأنه الخطأ الذي ينم عن جهل فادح بأصول الفن الذي يمارسه الطبيب أو عن إهمال شديد بواجباته الوظيفية أو المهنية أو عن توقع بحدوث ضرر بالمريض،(1) ،في حين ذهب البعض الآخر بأنه عدم بذل العناية اللازمة بشؤون الغير بصورة لا تصدر عن أقل الناس حرصا في شؤونهم الخاصة.

(2) أما الخطأ اليسير، فهو الخطأ الذي لا يقترفه الطبيب العادي في حرصه وعنايته، وتظهر صورة التمييز بين الخطأ الجسيم واليسير في الخطأ المدني أكثر من الخطأ الجنائي، نظرا لإمكانية تقدير ذلك(3) .

كما أن الفقه والقضاء الفرنسي، يرى بأن درجة الخطأ لا تقاس بأهمية ما يترتب عليه من ضرر، حيث أن أشد الأضرار قد ينجم عن أتفه الأخطاء، كما أن أشد الأخطاء قد لا يحدث إلا أضرارا بسيطة، لذلك فإذا أقدم طبيب على سلوك معين محتملا وقوع ضرر نتيجة سلوكه وقام به، فهذا الخطأ جسيم طالما أنه لم يقصد الإضرار بالمريض،وتختلف جسامته باختلاف درجة توقع الضرر، فكلما اقترب احتمال حصول الضرر من اليقين زادت جسامة الخطأ، والعكس صحيح .

أما على مستوى القضاء المغربي، في بداية الأمر كان متأثرا بالقضاء الفرنسي في إقامة المسؤولية الجنائية للطبيب على أساس التمييز بين درجة الخطأ الجنائي، وقد كانت الأحكام الصادرة عن المحاكم المغربية في موضوع المسؤولية الجنائية للطبيب تقوم على أساس الخطأ الجسيم، أما إذا كان الخطأ يسيرا، فلا مجال للمسؤولية الجنائية للطبيب، ومن بين هذه الأحكام، حكم صادر عن المحكمة الإدارية بالرباط في 14 أكتوبر 1992(4).

غير أن الاجتهاد القضائي المغربي تبنى الاتجاه الذي يقيم المسؤولية الجنائية للطبيب على أساس الخطأ الجنائي سواء كان جسيما أو يسيرا، ويرجع هذا التطور من خلال قرار صادر عن محكمة الاستئناف بالرباط في 1988 الذي قضى بمسؤولية المرفق العمومي الصحي عن الخطأ المصلحي(1) ٬ وقد كان المرجع الأساسي للمسؤولية الطبية، حيث أقامت المحكمة الإدارية بمكناس(2)٬ حكمها على أساس قرار محكمة الاستئناف بالرباط لسنة 1988 حول مسؤولية المرفق العمومي عن الأخطاء المصلحية.

وقد أكدت محكمة الاستئناف بالدار البيضاء في قرار لها جاء فيه (حيث إن الدكتور.

.

.

بنسيانه للجسم الغريب في جسد المدعية أثناء العملية الجراحية يكون قد ارتكب خطأ جسيما أخل بالمقتضيات العامة التي تفرضها عليه مهنة الطب، التي تستوجب بذل عناية ومجهود حاد ويقظ والمسلك الطبي الذي يفترض في كل طبيب يقظ في مستواه المهني وجد في نفس الظروف الخارجية التي أحاطت به، فهو يسأل عن خطأ عادي أيا كانت جسامته) (1) .

فقد تبنت محكمة الاستئناف في إقامة المسؤولية الجنائية للطبيب على أساس الخطأ الطبي العادي أيا كانت جسامته، ويتجلى ذلك من خلال نسيانه لجسم غريب في جسد المدعية مما يشكل خطأ جسيما مخالفا للقواعد المنظمة لمهنة الطب.

أما بالنسبة للقضاء الفرنسي فقد اكد في احدى قرارته ان الطبيب لا يسأل إلا عن خطئه المهني الجسيم و ذلك من خلال قرار (Mercier) في 20 ماي 1936 ٬ و قرار صادر عن محكمة النقض الفرنسية سنة 1838 الذي جاء فيه (أن الطبيب يسأل عن الإهمال الذي وقع منه، وأدى إلى ضرورة قطع ذراع المريض، حيث يعد ذلك الأمر بمثابة خطأ جسيم وقع من طرف الطبيب، وعلى الخصوص أنه تخلى عن المريض بمحض إرادته وتركه يعاني من آلام المرض)(2) .

وتتلخص وقائع هذه القضية في أن مريضا كان يعاني من ألم في ذراعه استدعى طبيبا لعلاجه، فقام الطبيب بفحص المريض، وقرر بناء على نتيجة الفحص ان الألم الذي يعاني منه المريض ليس له مضاعفات، فترك المريض على حالته نفسها، وبعد أن زاد الألم على المريض ذهب إلى طبيب آخر أكد له على إصابته بمرض، وأنه من الضروري بتر ذراعه بعملية جراحية مستعجلة.

وقد جاء القرار يحمل المسؤولية الجنائية للطبيب عن إهماله في تشخيص حالة المريض حيث أدى الأمر إلى بتر ذراع المريض، وهو يعد بمثابة خطأ مهني جسيم.

وبعد فترة من الزمن، اتجه القضاء الفرنسي صراحة إلى إقامة المسؤولية الجنائية للطبيب بناء على الخطأ الطبي، سواء يسيرا أو جسيما، ومن بين القرارات التي تؤكد ذلك، قرار صادر عن محكمة النقض الفرنسية 30 أكتوبر 1963 بخصوص حادثة أخطأ فيها الطبيب في علاج المريض، حيث إنه بذلا من أن يحقن له الدواء داخل الشريان حقنه خارجه، فقررت المحكمة أن مجرد وقوع الخطأ من جانب الطبيب يؤدي إلى قيام مسؤوليته دون الحاجة إلى اشتراط أن يكون هذا الخطأ جسيما او يسيرا (1).

كما اتجه القضاء المصري إلى مساءلة الطبيب عن جميع أخطائه سواء كانت جسيمة أم يسيرة، وفي حكم صادر عن محكمة النقض المصرية لم تفرق بين الخطأ الجسيم والخطأ اليسير بل قضت بأن إباحة العمل الطبي مشروطا بأن تكون مطابقة للقواعد والأصول الطبية الثابتة والمتعارف عليها، فإذا خالف الطبيب في التقيد بتلك القواعد والأصول وجبت عليه المسؤولية الجنائية بحسب تعمده الفعل أو النتيجة أو تقصيره وإهماله في أداء عمله (2).

أما القضاء الإماراتي فقد قضت المحكمة الاتحادية العليا في حكم لها بمسؤولية الطبيب الذي قام بإجراء جراحة في عين المريض رغم عدم توفره على المعدات الطبية الحديثة اللازمة لإجرائها لديه، واعتبرته خطأ يسأل عنه أيا كانت درجة هذا الخطأ، والذي أدى إلى تفويت فرصة الشفاء بما يتحقق معه الضرر الموجب لمسؤوليته (3).

ثانيا : الخطأ المادي والخطأ الفني : يرجع الخطأ المادي إلى الإخلال بقواعد الحيطة والحذر العامة التي يلتزم بها الناس كافة، ومنهم الأطباء والصيادلة باعتبارهم ملزمون بالقواعد العلمية الثابتة والمتعارف عليها في الطب، ومن أمثلة الخطأ المادي إغفال الطبيب تعقيم الأدوات الجراحية قبل البدء في إجراء العملية الجراحية، أو أن يتم نسيان قطعة من قماش أو آلة في بطن المريض، أو أن يجري الطبيب عملية جراحية وهو في حالة سكر، أو امتناع الطبيب عن علاج المريض دون سبب أو يأمر بإخراج المريض من المستشفى رغم أن حالته تستدعي بقاءه للعلاج، أو أن يجري طبيب عملية جراحية دون تخدير المريض، فهذه الأخطاء المادية يسأل عنها الطبيب جنائيا على أساس أنها غير عمدية سواء ترتب عليها القتل أو إصابة خطأ.

أما الخطأ الفني فقد عرفه بعض الفقه بأنه الخطأ الذي يقع من الطبيب أثناء ممارسة مهنة الطب ويتصل اتصالا مباشرا بفنون مهنة الطب وأصولها بحيث يكون لصيقا بصفة الطبيب المزاول لها ويستحيل نسبته إلى غيره (1).

ويتحدد الخطأ الفني بالرجوع إلى القواعد العلمية والفنية التي تتصل بأصول وقواعد المهنية للطب والجراحة، كما يرجع إلى الجهل بالمعارف العلمية والتقنية سواء على مستوى النظري أو التطبيقي.

وفي هذا الإطار تنص المادة 1/26 من قانون مزاولة مهنة الطب الاماراتى على أنه (يجب أن يكون الطبيب مسؤولا في أي من الأحوال الآتية : 1- إذا ارتكب خطأ ترتب عليه الإضرار بالمريض، وكان هذا الخطأ راجعا إلى جهله بأمور فنية يفترض في كل طبيب الإلمام بها سواء من حيث تشخيص أو وصف العلاج المناسب.

.

.

)(2) .

فالمشرع الإماراتي ينص صراحة على أن الطبيب يسأل قانونيا على جهله بالأمور الفنية سواء من حيث تشخيص أو وصف العلاج المناسب حيث يعتبر خطأ طبيا يعرض الطبيب إلى عقوبات جنائية أو مدنية أو تأديبية.

أما بالنسبة للقانون المغربي المنظم لمهنة الطب لم يعرف الخطا الطبي سواء كان ماديا او فنيا ، وانما يتحدث عن الخطأ الشخصي الذي قد يرتكبه الطبيب بمخالفته القواعد القانونية التي ينص عليها القانون الطبي، أو القانون الأساسي لهيئة الأطباء الوطنية بالمغرب، مما يتعرض في حالة إتباثه للعقوبات التأديبية.

بالإضافة إلى ذلك أن الأخطاء الفنية يمكن أن تشمل طريقة وصف العلاج، حيث أن طريقة المتبعة في المغرب، تعتمد على الوصفة الطبية التي تنجز باللغة الفرنسية، وبخط لا يفهمه إلا ذوي الاختصاص مما يكون له تأثير على صحة المريض، حيث أن هناك حالات كثيرة يتم فيها تغيير محتوى الوصفة الطبية او وقوع خطا من قبل الصيدلي في اعطاء الدواء المناسب مما تؤدي إلى نتائج سلبية تجعل المسؤولية متضاربة بين الطبيب والصيدلي، وفي هذا الصدد نقترح أن يتدخل المشرع المغربي بتحديد الشروط الشكلية والموضوعية للوصفة الطبية وان يتم كتابتها بطريقة واضحة ومفهومة او عن طريق استعمال الحاسب الالي، وان يتم تحريرها باللغة الفرنسية والعربية حتى تؤدي و ظيفتها الطبية.

(1) أما على مستوى القضاء المغربي في العديد من الاحكام لا يقيم المسؤولية الجنائية للطبيب على أساس الخطأ الفني، حيث أن ذلك يرجع إلى التقارير الصادرة عن الطبيب الخبير أو الطبيب الشرعي التي لا تتسم بنوع من الموضوعية في وصف حالة أو وقائع التي تعرض لها المريض، سواء كانت تتعلق بالحوادث الطبية، أو التقارير التي تنجز بناء على طلب المحكمة أو من طرف المعنى لإنجاز حجم الضرر الذي تعرض له، خاصة في حوادث الشغل والأمراض المهنية، وحوادث السير، حتى لا يكون التعويض المدني كاملا.

وبالتالي فإن أحكام القضاء الصادرة في الموضوع المسؤولية الجنائية للطبيب حول الأخطاء الطبية تقام على أساس الأخطاء المادية، أما الاخطاء الفنية فإنها تستوجب خبرة طبية لتاكيد او نفى المسؤولية الجنائية للطبيب.

ونعتقد بان الأمر يحتاج إلى وجود نظام قانوني خاص بالخبرة الطبية و كذلك هيئة خاصة بالأطباء الخبراء في المجال الطبي والجراحي، على اعتبار أن تقارير الخبراء لا تعكس حقيقة الوضع الصحي للمريض، نظرا لعدة اعتبارات، منها ضعف التعويضات المادية المخصصة لإنجاز الخبرة بالاضافة الى ذلك، وجود علاقة زمالة بين الطبيب الخبير و الطبيب او الجراح حيث أنهم ينتمون إلى نفس الهيئة ونفس التخصص مما يكون ينعكس بشكل مباشر على المسؤولية الجنائية للطبيب.

أما بالنسبة للقضاء الفرنسي، فانه يبقى المرجع الأساسي في المسؤولية الطبية، حيث أن أحكام القضائية الصادرة في الموضوع، تقيم المسؤولية الجنائية للطبيب عن خطيئة سواء كان ماديا أو فنيا أيا كانت درجته، ويتحقق ذلك من خلال إثباته الخطأ الطبي في حق الطبيب أو الجراح.

كما قضت محكمة استئناف بأبو ظبي بأن (المناط إذن في مسؤولية الطبيب عن خطئه المهني أن يثبت بصفة أكيدة وواضحة أنه خالف في سلوكه عن جهل أو تهاون أصول الفن الثابتة وقواعد الأساسية التي لا مجال فيها للجدل أو الخلاف).

(1) وفي حكم آخر، جاء في حكم صادر عن محكمة الاتحادية العليا بأنه يعد خطأ فنيا مخالفا للأصول الطبية المتعارف عليها في العلاج، لجوء طبيبة للتوليد إلى طريقة اعتبرها الخبراء الطب طريقة خطيرة على المولود ولذلك تم منعها من مزاولة المهنة.

(2) وعلى العموم فإن القضاء المقارن يقيم المسؤولية الجنائية على أساس الخطأ الطبي سواء كان خطأ يسيرا أو جسيما، أو خطأ ماديا أو فنيا، ونعتقد بأن الوقت قد حان بالنسبة للمشرع المغربي لإصدار قانون المسؤولية الطبية من أجل مسايرة التطورات التي تلحق بالطب والجراحة، وأن يتم تحيين النصوص القانونية المنظمة لمهنة الطب من خلال مدونة الصحة العامة المغربية.

What's Your Reaction?

like
0
dislike
0
love
0
funny
0
angry
0
sad
0
wow
0