المؤسسات القضائية المتدخلة في العدالة الجنائية
مجموعة عروض ومواضيع في قانون المسطرة الجنائية للتحضير للمباريات القانونية و دروس في المسطرة الجنائية للنحضير للسداسية السادسة
مقدمة عامة
مما لا شك فيه أن مادة المسطرة الجنائية تحظى بأهمية خاصة، فهي مادة عميقة ودقيقة جدا، تحتاج إلى تركيز شديد وبعد نظر، لها خصوصية تستمدها من قواعدها الإجرائية. ولها راهنية، لكونها تتناول موضوعات لها ارتباط مباشر بالحقوق والحريات.
وقد عرفها شراح القوانين الإجرائية بأنها:" ذلك الفرع من القانون الذي تختص قواعده بتنظيم عملية رد الفعل الاجتماعي ضد الجريمة، فيشمل ترتيبا على ذلك " القواعد" المتعلقة بالبحث في الجرائم والتحقيق فيها ومتابعة مرتكبيها ومحاكمتهم وتنظيم طرق الطعن في الأحكام وكل ما يتعلق بتنفيذ هذه الأخيرة"[1] .
المسطرة الجنائية هي مجموعة من القواعد القانونية، تأخذ شكل إجراءات تعمل بالأساس على تشغيل قواعد التجريم والعقاب، وهي بذلك تؤمن الشق الإجرائي في المادة.
يتضح مما سبق أن مادة المسطرة الجنائية مادة شكلية، لكن المتمعن فيها يتوصل إلى أنها مادة عميقة ودقيقة جدا. تستدعي منطق إجرائي يروم بالأساس معرفة الجهات المتدخلة أو الكيفية التي تشتغل بها، تبتدئ منذ نشوء حق المجتمع في عقاب مرتكب الجريمة لحين صدور حكم عليه وتنفيذ هذا الحكم. والحسم في القضية يقتضي المرور بمجموعة من المراحل، وكل مرحلة لها خصوصية وأهمية في البحث عن الجرائم والكشف عن الحقيقة.
وتستمد المسطرة الجنائية أهميتها من خلال إقامة التوازن الحقيقي والفعال بين حق المجتمع المتمثل في إنزال العقاب على المذنبين من أفراده الذين خرقوا القواعد الجنائية، فارتكبوا بذلك ذنبا يستحقون عنه العقاب، وحق الفرد في ضمان حريته التي لا ينبغي النيل منها إلا بمحاكمة عادلة تتوافر فيها كل الضمانات لإثبات جرمه إن كان مرتكبا له أو إظهار براءته إن كانت متابعته على أساس الخطأ.
وإذا كان هاجس قانون المسطرة الجنائية هو توفير ظروف المحاكمة العادلة وفقا للنمط المتعارف عليه عالميا، واحترام حقوق الأفراد وصون حرياتهممن جهة، فإنه يجعل من مكافحة الجريمة وتوفير الأمن والاستقرار للساكنة هدف ومبتغى. وأناط بأجهزة العدالة الجنائية ــ وعلى رأسها القضاء ــ مهمة صيانة الهدف داخل إطار محدد من الإجراءات التي من شأنها الحد من كل تجاوز في ممارسة السلطة وحماية حقوق الأفراد ووقايتهم من كل تعسف[2].
ومن أجل تحقيق ذلك، لابد أن تكون قواعد المسطرة الجنائية واضحة ولا غموض فيها، ومرتبطة بآجال محددة، خصوصا المقيدة للحرية، مادام أن هذه الإجراءات لها التصاق طبيعي بالحقوق والحريات.
وما يميز هذه المسطرة هو تعدد المتدخلين سواء كانوا من داخل الجهاز القضائي أو خارجه، وهذا يعكس تعدد المراحل التي تقطعها النازلة من أجل الكشف عن الحقيقة والوصول إلى المتهم الحقيقي.
ومن جهة أخرى وحتى يتحقق التوازن المطلوب، بجب أن يتوافر في قانون المسطرة الجنائية من القواعد التي تساهم في تلطيف القساوة التي قد نصادفها في القانون الجنائي الموضوعي، وذلك من خلال اتباع طرق متعددة للتقليل من فرص المساس بحقوق الدفاع وتكريس نظام الاقتناع الوجداني لدى القاضي الزجري، بما يمكنه من فرض اقتناعه الصميم وبدون إلزامه مسبقا بأية وسيلة للإثبات، عملا باستقلال القانون الجنائي عن غيره من القوانين التي قد تتأسس عناصر الجريمة عليها، وجعل سلطة الملاءمة المعترف بها للنيابة العامة من القوة، حتى لا يتم اثقال كاهل القضاء الجنائي بملفات لا فائدة من ورائها لمراجعة القضاء بخصوصها. وهذا يبين بالملموس الضمانات المتاحة للفرد، لإظهار براءته التي تعتبر الأصل، كما هو منصوص عليها في المواثيق الدولية والتشريعات الوطنية. وتجد سندها في المقولة المشهورة " تبرئة مائة مجرم خير من إدانة برئ واحد". وهذا يعكس كون قانون المسطرة الجنائية هو قانون الشرفاء، بينما القانون الجنائي وضع من أجل ترصد المجرمين في المجتمع.
أولا: علاقة قانون المسطرة الجنائية بقانون المسطرة المدنية
ينعت كل من قانون المسطرة الجنائية وقانون المسطرة المدنية بأنهما قانونان شكليان يروم كل واحد منهما تطبيق قانون موضوعي معين، فالأول مهمته الأساسية تطبيق القواعد الزجرية النافذة، وقواعده تمس عن قرب النظام العام، ومن ثم لا يجوز استبعادها من حقل التطبيق على أطراف الدعوى، ولا تلعب الإرادة أي دور، ولا يحق التصرف في الدعوى العمومية، سواء من حيث منع تحريكها أو بوضع حد لها، باستثناء ما يسمح به المشرع في النصوص الإجرائية.
أما قانون المسطرة المدنية فهو آلية لتطبيق قواعد القانون المدني بمفهومه الواسع، كقانون الالتزامات والعقود، ومدونة الأسرة، والقانون التجاري، والقانون الإداري، أو العقاري... والملاحظ أن أغلب قواعد هذا القانون الشكلي غير متعلقة بالنظام العام، مادام أن الأمر يتعلق بمصلحة خاصة، بإمكان الأطراف أن يراجعا القضاء أو لا يراجعه، بمعنى لكل طرف ينازع طرف آخر في حق من الحقوق التوصل إلى حل نهائي عن طريق التراضي دون سلوك مسطرة التقاضي، إلا إذا قرر صاحب الحق مراجعة القضاء.
ومن هنا يتضح جليا خصوصية المسطرة عندما يتعلق الأمر بتنظيم خصومة جنائية، حيث تتطلب مزيدا من الحيطة والحذر، لأن لها التصاق طبيعي بحقوق وحريات الأفراد. وهذا يفرض وضوح صياغة قواعد المسطرة الجنائية، وعدم ترك فراغ تشريعي في النصوص، تجنبا لإساءة استعمال هذه القواعد.
وبخصوص انفتاح المشرع الجنائي على قواعد المسطرة المدنية، في حالة إذا أغفل إيراد إجراءات معينة في قانون المسطرة الجنائية، وذلك من منطلق أن هذا الأخير بشر غير معصوم من الخطأ، فهل يمكنه أن ينفتح على قواعد المسطرة المدنية ؟
انقسم الفقه بهذا الخصوص إلى اتجاهين:
الاتجاه الأول، انطلق من فكرة مفادها بإمكان المشرع الجنائي تبني قواعد المسطرة المدنية، على أساس أنه الأصل العام للإجراءات، لكن مع عدم تعارضه مع نص وارد في قانون المسطرة الجنائية.
الاتجاه الثاني، ينطلق من فكرة مفادها أنه لا يجب الإفراط في استخدام عملية القياس، حتى لا يحل القضاء محل المشرع في إنتاج القاعدة التشريعية. كما أن قواعد المسطرتين تختلفان، من حيث كون قواعد المسطرة الجنائية وضعت لحماية الصالح العام، بينما قواعد المسطرة المدنية وضعت لحماية مصالح خاصة. ومن جهة أخرى دور القاضي مختلف، ففي الحالة الأولى يهتم بالجانب الشخصي للمتهم، بينما في الثانية دوره محايد، يركز على النزاع المدني. كما أنه على مستوى التنفيذ، هناك اختلاف جوهري، فالجزاءات الزجرية تتولاها مؤسسات المجتمع وحدها دون غيرها، بينما في المجال المدني يتولاها الكاسب للدعوى.
ثانيا: ممارسة الدعوى العمومية
إن الدعوى العمومية التي تقام أمام القضاء الزجري ضد مرتكب الجريمة من أجل المطالبة بتوقيع الجزاء عليه تسمى دعوى عمومية، لأنها تثار باسم المجتمع بكامله، ولم يصل الفكر القانوني لهذه النتيجة إلا بعد مروره بعدة مراحل، تطورت فيها الهيكلة السياسية والاجتماعية للمجتمعات، ومرت عبر مرحلة الانتقام، ومرحلة الاتهام الفردي، فالاتهام الشعبي، لتنتهي المجتمعات إلى اعتناق الاتهام العام.
وساد خلال القرون الماضية القريبة نظامان مختلفان للمحاكمة الجنائية، هما النظام الاتهامي والنظام التفتيشي، وكل نظام له مزايا وعيوب، ويصعب تصور مسطرة جنائية وفق نظام اتهامي أو تفتيشي. فماذا نعني بالنظام الاتهامي؟ وما هي مميزاته؟ وماذا نعني بالنظام التفتيشي؟ وما هي مزاياه وعيوبه؟
1: النظام الاتهامي
يرتكز بالأساس على الاتهام كعنصر رئيسي لممارسة الدعوى العمومية، حيث تستدعي قوانين الدولة بأن يتم تحريك الدعاوى الزجرية من طرف متهم (بكسر التاء). ففي حالة عدم تحرك هذا الأخير، فإن المحاكم لا يمكن أن تضع يدها على القضية ولو علمت بها، كما أن تنازل المتهم يضع حدا للمتابعات. ويقوم هذا النظام على ثلاث أركان رئيسية للمحاكمة، هي العلنية والشفوية والحضورية.
ونقصد بالعلنية أن تكون الجلسات عمومية، بحيث يتمكن الجمهور من متابعة المحاكمة ومشاهدة أطرافها ومراقبة سيرها، مما يجعل الجمهور هو المتحكم فيها. لذا فالمحاكمة تتم على مرأى ومسمع الناس.
وهذا النوع من المحاكمة كان يلائم المجتمعات القديمة لبساطته واعتماده على تجمهر السكان في الهواء الطلق، أو في الجلسات والمسارح التي شيدتها روما القديمة، أو أثينا في عهد ازدهار الإغريق. وأحيانا تعقد بعض المحاكمات تحت النخل أو أشجار الغابات في أدغال إفريقيا، أو أشجار الزيتون في جنوب أوربا، فتتحول المحاكمة إلى فرجة على حد تعبير البعض الذي شبهها بوضع القطاع السمعي البصري في حضارتنا المعاصرة. ثم بعد ذلك ظهر نظام آخر هو النظام التفتيشي .
2: النظام التفتيشي
هو نظام تلقائي وعفوي وبسيط، بعض الفقه يعتبره ديموقراطي وشعبي، يستمد تسميته من الشكليات التي تسبق المحاكمة. مما يعطي لمرحلة البحث التمهيدي والتحقيق الإعدادي دورا حاسما في مسار الدعوى العمومية، ومن ثم يكون لهذه الإجراءات وقع أكثر تأثيرا من مرحلة المحاكمة العلنية. إلا أن هذه المرحلة ستعرف ظهور مفاهيم جديدة، من قبيل مفهوم الحق العام، الذي يعتبر حق خالص للمجتمع، تكفله الدولةبمقتضى القانون، حيث تم تعويض المتهم ( بكسر الهاء) بمتهم عام (بكسر الهاء). وبهذا بدأ يتبلور تنظيم جديد، مهمته الأساسية البحث عن الأدلة والحجج.
ويعتمد النظام التفتيشي على الكتابة والسرية، ويتجلى هذا في كل الأعمال التي تقوم بها الشرطة القضائية أو قاضي التحقيق، التي ترسم في شكل محاضر مكتوبة، يقرر لها القانون طابع السرية. كما أن هذا النموذج يعتمد على قضاة محترفين بإمكانهم حل ألغاز الشكليات المعقدة التي تنظم مسطرة التحقيق والمحاكمة.
ما يلاحظ أن هذا النظام له مزايا تتمثل في ترك مسافة بين البحث والتدقيق في كل معطيات القضية وبين الحسم النهائي. وله أيضا عيوب تكمن بالأساس في سرية المسطرة المتبعة أمام الشرطة القضائية وقاضي التحقيق، حيث يمكن أن يواجه بها الشهود، فيستجوبون دون أن يشعرهم القاضي بطبيعة القضية. كما يستنطق المتهم دون إشعاره بالتهم المنسوبة إليه.
وعلاوة على ذلك، تكون المسطرة كتابية غير حضورية، غير تواجهية، وهذه قواعد خطيرة من شأنها المساس بضمانات المحاكمة العادلة.
ولذلك فإن النظام الجنائي المغربي، يعتمد النظام التفتيشي خلال مرحلة البحث التمهيدي والتحقيق الإعدادي، ويأخذ بالنظام الاتهامي في مرحلة الحسم النهائي.
ثالثا: مبدأ الشرعية الجنائية
مبدأ الشرعية يفيد ضرورة تواجد قواعد مكتوبة منصوص عليها في القانون وتكون صادرة من جهة لها الولاية في إصدارها تلتزم المحاكم الزجرية باتباعها على سبيل الوجوب وتطبيقها ــ دون غيرها من القواعد غير المكتوبة ــ على الخصومة الجنائية منذ ارتكاب الجريمة لحين الفصل النهائي بشأنها[3] .
وقد حظي هذا المبدأ بأهمية خاصة داخل المنظومة الجنائية، وتكمن هذه القاعدة على مستوى القواعد الموضوعية، حيث يسود مبدأ " لا جريمة ولا عقوبة إلا بمقتضى نص في القانون"، ومضمونه أن النص المكنوب هو وحدده مصدر التجريم والجزاء.
أما على المستوى الإجرائي " لا اعتقال ولا متابعة ولا إدانة إلا بنص". وهذا يفيد أن المادة الجنائية تحتكم إلى القاعدة القانونية. بمعنى كل الإجراءات المنصوص عليها في قانون المسطرة الجنائية مؤطرة بقانون. وكل الإجراءات تجد سندها في النص التشريعي المكتوب، سواء من حيث تقريرها (الحراسة النظرية، الاعتقال الاحتياطي، المراقبة القضائية....) أو تحديد الشروط المتطلبة لإنجازها صحيحة، تحديد مدة الحراسة، وقت تفتيش المنازل ...) والتي ينبغي التأكد من تحققها، وإلا كان الجزاء هو انعدام الإجراء المتخذ، ومن دون إغفال إثارة المساءلة الجنائية إن هي تحققت شروطها في حق متخذ الإجراء. لكن السؤال المطروح هل يتم تبني التفسير الموسع أم الضيق للنصوص الجنائية؟
فعلى مستوى قواعد الموضوع، يتم الأخذ بالتفسير الضيق للنصوص القانونية، وذلك من منطلق أن القاضي الجنائي ملزم بالتمسك بالتفسير الضيق، من خلال البحث عن إرادة المشرع، أو ما ينطق به روح النص.
أما على مستوى قواعد الشكل، نجد أن هناك مرونة في تفسير النصوص الإجرائية، مادام أن الأمر يتعلق بحسن سير العدالة الجنائية. ومادام أن الأمر يتعلق بكون قواعد المسطرة الجنائية في غالبيتها ضمانات. الفقه يتبنى التفسير الموسع في الشق الإجرائي، لما له من أهمية في توفير ضمانات المحاكمة العادلة.
إلا أن هذا التفسير الموسع لا يجب أن يمس بحقوق الفرد أو الدفاع، أو حسن سير العدالة الجنائية.
رابعا: تطبيق قانون المسطرة الجنائية في الزمان
تكرس في فقه الإجراءات والقضاء مبدأ مفاده بأن قواعد المسطرة الجنائية تسري ــ وباعتبارها قانونا شكليا ــ منذ دخولها حيز التطبيق على جميع الوقائع الجنائية التي لم يفصل بشأنها بحكم وبغض النظر عن تاريخ حصولها، وتعليل خلع هذا الأثر الفوري على قواعد المسطرة الجنائية فيبرر في كون المتهم إذا كان يحق له المطالبة بمحاكمة عادلة تضمن له حق الدفاع عن نفسه إن كان بريئا، فإنه ليس من حقه أن يرسم الطريقة التي ينبغي على المجتمع سلوكها من أجل تحصيل ذلك، لأن المشرع عندما يغير ــ أو يلغي ــ قانونا شكليا بآخر، فإنه قد تكشف له ما فيه من نقص أو عيب ومن ثم فلا ينبغي للمطبق عليه القانون الجديدالنافذ، التشبث بتطبيق قانون قديم ثبت يقينا أنه ناقص أو معيب، خصوصا وأن النصوص المسطرية من أوصافها أنها لا تحدث جزاء على فعل كان مباحا ولا تشدده إن هو كان هذا الجزاء موجودا[4].
القضاء المغربي يأخذ بتطبيق النصوص الجنائية الشكلية بأثر فوري وبكيفية مطلقة، وذلك من منطلق أن مبدأ عدم رجعية النصوص الجنائية الواقع التنصيص عليه في الفصل 4 من القانون الجنائي يقتصر التطبيق على النصوص الجنائية الموضوعية العائدة على الخصوص للضوابط المحددة لاحتكار الدولة المطلق للحق في العقاب، ولا يمتد تطبيقه حتى لقواعد الشكل التي لم توضع أساسا إلا لحسن سير العدالة الجنائية.
وقد أجمع غالبية الفقه على استبعاد الأثر الفوري للنصوص المسطرية المضرة بكيفية واضحة بمركز المتهم، وتحبيذ تطبيق النصوص التي كانت نافذة وقت ارتكاب الجريمة باعتبارها أصلح له، وهو ما يخالفه فيه القضاء الذي ثبت على تطبيق قواعد الشكل أو المسطرة بأثر فوري مانعا بذلك إمكانية من الأصلح منها عن طريق تطبيقها بأثر رجعي.
المؤسسات القضائية المتدخلة في العدالة الجنائية
إن الحديث عن المؤسسات القضائية يستدعي دراستها من حيث البينة والوظيفة المنوطة بها، لكن الأمر لا يرتبط فقط بالمؤسسات القضائية، بل هناك مؤسسات من خارجها لها أهميتها ودورها في تعزيز المحاكمة العادلة. لذا يمكن القول المؤسسات المتدخلة في العدالة الجنائية، لتشمل الشرطة القضائية. وهذا يعكس تعدد المؤسسات المتدخلة، وتعدد المراحل التي تقطعها القضية، وكل مرحلة لها خصوصية تميزها.
بالرجوع لقانون 2002 نجده عرف انفتاحا على بعض المؤسسات الجديدة، لها أهميتها ووزنها في استشراف مستقبل واعد للعدالة الجنائية. ومن بين هذه المؤسسات مؤسسة قاضي تطبيق العقوبة، وهي تجربة جديدة، تطرح مشكل على مستوى التسمية، فهل الأمر يتعلق بقاضي تطبيق العقوبة أو قاضي تنفيذ العقوبة؟
الفقه المقارن ينعته بقاضي تطبيق العقوبة.
المحور الأول: مؤسسة قاضي تطبيق العقوبة
كما مر معنا مؤسسة جديدة أحدثها قانون 2002 ، يتدخل بعد الإدانة، وهي مرحلة كانت متروكة للجهاز الإداري. لكن المشرع المغربي يعترف للسلطة القضائية بالتدخل عى مستوى هذه المرحلة. فما هي مسطرة تعيينه؟ وما الصلاحيات المخولة له؟
أولا: مسطرة التعيين
بالرجوع للمادة 596 من قانون المسطرة الجنائية نجدها تنص على أن:" يعين قاض أو أكثر من قضاة المحكمة الابتدائية للقيام بمهام قاضي تطبيق العقوبات.
يعين هؤلاء القضاة بقرار لوزير العدل لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد، ويعفون من مهامهم بنفس الكيفية .
إذا حدث مانع لقاضي تطبيق العقوبات حال دون قيامه بمهامه، يعين رئيس المحكمة قاضيا للنيابة عنه مؤقتا....".
ثانيا: المهام الموكولة لقاضي تطبيق العقوبة
يضطلع قاضي تطبيق العقوبة بدور محوري على مستوى تنفيذ العقوبة السالبة للحرية، فلم تعد الوظيفة القضائية تنتهي بمجرد النطق بالأحكام، بل تمتد لتشمل مرحلة تنفيذ العقوبة. لكن هذه التجربة تبقى جديدة تحتاج إلى تركيز وتعميق النظر، من أجل الوقوف على مدى نجاح هذه التجربة خصوصا أنه مر عليها أكثر من 17 سنة. وهي مهام حيوية وأساسية، تعطي لهذا القاضي صلاحيات مهمة، تمكنه من تطوير العدالة الجنائية. لذا لا ينبغي أن تترك تنفيذ العقوبة السالبة للحرية للإدارة وحدها، بل يجب إشراك القضاء في ذلك. ومن بين المهام التي يضطلع بها قاضي تطبيق العقوبة نجد:
ــ يقوم بزيارة المؤسسات السجنية الموجودة في الدائرة التابعة لنفوذه مرة على الأقل كل شهر. ويوجد مقره بالمحكمة الابتدائية. ويقوم بهذه الزيارة أيضا كل من مؤسسة النيابة العامة ورئيس الغرفة الجنحية. وهذا إن دل على شىء إنما يدل على مدى أهمية مرحلة ما بعد النطق بالحكم. فلم يعد الهدف من العقوبة السالبة للحرية هو الردع، بل محاولة إدماج السجناء في أحضان المجتمع.
لكن ما يلاحظ أن المشرع في المادة 616 من قانون المسطرة الجنائية استعمل مفهوم تفقد السجناء، وهذا لا يعني زيارة المؤسسات السجنية. لذا كان بالأحرى أن يستعمل المشرع مفاهيم مضبوطة ودقيقة، مادام أن الأمر يتعلق بإجراءات يجب إحاطتها بأكبر الضمانات.
ــ يتتبع قاضي تطبيق العقوبة مدى تطبيق القانون المتعلق بالمؤسسات السجنية، وهذا يشكل بحد ذاته إنجاز مهم من شأنه أن يساهم في تطوير العدالة الجنائية. إلا أن تحقيق ذلك، يستدعي الحسم فيما هو الدور المعترف به لهذا القاضي، وما هو الدور الذي يبقى للإدارة، حتى يتحقق الانسجام والتكامل بين العمل القضائي والعمل الإداري.
يستشف من كل هذا، أن الكل أصبح مقتنع أن العمل القضائي لا ينتهي بمجرد النطق بالأحكام، بل يذهب أبعد من ذلك. وهذا يؤكد بالملموس مدى سمو العدالة الجنائية. بمعنى أن العمل القضائي أصبح منصبا بالأساس على ترسيخ مفهوم إعادة الإدماج.
وتتبع كيفية تطبيق العقوبة السالبة للحرية، يرتكز بالأساس على تتبع مدى قانونية الاعتقال، وسلامة إجراءات التأديب. كما يضطلع على سجلات الاعتقال.وهذا يفيد بوضوح أن هذه المؤسسة التي كانت مغلقة في وقت من الأوقات، أصبحت في وقتنا منفتحة على الجهاز القضائي. حيث أصبح قاضي تطبيق العقوبة يمسك وثائق حيوية ومهمة، من خلال الاضطلاع على سجلات الاعتقال، الذي يتضمن بيانات أساسية، بل أكثر من ذلك يعد تقريرا عن كل زيارة، يضمن به ملاحظاته، ويوجهه إلى وزير العدل، وكذلك توجه نسخة إلى النيابة العامة.
أضف إلى هذا مكن المشرع قاضي تطبيق العقوبة بمسك بطائق خاصة بالسجناء، يتتبع وضعيتهم، وتتضمن هذه البطائق، بيانات حول هوية المتهم، ورقم الاعتقال والمقررات القضائية التأديبية الصادرة بشأن هؤلاء السجناء الممسوكة بطاقتهم من طرف قاضي تطبيق العقوبات، ويدلي بملاحظاته بخصوص الإجراءات التي يقوم بها. كما يقدم مقترحات بخصوص مؤسستي العفو والإفراج المقيد بشروط. وجاء في المادة 622 من قانون المسطرة الجنائية أنه:"
يمكن للمحكوم عليهم بعقوبة سالبة للحرية من أجل جناية أو جنحة الذين برهنوا بما فيه الكفاية على تحسن سلوكهم، أن يستفيدوا من الافراج المقيد بشروط إذا كانوا من بين:
المحكوم عليهم من أجل جنحة الذين قضوا حبسا فعليايعادل على الأقل نصف العقوبة المحكوم بها...."
يستفاد من الفصل المشار إليه أعلاه، أن هناك شرطين للاستفادة من الافراج المقيد بشروط، أولا ضرورة مرور المدة على العقوبة السالبة للحرية، ثانيا تحسن سلوك السجين. وهنا أتساءل من هي الجهة التي لها إمكانية التعرف على هذا الشرط؟ باعتقادي أن قاضي تطبيق العقوبة له دور حيوي غي معرفة مدى تحسن سلوك السجين، وذلك من خلال الوثائق المهمة التي يمسكها، عندما يقوم بزيارة المؤسسات السجنية.
ومن هذا المنطلق، فقاضي تطبيق العقوبة يتقدم باقتراحات الافراج المقيد بشروط، طبقا لما هو منصوص عليه في المادة 625 من قانون المسطرة الجنائية.
وعلاوة على ذلك، ودائما في إطار مراقبة المؤسسات السجنية، هناك لجنة مهمة يرأسها السيد الوالي أو العامل، تضطلع بأدوار أساسية، وتتكفل بمسائل مهمة تنصب بالأساس على:
الوقاية من الأمراض، ونظام التغذية، وتقديم وسائل الصحة والأمن داخل المؤسسات السجنية، وإعادة التربية وإعادة الادماج. وهنا أيضا يقوم قاضي تطبيق العقوبة بدور محوري وفعال، حيث يقدم مساعدات لهذه اللجنة.
وخلاصة القول فقاضي تطبيق العقوبة مؤسسة فاعلة ووازنة داخل منظومة العدالة الجنائية، تساهم بشكل أساسي في تفعيل مفهوم إعادة الإدماج وإعادة التربية. إلا أنها لازالت بحاجة إلى تطوير وتحسين، حتى تتمكن من أداء دورها على الوجه الأكمل.
المحور الثاني: المؤسسات القضائية المتدخلة في العدالة الجنائية
إن الحديث عن المؤسسات القضائية المتدخلة في العدالة الجنائية يستدعي استحضار كل من مؤسسة النيابة العامة وقضاء أو هيئات التحقيق وقضاء أو هيئات الحكم. وكل مؤسسة من هذه المؤسسات لها أهميتها وراهنيتها داخل منظومة العدالة الجنائية. إلا أن هناك مبدأ مهم داخل العدالة الجنائية، ويعتبر من صميم المحاكمة العادلة، المتمثل في مبدأ الفصل بين الوظائف القضائية. ثم بعد ذلك أنتقل للحديث عن ضمانات المحاكمة العادلة.
أولا: مبدأ الفصل بين الوظائف القضائية
يشكل هذا المبدأ دعامة أساسية، وضمانة من ضمانات المحاكمة العادلة، مفاده توزيع أدوار ووظائف، فالنيابة العامة تتكفل بدور المتابعة، قضاء أو هيئات التحقيق تقوم بالتحقيق في القضايا المحالة عليها، وتنعت هذه المرحلة بالتحقيق الإعدادي. ثم مرحلة المحاكمة، وتنعت بالحسم النهائي. وكل مرحلة لها أهميتها ووزنها، ولا يمكن إعطاء أهمية لمرحلة على حساب المرحلة الأخرى، بل كل هذا المسار الإجرائي له أهميته.
1 ــ وظيفة المتابعة
تتولاها مؤسسة النيابة العامة، التي تمثل المجتمع أمام المحاكم الزجرية، وتختص أساسا بإقامة الدعوى العمومية ومباشرة سيرها حتى نهايتها. وهذا ما نصت عليه المادة 36 من قانون المسطرة الجنائية :" تتولى النيابة العامة إقامة وممارسة الدعوى العمومية ومراقبتها وتطالب بتطبيق القانون، ولها أثناء ممارسة مهامها الحق في تسخير القوة العمومية مباشرة". والنيابة العامة هي ممثل للمجتمع، ولا تمثل الدولة، بل تجسد مفهوم الحق العام. وتعتبر طرف رئيسي في الدعوى العمومية، تنعت بالقضاء الواقف في الفقه الجنائي، لأن ممثلها يقف لزوما حين يأخذ الكلمة أمام المحكمة لبسط مطالب الإدعاء الشفوي أو لمناقشة أوجه إسناد التهمة إلى المتهم. كما تنعت بالطرف الشريف في الدعوى العمومية، لأنه ولو جرت العادة على التماسها دائما لسبل إدانة المتهم سعيا منها في الدفاع عن المجتمع من كيد المجرمين والأشرار، فإنها مع ذلك إذا تنبهت إلى أن تلتمس الإدانة أصبح يتعارض مع العدالة بسبب غلبة أدلة البراءة في جانب المتهم، تحولت النيابة العامة عن ملتمساتها السابقة ــ حتى لو كانت مخطوطة كتابة ــ ودافعت بحرارة عن الأصل الذي هو البراءة[5]. وهذا يعني أن النيابة العامة تمارس سلطتها ضد المقدم للعدالة، مادام أن لها سلطة الاتهام والاعتقال، لكنها تشتغل في إطار الحقوق والحريات، فعندما ترى أن لا وجه لإنزال العقاب على من هو مقدم للعدالة، ترى النيابة العامة تسند النظر للمحكمة.
وبمجرد ما يضع قضاء الحكم يده على النازلة، تنتصب النيابة العامة كمدعية، ترافع وتقدم الملتمسات، إن لم يصدر الحكم كما التمست وكما طالبت بذلك، يمكنها أن تتقدم بالطعن شأنها شأن بقية الأطراف.
2 ــ وظيفة التحقيق
مرحلة مهمة وأساسية داخل منظومة العدالة الجنائية، وتأتي أهميتها من طبيعة القضايا المحالة على قاضي التحقيق، خصوصا تلك التي تتطلب تعميق النظر فيها، إما لطبيعتها المعقدة أو للعقوبة المقررة لهذه الجرائم. وهي مرحلة تمكن قاضي الحكم من تأسيس قراره إما بالإدانة أو البراءة.
وتكمن مهمة قاضي التحقيق في تجهيز القضايا، التي تمكن قضاء الحكم من تكوين رأي أو فكرة حول الأفعال، هذه الأفعال تحوز أهمية من الناحية الواقعية، وتطرح العديد من الإشكالات. فعلى مستوى العدالة الجنائية نكون أمام ثلاث حقائق، حقيقة واقعية معروضة على القاضي، ومعقدة، تحتاج إلى تعميق النظر، وحقيقة قانونية موجودة في النصوص القانونية، والقاضي ملزم بها. وعلى ضوء هاتين الحقيقتين يخلص القاضي إلى حقيقة قضائية. أي تلك المقررات التي يتوصل إليها القاضي، قد تكون إما أمرا أو حكما أو قرارا حسب قانون المسطرة الجنائية. ولا يمكن الوصول إلى هذه المرحلة، إلا بعد المرور بالعديد من المراحل تساهم مجتمعة في إنضاج هذه الحقائق.
كما أن هذه الوظيفة تمكن قاضي التحقيق من تكوين فكرة عن المتورطين في ارتكاب الجرائم، حيث تحيل النيابة العامة على قاضي التحقيق مجموعة من الأشخاص متورطين في ارتكاب الجريمة، وليس كل متابع من طرف النيابة العامة متورط في ارتكاب الجريمة. يمكن لقاضي التحقيق أن يسقط التهمة عن بعض الشخاص، إذا تبين له أنهم غير متورطين في ارتكاب الجريمة، ويمكنه في نفس الوقت أن يستمع لبعض الأشخاص ويتبين له أنهم متورطون.
وبالرجوع إلى المادة 83 من قانون المسطرة الجنائية نجدها تنص على أن:" يكون التحقيق إلزاميا:
1 ) في الجنايات المعاقب عليها بالإعدام أو السجن المؤبدأو التي يصل الحد الأقصى للعقوبة المقررة لها ثلاثين سنة،
2 ) في الجنايات المرتكبة من طرف الأحداث،
3 ) في الجنح بنص خاص في القانون،
يكون اختياريا فيماعدا دلك من الجنايات وفي الجنح المرتكبة من طرف الأحداث، وفي الجنح التي يكون الحد الأقصى للعقوبة المقررة لها خمس سنواتأو أكثر".
يتضح من المادة المشار إليها أعلاه، أن التحقيق قد يكون إلزاميا أو اختياريا، فالأول لا تملك النيابة العامة إلا أن تلتمس التحقيق من قاضي التحقيق، والأمر يتعلق بالجنايات المرتكبة من طرف الأحداث (أقل من 18 )، وكذا الجنايات المرتكبة من طرف الرشداء عندما تكون معاقبة بالإعدام أو السجن المؤبد، وأضاف القانون الجديد الجنايات المعاقبة بثلاثين سنة كحد أقصى. وأيضا الجنح التي استلزم فيها المشرع التحقيق. فالأمر يتعلق هنا باختيار تشريعي، بمنعى أن النيابة العامة ملزمة بالتماس التحقيق فيها. ما دون ذلك من الجنايات المرتكبة من طرف الرشداء يمكن للنيابة العامة أن تلتمس أو لا تلتمس التحقيق.
3 ــ وظيفة الحكم
وتسمى أيضا وظيفة الحسم النهائي، لها أهميتها ووزنها داخل منظومة العدالة الجنائية، حملها الفقه بالعديد من الضمانات، وتأتي إما بعد التحقيق في بعض القضايا، كما أنها قد تأتي بعد متابعة النيابة العامة، عندما تقرر المتابعة، وتحيل على قضاء الحكم وفق مسطرة معينة وإجراءات محددة، قد تستغرق القضية مجموعة من الجلسات، وكل هذا مؤطر بواسطة القانون، تطبيقا لمبدأ الشرعية الجنائية.
وجدير بالذكر أن النيابة العامة تقع عليها التزمات قبل الإحالة على قضاء الحكم، لا بد أن تتأكد من سلامة وضع يدها على النازلة، من خلال التأكد من أن القضية غير متقادمة، بمعنى احترام أجل التقادم، وأيضا لا بد من التأكد من القضية لم يشملها العفو، ثم لا بد من التأكد من أن النزاع ليس له طبيعة مدنية، ولا يمكن للنيابة العامة أن تحيل القضايا ذات الطبيعة المدنية على المحكمة الزجرية.
بعدما تطرقنا لوظائف المؤسسات القضائية المتدخلة في العدالة الجنائية، سنحاول الحديث عن المبدأ المشار إليه سابقا، والمتعلق بالفصل بين الوظائف القضائية، الذي يعتبر من صميم العدالة الجنائية. ويطرح أكثر من تساؤل، كيف تشتغل هذه الوظائف؟ وكيف يعمل هؤلاء المتدخلون وهم كلهم قضاة؟ صحيح أنهم يعملون من أجل كشف الحقيقة، وفي إطار مبدأ الشرعية.
ما يلاحظ هو تعدد المراحل، وتعدد الفاعلين، إلا أنهم يشتغلون في إطار وحدة ومنظومة، مادام أن الهدف والرهان واحد، هو تحقيق العدالة الجنائية، المتمثل بالأساس في كشف الحقيقة. وهذا يستدعي ضرورة مرحلة البحث، ولا بد من اتخاذ قرار المتابعة، ولا بد في بعض القضايا المعقدة أن يتدخل قضاء التحقيق، ثم تأتي مرحلة الحسم النهائي. وهذا يبرز بوضوح أهمية كشف الحقيقة في المادة الجنائية، حيث يقيم لها المشرع وزنا كبيرا.
ومن هذا المنطلق فمبدأ الفصل بين الوظائف القضائية هو من صميم مفهوم المحاكمة العادلة، إذ لا بد أن تسند وظيفة المتابعة لمؤسسة قضائية، ولا بد أن تسند وظيفة التحقيق لمؤسسة قضائية مغايرة، ولا بد أن تسند وظيفة الحسم النهائي لمؤسسة قضائية أخرى. وهذا يبين بجلاء أن المسار الإجرائي طويل، شغله الشاغل هو كشف الحقيقة، وإنزال العقاب على المذنب الحقيقي.
ثانيا: ضمانات المحاكمة العادلة
إن الحديث عن ضمانات المحاكمة العادلة، يستدعي تحديد مفهوم المحاكمة العادلة، ويقصد بها كل هذه الإجراءات المنصوص عليها في قانون المسطرة الجنائية، أو بعبارة أخرى كل المسار الإجرائي الذي تقطعه النازلة محمل بهذا المفهوم. فكل إجراء يحوز أهميته داخل هذا المسار، وكل تقليل من أهمية إجراء ما، إلا ويؤثر على النتيجة.
ومن بين الضمانات التي يمكنها تعزيز مفهوم المحاكمة العادلة نجد مبدأ الفصل بين الوظائف القضائية من جهة، وكذا السمات والخصائص المميزة لجلسة المحاكمة أو التحقيق النهائي.
ففي العدالة الجنائية يستدعي الأمر تشغيل مبدأ الفصل بين الوظائف القضائية، وذلك من خلال توزيع الأدوار والمهام، فكل مؤسسة تتكلف بإجراءات محددة، كما هو منصوص عليها في قانون المسطرة الجنائية، وهناك جانب من الفقه من يعتبر هذا المبدأ من آثار الفصل الدستوري بين السلط، إلا أنه ليس كذلك.
ومن هنا فالعدالة الجنائية تقتضي كشف الحقيقة وإنزال العقاب على المذنب الحقيقي، تقتضي أيضا تحديد اختصاصات المؤسسات القضائية، فكل مؤسسة تتكلف بإجراءات محددة، لكن في إطار نوع من التكامل والانسجام، مادام أن الهدف واحد. إلا أن الإشكال يطرح على مستوى العلاقات بين هؤلاء الفاعلين، خصوصا على مستوى القيام ببعض الإجراءات، من قبيل أن هذا الإجراء هل ينبغي أن نعترف به لضابط الشرطة القضائية أم قاضي التحقيق أو ممثل النيابة العامة؟
فقضاء الحكم مستقل عن النيابة العامة، وهذا الأخير هو الذي يمكن قضاء الحكم من وضع يده على النازلة، عندما يختار طريق المتابعة، فإذا اختار مثلا طريق الحفظ، يغل يد قضاء الحكم، ولا يسمح له بالتدخل. وبمجرد اطلاق الدعوى العمومية، تصبح النيابة العامة طرف مدعي، ترافع وتحضر كل الجلسات تحت طائلة بطلان تشكيل الهيئة، وهذا يعني أنه من اللازم أن تكون ممثلة إلى جانب قضاء الحكم. لذا يصعب أن نرى فيها طرفا محايدا، لأنها صاحبة الحق في الاتهام، وبالتالي يصعب أن نرى فيها صفة قاضي الحكم.
إلا أنه احتراما لمبدأ الفصل بين الوظائف القضائية، حيث لا يمكن للقاضي الجنائي أن يضع يده على النازلة، إلا بعد أن تمكنه النيابة العامة من ذلك، بعد أن تختار طريق المتابعة. لكن يتم الخروج عنه، عندما يتعلق الأمر بجرائم الجلسة، حيث يصبح بإمكان قضاء الحكم توجيه الاتهام، فمثلا يمكن في الجلسة أن تقع جرائم إما في شكل مخالفة أو جنحة أو جناية.وقد تعرض لها المشرع في المواد من 359 إلى 361 من قانون المسطرة الجنائية. ويقصد بها الجرائم التي تحدث أثناء سير الجلسات.
المشرع المغربي قبل 2002 وضع نظام واحد لجرائم الجلسة كجناية وجنحة، وكان يفرز المخالفة. بينما في ظل قانون 03 أكتوبر 2002 الدي دخل حيز التنفيذ في فاتح أكتوبر 2003 وضع نظاما خاصا بالجنحة والمخالفة، وأفرز الجناية.
ففي المخالفة يأمر الرئيس بتحرير محضر بالوقائع، يستنطق المتهم، يستمع للشهود، فتطبق الهيئة القضائية العقوبات كما اقتنعت بها وكما ينص عليها المشرع.
وإذا تعلق الأمر بجنحة أو جناية، تأمر الهيئة القضائية بتحرير محضر بالوقائع، وتحيل فورا مرتكب الجناية أو الجنحة على النيابة العامة بواسطة القوة العمومية المختصة.
أما بخصوص طبيعة العلاقة بين قضاء التحقيق وقضاء الحكم، فقاضي التحقيق من قضاة الحكم، يعينه وزير العدل لشغل مهمة التحقيق، مما يطرح اشكالية استقلالية قضاء التحقيق.لكن بالرجوع للمادة 52 من قانون المسطرة الجنائية نجدها تنص على أن:" يعين القضاة المكلفون بالتحقيق في المحاكم الابتدائية من بين قضاة الحكم فيها لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد بقرار لوزير العدل. بناء على اقتراح من رئيس المحكمة الابتدائية...
يمكن خلال هذه المدة اعفاؤهم وفق ما هو منصوص عليه في القسم الثالث بعده.
لا يمكن لقضاة التحقيق، تحت طائلة البطلان، أن يشاركوا في إصدار حكم في القضايا الزجرية التي سبق أن أحيلت إليهم بصفتهم قضاة مكلفين بالتحقيق".
يتضح من الفقرة الأخيرة من المادة المشار إليها أعلاه، أن قاضي التحقيق إذا تدخل في قضية وكون رأيا في الاتهام، لا يمكنه التدخل كقاضي الحكم في نفس القضية، ويمكنه أن يتدخل في قضايا أخرى، حتى لا يؤثر في القرار الذي سيتخذه قاضي الحكم. وهذا يجسد بالواضح مبدأ الفصل بين الوظائف القضائية الذي يعتبر من صميم المحاكمة العادلة.
ثانيا: السمات والخصائص المميزة لجلسة المحاكمة
تحظى هذه المرحلة بأهمية خاصة داخل منظومة العدالة الجنائية، وقد حملها الفقه بالعديد من الضمانات. والأمر يتعلق بنظام الجلسة، وكيف هي الإجراءات على مستوى الجلسة، وقد تكون هناك جلسات. وتطرح على هذا المستوى مجموعة من التساؤلات، من بينها: كيف يحضر الأطراف؟ وكيف يتمكن الأطراف من الحضور؟ وهل يتم احترام مبدأ التواجهية؟ وكذلك كيف يستنطق المتهم؟ وكيف يتم الاستماع إلى الشهود والخبراء؟ وكيف تتم الترجمة؟ وما هو النظام الذي يتعين على القاضي الجنائي أن يحترمه؟ ولماذا المتهم هو آخر من يتكلم؟
كما مر معنا النيابة العامة هي التي تحرك الدعوى العمومية، وتنتصب كطرف مدعي ترافع، بينما الضحية ينتصب كطرف مدني، يدافع عن حقوقه المدنية، أو بواسطة محاميه، حقوق الدفاع مكفولة. لكن السؤال المطروح ما نصيب الضحية إن لم ينتصب كمطالب بالحق المدني؟ إن لم يختر أن يرفع دعواه المدنية أمام القضاء الجنائي؟ والمشرع أعطى الضحية إمكانية أن يلتمس مطالبه المدنية أمام القضاء الجنائي؟
مرحلة التحقيق لها خصوصية، تعتبر مرحلة تجهيز القضية، غير حضورية، لا تحترم مبدأ الحضورية سرية، وأيضا كتابية. وهناك من ينعت هذه المرحلة بمرحلة التحقيق الإعدادي، تمييزا لها عن مرحلة التحقيق النهائي أي مرحلة الحسم النهائي. ما يلاحظ أن هذه المرحلة تحتكم إلى النظام التفتيشي، بينما في جلسات التحقيق النهائي يهيمن عليها النظام الاتهامي من حضورية وعلنية وشفوية.
فالحضورية تعني أن تعطى لكل الأطراف حق المشاركة في الإجراءات، بمعنى أن تكون المشاركة مضمونة. حق الحضور، وحق الإعلام بالقضية وبطبيعتها، بخلاف ما هو عليه الأمر في النظام التفتيشي يقع استنطاق المتهم دون أن يشعر بالمنسوب إليه، يقع الاستماع إلى الشهود من دون إخبارهم المسبق بطبيعة القضية. وهذا فيه مساس بضمانات المحاكمة العادلة.
ولهذا فالحضورية تعني التواجهية، أي ضمان حق التواجهية للأطراف، ولا تعني الحضور المادي، بل أن يضمن لهم المشرع التواجهية. ويعتبر هذا المبدأ من ضمانات المحاكمة العادلة، وتنظمها الفصول من 208 إلى 324 من قانون المسطرة الجنائية، بشأن استدعاء وحضور المتهمين، وكذلك بالنسبة لحضور باقي المتدخلين من شهود وخبراء، وضحايا عندما يختاروا طريق المطالبة المدنية.
ومن جهة أخرى نجد الشفوية، التي تعتبر من سمات النظام الاتهامي، وهي خاصية فعالة وحيوية لمناقشة الحجج والأدلة، من خلال عرضها في الجلسة. وتنصب بالأساس على وسائل الإثبات، من أجل نفيها أو إثباتها. وفي هذا الصدد يلعب القاضي الجنائي دورا ايجابيا في العملية الإثباتية. ومن تطبيقات الشفوية، ضرورة أن يؤدي الشاهد شهادته شفويا، ويمنع أن يقرأ شهادته، إلا إذا مكنه الرئيس بصفة استثنائية، طبقا للمادة 377 من قانون المسطرة الجنائية.ويمكن القول أن الرئيس يملك سلطة في تسيير الجلسة، فالسؤال إما أن يكون من رئيس الجلسة أو يأذن بطرحه.
وهناك أيضا ضمانة أخرى لا تقل أهمية عن الضمانات السابقة، الأمر يتعلق بالعلنية، وهي من أهم ضمانات المحاكمة العادلة، وتضطلع بدور مزدوج، تمكن المتهم من الدفاع عن نفسه، فرصته من أجل إقناع القاضي كونه غير متورط في ارتكاب الجريمة، أو أن له دور ثانوي. وتعني أن العدالة الجنائية على مرأى ومسمع من الجميع.
لكن يمكن الاستغناء عن العلنية، حيث أن المشرع في المادة 301 و302 من قانون المسطرة الجنائية يدخل بعض الاستثناءات على العلنية، فالرئيس يمنع بعض الأحداث من حضورهم للجلسة، لأن حضورهم غير مناسب، أو أن الهيئة تقرر السرية، لأن القضية لها مساس بالأخلاق أو بالنظام العام.
[1]ــ عبد الواحد العلمي، شرح في القانون الجديد المتعلق بالمسطرة الجنائية، الجزء الأول، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، السنة 2018 ، ص: 7 .
[2]ــ دليل وزارة العدل، الجزء الأول.
[3]ــ عبد الواحد العلمي، مرجع سابق، ص: 66 .
[4]ــ عبد الواحد العلمي، مرجع سابق، ص: 18 .
[5]ــ عبد الواحد العلمي، مرجع سابق، ص: 87 .