بحث بعنوان التفريد القضائي للعقوبة بين الضوابط القانونية والتطبيقات القضائية

إن ظاهرة الجريمة في المجتمعات البشرية ليست ظاهرة جديدة ولا حدثا طارنا . إنها نشأت مع الإنسان وتطورت تطورا موضوعيا باختلاف العصور والثقافات والمكونات . وكانت غاية المجتمع دائما في البحث وإيجاد السبل الكفيلة بالحماية منها أو المنع من

بحث بعنوان التفريد القضائي للعقوبة بين الضوابط القانونية والتطبيقات القضائية

رابط التحميل اسفل التقديم

_______________________

مقدمة :

إن ظاهرة الجريمة في المجتمعات البشرية ليست ظاهرة جديدة ولا حدثا طارنا . إنها نشأت مع الإنسان وتطورت تطورا موضوعيا باختلاف العصور والثقافات والمكونات . وكانت غاية المجتمع دائما في البحث وإيجاد السبل الكفيلة بالحماية منها أو المنع من

وقوعها، من خلال العناية " بالمجرم " باعتباره الهدف المنشود إصلاحه فإذا كان علم الإجرام Criminologie یعنى بدراسة المجرم بعد ارتكاب الفعل بغاية الوصول إلى الوسائل الكفيلة لإعادة إدماجه في المجتمع ، فإن علم العقاب Phénologie يعنى بالعقوبة الجنائية بغاية تقرير ما يصلح منها لإعادة إدماجه أيضا في المجتمع ، فهو يعنى بالوسائل الزجرية والتدابير الوقائية من الجريمة في نفس الوقت .. فقد كان طبيعيا أن تتطور فكرة العقاب كما تطورت ظاهرة الجريمة ، إذ لم يعد للعقوبة ذلك المفهوم الضيق المبني على فكرة الانتقام من الفاعل عن طريق إيلامه جسديا ، بل أصبحت ذات مدلول اصطلاحي يهدف المجتمع منها إلى إصلاح الجاني وتأهيله بغية إعادة إدماجه داخل المجتمع .

فالعقوبة إذن مقررة لمصلحة المجتمع، والمجتمع وحده هو صاحب الحق والصفة في المطالبة بتوقيعها عن طريق الأجهزة التي تمثله في ذلك، وفق الأوضاع والشروط التي يحددها القانون.

والدولة لا تستطيع أن تلجأ إلى التنفيذ المباشر للعقوبة إذ لا بد من الالتجاء إلى القضاء ليؤكد لها حقها في العقاب ويحدد العقوبة الواجبة التطبيق من حيث الكيف والكم معاة .. فالمشرع المغربي ينص على مبدأ قضائية العقوبة في المادة 2 من قانون المسطرة الجنائية حينما أكد أنه " يترتب عن كل جريمة الحق في إقامة دعوى عمومية لتطبيق العقوبات... " ذلك أن تدخل جهاز القضاء في تطبيق العقوبات يشكل ضمانة للحريات الفردية والجماعية ويبقى دورة أساسيا لا من حيث إثبات الجريمة وفرض العقوبة فحسب ، ولكن أيضا في الاختيار المتعلق بالعقاب المناسب، وهو ما يقتضي من القاضي الجنائي أن يجري تقويما لشخص المجرم نفسانيا واجتماعيا وثقافيا وأن لا يقتصر على مجرد دراسة القضية من وجهة ثبوت الفعل أو عدم ثبوته .

ان المهتمين بالسياسة الجنائية يولون هذه النقطة أهمية بالغة ويركزون على ضرورة قيام القاضي الجنائي بدور تقويم الفاعل من الناحية النفسانية والا يقتصر على تقويم الفعل من الناحية الإجرامية، إنهم يكادون يعتبرونه من هذه الوجهة طبيبا نفسانيا أكثر منه قاضيا . إلا أن هذا الدور ليس سهلا كما يبدو ، إنه يتطلب من القاضي الجنائي دراسة خاصة وخبرة دقيقة .

ومع ذلك فهو مطالب باستعمال مواهبه لاختيار العقاب أو الإجراء المناسب الذي يرى بمحض تقديره أنه سيحول دون عودة المجرم إلى ارتكاب الجريمة .

فهو من هذه الناحية يختار العلاج الأكثر ملائمة للحيلولة دون ارتكاب الجريمة مرة أخرى من طرف الفاعل عن طريق إيقاع العقاب المناسب عليه، وفي حدود الاختيارات التي يحددها القانون .

ومن ثمة تجد أن القانون يمنح للقاضي السلطة التقديرية في تفريد العقوبة ، فبدون السماح للقاضي بقدر من الحرية لا تقوم للتفريد القضائي قائمة، وهذا هو السبب الذي دفع جل التشريعات إلى الاعتراف للقاضي بسلطة تقديرية ، ثم الاعتراف له بعدة وسائل تشريعية كظروف التخفيف وظروف التشديد بغية تدعيم تلك السلطة وتوسيعها أكثرة .

وفي هذا الإطار يقضي الفصل 141 من القانون الجنائي بأن " للقاضي سلطة تقديرية في تحديد العقوبة وتفريدها، في نطاق الحدين الأدنى والأقصى المقررين في القانون المعاقب على الجريمة ، مراعيا في ذلك خطورة الجريمة المرتكبة من ناحية ، وشخصية المجرم من ناحية أخرى " .

إن مهمة تحديد العقوبة وتفريدها تقتضي من القاضي الجنائي أكثر من تطبيق القاعدة القانونية على الجاني في إطار العقوبة المحددة قانونا للفعل الجرمي المرتكب من قبله ، إذ يبقى مطلوبا منه إضافة إلى التحقق من صدور الفعل ومن توفر عناصر تجريمه وكونه صادرا عن الفاعل نفسه أن يدرس شخصية الفاعل وأن يعرف الظروف التي صاحبت ارتكاب الفعل ، بل عليه أن يغوص أكثر لمعرفة البواعث والدوافع المؤدية له ، حتى يستطيع أن يتخذ القرار المناسب ويقرض العقاب الملائم .

إنه في هذه الحالة يكون أشبه بالطبيب الذي يفحص ذات المريض ليصف له الدواء النافع والعلاج الناجع، فليس عبثا أن يصف الناس القاضي الجنائي بالطبيب الاجتماعي .

لذلك ينبغي التأكيد على أن مهمة القاضي الجنائي في مجال عمله الواسع قد تطورت اليوم من التطبيق المجرد للقانون إلى التطبيق الحي السياسة جنائية واجتماعية واعية ومتطورة تأخذ في مبادئها وأسسها عدة عوامل لا تعود فقط إلى الاعتبارات العقابية الجامدة ولكن تتعمق أكثر في الملابسات والظروف والبواعث مما يسمح له باستعمال وسائل أنجع الإصلاح المجرم وتقويمه .

..........

ولا غرو في أن السبيل إلى إرساء مقومات سياسة عقابية ناجعة وأكثر مرونة ومواكبة للمستجدات يستدعي مكاشفة وضع السياسة العقابية القائمة من خلال رصد مواقع الخلل وتجاوز السلبيات التي تعيق تحقيق أهداف الإصلاح وإعادة الإدماج المنشودة . ومن هذا المنطلق فإن الاهتمام بتفريد العقوبة في علاقته بالتقليل من عدد المعتقلين وتوفير فرص أكثر لإصلاحهم وإعادة إدماجهم يقتضي التطرق للموضوع من خلال زاويتين أساسيتين ، انطلاقا من دراسة وتحليل الآليات القانونية المتاحة للقاضي الجنائي والتي يجد نفسه ملزما بالاعتماد عليها والاشتغال في نطاقها ، ومن ثم الارتكاز على دراسة وتقييم نماذج من الأحكام والقرارات القضائية باعتبارها مؤشرات أساسية تعبر عن مدى انسجام الممارسة القضائية الراهنة مع المتطلبات المشروعة في نهج سياسة عقابية إصلاحية تحد من تفاقم الجريمة . هذه إذن مختلف الإشكالات والتساؤلات الكبرى التي سنحاول الإجابة عنها ضمن هذا

البحث المتواضع قدر الإمكان ، معتمدين في ذلك على أسلوب التحليل والنقد البناء مع التركيز بشكل كبير على الواقع العملي والتطبيقات القضائية لمبدأ تفريد العقاب ، من خلال دراسة وتحليل الأحكام والقرارات القضائية الصادرة مع الاعتماد على الإحصائيات المتوفرة حول نوعية العقوبات المحكوم بها ومقدارها ، بغية التوصل إلى وضع اقتراحات عملية تساهم في إثراء وإغناء ما تحقق من مكتسبات ، بشكل يفضي إلى تحديث الوضع العقابي الراهن وملائمته لأهداف الإصلاح المتوخاة ، والتي تشكل قطب الإصلاح القضائي الذي يعد من أبرز التحديات الملقاة على عائق القضاء باعتباره أداة مؤسساتية مهمتها الأساسية حماية الحقوق والحريات وخدمة المواطن .

خطة البحث :

لقد اقتضت منا طبيعة البحث تناوله ضمن فصل تمهيدي وفصلين أساسيين. إذ تم التطرق خلال الفصل التمهيدي إلى تحديد مفهوم تفريد العقاب بصفة عامة وتبيان أهميته ، وأنواعه بغية إعطاء القارئ فكرة عامة عن مؤسسة تفريد العقاب وموقعها داخل السياسة العقابية .

وخلال الفصل الأول تم التطرق إلى سلطة القاضي الجنائي في تفريد العقوبة وذلك انطلاقا من مناقشة حدود السلطة التقديرية التي يتمتع بها القاضي الجنائي عند تفريده للعقوبة على مستوى اختياره لنوع العقوبة التي سيحكم بها سواء كانت سالبة للحرية أم غرامة مالية أو تدبيرا وقائيا ، أم على مستوى تقديره الكمي لها . كما تم التطرق إلى المعايير والضوابط التي يسترشد بها القاضي الجنائي وهو بصدد ممارسته لسلطته التقديرية في تفريد العقوبة . وذلك مع تطعيم تلك المناقشة بالتطبيقات القضائية الجاري بها العمل داخل العمل القضائي ضمن محاكم التدريب بغية ملامسته لواقع هاته السلطة التي يتمتع بها القاضي وكيفية إعماله لها بخصوص القضايا التي تعرض عليه .. أما في الفصل الثاني من هذا البحث فقد تم التطرق إلى مؤسسة التفريد القضائي للعقوبة

انطلاقا من تحديد الدور الذي تلعبه في مكافحة الجريمة ، عن طريق نهج سياسة عقابية ملائمة للتوجهات العامة التي تحدد من خلال السياسة الجنائية المتبعة داخل الدولة ، مع تبيان الدور الأساسي الذي يضطلع به القاضي الجنائي انطلاقا من موقعه وباعتماده تفريد العقاب

.....

__________________

رابط التحميل 

https://drive.google.com/file/d/1DpBkvdNnrsOLyjL2iNNm4wiQgYWrICOd/view?usp=drivesdk

What's Your Reaction?

like
0
dislike
0
love
0
funny
0
angry
0
sad
0
wow
0