المسؤولية الموضوعية في القانون المغربي
مجموعة دروس وعروض في قانون المسؤولية المدنية في القانون المغربي للتحضير للمباريات القانونية
هكذا كان رد فعل الفقه على هذه الوضعية قويا، بحيث اعتبر أن إسناد المسؤولية على الخطأ ما هو إلا من مخلفات الماضي، حين كان يجري الخلط بين المسؤولية المدنية والمسؤولية الجنائية، إذ إن هذه الأخيرة في نظرهم هي التي تهتم بالخطأ أما المسؤولية المدنية فيجب أن تعنى بالضرر فقط، خاصة وأن الحكم في هذه الأخيرة يجعل التعويض على قدر الضرر بغض النظر عن درجة جسامة الخطأ، هذا بالإضافة إلى أن التطور الاقتصادي جعل من المستحيل في كثير من الفرضيات إثبات خطأ المسؤول خاصة في حوادث الصناعات الكبيرة ووسائل النقل الحديثة .
وظهرت في تأسيس هذه النزعة الموضوعية نظريات فقهية، إذ ظهرت في الفقه الفرنسي نظرية تحمل التبعة التي نادى أنصارها بضرورة جبر الضرر وتعويضه وأنه حتى في حالات الأضرار التي يتعذر فيها الإلقاء بعبء تعويض المضرور على عاتق شخص لصعوبة إثبات الخطأ، فإن العدالة تقتضي وجوب تعويض هذا الضرر، وأنه يجب لذلك إحلال نظرية تحمل التبعة محل المسؤولية الخطيئة تحقيقا للعدالة الاجتماعية التعويضية، وتحقيقا للتوازن بين مراكز المواطنين مضرورين ومنتفعين من الأنشطة التي تنجم عليها هذه الأضرار.
وظهرت في البداية نظرية المخاطر المتكاملة، فكان يجب في نظر أنصارها تعميم النظرية وعدم قصرها على نطاق معين من المخاطر، فكل شخص يجب أن يتحمل مخاطر فعله وتصرفه ونشاطه بصرف النظر عن كون الفعل خاطئا أم غير خاطئ، طالما قامت علاقة سببية بين الفعل والضرر، فالشخص وفقا لهذه النظرية يعد مسؤولا عن نتائج أفعاله أيا كانت، أي سواء كانت تتصف بالخطأ أم لم تتصف به، إلا أن هذا التعميم على هذا النحو تعرض لنقد شديد في الفقه، لأنه ينطوي وبحق على تهديد للنشاط الإنساني ولربما يؤدي إلى إحجام الأفراد عن السعي في الحياة وعن ممارستهم أنشطتهم والتقاعس عن العمل ابتغاء للسلامة وعدم التورط في التعويض.
وكان لهذا الخوف من التعميم أثره في ظهور نظرية التبعة في اتجاه قاعدة الغرم بالغنم، فكما أن صاحب النشاط وصاحب الاستغلال يجني من ورائه مغانم ويحصل على الفوائد والأرباح والثمرات، وطالما أنه يستفيد من نشاطه واستغلاله بنموه وازدهاره وتوسعه، فإنه يجب عدالة تحميله المخاطر الناجمة جراء هذا النشاط، إذ العدل يأبى أن يجني هو الثمار ويتحمل غيره الأضرار.
ووفقا لفريق آخر من أنصار هذه النظرية فإن من استحدث خطرا بنشاطه يجب عليه أن يتحمل تبعات ونتائج هذا الخطر بصرف النظر عن وقوع خطأ، أي دون استلزام وقوع خطأ عن جانبه .
واصطدم فقه المسؤولية الموضوعية التي ينادي بتأسيس المسؤولية على مجرد وقوع الضرر والعلاقة السببية، بأن الواقع القائم للتشريع والقضاء لازال مخلصا لفكرة الخطأ كأساس للمسؤولية المدنية، لذلك تعددت وسائل هذا الفقه في سبيل إعطاء هذا الاتجاه قبولا عمليا، وذلك باعتبار الخطأ والتبعة معا أساسا للمسؤولية كما يذهب الفقيه جوسران، أو باعتبار التبعة أساسا احتياطيا للخطأ كما يذهب الفقيه سافاتييه.
ولكن مع إعراض الفقه عن هذه الحلول إزاء عدم إمكان تحديد فاصل دقيق يبين متى تقوم المسؤولية على الخطأ ومتى تقوم على التبعة، فضلا عن ضعف المبرر القانوني للالتزام بالتعويض عند تخلف ركن الخطأ، فقد قامت محاولة أخرى جديدة من جانب هذا الفقه نادى بها ستارك ، وتسعى إلى إقامة المسؤولية على فكرة الضمان، إذ اعتبر أنه فيما يتعلق بالأضرار المادية والجسمانية فإن وقوع ضرر على الغير يمثل إخلالا بحقه في السلامة، فالقانون يضمن للفرد تعويضا عن أي إخلال بهذا الحق، فثمة فرق بين النشاط المشروع والضرر المشروع، فسواء كان النشاط مشروعا أو غير مشروع، فإن المعمول به هو مشروعية الضرر أو عدم مشروعيته.
وفيما يتعلق بالمسؤولية العقدية، فيرى ستارك أن الادعاء بأن المدين الذي لم ينفذ التزامه قد ارتكب خطأ، يعد تحايلا على الواقع، لأن مسؤولية المدين يجب أن ترتبط مباشرة بتعهده، إذ أنه يلتزم بضمان ما وعد به، وكل ما في الأمر هو تحديد مضمون هذا الضمان، فأساس الضمان العقدي ليس خطأ المدين، ولكنه الرابطة القانونية التي أنشأتها الإرادة التعاقدية .