و في سنة ست و أربعين كانت غزوة قبرس
الخلافة في الإسلام، تراجم الخلفاء، حياة الصحابة، سيرة الصحابة، الأحاديث في حياة الصحابة

و في سنة سبع و أربعين خلع المنصور عمه عيسى بن موسى من ولاية العهد و كان السفاح عهد إليه من بعد المنصور و كان عيسى هو الذي حارب له الأخوين فظفر بهما فكافأه بأن خلعه مكرها و عهد إلى ولده المهديو في سنة ثمان و أربعين توطدت الممالك كلها للمنصور و عظمت هيبته في النفوس و دانت له الأمصار و لم يبق خارجا عنه سوى جزيرة الأندلس فقط فإنها غلب عليها عبد الرحمن بن معاوية الأموي المرواني لكنه لم يتلقب بأمير المؤمنين بل الأمير فقط و كذلك بنوهو في سنة تسع و أربعين فرغ من بناء بغدادو في سنة خمسين خرجت الجيوش الخراسانية عن الطاعة مع الأمير استاذ سيس و استولى على أكثر مدن خراسان و عظم الخطب و استفحل الشر و اشتد على المنصور الأمر و بلغ ضريبة الجيش الخراساني ثلاثمائة ألف مقاتل ما بين فارس و راجل فعمل معهم أجشم المروزي مصافا فقتل أجشم و استبيح عسكره فتجهز لحربهم خازم بن خزيمة في جيش عرمرم يسد الفضاء فالتقى الجمعان و صبر الفريقان و كانت وقعة مشهورة يقال : قتل فيها سبعون ألفا و انهزم أستاذ سيس فالتجأ إلى جبل و أمر الأمير خازم في العام الآتي بالأسرى فضربت أعناقهم و كانوا أربعة عشر ألفا ثم حاصروا أستاذ سيس مدة ثم سلم نفسه فقيده و أطلقوا أجناده و كان عددهم ثلاثين ألفا انتهىو في سنة إحدى و خمسين بنى الرصافة و شيدهاو في سنة ثلاث و خمسين ألزم المنصور رعيته بلبس القلانس الطوال فكانوا يعملونها بالقصب و الورق و يلبسونها السوداء فقال أبو دلامة :
( و كنا نرجي من إمام زيادة
فزاد الإمام المصطفى في القلانس )
( تراها على هام الرجال كأنها
دنان يهود جللت بالبرانس )و في سنة ثمان و خمسين أمر المنصور نائب مكة بحبس سفيان الثوري و عباد بن كثير فحبسا و تخوف الناس أن يقتلهما المنصور إذا ورد الحج فلم يوصله الله مكة سالما بل قدم مريضا و مات و كفاهما الله شره و كانت وفاته بالبطن في ذي الحجة و دفن بين الحجون و بين بئر ميمون و قال سلم الخاسر :
( قفل الحجيج و خلفوا ابن محمد
رهنا بمكة في الضريح الملحد )
( شهدوا المناسك كلها و إمامهم
تحت الصفائح محرما لم يشهد )و من أخبار المنصور أخرج ابن عساكر بسنده أن أبا جعفر المنصور كان يرحل في طلب العلم قبل الخلافة فبينا هو يدخل منزلا من المنازل قبض عليه صاحب الرصد فقال : زن درهمين قبل أن تدخل قال : خل عني فإني رجل من بني هاشم قال : زن درهمين فقال : خل عني فإني من بني عم رسول الله صلى الله عليه و سلم قال زن درهمين قال : خل عني فإني رجل قارىء لكتاب الله قال : زن درهمين قال : خل عني فإني رجل عالم بالفقه و الفرائض قال : زن درهمين فلما أعياه أمره وزن الدرهمين فرجع و لزم جمع المال و التدنق فيه حتى لقب بأبي الدوانيقو أخرج عن الربيع بن يونس الحاجب قال : سمعت المنصور يقول : الخلفاء أربعة : أبو بكر و عمر و عثمان و علي و الملوك أربعة : معاوية و عبد الملك و هشام و أناو أخرج عن مالك بن أنس قال : دخلت على أبي جعفر المنصور فقال : من أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قلت : أبو بكر و عمر قال أصبت و ذلك رأي أمير المؤمنينو أخرج عن إسماعيل الفهري قال : سمعت المنصور في يوم عرفة على منبر عرفة يقول في خطبته :أيها الناس : إنما أنا سلطان الله في أرضه أسوسكم بتوفيقه و رشده و خازنه على فيئه أقسمه بإرادته و أعطيه بإذنه و قد جعلني الله عليه قفلا : إذا شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم و إذا شاء أن يقفلني عليه أقفلني فارغبوا إلى الله أيها الناس و سلوه في هذا البيت الشريف الذي وهب لكم فيه من فضله ما أعلكم في كتابه إذ يقول :
{ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } أن يوفقني للصواب و يسددني للرشاد و يلهمني الرأفة بكم و الإحسان إليكم و يفتحني لإعطائكم و قسم أرزاقكم بالعدل فإنه سميع مجيب و أخرجه الصولي و زاد في أوله أن سبب هذه الخطبة أن الناس بخلوه و زاد في آخره : فقال بعض الناس : أحال أمير المؤمنين بالمنع على ربهو أخرج عن الأصمعي و غيره أن المنصور صعد المنبر فقال :الحمد لله أحمده و أستعينه و أومن به و أتوكل عليه و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فقام : إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين أذكر من أنت في ذكره فقال : مرحبا مرحبا لقد ذكرت جليلا و خوفت عظيما و أعوذ بالله أن أكون ممن إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم و الموعظة منا بدت و من عندنا خرجت و أنت يا قائلها فأحلف بالله ما أردت بها و إنما أردت أن يقال : قام فقال فعوقب فصبر فاهون بها من قائلها و اهتبلها من الله ويلك ! إني قد غفرتها و إياكم معشر الناس و أمثالها و أشهد أن محمدا عبده و رسوله فعاد إلى خطبته فكأنما يقرؤها من قرطاسو أخرج من طرق أن المنصور قال لابنه المهدي : يا أبا عبد الله الخليفة لا يصلحه إلا التقوى و السلطان لا يصلحه إلا الطاعة و الرعية لا يصلحها إلا العدل و أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة و أنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونهو قال : لا تبر من أمرا حتى تفكر فيه فإن فكرة العاقل مرآته تريه قبيحة و حسنهو قال : أي بني استدم النعمة بالشكر و المقدرة بالعفو و الطاعة بالتألف و النصر بالتواضع و الرحمة للناسو أخرج
[ عن مبارك بن فضالة قال : كنا عند المنصور فدعا برجل و دعا بالسيف فقال المبارك : يا أمير المؤمنين سمعت الحسين يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا كان يوم القيامة قام مناد من عند الله ينادي ليقم الذين أجرهم على الله فلا يقوم إلا من عفا ]
فقال المنصور : خلوا سبيلهو أخرج عن الأصمعي قال : أتى المنصور برجل يعاقبه فقال : يا أمير المؤمنين الانتقام عدل و التجاوز فضل و نحن نعيذ أمير المؤمنين بالله أن يرضى لنفسه بأوكس النصيبين دون أن يبلغ أرفع الدرجتين فعفا عنهو أخرج عن الأصمعي قال : لقي المنصور أعرابيا بالشام فقال أحمد الله يا أعرابي الذي رفع عنكم الطاعون بولايتنا أهل البيت قال : إن الله لا يجمع علينا حشفا و سوء كيل ولايتكم و الطاعونو أخرج عن محمد بن منصور البغدادي قال : قام بعض الزهاد بين يدي المنصور فقال : إن الله أعطاك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك ببعضها و اذكر ليلة تبيت في القبر لم تبت قبلها ليلة و اذكر ليلة تمخض عن يوم لا ليلة بعده فأفحم المنصور و أمر له بمال فقال : لو احتجت إلى مالك ما وعظتكو أخرج عن عبد السلام بن حرب أن المنصور بعث إلى عمرو بن عبيد فجاءه فأمر له بمال فأبى أن يقبله فقال المنصور : و الله لتقبلنه فقال : و الله لا أقبله فقال له المهدي : قد حلف أمير المؤمنين فقال : أمير المؤمنين أقوى على كفارة اليمين من عمك فقال له المنصور : سل حاجتك ؟ قال : أسألك أن لا تدعوني حتى آتيك و لا تعطني حتى أسألك فقال : علمت أني جعلت هذا ولي عهدي فقال يأتيه الأمر يوم يأتيه و أنت مشغولو أخرج عن عبد الله بن صالح قال : كتب المنصور إلى سوار بن عبد الله قاضي البصرة : انظر التي تخاصم فيها فلان القائد و فلان التاجر فادفعها إلى القائد فكتب إليه سوار : إن البينة قد قامت عندي أنها للتاجر فلست أخرجها من يده إلا ببينة فكتب إليه المنصور : و الله الذي لا إله إلا هو لتدفعنها إلى القائد فكتب إليه سوار : و الله الذي لا إله إلا هو لا أخرجتها من يد التاجر إلا بحق فلما جاءه الكتاب قال : ملأتها و الله عدلا و صار قضاتي تردني إلى الحقو أخرج من وجه آخر أن المنصور وشي إليه بسوار فاستقدمه فعطس المنصور فلم يشمته سوار فقال ما يمنعك من التشميت ؟ قال : لأنك لم تحمد الله فقال قد حمدت الله في نفسي قال شمتك في نفسي قال : ارجع إلى عملك فإنك إذا لم تحابني لم تحاب غيريو أخرج عن نمير المدني قال : قدم المنصور المدينة و محمد بن عمران الطلحي على قضائه و أنا كاتبه فاستعدى الجمالون على المنصور في شيء فأمرني أن أكتب إليه بالحضور و إنصافهم فاستعفيت فلم يعفني فكتبت الكتاب ثم ختمته و قال : و الله لا يمضي به غيرك فمضيت به إلى الربيع فدخل عليه ثم خرج فقال للناس إن أمير المؤمنين يقول لكم : إني قد دعيت إلى مجلس الحكم فلا يقومن معي أحد ثم جاء هو و الربيع فلم يقم له القاضي بل حل رداءه و اختبى به ثم دعا بالخصوم فادعوا فقضى لهم على الخليفة فلما فرغ قال له المنصور : جزاك الله عن دينك أحسن الجزاء قد أمرت لك بعشرة آلاف دينارو أخرج عن محمد بن حفص العجلي قال : ولد لأبي دلامة ابنة فغدا على المنصور فأخبره و أنشد :
( لو كان يقعد فوق الشمس من كرم
قوم لقيل : اقعدوا يا آل عباس )
( ثم ارتقوا في شعاع الشمس كلكم
إلى السماء فأنتم أكرم الناس )ثم أخرج أبو دلامة خريطة فقال المنصور : ما هذه ؟ قال أجعل فيها ما تأمر لي به فقال : املؤوها له دراهم فوسعت ألفي درهمو أخرج عن محمد بن سلام الجمحي قال : قيل للمنصور هل من بقي من لذات الدنيا شيء لم تنله ؟ قال : بقيت خصلة أن أقعد في مصطبة و حولي أصحاب الحديث يقول المستملي : من ذكرت رحمك الله فغدا عليه الندماء و أبناء الوزراء بالمحابر و الدفاتر فقال لستم بهم إنما هم الدنسة ثيابهم المشققة أرجلهم الطويلة شعورهم برد الآفاق و نقلة الحديثو أخرج عن عبد الصمد بن علي أنه قال للمنصور : لقد هجمت بالعقوبة حتى كأنك لم تسمع بالعفو قال : لأن بني مروان لم تبل رممهم و آل أبي طالب لم تغمد سيوفهم و نحن بين قوم قد رأونا أمس سوقة و اليوم خلفاء فليس تتمهد هيبتنا في صدورهم إلا بنسيان العفو و استعمال العقوبةو أخرج عن يونس بن حبيب قال : كتب زياد بن عبد الله الحارثي إلى المنصور يسأله الزيادة في عطائه و أرزاقه و أبلغ في كتابه فوقع المنصور في القصة : إن الغنى و البلاغة إذا اجتمعتا في رجل أبطرتاه و أمير المؤمنين يشفق عليك من ذلك فاكتف بالبلاغةو أخرج عن محمد بن سلام قال : رأت جارية المنصور قميصه مرقوعا فقالت : خليفة و قميصه مرقوع فقال : ويحك ! أما سمعت قول ابن هرمة :
( قد يدرك الشرف الفتى و رادؤه
خلق و جيب قميصه مرقوع )و قال العسكري في الأوائل : كان المنصور في ولد العباس كعبد الملك في بني أمية في بخله رأى بعضهم عليه قميصا مرقوعا فقال : سبحان من ابتلى أبا جعفر بالفقر في ملكه ! و حدا به سلم الحادي فطرب حتى كاد يسقط من الراحلة فأجازه بنصف درهم فقال : لقد حدوت بهشام فأجازني بعشرة آلاف فقال : ما كان له أن يعطيك ذلك من بيت المال يا ربيع و كل به من يقبضها منه فما زالوا به حتى تركه على أن يحدو به ذهابا و إيابا بغير شيءو في كتاب الأوائل للعسكري : كان ابن هرمة شديد الرغبة في الخمر فدخل على المنصور فأنشده :
( له لحظات من خفا في سريرة
إذا كرها فيها عقاب و نائل )
( فأم الذي أمنت آمنة الردى
و أم الذي حاولت بالثكل ثاكل )فأعجب به المنصور و قال : ما حاجتك ؟ قال : تكتب إلى عاملك بالمدينة أن لا يحدني إذا وجدني سكران فقال : لا أعطل حدا من حدود الله قال : تحتال لي فكتب إلى عامله : من أتاك بابن هرمة سكران فاجلده مائة و اجلد ابن هرمة ثمانينفكان العون إذا مر به و هو سكران يقول : من يشتري مائة بثمانين ؟ و يتركه و يمضي قال : و أعطاه المنصور في هذه المرة عشرة آلاف درهم و قال له : يا إبراهيم احتفظ بها فليس لك عندنا مثلها فقال : إني ألقاك على الصراط بها بختمة الجهبذو من شعر المنصور و شعره قليل :
( إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة
فإن فساد الرأي أن تترددا )
( و لا تهمل العداء يوما بقدرة
و بادرهم أن يملكوا مثلها غدا )و قال عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي : كنت أطلب العلم مع أبي جعفر المنصور قبل الخلافة فأدخلني منزله فقدم إلي طعاما لا لحم فيه ثم قال : يا جارية عندك حلواء ؟ قالت : لا قال : و لا التمر ؟ قالت : لا فاستلقى و قرأ
{ عسى ربكم أن يهلك عدوكم } الآية فلما ولي الخلافة وفدت إليه فقال : كيف سلطاني من سلطان بني أمية ؟ قلت : ما رأيت في سلطانهم من الجور شيئا إلا رأيته في سلطانك فقال : إنا لا نجد الأعوان قلت : قال عمر بن عبد العزيز : إن السلطان بمنزلة السوق يجلب إليها ما ينفق فيها فإن كان برا أتوه ببرهم و إن كان فاجرا أتوه بفجورهم فأطرقو من كلام المنصور : الملوك تحتمل كل شيء إلا ثلاثة خلال : إفشاء السر و التعرض للحرم و القدح في الملك أسنده الصوليو قال : إذا مد عدوك إليك يده فاقطعها إن أمكنك و إلا فقبلها أسنده أيضاو أخرج الصولي عن يعقوب بن جعفر قال : مما يؤثر من ذكاء المنصور انه دخل المدينة فقال للربيع : اطلب لي رجلا يعرفني دور الناس فجاءه رجل فجعل يعرفه الدور إلا انه لا يبتدئ به حتى يسأله المنصور فلما فارقه أمر له بألف درهم فطالب الرجل الربيع بها فقال : ما قال لي شيئا و سيركب فذكره فركب مرة أخرى فجعل يعرفه و لا يرى موضعا للكلام فلما أراد أن يفارقه قال الرجل مبتدئا : وهذه يا أمير المؤمنين دار عاتكة التي يقول فيها الأحوص :
( يا بيت عاتكة الذي أتعزل
حذر العدى و بك الفؤاد موكل )فأنكر المنصور ابتداءه فأمر القصيدة على قلبه فإذا فيها :
( و أراك تفعل ما تقول و بعضهم
مذق اللسان يقول ما لا يفعل )فضحك و قال : و يلك يا ربيع ! أعطه ألف درهمو أسند الصولي عن إسحاق الموصلي قال : لم يكن المنصور يظهر لندمائه بشرب ولا غناء بل يجلس و بينه و بين الندماء ستارة و بينهم و بينها عشرون ذراعا و بينهما و بينه كذلك و أول من ظهر للندماء من خلفاء بني العباس المهديو أخرج الصولي عن يعقوب بن جعفر قال : قال المنصور لقثم بن العباس بن عبد الله بن العباس و كان عامله على اليمامة و البحرين : ما القثم ؟ و من أي شيء أخذ ؟ فقال : لا أدري فقال : اسمك اسم هاشمي لا تعرفه أنت و الله جاهل قال : فإن رأى أمير المؤمنين أن يفيدنيه قال : القثم الذي ينزل بعد الأكل و يقثم الأشياء : يأخذها و يثلمهاروي أن المنصور ألح عليه ذباب فطلب مقاتل بن سليمان فسأله لم خلق الله الذباب ؟ قال : ليذل به الجبارين و قال محمد بن علي الخراساني : المنصور أول خليفة قرب المنجمين و عمل بأحكام النجوم و أول خليفة ترجمت له الكتب السريانية و الأعجمية بالعربية ككتاب كليلة ودمنة و إقليدس و هو أول من استعمل مواليه على الأعمال و قدمهم على العرب و كثر ذلك بعده حتى زالت رئاسة العرب و قيادتها و هو أول من أوقع الفرقة بين ولد العباس و ولد علي و كان قبل ذلك أمرهم واحدا
What's Your Reaction?






