مسالة طواف الحايض والجنب والمحدث

مسالة طواف الحايض والجنب والمحدث

مسالة طواف الحايض والجنب والمحدث
ومن مصنفاته تغمده الله تعالى برحمته: فصل: 80 - 65

مسالة:

في طواف الحايض والجنب والمحدث.

قال - رحمه الله -: ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه قال: «الحايض تقضي المناسك كلها الا الطواف بالبيت» .

وقال لعايشة - رضي الله عنها -: «اصنعي ما يصنع الحاج غير ان لا تطوفي بالبيت» .

«ولما قيل له عن صفية انها حاضت، فقال: احابستنا هي فقيل له: انها قد افاضت؟ قال: فلا اذا» .

وصح عنه - صلى الله عليه وسلم -: «انه بعث ابا بكر عام تسع، لما امره على الموسم ينادي: ان لا يطوف بالبيت عريان» .

ولم ينقل احد عنه انه امر الطايفين بالوضوء ولا باجتناب النجاسة، كما امر المصلين بالوضوء، فنهيه الحايض عن الطواف بالبيت اما ان يكون لاجل المسجد، لكونها منهية عن اللبث فيه، وفي الطواف لبث، او عن الدخول اليه مطلقا لمرور او لبث؛ واما ان يكون لكون الطواف نفسه يحرم مع الحيض، كما يحرم على الحايض الصلاة، والصيام بالنص والاجماع، ومس المصحف عند عامة العلماء، وكذلك قراءة القران في احد قولي العلماء، والذين حرموا عليها القراءة كاحمد في المشهور، وكذلك الشافعي مع ابي حنيفة تنازعوا في اباحة قراءة القران لها وللنفساء، قبل الغسل وبعد انقطاع الدم على ثلاثة اقوال: احدهما: اباحتها للحايض والنفساء، وهو اختيار القاضي ابي يعلى، وقال: هو ظاهر كلام احمد.

والثاني: منع الحايض والنفساء.

والثالث: اباحتها للنفساء دون الحايض، اختاره الخلال من اصحاب احمد، واما ان يكون لكل منهما، واما ان يكون لمجموعهما، بحيث لو انفرد احدهما لم يحرم، فان كان تحريمه للاول لم يحرم عليها عند الضرورة، فان لبثها في المسجد لضرورة المسجد.

وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صحيح مسلم وغيره، «عن عايشة - رضي الله عنها - انها قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ناوليني الخمرة من المسجد فقلت: اني حايض، قال: ان حيضتك ليست في يدك» .

وعن ميمونة زوج النبي، قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضع راسه في حجر احدانا، يتلو القران وهي حايض، وتقوم احدانا لخمرته الى المسجد فتبسطها وهي حايض» ، رواه النسايي.

وقد روى ابو داود: من حديث عايشة عنه - صلى الله عليه وسلم - انه قال: «لا احل المسجد لجنب ولا حايض» .

رواه ابن ماجه من حديث ام سلمة، وقد تكلم في هذين الحديثين ولهذا ذهب اكثر العلماء كالشافعي، واحمد، وغيرهما الى الفرق بين المرور واللبث جمعا بين الاحاديث، ومنهم من منعها من اللبث والمرور: كابي حنيفة، ومالك، ومنهم من لم يحرم المسجد عليها، وقد يستدلون على ذلك بقوله تعالى: {ولا جنبا الا عابري سبيل}[النساء: 43] .

واباح احمد وغيره اللبث لمن يتوضا، لما رواه هو، وغيره عن عطاء بن يسار قال: رايت رجالا من اصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجلسون في المسجد وهم مجنبون، اذا توضيوا وضوء الصلاة.

وذلك والله اعلم ان المسجد بيت الملايكة والملايكة لا تدخل بيتا فيه جنب، كما جاء ذلك في السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولهذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - الجنب ان ينام حتى يتوضا.

وروى يحيى بن سعيد، عن هشام بن عروة قال: اخبرني ابي عن عايشة: انها كانت تقول: " اذا اصاب احدكم المراة ثم اراد ان ينام، فلا ينام حتى يتوضا وضوءه للصلاة، فانه لا يدري لعل نفسه تصاب في نومه ".

وفي حديث اخر: " فانه اذا مات لم تشهد له الملايكة جنازته ".

وقد امر الجنب بالوضوء عند الاكل، والشرب، والمعاودة، وهذا دليل انه اذا توضا ذهبت الجنابة عن اعضاء الوضوء، فلا تبقى جنابته تامة، وان كان قد بقي عليه بعض الحدث، كما ان الحدث الاصغر عليه حدث دون الجنابة، وان كان حدثه فوق الحدث الاصغر فهو دون الجنب، فلا يمنع الملايكة عن شهوده، فلهذا ينام ويلبث في المسجد.

واما الحايض فحدثها دايم، لا يمكنها طهارة تمنعها عن الدوام، فهي معذورة في مكثها، ونومها، واكلها، وغير ذلك، فلا تمنع مما يمنع منه الجنب مع حاجتها اليه.

ولهذا كان اظهر قولي العلماء انها لا تمنع من قراءة القران.

اذا احتاجت اليه كما هو مذهب مالك، واحد الوجهين في مذهب الشافعي، ويذكر رواية عن احمد، فانها محتاجة اليها، ولا يمكنها الطهارة، كما يمكن الجنب، وان كان حدثها اغلظ من حدث الجنب من جهة انها لا تصوم ما لم ينقطع الدم، والجنب يصوم، ومن جهة انها ممنوعة من الصلاة طهرت او لم تطهر، ويمنع الرجل من وطيها ايضا، فهذا يقتضي ان المقتضي للحظر في حقها اقوى، لكن اذا احتاجت الى الفعل استباحت المحظور مع قيام سبب الحظر لاجل الضرورة، كما يباح ساير المحرمات مع الضرورة من الدم، والميتة، ولحم الخنزير، وان كان ما هو دونها في التحريم لا يباح من غير حاجة، كلبس الحرير، والشرب في انية الذهب والفضة، ونحو ذلك.

وكذلك الصلاة الى غير القبلة، مع كشف العورة، ومع النجاسة في البدن، والثوب، هي محرمة اغلظ من غيرها وتباح، بل تجب مع الحاجة، وغيرها وان كان دونها في التحريم: كقراءة القران مع الحاجة لا يباح.

واذا قدر جنب استمرت به الجنابة، وهو يقدر على غسل، او تيمم فهذا كالحايض في الرخصة، وان كان هذا نادرا، وكما امر النبي - صلى الله عليه وسلم - الحيض ان يخرجن في العيد، ويشهدن الخير، ودعوة المسلمين، ويكبرن بتكبير الناس، وكذلك الحايض والنفساء، امرهما النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاحرام والتلبية، وما فيهما من ذكر الله، وشهودهما عرفة مع الذكر والدعاء، ورمي الجمار، مع ذكر الله وغير ذلك، ولا يكره لها ذلك، بل يجب عليها، والجنب يكره له ذلك حتى يغتسل؛ لانه نادر على الطهارة بخلاف الحايض.

فهذا اصل عظيم في هذه المسايل ونوعها، لا ينبغي ان ينظر الى غلظ المفسدة المقتضية للحظر، او لا ينظر مع ذلك الى الحاجة الموجبة للاذن، بل الموجبة للاستحباب او الايجاب.

وكل ما يحرم معه الصلاة يجب معه عند الحاجة اذا لم يمكن الصلاة الا كذلك، فان الصلاة مع تلك الامور اخف من ترك الصلاة، فلو صلى بتيمم مع قدرته على استعمال الماء، لكانت الصلاة محرمة، ومع عجزه عن استعمال الماء كانت الصلاة بالتيمم واجبة بالوقت، وكذلك الصلاة عريانا، والى غير القبلة، ومع حصول النجاسة وبدون القراءة، وصلاة الفرض قاعدا او بدون اكمال الركوع والسجود.

وامثال ذلك مما يحرم مع القدرة ويجب مع العجز، وكذلك اكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير يحرم اكلها عند الغنى عنها، ويجب اكلها بالضرورة عند الايمة الاربعة وجمهور العلماء.

قال مسروق: من اضطر فلم ياكل حتى مات دخل النار، وذلك لانه اعان على نفسه بترك ما يقدر عليه من الاكل المباح له في هذه الحال، فصار بمنزلة من قتل نفسه، بخلاف المجاهد بالنفس، ومن تكلم بحق عند سلطان جاير، فان ذلك قتل مجاهدا ففي قتله مصلحة لدين الله تعالى.

وتعليل منع طواف الحايض بانه لاجل حرمة المسجد، رايته يعلل به بعض الحنفية، فان مذهب ابي حنيفة ان الطهارة واجبة له، لا فرض فيه، ولا شرط له، ولكن هذا التعليل يناسب القول بان طواف المحدث غير محرم، وهذا مذهب منصور بن المعتمر، وحماد بن ابي سليمان، رواه احمد عنهما.

قال عبد الله في مناسكه: حدثني ابي، حدثنا سهل بن يوسف، انبانا شعبة، عن حماد، ومنصور قال: سالتهما عن الراجل يطوف بالبيت وهو غير متوضي؟ فلم يريا به باسا.

قال عبد الله: سالت ابي عن ذلك فقال: احب الي ان يطوف بالبيت وهو غير متوضي؛ لان الطواف صلاة، واحمد عنه روايتان منصوصتان في الطهارة هل هي شرط في الطواف ام لا؟ وكذلك وجوب الطهارة في الطواف كلامه فيها يقتضي روايتين.

وكذلك قال بعض الحنفية ان الطهارة ليست واجبة في الطواف، بل سنة مع قوله ان في تركها دما، فمن قال: ان المحدث يجوز له ان يطوف، بخلاف الحايض والجنب، فانه يمكنه تعليل المنع بحرمة المسجد، لا بخصوص الطواف؛ لان الطواف يباح فيه الكلام والاكل والشرب، فلا يكون كالصلاة؛ ولان الصلاة مفتاحها الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم، والطواف ليس كذلك.

ويقول: انما منع العراة من ذلك لاجل نظر الناس، ولحرمة المسجد ايضا، ومن قال هذا، قال المطاف اشرف المساجد، لا يكاد يخلو من طايف.

وقد قال الله تعالى: {خذوا زينتكم عند كل مسجد}[الاعراف: 31] .

فامر باخذها عند دخول المسجد، وهذا بخلاف الصلاة، فان المصلي عليه ان يستتر لنفس الصلاة، والصلاة تفعل في جميع البقاع، فلو صلى وحده في بيت مظلم لكان عليه ان يفعل ما امر به من الستر للصلاة، بخلاف الطواف فانه يشترط فيه المسجد الحرام، والاعتكاف يشترط فيه جنس المساجد، وعلى قول هولاء فلا يحرم طواف الجنب، والحايض، اذا اضطر الى ذلك.

كما لا يحرم عندهم الطواف على المحدث بحال؛ لانه لا يحرم عليهما دخول المسجد حينيذ، وهما اذا كانا مضطرين الى ذلك اولى بالجواز من المحدث، الذي يجوزون له الطواف مع الحدث من غير حاجة، الا ان المحدث منع من الصلاة ومس المصحف، مع قدرته على الطهارة، وذلك جايز للجنب مع التيمم، واذا عجز عن التيمم صلى بلا غسل ولا تيمم في احد قولي العلماء، وهو المشهور في مذهب الشافعي واحمد، كما نقل ان الصحابة صلوا مع الجنابة قبل ان تنزل اية التيمم، والحايض نهيت عن الصوم فانها ليست محتاجة الى الصوم في الحيض، فانه يمكنها ان تصوم شهرا اخر غير رمضان.

فاذا كان المسافر والمريض مع امكان صومهما جعل لهما ان يصوما شهرا اخر، فالحايض الممنوعة من ذلك اولى ان تصوم شهرا اخر، واذا امرت بقضاء الصوم، فلم تومر الا بشهر واحد، فلم يجب عليها الا ما يجب على غيرها، ولهذا لو استحاضت فانها تصوم مع الاستحاضة، فان ذلك لا يمكن الاحتراز عنه، اذ قد تستحيض وقت القضاء.

واما الصلاة فانها تتكرر في كل يوم وليلة خمس مرات، والحيض مما يمنع الصلاة فلو قيل انها تصلي مع الحيض لاجل الحاجة، لم يكن الحيض مانعا من الصلاة بحال، وكان يكون الصوم والطواف بالبيت اعظم حرمة من الصلاة، وليس الامر كذلك، بل كان من حرمة الصلاة انها لا تصلي وقت الحيض، اذا كان لها في الصلاة اوقات الطهر غنية عن الصلاة وقت الحيض، واذا كانت انما منعت من الطواف لاجل المسجد.

فمعلوم ان اباحة ذلك للعذر اولى من اباحة مس المصحف للعذر، ولو كان لها مصحف، ولم يمكنها حفظه الا بمسه، مثل ان يريد ان ياخذه لص، او كافر، او ينهبه احد، او ينهبه منها، ولم يمكنها منعه الا بمسه، لكان ذلك جايزا لها، مع ان المحدث لا يمس المصحف، ويجوز له الدخول في المسجد، فعلم ان حرمة المصحف اعظم من حرمة المسجد، واذا ابيح لها مس المصحف للحاجة، فالمسجد الذي حرمته دون حرمة المصحف اولى بالاباحة.

What's Your Reaction?

like
0
dislike
0
love
0
funny
0
angry
0
sad
0
wow
0