مسالة الاموال التي يجهل مستحقها مطلقا او مبهما

مسالة الاموال التي يجهل مستحقها مطلقا او مبهما

مسالة 
الاموال التي يجهل مستحقها مطلقا او مبهما
837 - 6

مسالة:

في الاموال التي يجهل مستحقها مطلقا او مبهما فان هذه عامة النفع؛ لان الناس قد يحصل في ايديهم اموال يعلمون انها محرمة لحق الغير، اما لكونها قبضت ظلما: كالغصب وانواعه من الجنايات، والسرقة والغلول، واما لكونها قبضت، بعقد فاسد من ربا او ميسر، ولا يعلم عين المستحق لها، وقد يعلم ان المستحق احد رجلين ولا يعلم عينه: كالميراث الذي يعلم انه لاحدى الزوجين الباقية دون المطلقة، والعين التي يتداعاها اثنان فيقر بها ذو اليد لاحدهما.

فمذهب الامام احمد، وابي حنيفة، ومالك، وعامة السلف: اعطاء هذه الاموال لاولى الناس بها.

ومذهب الشافعي انها تحفظ مطلقا ولا تنفق بحال، فيقول فيما جهل مالكه من الغصوب، والعواري، والودايع انها تحفظ حتى يظهر اصحابها كساير الاموال الضايعة، ويقول في العين التي عرفت لاحد الرجلين يوقف الامر حتى يصطلحا.

ومذهب احمد، وابي حنيفة فيما جهل مالكه انه يصرف عن اصحابه في المصالح: كالصدقة على الفقراء.

وفيما استهم مالكه القرعة عند احمد والقسمة عند ابي حنيفة.

ويتفرع على هذه القاعدة الف من المسايل نافعة واقعة، وبهذا يحصل الجواب عما فرضه ابو المعالي في كتابه الغياثي " وتبعه من تبعه اذا طبق الحرام الارض ولم يبق سبيل الى الحلال، فانه يباح للناس قدر الحاجة من المطاعم، والملابس، والمساكن، والحاجة اوسع من الضرورة.

وذكر ان ذلك يتصور اذا استولت الظلمة من الملوك على الاموال بغير حق وبثنها في الناس، وان زمانه قريب من هذا التقدير فكيف بما بعده من الازمان.

وهذا الذي قاله فرض محال لا يتصور لما ذكرته من هذه القاعدة الشرعية، فان المحرمات قسمان: محرم لعينه كالنجاسات من الدم والميتة، ومحرم لحق الغير، وهو ما جنسه مباح من المطاعم، والمساكن، والملابس، والمراكب، والنقود، وغير ذلك.

وتحريم هذه جميعها يعود الى الظلم فانها انما تحرم لسببين: احدهما: قبضها بغير طيب نفس صاحبها ولا اذن الشارع، وهذا هو الظلم المحض: كالسرقة، والخيانة، والغصب الظاهر، وهذا اشهر الانواع بالتحريم.

والثاني: قبضها بغير اذن الشارع، وان اذن صاحبها وهي العقود والقبوض المحرمة كالربا، والميسر، ونحو ذلك، والواجب على من حصلت بيده ردها الى مستحقها، فاذا تعذر ذلك فالمجهول كالمعدوم، وقد دل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في اللقطة: «فان وجدت صاحبها فارددها اليه، والا فهي مال الله يوتيه من يشاء» فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ان اللقطة التي عرف انها ملك لمعصوم، وقد خرجت عنه بلا رضاه اذا لم يوجد فقد اتاها الله لمن سلطه عليها بالالتقاط الشرعي.

وكذلك اتفق المسلمون على انه من مات، ولا وارث له معلوما، فماله يصرف في مصالح المسلمين، مع انه لا بد في غالب الخلق ان يكون له عصبة بعيد، لكن جهلت عينه، ولم ترج معرفته فجعل كالمعدوم، وهذا ظاهر وله دليلان قياسيان قطعيان، كما ذكرنا من السنة والاجماع، فان ما لا يعلم او لا يقدر عليه بحال هو في حقنا بمنزلة المعدوم، فلا نكلف الا بما نعلمه ونقدر عليه.

وكما انه لا فرق في حقنا بين فعل لم نومر به، وبين فعل امرنا به جملة عند فوت العلم او القدرة، كما في حق المجنون والعاجز، كذلك لا فرق في حقنا بين مال لا مالك له امرنا بايصاله اليه، وبين ما امرنا بايصاله الى مالكه جملة اذا فات العلم به او القدرة عليه، والاموال كالاعمال سواء.

وهذا النوع انما حرم لتعلق حق الغير به، فاذا كان الغير معدوما او مجهولا بالكلية، او معجوزا عنه بالكلية: يسقط حق تعلقه به مطلقا، كما يسقط حق تعلق حقه به اذا رجي العلم به او القدرة عليه، الى حين العلم والقدرة كما في اللقطة سواء، كما نبه عليه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «فان جاء صاحبها، والا فهي مال الله يوتيه من يشاء» .

فانه لو عدم المالك انتقل الملك عنه بالاتفاق، فكذلك اذا عدم العلم به اعداما مستقرا، واذا عجز عن الايصال اليه اعجازا مستقرا، فالاعدام ظاهر، والاعجاز مثل الاموال التي قبضها الملوك: كالمكوس، وغيرها من اصحابها، وقد تيقن انه لا يمكننا اعادتها الى اصحابها، فانفاقها في مصالح اصحابها من الجهاد عنهم اولى من ابقايها بايدي الظلمة ياكلونها، واذا انفقت كانت لمن ياخذها بالحق مباحة، كما انها على من ياكلها بالباطل محرمة.

والدليل الثاني: القياس، مع ما ذكرناه من السنة والاجماع، ان هذه الاموال لا تخلو: اما ان تحبس، واما ان تتلف، واما ان تنفق.

فاما اتلافها فافساد، والله لا يحب الفساد، وهو اضاعة لها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن اضاعة المال، وان كان في مذهب احمد، ومالك: تجوز العقوبات المالية تارة بالاخذ، وتارة بالاتلاف كما يقوله احمد في متاع الفساد، وكما يقوله احمد ومن يقوله من المالكية في اوعية الخمر، ومحل الخمار وغير ذلك، فان العقوبة باتلاف بعض الاموال احيانا كالعقوبة باتلاف بعض النفوس احيانا.

وهذا يجوز اذا كان فيه من التنكيل على الجريمة من المصلحة ما شرع له ذلك كما في اتلاف النفس والطرف، وكما ان قتل النفس يحرم الا بنفس او فساد كما قال تعالى: {من قتل نفسا بغير نفس او فساد في الارض}[المايدة: 32] .

وقالت الملايكة: {اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء}[البقرة: 30] .

فكذلك اتلاف المال، انما يباح قصاصا، او لافساد مالكه كما ابحنا من اتلاف البناء، والغراس الذي لاهل الحرب، مثل ما يفعلون بنا بغير خلاف، وجوزنا لافساد مالكه ما جوزنا، ولهذا لم اعلم احدا من الناس قال ان الاموال المحترمة المجهولة المالك تتلف.

وانما يحكى بعض ذلك عن بعض الغالطين من المتورعة انه القى شييا من ماله في البحر او انه تركه في البر، ونحو ذلك، فهولاء تجد منهم حسن القصد، وصدق الورع، لا صواب العمل.

واما حبسها دايما ابدا الى غير غاية منتظرة، بل مع العلم انه لا يرجى معرفة صاحبها ولا القدرة على ايصالها اليه، فهذا مثل اتلافها، فان الاتلاف انما حرم لتعطيلها عن انتفاع الادميين بها، وهذا تعطيل ايضا بل هو اشد منه من وجهين.

احدهما: انه تعذيب للنفوس بابقاء ما يحتاجون اليه من غير انتفاع به.

الثاني: ان العادة جارية بان مثل هذه الامور لا بد ان يستولي عليها احد من الظلمة بعد هذا اذا لم ينفقها اهل العدل والحق، فيكون حبسها اعانة للظلمة وتسليما في الحقيقة الى الظلمة، فيكون قد منعها اهل الحق، واعطاها اهل الباطل، ولا فرق بين القصد وعدمه في هذا، فان من وضع انسانا بمسبعة فقد قتله، ومن القى اللحم بين السباع فقد اكله، ومن حبس الاموال العظيمة لمن يستولي عليها من الظلمة فقد اعطاهموها.

فاذا كان اتلافها حراما وحبسها اشد من اتلافها تعين انفاقها، وليس لها مصرف معين، فتصرف في جميع جهات البر والقرب التي يتقرب بها الى الله؛ لان الله خلق الخلق لعبادته، وخلق لهم الاموال ليستعينوا بها على عبادته، فتصرف في سبيل الله، والله اعلم.

What's Your Reaction?

like
0
dislike
0
love
0
funny
0
angry
0
sad
0
wow
0