مسالة رجل وقف وقفا وشرط فيه شروطا على جماعة قراء
مسالة رجل وقف وقفا وشرط فيه شروطا على جماعة قراء

مسالة:
في رجل وقف وقفا وشرط فيه شروطا على جماعة قراء، وانهم يحضرون كل يوم بعد صلاة الصبح يقرءون ما تيسر من القران الى طلوع الشمس، ثم يتداولون النهار بينهم يوما، مثنى مثنى، ويجتمعون ايضا بعد صلاة العصر يقرا كل منهم حزبين، ويجتمعون ايضا في كل ليلة جمعة.جملة اجتماعهم في الشهر سبعة وسبعون مرة على هذا النحو عند قبره بالتربة؛ وشرط عليهم ايضا ان يبيتوا كل ليلة بالتربة المذكورة، وجعل لكل منهم سكنا يليق به، وشرط لهم جاريا من ريع الوقف يتناولون في كل يوم، وفي كل شهر.
فهل يلزمهم الحضور على شرطه عليهم؟ ام يلزمهم ان يتصفوا بتلك الصفات في اي مكان امكن اقامتهم بوظيفة القراءة، او لا يتعين المكان ولا الزمان؟ وهل يلزمهم ايضا ان يبيتوا بالمكان المذكور ام لا؟ وان قيل باللزوم فاستخلف احدهم من يقرا عنه وظيفته في الوقف، والمكان والواقف شرط في كتاب الوقف ان يستنيبوا في اوقات الضرورات فما هي الضرورة التي تبيح النيابة؟ وايضا ان نقصهم الناظر من معلومهم الشاهد به كتاب الوقف: فهل يجوز ان ينقصوا مما شرط عليهم؟ وسواء كان النقص بسبب ضرورة.
او من اجتهاد الناظر او من غير اجتهاده، وليشف سيدنا بالجواب مستوعبا بالادلة، ويجلي به عن القلوب كل عسر مثابا في ذلك.
الجواب::
الحمد لله رب العالمين.اصل هذه المسالة - وهو على اهل الاعمال التي يتقرب بها الى الله تعالى، والوصية لاهلها والنذر لهم - ان تلك الاعمال لا بد ان تكون من الطاعات التي يحبها الله ورسوله، فاذا كانت منهيا عنها لم يجز الوقف عليها.
ولا اشتراطها في الوقف باتفاق المسلمين، وكذلك في النذر ونحوه، وهذا متفق عليه بين المسلمين في الوقف والنذر ونحو ذلك، ليس فيه نزاع بين العلماء اصلا.
ومن اصول ذلك ما اخرجه البخاري في صحيحه عن عايشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من نذر ان يطيع الله فليطعه، ومن نذر ان يعصي الله فلا يعصه» .
ومن اصوله ما اخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين عن عايشة ايضا، ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «خطب على المنبر لما اراد اهل بريرة ان يشترطوا الولاء لغير المعتق فقال: ما بال اقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل، وان كان ماية شرط، كتاب الله احق وشرط الله اوثق» .
وهذا الحديث الشريف المستفيض الذي اتفق العلماء على تلقيه بالقبول، اتفقوا على انه عام في الشروط في جميع العقود، ليس ذلك مخصوصا عند احد منهم بالشروط في البيع، بل من اشترط في الوقف او العتق او الهبة او البيع او النكاح او الاجارة او النذر او غير ذلك شروطا تخالف ما كتبه الله على عباده، بحيث تتضمن تلك الشروط الامر بما نهى الله عنه، او النهي عما امر به، او تحليل ما حرمه، او تحريم ما حلله، فهذه الشروط باطلة باتفاق المسلمين في جميع العقود: الوقف وغيره.
وقد روى اهل السنن ابو داود وغيره، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه قال: «الصلح جايز بين المسلمين، الا صلحا احل حراما، او حرم حلالا والمسلمون على شروطهم الا شرطا احل حراما، او حرم حلالا» .
وحديث عايشة هو من العام الوارد على سبب، وهذا وان كان اكثر العلماء يقولون انه يوخذ فيه بعموم اللفظ، ولا يقتصر على سببه، فلا نزاع بينهم ان اكثر العمومات الواردة على اسباب لا تختص باسبابها كالايات النازلة بسبب معين: مثل ايات المواريث والجهاد والظهار واللعان والقذف والمحاربة والقضاء والفيء والربا والصدقات وغير ذلك.
فعامتها نزلت على اسباب معينة مشهورة في كتب الحديث والتفسير والفقه والمغازي، مع اتفاق الامة على ان حكمها عام في حق غير اوليك المعينين، وغير ذلك مما يماثل قضاياهم من كل وجه.
وكذلك الاحاديث، وحديث عايشة مما اتفقوا على عمومه، وانه من جوامع الكلم التي اوتيها - صلى الله عليه وسلم - وبعث بها حيث قال: «من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وان كان ماية شرط، كتاب الله احق، وشرط الله اوثق» .
ولكن تنازعوا في العقود المباحات، كالبيع، والاجارة، والنكاح: هل معنى الحديث من اشترط شرطا لم يثبت انه خالف فيه شرعا، او من اشترط شرطا يعلم انه مخالف لما شرعه الله؟ هذا فيه تنازع؛ لان قوله في اخر الحديث.
: «كتاب الله احق، وشرط الله اوثق» يدل على ان الشرط الباطل ما خالف ذلك، وقوله: «من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل» قد يفهم منه ما ليس بمشروع.
وصاحب القول الاول يقول: ما لم ينه عنه من المباحات؛ فهو مما اذن فيه فيكون مشروعا بكتاب الله، واما ما كان في العقود التي يقصد بها الطاعات كالنذر فلا بد ان يكون المنذور طاعة، فمتى كان مباحا لم يجب الوفاء به؛ لكن في وجوب الكفارة به نزاع مشهور بين العلماء، كالنزاع في الكفارة بنذر المعصية؛ لكن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به، ونذر المباح مخير بين الامرين، وكذلك الوقف ايضا.
وحكم الشروط فيه يعرف بذكر اصلين: ان الواقف انما وقف الوقوف بعد موته لينتفع بثوابه، واجره عند الله لا ينتفع به في الدنيا، فانه بعد الموت لا ينتفع الميت الا بالاجر والثواب.
لهذا فرق بين ما قد يقصد به منفعة الدنيا، وبين ما لا يقصد به الا الاجر والثواب.
فالاول: كالبيع والاجارة والنكاح، فهذا يجوز للانسان ان يبذل ماله فيها ليحصل اغراضا مباحة دنيوية، ومستحبة ودينية، بخلاف الاغراض المحرمة.
واما الوقف فليس له ان يبذل ملكه الا فيما ينفعه في دينه؛ فانه اذا بذله فيما لا ينفعه في الدين، والوقف لا ينتفع به بعد موته في الدنيا، صار بذل المال لغير فايدة تعود اليه؛ لا في دينه، ولا في دنياه وهذا لا يجوز.
ولهذا فرق العلماء بين الوقف على معين وعلى جهة.
فلو وقف او وصى لمعين جاز، وان كان كافرا ذميا لان صلته مشروعة.
كما دل على ذلك الكتاب والسنة في مثل قوله تعالى {وصاحبهما في الدنيا معروفا}[لقمان: 15] ، ومثل حديث «اسماء بنت ابي بكر لما قدمت امها وكانت مشركة فقالت: يا رسول الله: ان امي قدمت، وهي راغبة افاصلها؟ قال: صلي امك» والحديث في الصحيحين، وفي ذلك نزل قوله تعالى {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تبروهم وتقسطوا اليهم ان الله يحب المقسطين}[الممتحنة: 8] .
وقوله تعالى {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلانفسكم وما تنفقون الا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف اليكم وانتم لا تظلمون}[البقرة: 272] .
فبين ان عطية مثل هولاء انما يعطونها لوجه الله، وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه قال: «في كل ذات كبد رطبة اجر» فاذا اوصى او وقف على معين، وكان كافرا، او فاسقا، لم يكن الكفر والفسق هو سبب الاستحقاق، ولا شرطا فيه، بل هو يستحق ما اعطاه وان كان مسلما عدلا فكانت المعصية عديمة التاثير، بخلاف ما لو جعلها شرطا في ذلك على جهة الكفار والفساق، او على الطايفة الفلانية، بشرط ان يكونوا كفارا او فساقا، فهذا الذي لا ريب في بطلانه عند العلماء.
ولكن تنازعوا في الوقف على جهة مباحة، الوقف على الاغنياء؟ على قولين مشهورين، والصحيح الذي دل عليه الكتاب والسنة، والاصول انه باطل ايضا، لان الله سبحانه قال في مال الفيء: {كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم}[الحشر: 7] فاخبر سبحانه انه شرع ما ذكره، ليلا يكون الفيء متداولا بين الاغنياء دون الفقراء، فعلم انه سبحانه يكره هذا وينهى عنه ويذمه، فمن جعل الوقف للاغنياء فقط فقد جعل المال دولة بين الاغنياء، فيتداولونه بطنا بعد بطن دون الفقراء، وهذا مضاد لله في امره ودينه، فلا يجوز ذلك.
في السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه قال «لا سبق الا في خف او حافر او نصل» .
فاذا كان قد نهى عن بذل السبق الا فيما يعين على الطاعة والجهاد، مع انه بذل لذلك في الحياة وهو منقطع غير موبد، فكيف يكون الامر في الوقف.
وهذا بين في اصول الشريعة من وجهين: احدهما: ان بذل المال لا يجوز الا لمنفعة في الدين او الدنيا، وهذا اصل متفق عليه بين العلماء، ومن خرج عن ذلك كان سفيها، وحجر عليه عند جمهور العلماء الذين يحجرون على السفيه، وكان مبذرا لماله، وقد نهى الله في كتابه عن تبذير المال: {ولا تبذر تبذيرا}[الاسراء: 26] وهو انفاقه في غير مصلحة وكان مضيعا لماله، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اضاعة المال في الحديث المتفق عليه، عن المغيرة بن شعبة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «انه كان ينهى عن قيل وقال وكثرة السوال واضاعة المال» .
وقد قال الله تعالى في كتابه: {ولا توتوا السفهاء اموالكم التي جعل الله لكم قياما}[النساء: 5] .
وقد قال كثير من الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم -: هذا مثل توكيل السفيه، وهو ان يدفع الرجل ماله الى ولده السفيه او امراته السفيهة، فينفقان عليه، ويكون تحت امرهما.
وقال اخرون: ذلك ان يسلم الى السفيه مال نفسه، فان الله نهى عن تسليم مال نفسه اليه، الا اذا اونس منه الرشد.
والاية تدل على النوعين كليهما: فقد نهى الله ان يجعل السفيه متصرفا لنفسه او لغيره: بالوكالة، او الولاية.
وصرف المال فيما لا ينفع في الدين ولا الدنيا من اعظم السفه، فيكون ذلك منهيا عنه في الشرع.
اذا عرف هذا فمن المعلوم ان الواقف لا ينتفع بوقفه في الدنيا، كما ينتفع بما يبذله في البيع والاجارة والنكاح، وهذا ايضا لا ينتفع به في الدين، ان لم ينفقه في سبيل الله، وسبيل الله طاعته وطاعة رسوله، فان الله انما يثيب العباد على ما انفقوه فيما يحبه، واما ما لا يحبه فلا ثواب في النفقة عليه ونفقة الانسان على نفسه وولده وزوجته واجبة؛ فلهذا كان الثواب عليها اعظم من الثواب على التطوعات على الاجانب.
واذا كان كذلك فالمباحات التي لا يثيب الشارع عليها لا يثيب على الانفاق فيها والوقف عليها.
ولا يكون في الوقف عليها منفعة وثواب في الدين، ولا منفعة في الوقف عليها في الدنيا.
فالوقف عليها خال من انتفاع الواقف في الدين والدنيا، فيكون باطلا.
وهذا ظاهر في الاغنياء وان كان قد يكون مستحبا بل واجبا، فانما ذاك اذا اعطوا بسبب غير الغنى، من القرابة والجهاد والدين ونحو ذلك.
فاما ان جعل سبب الاستحقاق هو الغنى وتخصيص الغني بالاعطاء مع مشاركة الفقير له في اسباب الاستحقاق سوى الغني، مع زيادة استحقاق الفقير عليه فهذا مما يعلم بالاضطرار في كل ملة ان الله لا يحبه ولا يرضاه، فلا يجوز اشتراط ذلك في الوقف.
الوجه الثاني: ان الوقف يكون فيما يوبد على الكفار ونحوهم.
وفيما يمنع منه التوارث، وهذا لو ان فيه منفعة راجحة، والا كان يمنع منه الواقف، لانه فيه حبس المال عن اهل المواريث، ومن ينتقل اليهم.
وهذا ماخذ من قال: لا حبس عن فرايض الله، لكن هذا القول ترك لقول عمر وغيره، وما في ذلك من المصلحة الراجحة.
فاما اذا لم يكن فيه مصلحة راجحة، بل قد حبس المال فمنعه الوارث وساير الناس ان ينتفع به، وهو لم ينتفع به، فهذا لا يجوز تنفيذه بلا ريب.
ثم هذه المسالة المتنازع فيها هي في الوقف على الصفات المباحة الدنيوية كالغنى بالمال.
واما الوقف على الاعمال الدينية كالقران والحديث والفقه والصلاة والاذان والامامة والجهاد ونحو ذلك.
والكلام في ذلك هو الاصل الثاني.
وذلك لا يمكن ان يكون في ذلك نزاع بين العلماء، في انه لا يجوز ان يوقف الا على ما شرعه الله واحبه من هذه الاعمال.
فاما من ابتدع عملا لم يشرعه الله، وجعله دينا فهذا ينهى عن عمل هذا العمل، فكيف يشرع له ان يقف عليه الاموال، بل هذا من جنس الوقف على ما يعتقده اليهود والنصارى عبادات، وذلك من الدين المبدل او المنسوخ.
ولهذا جعلنا هذا احد الاصلين في الوقف.
وذلك ان باب العبادات والديانات والتقربات متلقاة عن الله ورسوله، فليس لاحد ان يجعل شييا عبادة او قربة الا بدليل شرعي.
قال تعالى: {ام لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم ياذن به الله}[الشورى: 21] وقال تعالى: {وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}[الانعام: 153] .
وقال تعالى: {المص - كتاب انزل اليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمومنين - اتبعوا ما انزل اليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه اولياء قليلا ما تذكرون}[الاعراف: 1 - 3] .
ونظاير ذلك في الكتاب كثير، يامر الله فيه بطاعة رسوله واتباع كتابه، وينهى عن اتباع ما ليس من ذلك.
والبدع جميعها كذلك، فان البدعة الشرعية - اي المذمومة في الشرع - هي ما لم يشرعه الله في الدين، اي ما لم يدخل في امر الله ورسوله وطاعة الله ورسوله.
فاما ان دخل في ذلك فانه من الشرعة لا من البدعة الشرعية.
وان كان قد فعل بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بما عرف من امره: كاخراج اليهود والنصارى بعد موته، وجمع المصحف، وجمع الناس على قاري واحد في قيام رمضان، ونحو ذلك وعمر بن الخطاب الذي امر بذلك وان سماه بدعة، فانما ذلك لانه بدعة في اللغة، اذ كل امر فعل على غير مثال متقدم يسمى في اللغة بدعة، وليس مما تسميه الشريعة بدعة، وينهى عنه، فلا يدخل فيما رواه مسلم في صحيحه عن جابر قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته «ان اصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الامور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» .
فان قوله - صلى الله عليه وسلم -: «كل بدعة ضلالة» حق، وليس فيما دلت عليه الادلة الشرعية على الاستحباب بدعة، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه اهل السنن، وصححه الترمذي، عن العرباض بن سارية، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله، كان هذه موعظة مودع، فماذا تعهد الينا؟ فقال: اوصيكم بتقوى الله، وعليكم بالسمع والطاعة، وان كان عبدا حبشيا، فانه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، واياكم ومحدثات الامور، فان كل بدعة ضلالة» .
وفي رواية: «فان كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» ، وفي رواية: «وكل ضلالة في النار» .
ففي هذا الحديث امر المسلمين باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين، وبين ان المحدثات التي هي البدع التي نهى عنها ما خالف ذلك.
فالتراويح ونحو ذلك لو لم تعلم دلالة نصوصه وافعاله عليها، لكان ادنى امرها ان تكون من سنة الخلفاء الراشدين، فلا تكون من البدع الشرعية التي سماها النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعة، ونهى عنها.
وبالجملة لا خلاف بين العلماء ان من وقف على صلاة او صيام او قراءة او جهاد غير شرعي ونحو ذلك لم يصح وقفه، بل هو ينهى عن ذلك العمل، وعن البذل فيه، والخلاف الذي بينهم في المباحات لا يخرج مثله هنا، لان اتخاذ الشيء عبادة، واعتقاد كونه عبادة، وعمله، لانه عبادة: لا يخلو من ان يكون مامورا به، او منهيا عنه، فان كان مامورا به - واجبا او مستحبا في الشريعة - كان اعتقاد كونه عبادة، والرغبة فيه لاجل العبادة، ومحبته وعمله مشروعا.
وان لم يكن الله يحبه ولا يرضاه فليس بواجب، ولا مستحب، لم يجز لاحد ان يعتقد انه مستحب، ولا انه قربة وطاعة، ولا يتخذه دينا، ولا يرغب فيه لاجل كونه عبادة.
وهذا اصل عظيم من اصول الديانات، وهو التفريق بين المباح الذي يفعل لانه مباح، وبين ما يتخذ دينا وعبادة وطاعة وقربة واعتقادا ورغبة وعملا.
فمن جعل ما ليس مشروعا، ولا هو دينا ولا طاعة ولا قربة جعله دينا وطاعة وقربة: كان ذلك حراما، باتفاق المسلمين لكن قد يتنازع العلماء في بعض الامور: هل هو من باب القرب والعبادات ام لا؟ سواء كان من باب الاعتقادات القولية، او من باب الارادات العملية حتى قد يرى احدهم واجبا ما يراه الاخر حراما؛ كما يرى بعضهم وجوب قتل المرتد؛ ويرى اخر تحريم ذلك؛ ويرى احدهم وجوب التفريق بين السكران وامراته اذا طلقها في سكره، ويرى الاخر تحريم التفريق بينهما؛ وكما يرى احدهم وجوب قراءة فاتحة الكتاب على الماموم ويرى الاخر كراهة قراءته، اما مطلقا؛ واما اذا سمع جهر الامام، ونحو ذلك من موارد النزاع.
كما ان اعتقادها وعملها من موارد النزاع، فبذل المال عليها هو من موارد النزاع ايضا، وهو الاجتهادية.
واما كل عمل يعلم المسلم انه بدعة منهي عنها؛ فان العالم بذلك لا يجوز الوقف باتفاق المسلمين؛ وان كان قد يشرط بعضهم بعض هذه الاعمال من لم يعلم الشريعة او من هو يقلد في ذلك لمن لا يجوز تقليده في ذلك، فان هذا باطل، كما قال عمر بن الخطاب: ردوا الجهالات الى السنة، ولما في الصحيح عن عايشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه قال: «من عمل عملا ليس عليه امرنا فهو رد» .
ولهذا اتفق العلماء ان حكم الحاكم العادل اذا خالف نصا او اجماعا ولم يعلمه فهو منقوض، فكيف بتصرف من ليس يعلم هذا الباب من واقف لا يعلم حكم الشريعة؛ ومن يتولى ذلك له من وكلايه.
وان قدر ان حاكما حكم بصورة ذلك ولزومه فغايته ان يكون عالما عادلا، فلا ينفذ ما خالف فيه نصا او اجماعا باتفاق المسلمين.
والشروط المتضمنة للامر بما نهى الله عنه، والنهي عن امر الله به مخالفة للنص والاجماع، وكل ما امر الله به او نهى عنه، فان طاعته فيه بحسب الامكان.
كما قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم}[التغابن: 16] ، وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه: «اذا امرتكم بامر فاتوا منه ما استطعتم» .
فهذه القواعد هي الكلمات الجامعة والاصول الكلية التي تنبني عليها هذه المسايل ونحوها.
وقد ذكرنا منها نكتا جامعة بحسب ما تحتمله الورقة يعرفها المتدرب في فقه الدين.
وبعد هذا ينظر في تحقيق مناط الحكم في صورة السوال وغيرها بنظره.
فما تبين انه من الشروط الفاسدة الغي؛ وما تبين انه شرط موافق لكتاب الله عمل به؛ وما اشتبه امره او كان فيه نزاع فله حكم نظايره.
ومن هذه الشروط الباطلة ما يحتاج تغييره الى همة قوية وقدرة نافذة.
ويويدها الله بالعلم والدين.
والا فمجرد قيام الشخص في هوى نفسه لجلب دنيا او دفع مضرة دنيوية، اذا اخرج ذلك مخرج الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يكاد ينجح سعيه.
وان كان متظلما طالبا من يعينه، فان اعانه الله بمن هو متصف بذلك، او بما يقدره له من جهة تعينه حصل مقصوده.
ولا حول ولا قوة الا بالله.
وما ذكره السايلون فرض تمام الوجود.
والله يسهل لهم ولساير المسلمين من يعينهم على خير الدين والدنيا، انه على كل شيء قدير.
فمما ما لا نزاع فيه بين العلماء ان مبيت الشخص في مكان معين دايما ليس قربة ولا طاعة باتفاق العلماء.
ولا يكون ذلك الا في بعض الاوقات اذا كان في التعيين مصلحة شرعية، مثل المبيت في ليالي منى؛ ومثل مبيت الانسان في الثغر للرباط، او مبيته في الحرس في سبيل الله، او عند عالم او رجل صالح ينتفع به.
ونحو ذلك.
فاما ان المسلم يجب عليه ان يرابط دايما ببقعة بالليل لغير مصلحة دينية فهذا ليس من الدين.
بل لو كان المبيت عارضا، وكان يشرع فيها ذلك لم يكن ايضا من الدين.
- ومن شرط عليه ذلك، ووقف المال لاجل ذلك فلا ريب في بطلان مثل هذا الشرط وسقوطه.
بل تعيين مكان معين للصلوات الخمس، او قراءة القران، او اهدايه غير ما عينه الشارع ليس ايضا مشروعا باتفاق العلماء.
حتى لو نذر ان يصلي او يقرا او يعتكف في مسجد بعينه غير الثلاثة لم يتعين.
وله ان يفعل ذلك في غيره؛ لكن في وجوب الكفارة لفوات التعيين قولان للعلماء.
والعلماء لهم في وصول العبادات البدنية: كالقراءة والصلاة والصيام الى الميت قولان اصحهما انه يصل؛ لكن لم يقل احد من العلماء بالتفاضل في مكان دون مكان.
ولا قال احد قط من علماء الامة المتبوعين: ان الصلاة او القراءة عند القبر افضل منها عند غيره؛ بل القراءة عند القبر قد اختلفوا في كراهتها، فكرهها ابو حنيفة.
ومالك والامام احمد في احدى الروايتين.
وطوايف من السلف.
ورخص فيها طايفة اخرى من اصحاب ابي حنيفة، والامام احمد وغيرهم.
وهو احدى الروايتين عن احمد وليس عن الشافعي في ذلك كله نص نعرفه.
ولم يقل احد من العلماء ان القراءة عند القبر افضل.
ومن قال انه عند القبر ينتفع الميت بسماعها دون ما اذا بعد القاري فقوله هذا بدعة باطلة مخالفة لاجماع العلماء.
والميت بعد موته لا ينتفع باعمال يعملها هو بعد الموت: لا من استماع ولا قراءة، ولا غير ذلك باتفاق المسلمين.
وانما ينتفع باثار ما عمله في حياته.
كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اذا مات ابن ادم انقطع عمله الا من ثلاث: صدقة جارية، او علم ينتفع به او ولد صالح يدعو له» .
وينتفع ايضا بما يهدى اليه من ثواب العبادات المالية كالصدقة والهبة باتفاق الفقهاء.
وكذلك العبادات البدنية في اصح قوليهم.
والزام المسلمين ان لا يعملوا ولا يتصدقوا الا في بقعة معينة، مثل كنايس النصارى باطل.
وبكل حال فالاستخلاف في مثل هذه الاعمال المشروطة جايز، وكونها عن الواقف اذا كان النايب مثل المستنيب فقد يكون في ذلك مفسدة راجحة على المصلحة الشرعية، كالاعمال المشروطة في الاجارة على عمل في الذمة، لان التعيين فيه مصلحة شرعية.
فشرط باطل ومتى نقصوا من المشروط لهم كان لهم ان ينقصوا من المشروط عليهم بحسب ذلك.
والله اعلم.
What's Your Reaction?






