الوجه السابع عشر ان هذا يهدم عليهم اثبات العلم بصدق
الكلام النفساني
الوجه السابع عشر ان هذا يهدم عليهم اثبات العلم بصدق
الكلام النفساني
قِيلَ تَقُولُ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا وَهُوَ.
الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ: إنَّ هَذَا يَهْدِمُ عَلَيْهِمْ إثْبَاتَ الْعِلْمِ بِصِدْقِ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ الْقَائِمِ بِذَاتِ اللَّهِ، وَإِذَا فَسَدَ ذَلِكَ لَمْ يَنْفَعْهُمْ إثْبَاتُ الْكَلَامِ لَهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا بَلْ لَمْ يَنْفَعْهُمْ إثْبَاتُ كَلَامٍ لَمْ يَعْلَمُوا وُجُودَهُ إلَّا وَهُوَ كَذِبٌ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا الْخَبَرَ النَّفْسَانِيَّ إلَّا بِتَقْدِيرِ الْخَبَرِ الْكَذِبِ، فَهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا وُجُودَ خَبَرٍ نَفْسَانِيٍّ إلَّا مَا كَانَ كَذِبًا.
فَإِنْ أَثْبَتُوا لِلَّهِ ذَلِكَ كَانَ كُفْرًا بَاطِلًا خِلَافَ مَقْصُودِهِمْ وَخِلَافَ إجْمَاعِ الْخَلَائِقِ إذْ أَحَدٌ لَا يُثْبِتُ لِلَّهِ كَلَامًا لَازِمًا لِذَاتِهِ هُوَ كَذِبٌ، وَإِنْ لَمْ يُثْبِتُوا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ طَرِيقٌ إلَى إثْبَاتِ الْخَبَرِ النَّفْسَانِيِّ بِحَالٍ.
لِأَنَّا حِينَئِذٍ لَمْ نَعْلَمْ وُجُودَ مَعْنًى نَفْسَانِيٍّ صِدْقًا غَيْرَ الْعِلْمِ وَنَحْوِهِ لَا شَاهِدًا وَلَا غَائِبًا فَإِنَّ خَبَرَ اللَّهِ لَا يَنْفَعُك عَنْ الْعِلْمِ، وَإِذَا امْتَنَعَ إثْبَاتُ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ الْخَبَرِ امْتَنَعَ حِينَئِذٍ وَصْفُهُ بِكَوْنِهِ صِدْقًا، فَإِنَّ ثُبُوتِ الصِّفَةِ بِدُونِ الْمَوْصُوفِ مُحَالٌ، فَعُلِمَ أَنَّ الطَّرِيقَةَ الَّتِي سَلَكُوهَا فِي إثْبَاتِ صِدْقِ الْخَبَرِ يُبْطِلُ عَلَيْهِمْ إثْبَاتَ أَصْلِ الْخَبَرِ النَّفْسَانِيِّ، فَلَا يَثْبُتُ حِينَئِذٍ
لَا خَبَرٌ نَفْسَانِيٌّ وَلَا صِدْقُهُ، وَالطَّرِيقَةُ الَّتِي سَلَكُوهَا فِي إثْبَاتِ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ إنَّمَا يَثْبُتُ بِهَا لَوْ قُدِّرَ صِحَّتُهَا خَبَرٌ هُوَ كَذِبٌ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّهِ، فَعُلِمَ أَنَّهُمْ مَعَ التَّنَاقُضِ لَمْ يُثْبِتُوا لَا الْكَلَامَ النَّفْسَانِيَّ وَلَا صِدْقَهُ فَلَمْ يُثْبِتُوا وَاحِدًا مِنْ الْمُتَنَاقِضَيْنِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَخْلُو الْأَمْرُ عَنْ النَّقِيضَيْنِ وَيُمْكِنُ رَفْعُهُمَا جَمِيعًا.
قِيلَ: هَذَا لَا يُمْكِنُ فِي الْحَقَائِقِ الثَّابِتَةِ وَلَكِنْ يُمْكِنُ فِي الْمُقَدَّرَاتِ الْمُمْتَنِعَةِ، فَإِنَّ مَنْ فَرَضَ تَقْدِيرًا مُمْتَنِعًا لَزِمَهُ اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ وَانْتِفَاؤُهُمَا وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّهُ لَازِمٌ لِلْمُحَالِ الَّذِي قَدَّرَهُ وَهَذَا دَلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ.
الْوَجْهُ الثَّامِنَ عَشَرَ: وَهُوَ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا لِلْخَبَرِ مَعْنًى لَيْسَ هُوَ الْعِلْمُ وَبَابُهُ فَهَذَا إثْبَاتُ أَمْرٍ مُمْتَنِعٍ، وَإِذَا كَانَ مُمْتَنِعًا مِنْ صِفَةٍ بِأَنَّهُ صِدْقٌ أَوْ كَذِبٌ مُمْتَنِعٌ أَيْضًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فَقَوْلُهُمْ بَعْدَ هَذَا الْعِلْمِ يَسْتَلْزِمُ الصِّدْقَ مِنْهُ وَيُنَافِي الْكَذِبَ، وَإِنْ كَانَ يُنَاقِضُ قَوْلَهُمْ الْعِلْمُ لَا يَسْتَلْزِمُ الصِّدْقَ وَلَا يُنَافِي الْكَذِبَ، فَهَذَانِ النَّقِيضَانِ كِلَاهُمَا مُنْتَفٍ لِأَنَّ كِلَاهُمَا إنَّمَا يَلْزَمُ
عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ مَعْنًى لِلْخَبَرِ لَيْسَ هُوَ الْعِلْمَ وَبَابَهُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ تَقْدِيرًا بَاطِلًا مُمْتَنِعًا كَانَ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ نَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ قَدْ يَكُونُ بَاطِلًا إذْ حَاصِلُهُ لُزُومُ اجْتِمَاعِ النَّقِيضَيْنِ وَلَزِمَ الْخُلُوُّ عَنْ النَّقِيضَيْنِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَهَذِهِ اللَّوَازِمُ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْمَلْزُومِ الَّذِي هُوَ مَعْنًى لِلْخَبَرِ لَيْسَ هُوَ الْعِلْمَ وَنَحْوَهُ، وَلِهَذَا يُجْعَلُ فَسَادُ اللَّوَازِمِ دَلِيلًا عَلَى فَسَادِ
الْمَلْزُومِ.
وَإِذَا أُرِيدَ تَحْرِيرُ الدَّلِيلِ بِهَذَا الْوَجْهِ قِيلَ لَوْ كَانَ لِلْخَبَرِ مَعْنًى لَيْسَ هُوَ الْعِلْمَ وَنَحْوَهُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ مُسْتَلْزِمًا لِصِدْقِهِ أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِصِدْقِهِ لَمْ يُعْلَمْ حِينَئِذٍ أَنَّهُ غَيْرُ الْعِلْمِ إذْ لَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ إلَّا إمْكَانَ تَقْدِيرِ الْكَذِبِ مَعَ الْعِلْمِ فَإِذَا كَانَ الْعِلْمُ مُسْتَلْزِمًا لِلصِّدْقِ النَّفْسَانِيِّ مُنَافِيًا لِلْكَذِبِ النَّفْسَانِيِّ كَانَ هَذَا التَّقْدِيرُ مُمْتَنِعًا فَلَا يُعْلَمُ
حِينَئِذٍ ثُبُوتُ مَعْنًى لِلْخَبَرِ غَيْرَ الْعِلْمِ لَا فِي حَقِّ الْخَالِقِ وَلَا فِي حَقِّ الْعِبَادِ، فَيَكُونُ قَائِلُ ذَلِكَ قَائِلًا بِلَا عِلْمٍ وَلَا دَلِيلٍ أَصْلًا فِي بَابِ كَلَامِ اللَّهِ وَخَبَرِهِ وَهَذَا مُحَرَّمٌ بِالِاتِّفَاقِ.
وَهَذَا بِعَيْنِهِ يَبْطُلُ بِبُطْلَانِ قَوْلِهِمْ، أَيْ أَنَّهُمْ قَالُوا بِلَا حُجَّةٍ أَصْلًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْعِلْمُ مُسْتَلْزِمًا لِلصِّدْقِ النَّفْسَانِيِّ وَلَا مُنَافِيًا لِلْكَذِبِ النَّفْسَانِيِّ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ طَرِيقٌ إلَى إثْبَاتِ كَلَامِ نَفْسَانِيٍّ هُوَ صِدْقٌ، لِأَنَّ الْعِلْمَ لَا يَسْتَلْزِمُهُ وَلَا يُنَافِي ضِدَّهُ، فَلَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِالْعِلْمِ وَسَائِرُ مَا يُذْكَرُ غَيْرُ الْعِلْمِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ صَادِقٌ فِي الْجُمْلَةِ وَأَنَّ الْكَذِبَ مُمْتَنِعٌ عَلَيْهِ
وَهَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ بَيْنَ النَّاسِ فِيهِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ إثْبَاتُ كَلَامٍ نَفْسَانِيٍّ هُوَ صِدْقٌ وَقِيَامُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ اللَّهَ صَادِقٌ كَقِيَامِ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ، وَهَذَا لَا يَنْفَعُهُمْ فِي إثْبَاتِ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ، الَّذِي ادَّعَوْهُ مُنْفَرِدِينَ بِهِ فَكَذَلِكَ هَذَا لَا يَنْفَعُهُمْ فِي إثْبَاتِ مَعْنَى الْخَبَرِ النَّفْسَانِيِّ الصَّادِقِ الَّذِي انْفَرَدُوا بِإِثْبَاتِهِ مِنْ بَيْنِ فِرَقِ الْأُمَّةِ وَابْتَدَعُوهُ وَفَارَقُوا بِهِ جَمَاعَةَ
الْمُسْلِمِينَ كَمَا أَقَرُّوا هُمْ بِهَذَا الشُّذُوذِ وَالِانْفِرَادِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمَحْصُولِ.
الْوَجْهُ التَّاسِعَ عَشَرَ: وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِلْجَوَابِ عَمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ السُّؤَالِ عَنْ أَنَّ الْمُتَنَاقِضَيْنِ لَا يُعَيِّنُ الصَّادِقَ وَهُوَ أَنْ نَقُولَ لَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَهُمْ إنَّ الْعِلْمَ يُنَافِي الْكَذِبَ النَّفْسَانِيَّ هُوَ الصَّوَابُ دُونَ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ قَدْ يُجَامِعُ الْكَذِبَ النَّفْسَانِيَّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْعِلْمُ مُسْتَلْزِمًا لِخَبَرٍ نَفْسَانِيٍّ صُدِّقَ وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ الْمَرْءُ مِنْ نَفْسِهِ وَيَعْلَمُهُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مَا عَلِمَهُ لَا
يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ بِنَفْسِهِ خَبَرٌ يُنَافِي ذَلِكَ، بَلْ لَوْ كُلِّفَ ذَلِكَ كُلِّفَ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَلِهَذَا لَمْ يَتَنَازَعْ النَّاسُ فِي أَنَّهُ يَمْتَنِعُ تَكْلِيفُ الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْتَقِدَ خِلَافَ مَا يَعْلَمُهُ وَلَوْ كَانَ فِي الْإِمْكَانِ خَبَرٌ نَفْسَانِيٌّ يُنَافِي الْعِلْمَ لَأَمْكَنَ أَنْ يُطْلَبَ ذَلِكَ مِنْ الْإِنْسَانِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُ كُلُّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ قِيلَ إنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي الشَّرِيعَةِ أَوْ لَمْ يُمْكِنْ كَمَا أَنَّ
طَلَبَ الْكَذِبِ مُمْكِنٌ وَالتَّكْلِيفَ بِهِ مُمْكِنٌ.
وَأَمَّا طَلَبُ كَذِبٍ نَفْسَانِيٍّ يُخَالِفُ الْعِلْمَ فَهَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ طَلَبُهُ وَالتَّكْلِيفُ بِهِ إذْ هُوَ أَمْرٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُمْ أَنَّ الْجَحْدَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ فِي الْعِبَارَةِ بِاللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ، وَصَاحِبُ الْجَحْدِ وَإِنْ جَحَدَهُ بِاللِّسَانِ هُوَ مُعْتَرِفٌ بِالْقَلْبِ فَلَا يَصِحُّ الْجَحْدُ مِنْهُ بِالْقَلْبِ، هُوَ أَصْدَقُ مِنْ قَوْلِهِمْ الْعَالِمُ بِالشَّيْءِ قَدْ يَقُومُ بِقَلْبِهِ كَذِبٌ نَفْسَانِيٌّ يُنَافِي
عِلْمَهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ بَطَلَ مَا احْتَجُّوا بِهِ عَلَى إثْبَاتِ الْخَبَرِ النَّفْسَانِيِّ الَّذِي ادَّعَوْهُ وَرَاءَ الْعِلْمِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ.
الْوَجْهُ الْعِشْرُونَ: أَنْ يُقَالَ لَا رَيْبَ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُخْبِرُ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ وَلَا يَظُنُّهُ وَبِمَا يَعْلَمُ أَوْ يَظُنُّ خِلَافَهُ وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَهُ مَعْنًى يَقُومُ بِنَفْسِهِ وَرَاءَ الْعِلْمِ وَلِهَذَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُ هَذَا الْمَعْنَى قَبْلَ تَقْدِيرِ الْعِبَارَةِ عَنْهُ فَضْلًا عَنْ وُجُودِ التَّعْبِيرِ عَنْهُ فَإِنَّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُخْبِرَ بِخِلَافِ عِلْمِهِ وَيَعْتَقِدَ ذَلِكَ يُقَدِّرُهُ وَيُصَوِّرُهُ فِي نَفْسِهِ قَبْلَ التَّعْبِيرِ عَنْهُ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْكَذِبَ لَفْظٌ لَهُ مَعْنًى كَمَا أَنَّ الصِّدْقَ لَفْظٌ لَهُ مَعْنًى وَلَوْ كَانَ لَفْظًا لَا مَعْنَى لَهُ فِي النَّفْسِ لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْأَصْوَاتِ وَالْأَلْفَاظِ الْمُهْمَلَةِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكِنْ يُقَالُ هَذَا لَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الِاعْتِقَادِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ فَإِنَّ الْمُعْتَقِدَ لِلشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ بِهِ لَا رَيْبَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَالِمٍ بِهِ وَإِنْ
اعْتَقَدَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِهِ فَالْكَذِبُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، لَكِنَّ الْكَذِبَ يَعْلَمُ صَاحِبُهُ أَنَّهُ بَاطِلٌ وَالْجَهْلَ الْمُرَكَّبَ لَا يَعْلَمُ صَاحِبُهُ أَنَّهُ بَاطِلٌ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاعْتِقَادَاتِ فِي كَوْنِهَا حَقًّا أَوْ بَاطِلًا أَوْ مَعْلُومَةً أَوْ مَجْهُولَةً لَا يُخْرِجُ عَنْ الِاشْتِرَاكِ فِي مُسَمَّى الِاعْتِقَادِ وَالْخَبَرِ النَّفْسَانِيِّ كَمَا لَا تُخْرِجُ الْعِبَارَةُ عَنْهَا بِكَوْنِهَا حَقًّا أَوْ بَاطِلًا أَوْ مَعْلُومَةً أَوْ مَجْهُولَةً عَنْ أَنْ تَكُونَ لَفْظًا وَعِبَارَةً وَكَلَامًا فَإِذَا كَانَتْ الْعِبَارَاتُ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا يَجْمَعُهَا النُّطْقُ اللِّسَانِيُّ فَالْمَعْنَى الَّذِي هُوَ الِاعْتِقَادُ عَلَى
اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ يَجْمَعُهُ النُّطْقُ النَّفْسَانِيُّ وَالْخَبَرُ النَّفْسَانِيُّ وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْإِرَادَةَ أَوْ الطَّلَبَ سَوَاءٌ كَانَتْ إرَادَةَ شَرٍّ أَوْ كَانَ صَاحِبُهَا عَالِمًا بِحَقِيقَةِ مُرَادِهِ وَعَاقِبَتِهِ أَوْ كَانَ جَاهِلًا بِعَاقِبَتِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُخْرِجُهَا عَنْ الِاشْتِرَاكِ فِي مُسَمَّى الْإِرَادَةِ أَوْ الطَّلَبِ.
الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}[الأنعام: 33] فَنَفَى عَنْهُمْ التَّكْذِيبَ وَأَثْبَتَ الْجُحُودَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّكْذِيبَ بِاللِّسَانِ لَمْ يَكُنْ مُنْتَفِيًا عَنْهُمْ فَعُلِمَ أَنَّهُ نَفَى عَنْهُمْ تَكْذِيبَ الْقَلْبِ وَلَوْ كَانَ الْمُكَذِّبُ الْجَاحِدُ عِلْمُهُ يَقُومُ بِقَلْبِهِ خَبَرٌ نَفْسَانِيٌّ لَكَانُوا مُكَذِّبِينَ بِقُلُوبِهِمْ فَلَمَّا نَفَى عَنْهُمْ تَكْذِيبَ الْقُلُوبِ
عُلِمَ أَنَّ الْجُحُودَ الَّذِي هُوَ ضَرْبٌ مِنْ الْكَذِبِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْحَقِّ الْمَعْلُومِ لَيْسَ هُوَ كَذِبًا فِي النَّفْسِ وَلَا تَكْذِيبًا فِيهَا وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّ الْعَالِمَ بِالشَّيْءِ لَا يُكَذِّبُ بِهِ وَلَا يُخَيَّرُ فِي نَفْسِهِ بِخِلَافِ عِلْمِهِ فَإِنْ قِيلَ الْعَالِمُ بِالشَّيْءِ الْعَارِفُ بِهِ قَدْ يُؤْمِنُ بِذَلِكَ وَقَدْ يَكْفُرُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}[النمل: 14] وَذَلِكَ مَثَلُ
الْمُعَانِدِينَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَلَيْسَ كُفْرُهُمْ لِمُجَرَّدِ لَفْظِهِمْ فَإِنَّهُمْ أَيْضًا قَدْ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا يَعْلَمُونَهُ وَلَا يَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ مِثْلُ مَا كَانَ يَقُولُهُ أَبُو طَالِبٍ مِنْ الْإِخْبَارِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَمِثْلُ إخْبَارِ كَثِيرٍ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ بِرِسَالَتِهِ وَمَعَ هَذَا فَلَيْسُوا مُؤْمِنِينَ وَلَا مُصَدِّقِينَ وَمِنْهُمْ الْيَهُودُ الَّذِينَ جَاوَرُوهُ وَقَالُوا نَشْهَدُ
أَنَّك رَسُولُ اللَّهِ قِيلَ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا هُوَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: وَهُوَ أَنَّ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ الْحَقِّ لَيْسَ إيمَانُ الْقَلْبِ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ عَلِمَ بِقَلْبِهِ أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ وَكَانَ مُبْغِضًا لَهُ وَلِلرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ وَلِمَنْ أَرْسَلَهُ مُعَادِيًا لِذَلِكَ مُسْتَكْبِرًا عَلَيْهِمْ مُمْتَنِعًا عَنْ الِانْقِيَادِ لِذَلِكَ الْحَقِّ لَمْ يَكُنْ هَذَا مُؤْمِنًا مُثَابًا فِي الْآخِرَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ تَنَازُعِهِمْ الْكَثِيرِ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَلِهَذَا
لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي كُفْرِ إبْلِيسَ مَعَ أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا عَارِفًا بَلْ لَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ مِنْ عِلْمٍ فِي الْقَلْبِ وَعَمَلٍ فِي الْقَلْبِ أَيْضًا وَلِهَذَا كَانَ عَامَّةُ أَئِمَّةِ الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْإِيمَانَ مُجَرَّدَ مَا فِي الْقَلْبِ أَوْ مَا فِي الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ يُدْخِلُونَ فِي ذَلِكَ مَحَبَّةَ الْقَلْبِ وَخُضُوعَهُ لِلْحَقِّ لَا يَجْعَلُونَ ذَلِكَ مُجَرَّدَ عِلْمِ الْقَلْبِ.
وَلَفْظُ التَّصْدِيقِ يَتَنَاوَلُ الْعِلْمَ الَّذِي فِي الْقَلْبِ وَيَتَنَاوَلُ أَيْضًا ذَلِكَ الْعَمَلَ فِي الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ مُوجَبُ الْعِلْمِ وَمُقْتَضَاهُ فَإِنَّهُ يُقَالُ صَدَقَ عِلْمُهُ بِعَمَلِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ وُجُودَ الْعِلْمِ مُسْتَلْزِمٌ لِوُجُودِ هَذَا الْعَمَلِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ إسْلَامُ الْقَلْبِ بِمَحَبَّتِهِ وَخُشُوعِهِ فَإِذَا عُدِمَ مُقْتَضَى الْعِلْمِ فَإِنَّهُ قَدْ يَزُولُ الْعِلْمُ مِنْ الْقَلْبِ بِالْكُلِّيَّةِ وَيُطْبَعُ عَلَى الْقَلْبِ حَتَّى يَصِيرَ
مُنْكِرًا لِمَا عَرَفَهُ جَاهِلًا بِمَا كَانَ يَعْلَمُهُ وَهَذَا الْعِلْمُ وَهَذَا الْعَمَلُ كِلَاهُمَا يَكُونُ مِنْ مَعَانِي الْأَلْفَاظِ.
فَلَفْظُ الشَّهَادَةِ وَالْإِقْرَارِ وَالْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ يَنْظِمُ هَذَا كُلَّهُ لَكِنَّ لَفْظَ الْخَبَرِ وَالْبِنَاءِ وَأَحَدُ ذَلِكَ هُوَ الْعِلْمُ وَإِنْ اسْتَلْزَمَ هَذِهِ الْأَعْمَالَ فَهُوَ كَمَا يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمُ لِذَلِكَ فَإِذَا قَالَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ الْعَالَمِينَ الْجَاحِدِينَ الَّذِينَ لَيْسُوا مُؤْمِنِينَ بِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ كَقَوْلِ أُولَئِكَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ فَهَذَا خَبَرٌ مَحْضٌ مُطَابِقٌ لِعِلْمِهِمْ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ
يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[البقرة: 146] لَكِنْ كَمَا لَا يَنْفَعُهُمْ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ لَا يَنْفَعُهُمْ مُجَرَّدُ الْخَبَرِ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِالْعِلْمِ فِي الْبَاطِنِ مُقْتَضَاهُ مِنْ الْعَمَلِ الَّذِي هُوَ الْمَحَبَّةُ وَالتَّعْظِيمُ وَالِانْقِيَادُ وَنَحْوُ ذَلِكَ كَمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِالْخَبَرِ الظَّاهِرِ مُقْتَضَاهُ مِنْ الِاسْتِسْلَامِ وَالِانْقِيَادِ لِأَهْلِ الطَّاعَةِ
فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَيُقِرُّونَ بِهِ يُوصَفُونَ بِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ وَبِأَنَّهُمْ جَاحِدُونَ وَيُوصَفُونَ بِأَنَّهُمْ مُكَذِّبُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ خِلَافَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُكَذِّبِينَ بِمَا عَلِمُوهُ أَيْ مُكَذِّبِينَ بِقُلُوبِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ مُقِرِّينَ مُصَدِّقِينَ إذْ الْعَبْدُ يَخْلُو فِي الشَّيْءِ
الْوَاحِدِ عَنْ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ وَالْكُفْرُ أَعَمُّ مِنْ التَّكْذِيبِ فَكُلُّ مَنْ كَذَّبَ الرَّسُولَ كَافِرٌ وَلَيْسَ كُلُّ كَافِرٍ مُكَذِّبًا، بَلْ مَنْ يَعْلَمُ صِدْقَهُ وَيُقِرُّ بِهِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُبْغِضُهُ أَوْ يُعَادِيهِ كَافِرٌ أَوْ مَنْ أَعْرِض فَلَمْ يَعْتَقِدْ لَا صِدْقَهُ وَلَا كَذِبَهُ كَافِرٌ وَلَيْسَ بِمُكَذِّبٍ وَكَذَلِكَ الْعَالِمِ بِالشَّيْءِ قَدْ يَخْلُو عَنْ التَّكْذِيبِ وَعَنْ التَّصْدِيقِ بِهِ الَّذِي هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِعَمَلِ الْقَلْبِ وَإِنْ لَمْ يَخْلُ
عَنْ التَّصْدِيقِ الَّذِي هُوَ مُجَرَّدُ عِلْمِ الْقَلْبِ فَأَمَّا أَنْ يَقُومَ بِالْقَلْبِ تَصْدِيقٌ قَوْلِيٌّ غَيْرُ الْعِلْمِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي ادَّعَاهُ هَؤُلَاءِ الشُّذَّاذُ عَنْ الْجَمَاعَةِ وَهُوَ مَوْرِدُ النِّزَاعِ.
وَلِهَذَا قَالَ الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ: التَّوْحِيدُ قَوْلُ الْقَلْبِ وَالتَّوَكُّلُ عَمَلُ الْقَلْبِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي وَلَا بِالتَّمَنِّي وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقُلُوبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ: وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: مَا زَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَعُودُونَ بِالتَّذَكُّرِ عَلَى التَّفَكُّرِ وَبِالتَّفَكُّرِ عَلَى التَّذَكُّرِ، وَيُنَاطِقُونَ الْقُلُوبَ حَتَّى نَطَقَتْ، فَإِذَا لَهَا أَسْمَاعٌ وَأَبْصَارٌ فَنَطَقَتْ بِالْحِكْمَةِ وَأُورِثَتْ الْعِلْمَ.