شروط الرضاع

كتاب النكاح

شروط الرضاع
-يشترط لتحقيق الرضاع الشرعي الموجب لتحريم النكاح، كما توجبه القرابة والمصاهرة، شروط: بعضها يتعلق بالمرضعة، وبعضها يتعلق بالرضيع، وبعضها يتعلق بلبن الرضاعة، وفيها كلها اختلاف المذاهب فإن قلت: إن كلمة - الأشهر - في قوله تعالى: {الحج أشهر معلومات} جمع لا مفرد ولا مثنى، وقد أطلق في الآية على شهرين وبعض شهر، وذلك لأن مدة الحج التي لا يصح عمل من أعمال الحج إلا فيها هي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، وهذا يصحح إطلاق الثلاثين على أربعة وعشرين في آية {وحمله وفصاله ثلاثون} ، والجواب من ثلاثة أوجه: الأول: أن بعض الشهر، وهو عشرة أيام من ذي الحجة، اعتبرت معدوداً، فكانت ثالث ثلاثة فصح إطلاق الجمع عليها.

الثاني: أن كلمة "أشهر" جمع لا اسم جمع، واسم الجمع يشترك فيه ما زاد على الواحد فيطلق على الاثنين والثلاثة.

الثالث: أن كلمة "أشهر" ليست من ألفاظ العدد، فليست مثل "ثلاثين" وقد قلنا: إن ألفاظ العدد لا يصح أن يطلق بعضها على الآخر لأنها مختصة به دون غيره، وبعد هذا كله فيصح أن يكون قد جمع الأشهر باعتبار تعددها في سائر السنين فالدليل يؤيد رأي الصاحبين خصوصاً وقد بين الله تعالى مدة الرضاع بقوله: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} فالأصح هو قول الصاحبين، وعليه الفتوى.

المالكية - قالوا: مدة الرضاعة حولان وشهران أعني ستة وعشرين شهراً، ولعلهم زادوا الشهرين احتياطاً، ولكن لا يكون الرضاع أثناء هذه المدة رضاعاً شرعياً يترتب عليه التحريم الآتي إلا إذا رضع الطفل قبل أن يفطم، ويستغني عن اللبن، فإذا أرضعته المرضعة قبل أن يفطم في أثناء هذه المدة أو بعد أن فطم بيوم أو يومين فإن ذلك يكون رضاعاً شرعياً ينشر الحرمة باتفاق، أما إن أرضعته بعد الفطام وبعد أن استغنى عن لبن الثدي فإنه لا يكون رضاعاً شرعياً، سواء رضع بعد استغنائه عن الطعام بزمن بعيد، أو قريب على المشهور، مثلاً إذا فطم الطفل بعد سنة وثلاثة أشهر ثم مكث شهراً فطيماً حتى نسي لبن الثدي واستغنى عنه بالطعام فتم له بذلك سنة وأربعة أشهر ثم إذا أرضعته المرضعة بعد استغنائه عن اللبن بخمسة أيام أو أقل أو أكثر فإنه لا يعتبر رضاعاً شرعياً وبعضهم يقول: إنه إذا رضع قبل تمام الحولين كان رضاعاً شرعياً ولو كان فطيماً واستغنى عن اللبن، كما يقول الحنفية، ولكن هذا ضعيف ومن هذا كله تعلم أنه لا خلاف بين الأئمة في تحديد زمن الرضاع بالحولين إلا المالكية، فإنهم خالفوا فيما إذا رضع أثناء الحولين بعد الفطام، وزادوا شهرين على الحولين، وهذا هو المشهور عندهم، أما على القول الثاني فهو موافق للأئمة أيضاً، والحنفية على [وفيها كلها اختلاف المذاهب ] عكس المالكية، فإن المعتمد عندهم موافقة الأئمة، وغير المعتمد هو أن المدة حولان ونصف حول، كما تقدم) .

(الحنفية - قالوا: يشترط في المرضعة شرطان: أحدهما أن تكون امرأة آدمية، فلو نزل اللبن لرجل ورضعه طفل فإنه لا يعتبر رضاعاً شرعياً، وكذلك إذا نزل لخنثى واضح الذكورة، أما الخنثى المشكل الذي لم يتبين أمره فينظر في لبنه النساء، فإن قلن: إنه غزير وأنه لا يكون هذا اللبن إلا للأنثى فإنه يتعلق به التحريم، وإن قلن: إنه ليس بلبن أنثى فإنه لا يتعلق به شيء، ومثل ذلك ما إذا رضع طفل وطفلة ثدي بهيمة فإنه لا يتعلق به التحريم.

ثانيهما: أن تكون بنت تسع سنين فما فوق، فلو نزل اللبن لصغيرة دون تسع سنين ورضعها طفل فإنه لا يعتبر رضاعاً شرعياً ولا يتعلق به التحريم، ولا يشترط في المرضعة أن تكون حية فلو ماتت امرأة وبجانبها طفل فالتقم ثديها ورضع منه فإنه يتعلق بالتحريم وكذا لا يشترط أن تكون ثيباً موطوءة، بل إذا نزل اللبن للبكر التي لم تتزوج فأرضعت صبياً صارت أماً له وثبتت جميع أحكام الرضاع بينهما ومثل ذلك ما إذا كانت عجوزاً يئست من الحيض والولادة على أنه إذا نزل للبكر ماء أصفر، فإنه لا يثبت به التحريم، أما إذا كانت ثيباً وتغير لبن رضاعها فصار لونه أصفر، فإنه لا يثبت بها التحريم، وذلك لأنه لبن تغير لونه ويشترط في الرضيع أن يكون لم يتجاوز حولين على المفتى به سنتين ونصف على قول الإمام المتقدم.

ويشترط قي اللبن شروط: الأول أن يكون مائعاً بحيث يصح أن يقال فيه: ان الصبي قد رضعه أما إذا عمل جبناً، أو قشدة، أو رائباً.

أو نحو ذلك وتناوله الصبي فإنه لا يتعلق به التحريم، لأن اسم الرضاع لا يقع عليه في هذه الحالة، فلا يقال ان الصبي رضع هذا اللبن، وإنما يقال له أكله.

الثاني: أن يصل إلى جوف الطفل بواسطة مص الثدي أو بصبه في حلقه، ويقال له: وجور - بفتح الواو - أو بصبه في الأنف ويقال له: سعوط، كرسول، فإذا وصل اللبن إلى الجوف بالصب في الحلق أو بالصب في الأنف ترتب عليه التحريم، سواء كان قليلاً أو كثيراً، ولو قطرة واحدة فلا بد من وصوله إلى الجوف بطريق الصب في الحلق أو الصب في الأنف لا غير فلو وصل اللبن بالتقطير في الأذن بواسطة الحقنة في القبل أو في الدبر فإنه لا يعتبر، وقال محمد: إذا وصل بواسطة الحقنة فإنه يعتبر.

الشرط الثالث: أن يصل اللبن إلى الجوف في مدة الرضاع المتقدم، فإذا رضع في أثنائها ولو قطرة وصلت إلى جوفه فإنه يعتبر ولو كان فطيماً مستغنياً عن الطعام فالمدار على التحريم هو أن يرضع في المدة.

الشرط الرابع: أن يكون وصوله يقيناً، فلو التقم الحلمة، ولم يعلم هل وصل لبن إلى جوفه أو لا، فإنه يعتبر لأن المانع شك، فلو أعطت المرأة ثديها لطفل، وقالت أن ثديها فيه لبن فإنها تصدق الشرط الخامس: أن لا يختلط اللبن بالطعام.

فإن نزل لبن امرأة في طعام ومسته النار فأنضجته حتى تغير وأكل منه الصبي فإنه لا يعتبر.

وكذلك إذا اختلط لبن بجامد لم تمسه النار لأنه خرج عن كونه مائعاً يتعلق به الرضاع، أما إذا خلط بمائع كأن خلط لبن الآدمي بلبن شاة فإنه ينظر، فإن كان لبن الآدمي غالباً فإنه يعتبر وتثبت به الحرمة، وإلا فلا، ومثل ذلك ما إذا خلط بماء، أو دواء أو نحو ذلك، ومعنى كونه غالباً هو أن يرى منه طعمه أو لونه وإن استويا، فإنه يعتبر ويتعلق به التحريم، وهذه الصورة نادرة الوقوع.

المالكية - قالوا: يشترط في المرضعة أن تكون امرأة فلو كانت بهيمة فإن الرضاع منها لا يعتبر وكذا إذا نزل اللبن لرجل فإنه لا يحرم ولو كان كثيراً، فإن كان لبن خنثى مشكل فإنه ينشر الحرمة على الظاهر، ولا يشترط أن تكون المرضعة على قيد الحياة، بل إذا ماتت ودب طفل وارتضع ثديها وعلم أن الذي بثديها لبن فإنه يعتبر وكذا إن شك فيه هل هو لبن أو لا فإنه ينشر الحرمة، وكذا لا يشترط أن تكون كبيرة، بل إذا نزل اللبن للصغيرة التي لا تطيق الوطء فرضعها طفل فإنه يعتبر، ومثل ذلك ما إذا كانت عجوزاً قعدت عن الحبل والولادة ويشترط في الرضيع أن يكون صغيراً لم يتجاوز حولين وشهرين على المشهور، فإذا رضع بعد هذه المدة فإن رضاعه لا يعتبر باتفاق، أما إذا رضع في أثناء المدة ففيه التفصيل المتقدم، ويشترط في اللبن شروط: أحدها أن يكون لونه لون لبن فإذا كان أصفر أو أحمر فإنه لا يعتبر.

ثانيها: أن يصل إلى جوف الصبي بمص الثدي أو بصب اللبن في حلقه، ويقال له: وجور، أو بصبه في أنفه، ويقال له سعوط، ومتى وصل اللبن إلى جوفه من الفم فإنه يعتبر وينشر الحرمة، سواء كان كثيراً أو قليلاً، ولو قدر مصة واحدة، أما إذا وصل من الدبر بواسطة الحقنة فإنه يحرم إذا كان يكفي لغذاء الطفل وقت وصوله ولو احتاج إلى غذاء بعد ذلك بزمن قريب ولا يعتبر إذا وصل إلى الجوف من الأذن أو العين أو مسام الرأس، ولو تحقق وصوله إلى الجوف.

ثالثها: أن لا يخلط لبن المرأة بغيره من طعام أو شراب أو دواء، فإن خلط وكان غيره غالباً عليه بحيث قد استهلك ولم يبق له طعام فإنه لا يعتبر أما إذا كان هو غالباً أو مساوياً فإنه يعتبر وينشر الحرمة وإذا عمل لبن المرأة جبناً أو سمناً وأخذه الطفل فإنه ينشر الحرمة على الظاهر.

الشافعية - قالوا: يشترط في المرضعة شروط: أحدها أن تكون أنثى آدمية، فلو رضع طفل وطفلة من ثدي بهيمة فإن رضاعها لا يعتبر ولا يوجب التحريم بينهما وكذا لو رضع طفل من لبن رجل أو لبن خنثى مشكل لم يتبين كونه امرأة فإن رضاعه لا يتعلق به تحريم، ولكن إذا رضعت طفلة لبن رجل أو خنثى مشكل ثم تبين أنه رجل فإنه يكره لهما التزوج من التي رضعت منهما.

ثانيهما: أن تكون المرضعة على قيد الحياة، فإذا دب الطفل إلى ميتة ورضع من ثديها فإن رضاعه لا يعتبر ولا ينشر الحرمة، ومثل الميتة من كادت تفارق الحياة ولم يبق فيها سوى حركة مذبوح.

ثالثها: أن تكون المرضعة سن تسع سنين قمرية تقريبية، وهذه السن هي سن الحيض، فيعتبر الرضاع منها ولو لم يحكم ببلوغها لأن سن الحيض يجعلها تحتمل أن تلد.

والحاصل أن الشافعية يشترطون في المرضع أن تبلغ تسع سنين تقريباً، فلا يضر نقصها بما يسع الحيض والطهر منه، ولو لم تحض بالفعل، وقد يرد على هذا أن اللبن إنما ينشأ عن الولادة، والتي لم تحض بالفعل لا يتصور منها ولادة، ومقتضى هذا أن لبنها لا يحرم، وأجيب هذا بأن بلوغ هذا السن - وهو سن الحيض - يترتب عليه احتمال كونها تحيض وتحبل وتلد، وهذا الاحتمال كاف في اعتبار اللبن الذي نزل في للصغيرة في هذا السن، وذلك لأن التحريم بالرضاع تابع للتحريم بالنسب لأن اللبن جزء من المرضعة، وهو ناشئ بسبب الولد المتولد من مني الرجل ومني المرأة، فإذا امتصه الصبي كان كأنه جزء من المرأة والرجل، فاللبن نزل منزلة المني الذي ثبت به نسب الولد فثبوت التحريم بالرضاع تابع لثبوت التحريم بالنسب، ومعلوم أن النسب يثبت بالاحتمال، فكذلك فرعه المشابه له يكفي في ثبوته الاحتمال، ولهذا لا يشترط أن تكون المرضعة ثيباً، فلو كانت بكراً ونزل لها اللبن في هذه السن فإنه يعتبر ويحرم، فلا يشترط أن يكون اللبن ينشأ عن الحبل بالفعل، فإذا كانت في سن لا تحتمل فيه الولادة فإن لبنها لا يعتبر ولا يحرم.

ويشترط في الرضيع أن يكون حياً، فلو فرض وصب في حلق طفل ميت لبن امرأة فإنه لا يعتبر، وإن يكون صغيراً لم يتجاوز الحولين، فإن تجاوزهما، ولو بلحظة، فإن رضاعه لا يحرم، وإذا شك في أنه تجاوز الحولين أو لا فإنه لا يحرم، لأن الشك في سبب التحريم يسقط التحريم، فإذا رضع الطفل أربع رضعات وفي أول الرضعة الخامسة تم حولان يقيناً، وهو يرضعها فإنه لا يعتبر، وما مضى من الرضعات الأربع يلغى خلافاً للحنابلة في هذه الحالة.

ويشترط في اللبن شرطان: أحدهما يتعلق بكميته ومقداره، وثانيهما يتعلق بحالته وكيفية وصوله إلى جوف الصبي.

فأما الأول، فإنه يشترط أن يرضع الطفل من المرضعة خمس مرات يقيناً، بحيث لو شك في أنه رضع خمس مرات أو لا، فإنه لا يعتبر، ثم إن الرضعة لا تحسب إلا إذا عدت في العرف رضعة كاملة، بحيث يتناول الطفل الثدي ولا ينصرف عنه إلا لضرورة تنفس، أو بلع ما في فمه، أو الانتقال من ثدي إلى ثدي آخر، أما إذا قطعه ولم يعد إليه فإنها تحسب رضعة، ولو لم يأخذ سوى مصة واحدة، وكذا إذا قطعته المرضعة ولم تعد إليه، أما إذا قطعته لشغل خفيف ولو عادت إليه سريعاً فإنها تحسب رضعة واحدة، وقد وافق الشافعية في هذا العدد الحنابلة، وإن خالفوهم في بعض التفصيل المذكور، كما ستعرفه، وأما الحنفية.

والمالكية فإنهم خالفوا هذا ولم يشترطوا عدداً، بل قالوا: كل ما وصل إلى جوف الصبي من لبن المرضعة ولو قليلاً يوجب التحريم، وقد عرفت اختلافهم في التفصيل المتقدم.

فيتحصل من هذا أن الشافعية والحنابلة يقولون: إن الرضاع لا يحرم إلا إذا كان خمس مرات، والمالكية، والحنفية يقولون: إن الرضاع يحرم مطلقاً قليلاً كان أو كثيراً ولو قطرة.

وقد استدل الشافعية، والحنابلة بما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان فيما أنزل الله في القرآن أن عشر رضعات معلومات يحرمن - فنسخن بخمس معلومات - فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يقرأ من القرآن، وأيضاً روى مسلم" لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان".

ويؤخذ من كتب الشافعية، والحنابلة أنهم فهموا من خبر عائشة الأول ما هو ظاهر منه، وهو أنه كان من بين آي القرآن الحكيم آية - عشر رضعات معلومات يحرمن ومعنى معلومات متحققات لا شك فيهن، ومعنى يحرمن يوجبن التحريم بين المرضعة وزوجها، وبين الرضيع في الزوجية على الوجه السابق، ثم نسخت هذه الآية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لفظاً ومعنى بآية أخرى، وهي - خمس معلومات يحرمن - فبعد أن كانت الرضعات المحرمات عشراً صارت خمساً فقط واستمر العمل بهذا، ثم رفع لفظ - خمس رضعات يحرمن - من القرآن قبيل وفاة الرسول عليه السلام وبقي العمل بحكمه، فمعنى، قول عائشة: فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن، يذكر حكمها على أنها كانت آية في القرآن، لا أنه كان يتلى قرآناً بعد وفاة الرسول عليه السلام، وعلى فرض أنه كان يتلى فيكون ذلك بالنسبة لمن لم يبلغه النسخ.

ويرد على هذا أمران: أحدهما أن المسلمين قد أجمعوا على أن القرآن هو ما تواتر نقله عن رسول الله عن رب العزة، فكيف يمكن الحكم بكون هذا قرآناً، خصوصاً قد صرح بعض أئمة المسلمين بأنه لا يجوز الحكم على كتاب الله المتواتر بما ليس بمتواتر، وعلى هذا فمن المشكل الواضح ما يذكره المحدثون من روايات الآحاد المشتملة على أن آية كذا كانت قرآناً ونسخت على أن مثل هذه الروايات قد مهدت لأعداء الإسلام إدخال ما يوجب الشك في كتاب الله من الروايات الفاسدة، فمن ذلك ما روي عن ابن مسعود من أن المعوذتين ليستا من كتاب الله، فإن معنى هذا التشكيك في كتاب الله المتواتر كلمة كلمة وحرفاً حرفاً، ولهذا جزم الفخر الرازي بكذب هذه الرواية، ومن ذلك ما قيل من أن آية القنوت كانت موجودة في مصحف أبي ثم سقطت.

فهذا وأمثاله من الروايات التي فيها الحكم على القرآن المتواتر بأخبار الآحاد، فضلاً عن كونه ضاراً بالدين فيه تناقض ظاهر.

ثانيهما: ليس في حديث عائشة ما يدل على نسخ خمس رضعات، فلماذا لا تكون قد سقطت، كما يقول أعداء الدين؟ ومع تسليم أن فيه ما يدل، فما فائدة نسخ اللفظ مع بقاء حكمه؟ ومع تسليم أن له فائدة، فما هو الدليل الذي يدل على أن اللفظ قد نسخ وبقي حكمه؟.

وقد أجيب عن الأول بأنه لم يقل أحد أن خبر عائشة يفيد قرآنية هذه الكلمات فتعطى حكم القرآن، وإنما الذي يفيده خبر عائشة ظن أن هذا الحكم كان موجوداً في القرآن، وهذا الظن كاف في إثبات الحكم الفقهي.

ثم إن هناك فرقاً بين ما روي عن ابن مسعود من كون المعوذتين ليستا من القرآن وبين خبر عائشة الموجود معنا، فإن الأول فيه نفي للقرآن المتواتر يقيناً، ومن ينكر شيئاً من القرآن المتواتر يقيناً فإنه يخرج عن الدين، فيجب تكذيب ما روي عن ابن مسعود من إنكار المعوذتين تكذيباً باتاً وتكذيب كل رواة مماثلة لها، أما خبر عائشة فإنه يفيد أن هذا قرآن ونسخ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يصح أن يعطى حكم القرآن على كل حال، ومع ذلك فإن الخبر لا يفيد إلا الظن، ففي كونه قرآناً لا يضر، وقد يقال: إنه مع وجاهة هذا الجواب لا يزال الإشكال قائماً وهو أنه إذا صح نفي كونه قرآناً فلا يصح الاحتجاج به، لأن الاستدلال به قائم على كونه قرآناً فمتى نفيناّ كونه قرآناً فقد انتفى الحكم الدال عليه، فالمعترض يقول: إنكم تقولون: إن هذا الحكم كان موجوداً في القرآن، وذكرتم نصه بآية قلتم: إنها كانت في القرآن، والفرض أن القرآن هو ما ثبت بالتواتر، وكل ما لا يثبت بالتواتر لا يكون قرآناً، فهذا ليس بقرآن، ومتى ثبت أنه ليس بقرآن فإنه لا يصح الاحتجاج به، فإن قلتم: إنه لا يلزم من انتفاء كونه قرآناً انتفاء الحكم، لأنه يكون من قبيل الحديث الثابت بخبر الآحاد، قلنا: وهذا أيضاً لا يصح لأن عائشة لم تروه على أنه حديث، وعلى فرض أنها روته كذلك فإنكم قلتم: إنه صح نفيه: فيقال: إن خمس رضعات يحرمن ليست بقرآن ومتى صح ذلك فإن الحكم الذي دل عليه اللفظ ينتفي طبعاً، ولا يقال أيضاً: إن خبر عائشة يفيد أنه كان قرآناً قطعاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وليس بقرآن بالنسبة لنا لعدم تواتره، لأنا نقول: إن خبر عائشة لا يفيد إلا الظن فمن أين يأتي القطع؟ أما الجواب عن الاعتراض الثاني فإن القرآن قد تواتر نقله كلمة كلمة وحرفاً حرفاً وانحصر في الموجود بين دفتي المصحف، فلا يحتمل سقوط كلمة واحدة منه، فلا سبيل للقول بأن خمس رضعات كانت موجودة وسقطت، وقد دل الحديث على أنها كانت فيه، فلما لم تتواتر علمنا أن لفظها نسخ وبقي حكمها، وهذا الجواب حسن، ولكن نسخ اللفظ وبقاء معناه لم تظهر له فائدة ما معقولة، بل قد يقال عليه، ان نسخ الأحكام معقول لأنها تابعة لأحوال الأمم وتطوراتها، فلها فائدة واضحة، بل قد تكون الأحكام الوقتية ضرورية لأمة حديثة العهد بالتشريع، أما رفع اللفظ مع بقاء معناه فإن دل على شيء فإنه يدل على أن هذا اللفظ لا يناسب وضعه في هذه الجملة فلما وضع وظهر فساده حذف، وهذا مستحيل على الله تعالى العليم الخبير، ومع هذا فقد يقال: إن الحكم لا بد له من لفظ يدل عليه، فإذا رفع اللفظ فما هو الدليل الذي يدل عليه؟ فإن قلتم أنه دل عليه قبل رفعه: قلنا وقد انتفت الدلالة بعد رفعه فلم يبق للحكم دليل فإن قلتم: إن دليل الحكم اللفظ الذي يبينه به الرسول، قلنا أن الحكم في هذه الحالة يكون ثابتاً بالحديث لا بالقرآن المنسوخ، فالحق أن القول بجواز نسخ اللفظ مع بقاء المعنى واه، ومع ذلك كله فأي دليل يدل على أن اللفظ نسخ وبقي معناه؟ أنه لا دليل لا في قول عائشة ولا في غيره.

وبعد، فقد أول بعض المحققين خبر عائشة هذا بأنه ليس الغرض منه أن ذلك كان آية من كتاب الله، بل كان حكماً من الأحكام الشرعية التي أوحى الله بها إلى رسوله في غير القرآن، وأمر القرآن باتباعها فمعنى قولها: كان فيما أنزل الله في القرآن عشر رضعات معلومات الخ، كان من بين الأحكام التي أنزلها الله على رسوله، وأمرنا باتباعها في القرآن أن عشر رضعات لا شك فيها يحرمن، ثم نسخ هذا الحكم بخمس رضعات معلومات يحرمن، وتوفي رسول الله وهذا حكم باق لم ينسخ، فأما كونه منزلاً موحى به فذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، وأما كوننا مأمورين باتباع ما جاء به الرسول من الأحكام فلأن الله تعالى قال: {وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} ، فلو أن الشافعية والحنابلة رضوا بهذا التأويل لخرجت المسألة من كونها قرآناً إلى كونها حديثاً صحيحاً، وتكون دلالته على ما يريدونه ظاهرة، ومع ذلك فإن الشافعية قد أولوا قول عائشة فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ - بأنه يذكر حكمه - وهذا التأويل يقربهم إلى تأويل الحديث كله بالمعنى الذي أشرنا إليه، وقد جاء مثل هذا التأويل فيما رواه البخاري عن عمر بن الخطاب بأن رجم الزاني المحصن نزل في كتاب الله، فقال: إن معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رجم فعلاً، والله تعالى قال: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} فيكون الرجم على هذا مذكوراً في كتاب الله، أما ما نقله البخاري تعليقاً من أن الذي كان في كتاب الله ورفع لفظه دون معناه، فهو - الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة الخ - فإنني لا أتردد في نفيه لأن الذي يسمعه لأول وهلة يجزم بأنه كلام مصنوع لا قيمة له بجانب كلام الله الذي بلغ النهاية في الفصاحة والبلاغة، فضلاً عن كونه لا ينتج الغرض المطلوب فإن الرجم شرطه الإحصان، والشيخ في اللغة من بلغ سن الأربعين، فمقتضى هذا أنه يرجم ولو كان بكراً لم يتزوج، وكذا إذا زنا الفتى في سن العشرين مثلاً وهو متزوج فإنه لا يرجم، فمثل هذه الكلمة لا يصح مطلقاً أن يقال: إنها من كتاب الله.

والحاصل أن الأخبار التي جاء فيها ذكر كلمة من كتاب الله على أنها كانت فيه ونسخت في عهد رسول الله فهذه لا يطلق عليها أنها قرآن ولا تعطى حكم القرآن باتفاق، ثم ينظر إن كان يمكن تأويلها بما يخرجها عن كونها قرآناً، فإن الإخبار بها يعطى حكم الحديث، وإن لم يمكن تأويلها فالذي أعتقده أنها لا تصلح للدلالة على حكم شرعي لأن دلالتها موقوفة على ثبوت صيغتها وصيغتها يصح نفيها باتفاق، فكيف يمكن الاستدلال بها؟ فالخير كل الخير في ترك مثل هذه الروايات.

أما الأخبار التي فيها أن بعض القرآن المتواتر ليس منه، أو أن بعصاً منه قد حذف فالواجب على كل مسلم تكذيبها بتاتاً.

والدعاء على راويها بسوء المصير، لأن إدخال شيء في كتاب الله ليس منه، وإخراج شيء منه ردة نعوذ بالله منها.

وأما الدليل الثاني، وهو ما رواه مسلم من أن الرضعة أو الرضعتين لا يحرم، فقد رده الحنفية والمالكية فقالوا: إما أن يكون منسوخاً أو تكون روايته غير صحيحة.

وذلك لأن الله تعالى قال: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} فالله سبحانه لم يقيد الرضاعة بأي مقدار.

وقد روي عن ابن عمر أنه قيل له: أن ابن الزبير يقول: ولا بأس بالرضعة أو الرضعتين فقال قضاء الله خير من قضائه، قال تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} واستدلال ابن عمر بهذه الآية فيه رد للحديث المذكور" لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان" إما بنسخ هذا الحديث وإما أن تكون الرواية غير صحيحة، وظاهر هذا أن إطلاق الكتاب الكريم في مقام التشريع والبيان لا يصح تقييده بخبر الواحد، لما عرفت من أن الأحاديث الظنية لا يصح أن تعارض المتواتر، ولهذا قال ابن عمر: قضاء الله خير من قضاء ابن الزبير، لأن ابن الزبير لم يقل ذلك من تلقاء نفسه، بل لا بد أن يكون مستمسكاً بحديث، فقال له ابن عمر: إن كتاب الله هو الذي يجب العمل به، وحيث ورد مطلقاً فلا يقيده الحديث، ثم لينظر بعد ذلك للحديث، فإما أن تكون رواية غير صحيحة، وبذلك ينتهي الإشكال، وإما أن يكون صحيحاً ولكنه نسخ بهذه الآية أو بحديث آخر، وفي هذا كلام في علم الأصول ليس هذا محله.

وأما الشرط الثاني المتعلق بحالة اللبن وكيفية وصوله إلى جوف الطفل: فهو أنه يشترط أن يصل اللبن إلى المعدة أو الدماغ بواسطة الفم والصب في الحلق، ويقال له: الوجور، أو الصب في الأنف، ويقال له: السعوط، وبذلك ينفذ إلى الدماغ، أما إذا وصل إلى الجوف بحقنة من القبل أو الدبر أو وصل إلى الدماغ بتقطير في الأذن والقبل فإنه لا يتعلق به تحريم، وبعضهم قيد التقطير في الأذن بما إذا لم يصل إلى الدماغ، وإلا فإنه يعتبر، كما إذا وصل إلى الدماغ من منفذ عارض، كما إذا فتح بجراحة ونحوها، ولا يخفى أن هذه صور فرضية محضة لا يكاد تقع إلا قهراً، كما إذا مرض الطفل وتوقف دواؤه على لبن امرأة فحقن بلبن أجنبية.

أو غذي به، أو نحو ذلك، فإذا لم يصل اللبن إلى المعدة أو الدماغ بأن تقايأه قبل وصوله، فإنه لا يعتبر، ولا يشترط في اللبن أن يكون سائلاً بل إذا عمل جبناً أو قشدة أو نحو ذلك وتناول منه الصبي كان رضاعاً شرعياً ينشر الحرمة، وكذا لا يشترط أن لا يكون مخلوطاً بغيره، بل ينشر الحرمة مطلقاً، سواء خلط أو لا، وسواء غلب على غيره أو لا، وسواء أرضعته كل المخلوط أو بعضه، ولكن يشترط في هذه الحالة تحقق وصول شيء من اللبن في الجوف في كل رضعة من الرضعات الخمس التي تقدم بيانها.

وإذا حلبت المرضعة لبن الرضعات وصب في حلق الصبي خمس مرات يحسب مرة واحدة أما إذا حلبت لبن خمس مرات وصب في حلقه مرة واحدة فإنه يعتبر خمساً.

الحنابلة - قالوا: يشترط في المرضع شرطان: أحدهما أن تكون امرأة، فلو كانت بهيمة أو رجلاً، أو خنثى مشكلاً فإن الرضاع لا يعتبر ولا يوجب التحريم، ثانيهما: أن تكون ممن تحمل فإذا رضع من امرأة لا تحمل فإن رضاعه لا يعتبر، ولا فرق في التحريم بين أن تكون المرضعة على قيد الحياة، أو رضع منها وهي ميتة، مادام اللبن ناشئاً عن الحمل بالفعل.

فإذا كانت عجوزاً أو يائسة من الحيض والحبل، ولم يكن لبنها ناشئاً من حبل سابق" فإن الرضاع منها لا يحرم" خلافاً للحنفية والمالكية، أما الشافعية فإنهم وإن قالوا: إن المعتبر هو اللبن الناشئ من الحمل إلا أنهم اكتفوا في ذلك باحتمال الحمل، ومتى بلغت سن تسع سنين، وهو سن الحيض عندهم، كان حملها وولادتها محتملين، ولو لم تحض بالفعل، لأن حيضها محتمل أيضاً، فالاحتمال عندهم كاف، أما الحنابلة فإنهم يشترطون أن يكون اللبن ناشئاً من الحمل ولذا قالوا في تعريف الرضاع: إنه مص أو شرب لبن ثاب من حمل، وثاب بمعنى اجتمع، أي اجتمع في ثدي المرأة، أو بمعنى رجع إلى ثدي المرأة بسبب الحمل، أما الرضيع فيشترط فيه أن يكون طفلاً لم يتجاوز الحولين، فإن تجاوزهما ولو بلحظة لا يعتبر رضاع، ولا فرق بين أن يكون قد رضع في أثناء الحولين بعد فطامه.

أو لا وإذا رضع الطفل أربع مرات وبلغ الحولين يقيناً في أول الخامسة فإن رضاعه يعتبر اكتفاء بالرضاع الذي مضى، أما اللبن فيشترط في مقداره أن يكون خمس رضعات، وتعتبر الرضعة بترك الصبي للثدي، فإذا أعطي الثدي للطفل فامتصه ثم تركه ولو قهراً عنه، كأن قطعته المرضعة أو قطعه للتنفس، أو للانتقال من ثدي إلى ثدي فإنها تحتسب عليه رضعة من الخمس، خلافاً للشافعية في هذا التفصيل، ويشترط أن يصل إلى

What's Your Reaction?

like
0
dislike
0
love
0
funny
0
angry
0
sad
0
wow
0