العقوبات المالية في الجرائم الجمركية
يتسع نطاق تطبيق العقوبات المالية في ميدان الجمارك، إذ تعتبر من الملامح الأساسية لشقه العقابي، وذلك لكونها الأداة الكفيلة بردع مجرمي الأعمال الذين يسعون إلى الحصول على الأموال بطرق غير مشروعة فيعاملون على نقيض قصدهم، ولذلك قيل بأنها جزاء من جنس العمل ولها من هذه الوجهة دور تربوي[2].
الفقرة الأولى: الطبيعة القانونية للمبالغ المحكوم بها لفائدة إدارة الجمارك
إن تحديد الوصف القانوني للمبالغ المحكوم بها لإدارة الجمارك أمر جوهري، فيتضح ذلك مثلا حين المطالبة بهذه المبالغ أمام المحكمة العسكرية، كما يطرح نفسه أيضا بالنسبة لطرق الطعن، فإدارة الجمارك إما أن تعتبر طرفا مدنيا وبالتالي فإن المبالغ المحكوم بها تعتبر تعويضات، وإما أنها طرفا عموميا، تثير الدعوى العمومية ويحكم لها بغرامات[4].
لقد نص الفصل 214 من م.ج على أن "العقوبات الجنائية المنصوص عليها في هذه المدونة، تغلب عليها صبغة تعويضات مدنية غير أنها تصدر عن المحاكم الزجرية، ويجب الحكم بها في جميع الحالات ولو لم تلحق الأفعال المرتكبة أي ضرر مادي بالدولة". لذلك فقد احتدم خلاف بين الفقهاء حول الطبيعة القانونية للغرامة الجمركية حيث اعتبرها البعض كتعويض[5] بينما يعتبرها البعض الآخر كعقوبة[6].
والواضح أن المشرع كان واعيا بهذا الأمر في صياغته للفصل 214 أعلاه، لهذا يمكن القول بأنها ذات طبيعة مختلطة وهذا الأمر نفسه توصل المجلس الأعلى في إحدى قراراته "وحيث ولئن كان هذا الجواب لم يصادف الصواب باعتبار أن إدارة الجمارك ليست طرفا مدنيا عاديا حتى تطبق عليها القواعد العادية للمسطرة، بل تملك دعوى مختلطة لها في نفس الوقت صبغة مدنية جنائية من طبيعة خاصة..."[7]، وهو ما قرره المجلس الأعلى كذلك بالنسبة للمبالغ المحكوم بها في إطار قانون التبغ، إذا جاء في قراره "... لكن حيث إن مقتضيات الفصل 90 من ظهير 12-11-1932 تنص على الذعائر المحكوم بها من أجل مخالفة قانون التبغ بالمغرب هي عقوبة زجرية يعاقب بها عن كل مخالفة للظهير المذكور، وبالتالي فإن الإشارة إلى اعتبارها كتعويضات مدنية لاتصافها ببعض الخصائص المدنية لا ينفي عنها صفة العقوبة الزجرية، ولا يغير شيئا من خصائصها..."[8].
وانطلاقا من كل ما سبق يمكن إبراز الطابع المزدوج للغرامة الجمركية فيما يلي:
أولا: الطابع التعويضي للغرامة الجمركية ويتمثل فيما يلي:
- يمكن تطبيق الغرامة حتى على القاصرين الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة، وكذا المجانين والمسؤولون عن الحقوق المدنية (ف 238 م.ج).
- خضوع العقوبات المالية لقاعدة ضم العقوبات، فالمشرع في حالة تعدد الجرائم يكون وفيا لقاعدة ضم العقوبات المالية[9]، وهذا ما نلمسه من خلال الفصل 215 من المدونة.
- إقرار مبدأ المصالحة لفائدة إدارة الجمارك قبل حكم نهائي أو بعده (273 من م.ج).
- يلزم الكفلاء بقدر ما يلزم الملتزمون الرئيسيون بأداء الغرامة الجنائية، حسب الفصل 230 من م.ج.
وفي هذا الصدد، درجت العديد من الأحكام والقرارات القضائية على وصف المبالغ المالية المحكوم بها لفائدة إدارة الجمارك على أنها تعويضات مدنية، ووصف إدارة الجمارك بكونها طرفا مدنيا، كالقرار، "... وحيث إن طالبة النقض هي إدارة الجمارك، لذلك يقتصر النقض والإبطال في حدود مطالبها..."[10].
وجاء في قرار آخر صادر عن محكمة الاستئناف بالدار البيضاء "... وحيث إنه استنادا على ما ذكر، فإنه لا يمكن قبول تدخل إدارة الجمارك كطرف مدني للمطالبة بالغرامات والتعويضات بملتمسها..."[11].
ثانيا: المبالغ المحكوم بها لإدارة الجمارك غرامات
تتجسد فيما يلي:
- صدور الغرامة الجمركية عن المحاكم الزجرية (الفصل 214 م.ج) ؛
- إمكانية تنفيذ الغرامة عن طريق الإكراه البدني (262 مكرر م.ج) ؛
- خضوعها للتقادم الخمسي من تاريخ صدور الحكم النهائي (261 مكرر م.ج) ؛
- يجب الحكم بها ولو لم تلحق الجريمة أي ضرر مادي بالدولة (128 م.ج) ؛
- إذا تبين للمحكمة وجود عناصر تثبت حسن نية مرتكب الجرائم الجمركية، أمكنها منح ظروف التخفيف (257 مكرر من م.ج) ؛
- يضاعف الحد الأقصى للعقوبة المالية في حالة العود، ( الفصل257 مكرر ؛مرتين من م.ج) .
وقد ذهب العديد من الأحكام والقرارات لإبراز الصبغة الزجرية للمبالغ المحكوم بها لإدارة الجمارك واعتبرتها كعقوبة مالية متعلقة بالدعوى العمومية، كالقرار الصادر عن المجلس الأعلى والذي جاء فيه: "... لكن، حيث إنه بمقتضى الفصل 208 من مدونة الجمارك، فإن العقوبات والتدابير الاحتياطية المطبقة في ميدان المخالفات الجمركية هي الحبس... وأن المبلغ المحكوم به لفائدة إدارة الجمارك يعتبر عقوبة في شكل غرامة حكم بها في إطار الفصل 208 المشار إليه، وليس تعويضا مدنيا عن الخسارة اللاحقة بها طبقا للقواعد المدنية العادية، والقرار بذلك لم يخرق الفصل 9 من قانون العدل العسكري، على عكس ما جاء بالوسيلة التي تبقى غير مرتكزة على أساس"[12] وكذا قرار شهير لمحكمة النقض الفرنسية الذي جاء فيه "... إن الغرامات الجبائية هي عقوبات أكثر منها تعويضات مدنية نتيجة الإضرار بمصلحة الدولة"[13].
والاتجاه الغالب في أحكام محكمة النقض المصرية يرى أن "الغرامة التعويضية عقوبة تكميلية تنطوي على عنصر التعويض، وأن صفة التعويض التي تميزها لا ترفع عنها صفة العقوبة"[14].
ولعل السبب في هذا الاختلاف يرجع إلى الصياغة غير الدقيقة لبعض النصوص التي تقضي بأن العقوبات المالية في الميدان الجمركي ذات صبغة تعويضات مدنية، وخاصة الفصل 214 من المدونة والسالف الإشارة إليه، وكذا الفصل 263 الذي يقضي بأن "العقوبات المالية في ميدان الجمارك تخضع رغم ما تكتسيه من صبغة تعويضات مدينة لقواعد قانون المسطرة الجنائية المتعلقة بالتقييد في سجل السوابق العدلية".
وتجدر الإشارة في الأخير إلى أن هذا الاختلاف حول طبيعة العقوبات المالية أثير حتى بالنسبة للفقه الفرنسي[15] حول ما إذا كانت مطالب مدنية عادية أم هي من نوع خاص باعتبار أن إدارة الجمارك مرغمة على اللجوء إلى المحاكم الزجرية، أم هي دعوى جنائية من نوع خاص، هدفها تعويض الضرر اللاحق بالخزينة العامة وليس بإدارة الجمارك[16].
الفقرة الثانية: تقدير الغرامة الجمركية
نصت مدونة الجمارك على معايير حساب الغرامة في الفصل 219 والذي جاء فيه: "إذا كانت الغرامة محددة بحسب قيمة الشيء الذي كان محل الغش وجب أن يعتبر في حسابها قيمة الأشياء المحجوزة، وقيمة الأشياء التي تعذر حجزها وفقا لما وقع إثباته بكل الوسائل القانونية". والقيمة الواجب اعتمادها لحساب الغرامة هي قيمة الشيء بالسوق الداخلية وقت ارتكاب الغش ولو لم تكن البضائع المعنية محل تجارة مشروعة...[17]
المستفاد من هذا النص أن المشرع وضع مجموعة من المعايير وجعلها أساسا لتحديد الغرامة الجمركية سواء من طرف الإدارة في طلبها أو من طرف المحكمة في حكمها[18]، وعليه يجب احتساب الغرامة على أساس ما يلي:
1- قيمة الأشياء المحجوزة مشروعة كانت أو غير مشروعة على أن تشمل هذه الأشياء البضائع ووسائل النقل وفي هذا الصدد جاء قرار للمجلس الأعلى "... البضائع الخاضعة لنظام الجمرك هي المنتجات والأشياء والحيوانات والمواد من جميع الأنواع والأصناف سواء كانت هذه المنتجات أو الأشياء أو المواد محظورة أو غير محظورة بما فيها المخدرات والمواد المخدرة سواء كانت أو لم تكن محل تجارة مشروعة.
القرار الذي قضى ببراءة المطلوب في النقض من جنحة محاولة تهريب بضاعة محظورة دون تصريح بعدم الاختصاص في مطالب إدارة الجمارك بعلة أن المخدرات مادة محظورة ولا تخضع للمقتضيات الجمركية جاء مخالفا للقانون ومعرضا للنقض"[19].
2-قيمة الأشياء التي تعذر حجزها مادامت ثابتة بمقتضى وسيلة إثبات قانونية، وفي هذا الإطار جاء قرار للمجلس الأعلى "... يتم احتساب الغرامة الجمركية... ويجب الحكم بها في جميع الأحوال انطلاقا من قيمة الأشياء المحجوزة (البضائع ووسائل النقل) وقيمة الأشياء التي تعذر حجزها.
إن المحكمة عندما قضت بأن استئناف إدارة الجمارك غير ذي موضوع بعلة أن تفتيش المتهم لم يسفر عن حيازته أي كمية من المخدرات التي دون اعتبار منها لما أفضى به من تصريحات بشأن نوع وكمية المخدرات التي يقوم بترويجها والتي تعذر حجزها لديه رغم إدانته من أجلها، تكون من الجهة خرقت القانون ومن جهة أخرى عللت قراراتها تعليلا فاسدا وعرضته للنقض"[20].
وارتباطا بنفس النقطة، تطرح هذه الأخيرة إشكالات على المستوى العملي، فداخل نفس المحكمة يوجد اختلاف حول الحيازة الافتراضية، فاتجاه يأخذ بها واتجاه آخر يقول بعدم منطقيتها.
والواضح أن النص 219 صريح في هذه المسألة، عندما "...صرح قيمة الأشياء التي تعذر حجزها مادامت ثابتة"، ومن يتعين أن يتدخل المجلس الأعلى بمجموع غرفه للحسم بخصوصها.
- سعر السوق الداخلية وحالة الأشياء وقت ارتكاب الغيش
إن هذه العناصر الثلاثة مادية، إلا أنه ثمة جانب قانوني يظهر بشكل غير مباشر والمتمثل في ضرورة تأكد القاضي من مبدأ وجود اجتماع كل هذه العناصر باعتبار أن تخلف إحداها يؤدي إلى تخلف ركن من أركان النص القانوني[21].
وقد أكد المجلس الأعلى في عدة قرارات على ضرورة الارتكاز على مقتضيات الفصل 219 من المدونة لتحديد وعاء الغرامة وهكذا جاء في قرار للمجلس الأعلى أكد أن "... وحيث إنه بعدما اقتنعت بثبوت الجنح المتابع بها الظنينان أعلاه إدانتهما بغرامات مالية حددت من طرف إدارة الجمارك... حددت عن السكين الواحد مبلغ عشرة دراهم وحددت ثمن العجلة المطاطية في ستة عشر درهما وسبع وستين سنتيما دون أن ترتكز على أي أساس قانوني باعتبار الثمن الذي أعطته سواء للسكاكين أو للعجلات المطاطية أقل من الأثمنة المحددة يعتبر خرقا لمقتضيات الفصل 219 من المدونة"[22].
[1] - للمزيد من التفاصيل راجع زين الاسم الحسين: "إشكالية العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة والبدائل المقترحة"، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة، وحدة التكوين والبحث العلوم الجنائية كلية الحقوق بطنجة 2006، ص: 94.
[2] - للاطلاع أكثر راجع، محمود نجيب حسني: "الجزاءات غير الجنائية في الجرائم الاقتصادية" المجلة العربية للدفاع الاجتماع، العدد 11 يناير 1981، ص:113"
[3] - راجع بهذا الخصوص، عبد الرحمن أبوتوتة: "أصول علم العقاب" منشورات ELGA طبعة 2001 ص:98.
[4] - انظر محمد بادن: "جرائم التهريب من خلال العمل القضائي" م.س ص:314.
[5] - انظر الدكتور رمسيس بنهام: "النظرية العامة للقانون الجنائي" مشأة المعارف، الإسكندرية طبعة 1971، ص:206.
[6] - راجع محمد عوض: "جرائم المخدرات والتهريب الجمركي والنقدي" الكتاب المصري الحديث للطباعة والنشر، الإسكندرية، طبعة 1966. ص:206.
[7] - قرار المجلس الأعلى عدد 442، الصادر بتاريخ 12 مارس 1970، أورده عبد الرزاق بلقسح: "عرض حول المنازعات الجمركية الزجرية" م.س ص:24.
[8] - انظر قرار المجلس الأعلى، عدد 3545، الصادر بتاريخ 27/04/1989 في الملف الجنحي رقم 20470/86، والمنشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى، عدد 45، السنة السادسة عشر، نونبر 1991، ص: 179 وما يليها.
[9] - للتوسع أكثر راجع المامون الفاسي: "السياسة العقابية المالية في التشريع المغربي" رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص، وحدة التكوين والبحث العلوم الجنائية كلية الحقوق طنجة، سنة 2007، ص:88.
[10] - انظر قرار المجلس الأعلى، عدد 312، والصادر بتاريخ 02/01/2002، في الملف الجنحي رقم 23432/99، منشور بمجلة القضاء والقانون، عدد 145، السنة الثلاثون، ص:181.
[11] - راجع قرار لمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء عدد 1096/90، الصادر بتاريخ 08/05/1990 أورده محمد أوغريس في كتابه: "جرائم المخدرات في التشريع المغربي" م.س، ص:113.
[12] - انظر قرار المجلس الأعلى الصادر بتاريخ 26/03/2002، في الملف الجنائي رقم 5090/03/98 منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى العدد المزدوج 57-58، السنة 23، ص:460.
[13] - Crim 23 Mars 1944 : « Les Amendes douaniers sont mains des peines que des réparations civiles accordées au raison du préjudice subi par l’état ».
Voir : J.H.Hoguet « Douanes, encyclopédie » Dalloz ; pénol II -31 Août -Juin 1994. P :23
[14] - قرار لمحكمة النقض المصرية الصادر بتاريخ 01/12/1969، أورده لوقابباوي: "الجرائم الجمركية" نشر دار النهضة العربية القاهرة، سنة 1994 ص:343.
[15] - راجع إدريس المزدغي: "تعليق على قرار للمجلس الأعلى" مجلة القضاء والقانون العدد 146، ص:189 في هامشها.
[16] - انظر بهذا الخصوص محمد بادن: "جرائم التهريب من خلال العمل القضائي" م.س ص:317.
[17] - انظر الفصل 219 من مدونة الجمارك
[18] - انظر بهذا الخصوص حسن البكري: "الطبعة القانونية للغرامة الجمركية" م.س، ص:54.
[19] - قرار المجلس الأعلى عدد 1340/7 الصادر بتاريخ 10/05/2006 الملف الجنحي عدد 8968/2005، غير منشور.
[20] - انظر قرار المجلس الأعلى عدد 1445/7 الصادر بتاريخ 15/06/2000 في الملف الجنحي عدد 5367/05 غير منشور.
[21] - راجع بهذا الخصوص زين الاسم الحسين: "خصوصية القانون الجنائي الجمركي على ضوء الاجتهاد القضائي المغربي" م.س ص:23.
[22] - انظر قرار للمجلس الأعلى عدد 4380 الصادر بتاريخ 1994/05/17، أورده زين الاسم الحسين: "خصوصية القانون الجنائي الجمركي على ضوء الاجتهاد القضائي المغربي" م.س ص:24.
وفي نفس السياق ألغت محكمة النقض الفرنسية في عدة قرارات لها محاكم الموضوع من الالتزام بيان أسس تقدير الغرامة وأعطتهم الحق في الاعتماد على تقديرات مصلحة الجمارك دون خضوع لمراقبة محكمة النقض:
« Les Tribunaux justifient suffisamment le chiffre des pénalités pécuniaires en L’appréciation les évaluations proposées par l’administration dans ses conclusions et l’offuscation des juges du fond ehappe au contrôle de la cour de cassation » Crim 7 déc 1954 D1954 .P129.
وذهبت محكمة النقض المصرية إلى "... أن الحكم بمقدار الغرامة التي طلبتها مصلحة الجمارك دون بيان الأساس الذي أقيمت عليه هذه المطالبة وكيفية احتسابها أمر يعيب الحكم بالقصور في التسبيب ويعجز محكمة النقض عن مراقبة صحة تطبيق القانون".
قرارات أوردها عبد الوهاب عافلاني: "القانون الجنائي الجمركي" م.س.ص:82.