مقدمة:
یشكل الإقلیم أحد الركائز الأساسیة التي تقوم علیها الدولة بمفهومها المعاصر على اعتبار أنه الوسط الذي تمارس فیه الدولة سیادتها وترعى فیه رعیتها ، ولذا كان علیها لزاما حمایة هذا الكیان خارجیا وداخلیا عن طریق السیاسات الرشیدة والسبل الكفیلة لتسخیر هذا العنصر الهام في تحقیق التنمیة الإجتماعیة والاقتصادیة المستدامة من أجل احتلال المكانة الرفیعة في وسط المجتمع الدولي. و بما أن العقار عنصر تنموي مهم وجزء أساسي من هذا الإقلیم ، حظاه المشرع الجزائري كغیره من التشریعات بحمایة خاصة وعنایة كبیرة وذلك من خلال سن ترسانة غزیرة من القوانین و الأنظمة التوجیهیة في إطار تحدید طبیعته و كیفیة استغلاله و التصرف فیه قصد ضمان وتشجیع الإئتمان العقاري. و لقد عر فت السیاسة التشریعیة العقاریة منذ الاستقلال عدة عقبات متأثرة بالأزمات التي عرفها العالم من خلال العقود الستة الأخیرة ، الأمر الذي دفع بالمشرع بتطلیق مبادئ الاشتراكیة ومبادئ الملكیة الجماعیة على حساب الملكیة الفردیة واعتناق فكرة الانفتاح على اقتصاد السوق و تكریس وحمایة الملكیة الخاصة الشيء الذي تطلب تغییر النظرة للعقار باعتباره أحد أكبر العناصر المعتمد علیها للدخول في المنظمة العالمیة للتجارة. ولعل تحدید أصل وتطور الملكیة العقاریة الخاصة أثار خلافا كبیرا في الفقه ، إذ نجد أن الملكیة الخاصة تغیرت باستمرار من المجتمعات القدیمة إلى العهد الروماني إلى القرون الوسطى، ومن الثورة الفرنسیة التي قدست الملكیة الخاصة واعتبر تها حقا مطلقا ومقدسا إلى القرن التاسع عشر الذي ظهر فیه مذاهب متطرفة نادت بإلغاء الملكیة العقاریة الخاصة إلغاء تاما باعتبارها سبب صراع الطبقات ،ورغم كل هذه التغیرات و الاختلافات إلا بقیت الملكیة العقاریة الخاصة موجودة ومحمیة بالدساتیر الدولیة والأنظمة القانونیة والإتفاقیات الدولیة لحقوق الإنسان، لكو نها تعتبر من الثروات الأساسیة التي یعتمد علیها أي نظام اقتصادي . إلا أن السیاسة العقاریة في الجزائر عرفت تدبدبا بعد الاستقلال ،
فالنظام الجزائري لم یذهب إلى حد إلغاء الملكیة العقاریة الخاصة ، وإ نما سمح لها في حدود معینة وأحاطها بقیود محكمة تكریسا للتوجهات الاشتراكیة ، فكانت الملكیة الخاصة في تلك الفترة وظیفة اجتماعیة ولیس حقا تقتصر على تلبیة الحاجیات الشخصیة وقد ترتب على التقیید المفرط لحق الملكیة الخاصة نتائج سلبیة في القطاع الزراعي والعمراني والسكني والنشاطات العقاریة: الزراعیة والمؤممة أو المستولي علیها كانت تمنح للفلاحین الذین كان لهم حق الانتفاع الدائمففي القطاع الزراعي، القیود المفروضة على الأراضي الفلاحیة بموجب قانون الثورة فقط، وهذا لم یقنع المعنیین بالتفاني في استثمار الأراضي والمحافظة علیها كأنها ملكا لهم،كما أن مبدأ الأرض ملكا لمن یخدمها وتكریس قید الاستغلال المباشر كان من الصعب تطبیقه وكانت لهذه الوضعیة إنعكاسات سلبیة على العقار الفلاحي ، وأبعد الفلاحة عن تحقیق دورها المنتظر في الاقتصاد الوطني،
أما القیود المفروضة على الأراضي العمرانیة واحتكار البلدیات للسوق العقاریة دفعت بالمواطنین لتحریر سندات عرفیة وغیر قانونیة وإ قامة بنایات غیر شرعیة وفوضویة. كما أن القیود المفروضة على الملكیة العقاریة المبنیة أدت لأزمة سكنیة خانقة نتیجة تخوف الملاك من تأجیر شققهم ومحلاتهم بسبب قید الامتداد القانوني،فضلا عن ذلك احتكار الدولة السوق العقاریة وفرض أسعار إداریة جمد السوق العقاریة وعرقل الاستثمار لإقامة مشاریع تنمویة . ومما زاد من النتائج السلبیة هو حضر المعالمات العقاریة الخاصة إلا بمقتضى رخص وشهادات، مما دفع المواطنون لتحریر عقود غیر رسمیة وغیر قانونیة، جعلت المشرع یقف أمام مشاكل عویصة لتسویة مشكلة إثبات حق الملكیة.
ویجب الإشارة إلى أن موضوع إثبات الملكیة العقاریة مرتبط ارتباطا وثیقا بمختلف المراحل التاریخیة التي مرت بها الجزائر، فالنصوص التي كانت تحكم النشاط العقاري لم تعرف انسجاما كما أنها لم تكن مضبوطة بصفة دقیقة وذلك لكثرتها وتبعثرها في عدة نصوص ضف إلى ذلك سرعة تجدیدها بما لا یخدم استقرار الملكیة العقاریة، لدرجة أنه لا یكاد یستقر إجراء سنه قانون أو مرسوم حتى یصدر قانون آخر یسن إجراءات جدیدة و مغایرة. فالنظام القانوني الذي یحكم العقار في الجزائر یعتبر كمرآة عاكسة لكل مرحلة من المراحل التي مرت بها البلاد. ففي العهد العثماني، اتسمت الملكیة العقاریة بتطبیق أحكام الشریعة الإسلامیة، وكذا الأعراف التي كانت سائدة آنذاك ،
في هذه المرحلة كانت الأراضي مقسمة إلى:
أ- أراضي البایلك -ویقصد بالبایلك الدولة- وهي تلك الأراضي التابعة للدولة العثمانیة،
ب-أراضي المخزن: وهي تلك التي كانت متروكة للتجمعات العسكریة التي أقامها الأتراك لتأمین المراقبة على منطقة معینة، وتجمع هذه التجمعات في ذات الوقت بین الطابع الزراعي والعسكري،
ج- أراضي العرش: وهي تلك الأراضي التي تحوزها العشائر في شكل ملكیة جماعیة ینتفع أفرادها من استغلالها الدائم دون النساء،
د- أراضي الملك وهي الأراضي التي یملكها أشخاص أو عائلات بصفة فردیة أو مشاعة بینهم،
هـ- أراضي الحبوس أو الأوقاف وهي العقارات التي حبست لفائدة مشاریع ومؤسسات دینیة أو خیریة أو حبست على الأولاد وأولاد الأولاد للحیلولة دون التصرف فیها بالبیع أو الهبة ویبقى لهم حق الاستغلال والانتفاع بالعقار حسب ما هو صالح لهم. و
- أراضي الجنوب: شهدت نظامین: نظام الأراضي ونظامه المیاه، أ- نظام الأراضي: عرف الجنوب الجزائري صنفین من الأراضي:
أراضي الجلف وهي التي تسقى بصورة غیر منتظمة، وأراضي الحي التي هي أراضي الواحات المسقیة طولا السنة بالإضافة إلى أراضي المنخفضات (الضیعات) حیث یبقى الماء مدة من الزمن أي الوقت الكافي لتمكین إقامة بعض المزروعات، وأخیرا المراعي التي كانت تتسم بكون استصلاحها كاد أن یكون منعدما بسبب شساعتها وافتقارها الشدید إلى وجود السكان فیها، ب- نظام المیاه: كان نظامي الري والسقي في الجنوب الجزائري یتسمان بـأهمیة الماء القصوى قیاسا بوسائل الإنتاج الأخرى وما یمكن قوله عن هذه المرحلة أن الملكیة العقاریة رغم أنها عرفت أشكالا متنوعة، إلا أن السمة المتمیزة فیها هو استقرارها.
أما في فترة الاحتلال الفرنسي كانت السیاسة العقاریة الاستعماریة طولا تلك المرحلة مستمدة من منهج احتلالي مردها الاستیلاء على أراضي الجزائریین بشتى الطرق والوسائل المادیة والقانونیة، وكان التشریع العقاري الإستعماري یرمي على الخصوص وقبل كل شيء إلى ضمان حریة المعالمات العقاریة وإ لى توحید النظام العقاري3 ، وهذا بهدف تسهیل عملیة التنازل علیها وتفكیك النظام الاجتماعي والاقتصادي السائد الذي كان یرتكز أساسا على العقار. وبعد استرجاع الجزائر لسیادتها الوطنیة، عرفت الجزائر فترتین تاریخیتین: الفترة التي طبعتها سیاسة اشتراكیة للاقتصاد الوطني والتي امتدت إلى حین صدور دستور 1989 والفترة التي تلتها والتي تمیزت بتحولات هامة بحیث خرجت الجزائر من النظام الاقتصادي الموجه إلى النظام الاقتصادي الحر وما یستلزمه من لیونة تشریعیة في النظام القانوني العقاري .
وما یمیز الساحة العقاریة الجزائریة هي وضعیة اللاأمن العقاریة ( insécurité’L immobilière ) في المعالمات ، مما أدى إلى قلة نسبة الاستثمارات الأجنبیة في الجزائر الأمر الذي دفع بالسلطات العمومیة إلى انتهاج سیاسة جدیدة، بإیجاد آلیات وأدوات قانونیة تثبت ملكیة العقار بسند رسمي مكتوب، وذلك باعتماد عملیة مسح واسعة ووضع سجل عقاري للأراضي ، بهدف تشجیع الاستثمارات لتحقیق الاستقرار في المعالمات العقاریة من جهة، وحصر الثروة العقاریة بهدف تحقیق الائتمان من جهة أخرى وذلك بجعل الدفتر العقاري السند المطلق والوحید لإثبات هویة العقارات على الصعید الوطني. إلا أن مسح الأراضي العام وتأسیس السجل العقاري، یعتبران آلیة بطیئة تعطي نتائجها على الأمد البعید لقلة الإمكانات المادیة والبشریة المتطلبة في إنجاح هذه العملیة، وفي انتظار تعمیم عملیات المسح العام التي یتم بموجبها توسیع دائرة تطبیق نظام الشهر العیني، فإنه بات من الضروري أن یستمر العمل، بصفة مؤقتة، بنظام الشهر الشخصي الموروث عن العهد الفرنسي إلى غایة الانتهاء من عملیات المسح على مجموع التراب الوطني.
وعلیه لقد ترتب عن مختلف هذه المراحل -والمبینة أعلاه- تحریر وثائق وسندات محددة لإثبات الملكیة العقاریة والحقوق العینیة العقاریة الواجب تقدیمها من المالكین لإثبات ملكیتهم، إلا أن الإشكال یثور عندما تكون هاته السندات غیر موجودة رغم توفر الحیازة القانونیة. وبغرض تسویة مسلأة سندات الملكیة، أقر المشرع عدة وسائل وآلیات تمكن كل حائز قانوني من الحصول على سند لإثبات حیازته، ولأهمیة الموضوع ارتأینا في بحثنا هذا إبراز مختلف السندات التي تثبت بها الملكیة العقاریة في الجزائر، والنزاعات المختلفة التي تنشب بشأنها والتي تثقل كاهل المحاكم، الأمر الذي یتطلب التدقیق في النصو ص القانونیة التي تحكم هذه المسلأة نظرا لخطورة الآثار المترتبة على المراكز القانونیة، وإ ذا كانت الملكیة التقلیدیة للعقارات (العقود العرفیة) قد لعبت دورا تنمویا وتضامنیا في مرحلة ما، فإن المرحلة الراهنة المتمیزة بظاهرة العولمة وكثرة الاستثمارات تفرض االامام بالقواعد التي تحكم الملكیة العقاریة، ووسائل إثباتها، وهذا سواء بالنسبة للقاضي أو بالنسبة للمواطن، وذلك لكون الملكیة العقاریة تشكل أساس النظام الاجتماعي والعمود الفقري للتطور الاقتصادي.
الإشكالیة التي تطرح نفسها حول هذا الموضوع تتبلور أساسا في ماهیة الوسائل القانونیة التي حددها المشرع لإثبات الملكیة العقاریة في التشریع الجزائري؟ وماهي أنواع السندات الموجودة قبل صدور قانون التوثیق والصالحة لإثبات الملكیة العقاریة؟. وما هي السندات المثبتة للملكیة العقاریة بالنسبة للمناطق غیر الممسوحة بعد صدور قانون التوثیق؟ وما هي السندات المقبولة قانونا في الأراضي الممسوحة؟ وما هي النزاعات القضائیة الناتجة عنها؟.
وللإجابة عن هذه الإشكالیات یقتضي منا تقسیم الموضوع إلى بابین ،
بحیث یتم التطرق في الباب الأول إلى دراسة مختلف الآلیات القانونیة التي وضعها المشرع الجزائري من أجل إثبات الملكیة العقاریة في الأراضي التي لم یمسسها المسح بعد على اعتبار أن الجزائر لم یتم مسح جمیع ترابها الوطني ، وقد قسمناه إلى فصلین ، الفصل الأول السندات المثبتة للملكیة العقاریة في الأراي غیر الممسوحة والفصل الثاني مخصص لدراسة الوقائع المادیة كوسائل لإثبات الملكیة العقاریة.
أما الباب الثاني خصصناه لدراسة آلیات إثبات الملكیة العقاریة في العقارات الممسوحة وقد قسمناه إلى فصلین ، نتناول بالدراسة في الفصل الأول إلى المسح كإجراء تقني أولي و كذا الدور الذي یلعبه في تكوین الحق الموضوعي القانوني والمادي في نشأة حق الملكیة العقاریة و مدى الاحتجاج به في مواجهة الغیر ، ثم نتناول في الفصل الثاني إلى الدفتر العقاري كنتیجة حتمیة لعملیة المسح العقاري وكذا النزاعات القضائیة الناتجة عنه من الناحیة المیدانیة. وسیتم معالجة الموضوع من خلال المنهج الوصفي التحلیلي من خلال تحلیل النصوص التشریعیة والتنظیمیة المتصلة بالعقار على ضوء المستجدات القضائیة وكذا الثغرات القانونیة الموجودة مع اقتراح الحلول الممكنة لإعطاء البحث نظرة أكثر اتساعا وشمولیة.