مقدمة:
أحاطت الشريعة الربانية صرح الاسرة بعناية كبرية، وكيف لا وهي اللبنة الاساسية اليت يتأسس عليها بنيان اجملتمع، حيث تعنى بدور مركزي في إصالح الامة وازدهارها، ويتضح هذا الاهتمام من خلال الاحكام اليت سنها هلل تعالى في كتابه المكنون وفصلها نبيه في سنته العطرة. والاسرة ككيان اجتماعي لا تتأسسالابالزواج، حيث اعتنت خمتلف الشرائع السماوية به ومنها الشريعة احملمدية، ففي القرآن المنري وردت آيات بينات كثرية تعنى بالزواج لعل أهمها تلك اليت أنزهلا اهلل تعالى عندما خلق آدم عليه السالم، وكون له أسرة عندما خلق له حواء، وبزواج الاثنني تكون أول أسرة على وجه الارض، ويف هذا المقام يقول اهلل تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِريًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبً﴾ ، كما يقول رب العزة في الذكر احلكيم: ﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾، وكذلك قوله جلة قدرته: ﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى﴾ .
فلقد عرفت مدونة الاسرة مؤسسة الزواج في مادتها الرابعة على أنه ميثاق تراضي وترابط شرعي بني رجل وامرأة على وجه الدوام لتحقيق مقاصد مثلى وغايات نبيلة، فالزواج له شأن عظيم وسيط قويم، وكيف ال؟ والمدونة ارتقت به إىل مصاف الميثاق أخذا مبا ورد في قوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَىبَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾ . لكن؛ وعلى الرغم من تنصيصالمدونة في مادتها الرابعة على أن الزواج يراد به الدوام والاستمرار،الاأنه قد حيدث ما يعكر صفو الاجواء بني الزوجني ويكدر مزاج الاسرة، وتنقلب من خلاله المودة والرمحة إىل خصام وشقاق وتصبح معه احلياة الزوجية مستحيلة الاستمرار، لذلك شرع هلل الطالق لرفع الاذى والضرر عن الطرف المتضرر في العالقة الزوجية.
وجيد فصم الرابطة الزوجية بالفراق سنده الشرعي في العديد من اآليات القرآنية والاحاديث النبوية، ففي الذكر احلكيم ورد قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ 8 الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ ، وقوله تعالى في حمكم التنزيل: ﴿ لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ ، ويقول عز من قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ . أما مشروعية الطالق في السنة العطرة فلقد ورد عن رسول هلل صلى هلل عليه وسلم وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ﴾ ، وهو الامر الذي أخذت به العديد من التشريعات ويف مقدمتها القول: ﴿إمنا الطالق ملن أخذ بالساق﴾ مدونة الاسرة، ويستفاد هذا الامر من المادة 70 منها اليت تنص على أنه:" لا ينبغي اللجوء إىل حل ميثاق الزوجية بالطالق أو بالتطليقالااستثناء، ويف حدود الاخذ بقاعدة أخف الضررين، ملا في ذلك من تفكيك الاسرة والاضرار بالاطفال."
فلقد عملالمشرع على تعداد وسائل مجة الحنالل العالقة الزوجية، وتوسيعه لنطاق العديد من الاجراءات البعض اآلخر منها، كما حدد في نفسالمدونة وقانونالمسطرةالمدنية اليت يتم بها فصم هذه الرابطة سواء بالطالق أو التطليق، وربط العديد من هذه الاجراءات بالنظام العام، حيث إن احملكمة ملزمة بالامتثال هلا والاخذ بها ولعل أهمها إجراء حماوالت الاصالح والتوفيق بني الزوجني، والمعلوم أن هذه الاخرية لا يستقيم على احملكمة إجراؤهاالاإذا كان طريف العالقة الزوجية حاضرين أمام القاضي في غرفةالمشورة، ومن هنا ظهرت إشكالية تتمثل في الزامية حضور الطرفني بذواتهما عند إصالح ذات البني أم أنه ميكن لأحدهما أن يوكل الغري عليه لأجل القيام بالاجراءات الرامية للفراق نيابة عنه.
لقد أصبحت إشكالية التوكيل في الطالق والتطليق منالمسائل اليت أثري حوهلا النقاش، وأفيض عنها الكثري منالمداد، كما اختلفت حوهلا التوجهات سواء من قبل الاكادمييني والدارسني أو القضاة والممارسني، فإذا كانالمشرع قد نظم بصريح النص التوكيل في الزواج حسب ، فإنه على العكس من ذلك فقد التزم الصمت في مسلأة التوكيل في الطالق،المادة 17 منالمدونة حيث مل يقرر بشأنها نص صريح والمعلوم أن هذا الاخري كان واردا في ظل نصوص قانون الاحولا الشخصية الملغى وكأي موضوع حبث معني، فال جيب اخلوض في غماره وسرب أغوارهالابعد تعريف مصطلحات مفاتيحه، فعنوان حبثنا " الوكالة في الطالق والتطليق بني غياب النص وتوجهات العمل القضائي " يتخلله مصطلحان اثنان أساسيان، يتجلى أمر الاول منهما في "الوكالة" وتعين ذاك العقد الذي مبقتضاه يكلف شخص حسب الفصل879 من قانون الالتزامات والعقود شخصا آخر بإجراء عمل مشروع حلسابه، كما تعرف كذلك كونها التفويض واحلفظ وإظهار ، أما المصطلح الثاني فهو "الطالق والتطليق" ويعين إزالة عصمة العجز والاعتماد عن الغر الزوجية والزوجة، كل حبسب شروطه حتت مراقبة القضاء وطبقا لأحكامها. أهمية الموضوع: تتجلى أهمية الموضوع قيد الدراسة والتحليل في مناحي وجتليات عدة ميكن حصرها فيما يلي: أوال: في جانب الفقه الشرعي: إن أهمية الموضوع قيد الدراسة تتجلى في أن التوكيل في المعامالت بصفة عامة والطالق والتطليق بصفة خاصة جيد له صدا عميقا في مؤلفات فقهاء الشرعالاسلامي الاربعة، ومنها كتب فقهاء السادة المالكية الذي نهلت منها مدونة الاسرة معظم قواعدها، كما أن أهمية هذا الموضوع تتجلى كذلك في البحث والتقصي عن مكامن اخلالف والائتالف بني هؤالء الفقهاء في النقطة حمل الدراسة.
ثانيا: في اجلانب الاجتماعي: في عصرنا هذا تالشت القيم، وضعفت اهلمم، وأصبحت كثري من أسرنا في مرتع السقم، ففي معظم الاحيان لا نكاد جند أسرة زوجية خيتفي فيها الشد واجلدب، ويغيب فيها الخصام والشجار، وينحين فيها الشقاق بني الزوجني لقيم التسامح والوقار، ففي زمننا هذا أصبح الطلاق والتطليق شيئا عاديا ملأوفا تكون فيه محاوالت الاصالح المبذولة في كثري من الاحيان بدون أية فائدة تذكر، إذ أن قرابة 90 بالمائة من محاوالت الاصالح التي يقوم بها القضاء مل تأت بأكلها، هذا وحنن نتحدث عن حضور الزوجني هلذه احملاوالت، فما بالك عندما يغيب أحد الزوجني ويوكل عنه من يقيم الصلح مكانه، فالاكيد أن هذه الاخرية لن جتد طريقا للنجاح. ثالثا: في اجلانب القانوني: تتمحور أهمية موضوعنا هذا في شقه القانوني في كونالمشرع المغربي مل خيصص ملسلأة التوكيل في الطالق والتطليق أي نص صريح فيالمدونة الاسرية، وهذا خيالف توجهه في ظل نصوص قانون الاحولا الشخصية الملغى، فسكوتالمشرع عن تنظيم مقتضى قانوني يطرح العديد من الاشكالات ويؤدي إىل اختالف اآلراء والتوجهات، مما تكمن معه أهمية الموضوع من هذه الناحية في البحث عن الفلسفة اليت ابتغاهاالمشرع عندما أقدم على عدم التنصيص عن الوكالة في الطالق والتطليق كمسلأة أصبح الواقع المغربي يفرض الاخذ بها.
للقول بأن:" مما لا شك فيه أن 21 رابعا: من الناحية القضائية: يذهب أحد الباحثني فعالية أي نص قانوني لا تتحقق فقط من خلال جودة التشريع مهما تناهت دقته وجودة وضوحه، وإمنا أساسا من خلال مهارة القائمني على تطبيق أحكامه في إنزال مقتضياته على مختلف الوقائع والنزاعات المرتبطة به، خاصة عندما يتعلق الامر بنصوص قانونية كمدونة الاسرة اليت تالمس كيان اجملتمع جبميع مكوناته" فإذا كان القضاء يسري في توجهات خمتلفة في بعضالمسائل حتى عند وجود نص قانوني حيكمها، فما بالك عندما يسكتالمشرع عن تنظيم مسلأة معينة بنص صريح، ففي هذه احلالة يفتح الباب لالجتهاد وتتعدد التوجهات، ويكون لكل منها سنده الذي تتأسس عليه، وهذا هو احلاصل في مسلأة التوكيل عند بغية انهاء الرابطة الزوجية، حيث جند تيار من القضاء يرفض بالقطع الاخذ بالوكالة في إجراءات الفرقة، وتيار آخر يقبل بها، وثالث يسري في منحى وسط، وغالبا ما تكون حمكمة النقض هي المالذ والفيصل بني هذه التوجهات، وهنا تتجلى أهمية هذه الدراسة لأجل تصنيف هذه التيارات وحماولة تقييم أسانيدها اليت تؤسس عليها توجهها ورأي قضاء النقض فيالمسلأة حمل الدراسة.
إشكالية الموضوع:
تتمحور الاشكالية الرئيسية اليت تدور عليها حلقات هذا البحث فيما يلي: ما مظاهر وجتليات فلسفةالمشرع المبتغاة من وراء عدم تنصيصه على مسلأة التوكيل في الطالق والتطليق، وأي دور للقضاء جبميع درجاته في سد الفراغ، أو بعبارة أخرى، جدلية احلفاظ على كيان الاسرة بني إلغاء الوكالة في الطالق والتطليق والابقاء عنها؟ ويتفرع عن هذه الاشكالية تساؤالت عدة تنطوي في كلياتها على توجهات ثالثة تتمثل فيما يلي: - التوجه الاول: إن دراسة موضوع التوكيل في الطالق والتطليق في منظومة الفقهالاسلامي من ناحية التأصيل له، يرتك تصورا لدى الباحث يدفعه إىل طرح بعض التساؤالت من قبيل: كيف تعالم فقهاء الشريعةالاسلامية مع الوكالة في الطالق والتطليق؟ وما هي أبرز مكامن الاختالف والائتالف في هذهالمسلأة؟ - التوجه الثاني: ما دام التوكيل في الطالق والتطليق غري مؤطر بنصوص قانونية داخلالمدونة الاسرية، فهذا الامر يدفعنا للتساؤل عن فلسفةالمشرع من هذا الامر؟ وهل أنتجت فلسفته هذه فائدة على الاسرة المغربية أم أن العكس هو احلاصل؟ وهل سكوت المقنن عن تنظيم مسلأة التوكيل في انهاء العالقة الزوجية مينع العمل بها؟ أم أن عالم الظروف وبعض احلالات الاجتماعية الاستثنائية حتتم على القضاء المغربي الاخذ بها، خاصة والمعلوم أن الفقهالاسلامي المالكي جييزها والمدونة أحالت عليه؟ التوجه الثالث: إن لغياب نص قانوني ينظم مسلأة الوكالة في الطالق والتطليق بليغ الاثر على توجهات القضاء المغربي، سواء العمل القضائي أو قضاء النقض، حيث نتساءل معه عن الكيفية اليت تعالم بها هذا الاخري مع هذه الاشكالية؟ وأهم توجهاته في هذا المضمار؟ وما أهم الاسس والاسانيد اليت يستند عليها كل توجه؟ وهل لقضاء النقض دور في حسم النقاش الدائر؟
دوافع اختيار الموضوع:
مما لا شك فيه أن أي إقدام للبحث في موضوع من المواضع وخاصة المواضع القانونية، حتكمه عدة دوافع واعتبارات تدفع الباحث إىل المضي قدما في البحث المختار مؤيدا في ذلك بتلك الدوافع. فاختياري ملوضوع "الوكالة في الطالق والتطليق بني غياب النص وتوجهات العمل القضائي" مل يأتيالابعد شد وجدب وأخذ ورد في جمموعة من المواضيع اليت كانت تستهوي فضولي العلمي وختصصي الاكادميي، حيث خلصت في الاخري إىل أن هذا الموضوع مما يشكله من حلقة نقاش بني الدارسني والممارسني، سيكون لا حمال أرضية لتقديم دراسة معمقة حولالمسلأة، وسأقدم فيه إضافة نوعية بتوفيق من رب العلى، فمن الاسباب الداعية إىل اختيار هذا الموضوع أورد مثالا لا حصرا: - أوال: دوافع ذاتية: من المسلم به أن أي باحث جيد ضالته في موضوع معني بالذات، حيث ما تفتأ نفسيته ترتاح عند اخلوض في تفاصيله، وهذا حالي مع موضوع "الوكالة في الطالق والتطليق" حيث كنت أولي له اهتماما بليغا ردحا من الزمان وذلك لقلة وشح ما كتب فيه وكثرت ما قيل عنه في اآلونة الاخرية.