مقدمة:
تعتبر الدعوى الجنائیة مجموعة من الأعمال الإجرائیة التي تهدف إلى التحقق من وقوع الجریمة ونسبتها إلى فاعلها، وهي بذلك تشمل جمیع الإجراءات التي تباشر مند أول عمل من البحث حتى صدور حكم بات . وهذه الدعوى تتطلب أن تتم إجراءاتها بشكل صحیح، حیث إذا توافر في العمل الإجرائي المرتبط بها الشروط القانونیة المتعلقة به سواء من الناحیة الموضوعیة أو من الناحیة الشكلیة كان صحیحا ومنتجا لآثاره القانونیة. أما إذا تخلف عن هذا العمل شرط من الشروط القانونیة فإنه یعتبر مخالفا للقانون ویتطلب تقریر الجزاء الإجرائي. والجزاءات الإجرائیة متعددة منها: البطلان والانعدام والسقوط وعدم القبول، ویقتصر البحث على البطلان، لذلك وجب تمییزه عن النظم القانونیة المشابهة له. والجزاء الإجرائي یلحق كل إجراء معیب، وهذا الأخیر هو نتیجة عدم المطابقة بین الإجراء الواقع ونموذجه الموصوف قانونا. وهو أمر مهم إذ أن القواعد القانونیة الإجرائیة ما وضعت إلا لكي تطبق على النحو المنصوص علیه قانونا.
و بطلان الإجراء هو جزاء إجرائي یلحق كل إجراء معیب وقع بالمخالفة لنموذجه المرسوم قانونا، فیعوقه عن أداء وظیفته، ویجرده من آثاره القانونیة التي كان یمكن ترتیبها فیما لو وقع صحیحا . في حین أن السقوط جزاء إجرائي یرد على السلطة أو الحق في مباشرة العمل الإجرائي إذا لم یقم به صاحبه خلال الفترة التي حددها القانون، ومثالها آجال الطعن في الأحكام. ویبدو التشابه بین السقوط والبطلان، في أن السلطة أو الحق في مباشر العمل الإجرائي شرط موضوعي لصحته، فإذا تخلف هذا الشرط كان العمل باطلا، ففوات آجال الطعن یؤدي إلى سقوط الحق في الطعن، فإذا بوشرت الإجراءات على الرغم من هذا السقوط كانت باطلة.
وینحصر الخلاف بین البطلان والسقوط في أن الأول جزاء یرد مباشرة على العمل الإجرائي دون أن یمس الحق في مباشرته، بخلاف الثاني الذي لا یرد على العمل، وا ٕ نما فقط على مجرد السلطة أو الحق في مباشرته، كما أن البطلان لا یمنع من تجدید العمل الإجرائي الباطل مادام ممكنا. أما السقوط فإنه یحول دون تجدید هذا العمل، فالسقوط أبعد أثرا من البطلان . أما عدم القبول فهو جزاء لتخلف أحد المفترضات الإجرائیة التي یستلزمها القانون، والتي تمنح العمل الإجرائي الذي یرتكز علیها قابلیة الاعتراف القانوني وقبوله .
وهكذا یتعین التمییز في نطاق جزاء عدم القبول بین العمل الإجرائي ذاته (كالدعوى أو تقدیم الطلب أو الطعن) وبین المفترض الإجرائي الذي كان ینبغي توافره لصیرورة العمل الإجرائي مقبولا ومعترفا به قانونا. وقد یكون هذا المفترض تصرفا قانونیا، ولهذا قیل أن عدم القبول كجزاء لا یلحق الإجراء ذاته بقدر ما ینصب على واقعة مستقلة عنه وسابقة علیه . ویكاد أن یتفق البطلان مع عدم القبول في السبب المفضي إلى كل منهما. ففي الحالتین ثمة عمل إجرائي معیب مرده تخلف المطابقة بین الإجراء الواقع وبین نموذجه المرسوم قانونا، وقد یعزى ذلك إجمالا إلى انتفاء أحد الشروط الموضوعیة أو الشكلیة اللازمة لصحة هذا الإجراء.
لكن یكمن الفارق بینهما في نطاق كل منهما، وفي دوره الوظیفي، وفي أثره الإجرائي. فمن ناحیة أولى یبدو البطلان أوسع نطاقا من عدم القبول، إذا أنه یلحق كل عمل إجرائي، أما عدم القبول فهو جزاء یقتصر على الدعاوى والطلبات، فهو أوثق صلة بالرابطة الإجرائیة ذاتها منها إلى العمل الإجرائي. ومن ناحیة ثانیة یتمثل الدور الوظیفي للبطلان في التقریر بما اعترى العمل الإجرائي من عیب لتخلف أحد مقوماته الموضوعیة أو انتفاء أحد شروط صحته الشكلیة، وعلى خلاف ذلك فالدور الوظیفي لعدم القبول یفترض سلفا توافر عیب من العیوب الإجرائیة المستوجبة لجزاء إجرائي كالبطلان أو السقوط، ولكن هذا العیب یظل كامنا، ولا تحین الفرصة لكشفه والتقریر به إلا عند مباشرة الدعوى المرتبطة بهذا الإجراء.
ومن ناحیة ثالثة وأخیرة فإن أثر البطلان یتمثل في عدم الاعتراف بالعمل الإجرائي المعیب وتعطیله عن أداء دوره الإجرائي وا ٕ نتاج آثاره القانونیة، أما عدم القبول فهو لا ینصرف إلى الإجراء المعیب، وا ٕ نما یقتصر أثره على رفض الدعوى المبنیة على الإجراء المعیب . أما الانعدام فیترتب بقوة القانون، فهو لا یحتاج إلى تقریر قضائي لأنه لا حاجة إلى إعدام المعدوم، ولا حاجة للطعن في الحكم المعدوم للتوصل إلى إلغائه وا ٕ نما یكفي مجرد إنكار وجو ده عند التمسك به .
ویبدو الفارق واضحا للوهلة الأولى بین الانعدام والبطلان من حیث أن الأول یفترض عیبا ناشئا عن تخلف أحد مقومات وجود العمل الإجرائي؛ أي عناصره التي لا یقوم بدونها. بینما الثاني (البطلان) فلا یترتب فقط على انتفاء أحد مقومات الإجراء، بل أیضا على تخلف أحد شروط صحته. فالانعدام إذن وصف لإجراء لا وجود له سواء كان عدم الوجود فعلیا أم قانونیا، لكن البطلان هو جزاء لإجراء معیب وا ٕ ن یكن موجودا . هذا؛ وتتنازع السیاسة التشریعیة في تنظیم بطلان الإجراءات الجنائیة مذاهب ثلاثة: مذهب البطلان القانوني، ومذهب البطلان الجوهري أو الذاتي، ومذهب لا بطلان بدون ضرر. فجوهر مذهب البطلان القانوني أن لا بطلان بدون نص القانون، ومؤداه أن المشرع هو الذي یتولى بنفسه تحدید حالات البطلان، بحیث لا یستطیع القاضي أن یقرر البطلان في غیر هذه الحالات، كما یمتنع علیه أن یقرر البطلان في الحالات التي لم یقض فیها النص القانوني بالبطلان .
أما مذهب البطلان الجوهري فمؤداه أن المشرع لا یستطیع حصر حالات البطلان في القانون، بحیث یجب ترك هذه المهمة للقضاء على ضوء ما یعرض علیه من الوقائع، ویكفي فقط وضع معیار یستعین به القاضي للتمییز بین القواعد التي لا تبطل الإجراء المخالف لها، والقواعد التي تبطل الإجراء المخالف لها، فهذا المذهب یمیز بین القواعد الإجرائیة الجوهریة ویقرر البطلان جزاء مخالفتها، وغیر الجوهریة التي لا یترتب البطلان جزاء لمخالفتها.
ویؤخذ على هذا المذهب صعوبة التمییز بین القواعد الجوهریة والقواعد غیر الجوهریة للإجراء، واحتمال اختلاف الفقه والقضاء بشأنه وبخصوص مذهب لا بطلان بدون ضرر فمفاده أنه لا یجوز تقریر بطلان أي إجراء ما لم یكن قد ترتب علیه ضرر، فالفیصل هو حدوث الضرر وحده دون حاجة لذكر البطلان في القانون، بل حتى إذا ذكر النص البطلان دون أن یحدث عن الإجراء ضرر فلا یجوز تقریر بطلانه .
وینقسم البطلان إلى نوعین: بطلان مطلق وآخر نسبي، فالبطلان المطلق هو الذي یترتب على مخالفة القواعد الخاصة بالإجراءات الجوهریة المتعلقة بالنظام العام ، ومن الأمثلة على هذا النوع القواعد المتعلقة بتشكیل هیئة الحكم وقواعد الاختصاص وغیرها من القواعد المنصوص علیها في قانون المسطرة الجنائیة. ویتمیز هذا النوع من البطلان بأنه یجوز التمسك به من قبل أي خصم، وفي أي مرحلة من مراحل الدعوى، ولا یجوز التنازل عن التمسك به، ولا یصححه رضاء الخصم الصریح أو الضمني به . أما النوع الثاني (البطلان النسبي) فهو جزاء عدم مراعاة القواعد الجوهریة التي لا تتعلق بالنظام العام، وا ٕ نما تتصل بمصلحة الخصوص، وهذا البطلان لا یجوز التمسك به إلا ممن تقررت القواعد الإجرائیة لمصلحته، ویمكن التنازل عنه، وتقضي به المحكمة بناء على طلب الخصم الذي تقرر لمصلحته.