السلطة التقديرية للقاضي الجنائي
تعتبر العدالة الجنائية الغاية المثلى والهاجس الأسمى الذي تسعى إليه كل التشريعات الجنائية المعاصرة، وهو الوصول إلى الحقيقة التي لا تظهر إلا في الحكم الصادر عن القاضي الجنائي بناء على الآليات المتاحة له من طرف المشرع في إعمال سلطته التقديرية. ولهذا يجب على القاضي قبل أن يحرر حكمه أن يكون قد أدرك الحقيقة القضائية، لا كما يصورها الخصوم، وهذه الحقيقة لا يمكن الوصول إليها إلا بعد البحث عنها وثبوتها بالأدلة والتوصل إلى نسبتها وإسنادها للمتهم ماديا ومعنويا (1).
رابط تحميل الملف اسفل التقديم
__________________________
تقديم
تعتبر العدالة الجنائية الغاية المثلى والهاجس الأسمى الذي تسعى إليه كل التشريعات الجنائية المعاصرة، وهو الوصول إلى الحقيقة التي لا تظهر إلا في الحكم الصادر عن القاضي الجنائي بناء على الآليات المتاحة له من طرف المشرع في إعمال سلطته التقديرية. ولهذا يجب على القاضي قبل أن يحرر حكمه أن يكون قد أدرك الحقيقة القضائية، لا كما يصورها الخصوم، وهذه الحقيقة لا يمكن الوصول إليها إلا بعد البحث عنها وثبوتها بالأدلة والتوصل إلى نسبتها وإسنادها للمتهم ماديا ومعنويا (1).
فالوقوف على وسائل الإثبات للتيقن على الحقيقة يعتبر المحور الأساس السير العدالة الجنائية، لكون موضوع الإثبات يحظى باهتمام كبير في المجال القانوني من مختلف نواحيه، ويعزى مصدر هذا الإهتمام إلى كون مجاله ونطاقه مرتبطا بقضايا بالغة الدقة والخطورة، حيث تنصب على حقوق ثابتة وجوهرية
مرتبطة بالأفراد، كما أنه يشكل لبنة أساسية وركنا هاما من أركان القضاء الزجري إذ بفضله يتوصل القاضي الجنائي إلى الإقتناع بمدى براءة أو إدانة الأشخاص
المتابعين في القضايا التي ينظر فيها (2).
وإذا كانت قد اختلفت المدارس الفقهية في مدى نطاق السلطة التقديرية للقاضي تبعا للسياسة الجنائية والعقابية التي ينتهجها المشرع فإن وجود التقدير المنوط بالقاضي في تطبيق القانون الإجرائي والقانون العقابي، قد أضحى من المسلمات في التشريعات المعاصرة.
فالتشريعات مهما أوتيت من بعد النظر لا تستطيع أن تحيط بكل الأشكال التي يمكن أن يظهر عليها السلوك الضار بالمصالح الجنائية، كما لا يمكنها
الإحاطة بكل فروض الخطورة الإجرامية في الجاني، وهذا الواقع هو الذي فرض الإعتراف بالسلطة التقديرية للقاضي حتى في محيط الشرعية المشددة.
وإذا كان الجدل ما زال قائما بين أنصار مبدأ الشرعية ومبدأ الملائمة، فإن النتيجة التي يمكن الوصول إليها في صالح أي من المبدأين هي المناط في توسيع أو تضييق السلطة التقديرية للقاضي دون إلغاء تلك السلطة الكلية، فهذا الإلغاء الكلي أصبح غير متلائم والوضع الذي توجد عليه المجتمعات البشرية
المعاصرة (1).
وإذا كان الفقه المعاصر يرى ضرورة تفريد القانون الجنائي عند تطبيقه على الحالات التي تعرض في الواقع التطبيقي، فلا مناص من توسيع سلطة القاضي التقديرية كي يستطيع ملائمة القاعدة الجنائية مع الواقع بتفريد النص التجريمي بالنسبة للوقائع ومرتكبيها ويستتبع حتما تقليل القيود التي تفرض على القاضي في هذا الصدد، وهذا يؤدي بالضرورة إلى وجوب اختلاف الحكم باختلاف الشكل الذي تظهر عليه الجريمة وفاعلها.
عدد
ولذلك يعتبر نظام الإثبات المعنوي أو الإثبات الحر محور سير العدالة الجنائية لأن المشرع أعطى للقاضي الجنائي سلطة تقديرية واسعة في تقدير وسائل الإثبات وتقدير الأفعال المجرمة وتقدير الخطورة الإجرامية للجاني وتقدير العقوبة
دون أن يتقيد في تكوين اقتناعه لدليل معين إلا إذا نص القانون على خلاف ذلك. إلا أن هذا لا يعني تحكم القاضي، فلا يجوز له أن يحكم وفق أهوائه بل هو ملزم بتحديد أسباب منطوق الحكم الذي انتهى إليه، ذلك أنه إذا كان المجلس الأعلى لا يراقب القاضي في تكوين اقتناعه فإنه يراقبه في الأسباب التي اعتمد عليها وكانت مصدرا لإقتناعه، وهذا ما نصت عليه المادة 286 من قانون المسطرة
الجنائية (2).
فالمشرع انطلاقا من هذه المقتضيات ترك للقاضي الحكم وفقا لإقتناعه الصميم، وتقديره المتعلق بتوافر عناصر الجريمة دون تقييده بضوابط موضوعية محددة، ومثال على ذلك تقدير توافر العلاقة السببية من عدمه، وتقدير درجة
جسامة الركن المعنوي في شكل القصد الجنائي.
ولا يخفى على أي مهتم بالحقل القانوني أن مبدأ الإقتناع الوجداني، هو نتيجة منطقية للإعتراف بالسلطة التقديرية سواء في تطبيق القانون على الوقائع المكونة للجريمة، وكذلك تطبيق العقوبة على مرتكبي تلك الوقائع.
كما أن السلطة التقديرية للقاضي لا تقف عند حد اختيار العقوبة المناسبة من ناحية الكم والكيف، وإنما في فروض كثيرة يمكن للقاضي وقف تنفيذ العقوبة وذلك يتوقف على ملائمة القاضي الملابسات الواقعة وظروف مرتكبها، كما هو
الشأن في تخفيف العقوبة وتشديدها.
كما لا تقتصر سلطة القاضي في تطبيق القانون على ما سبق، بل تبدو
جلية أيضا في مجال تحديد الواقعة الإجرامية، فالتثبت من وجود تلك الواقعة وتوافر أركانها وعناصرها يخضع بدوره لتقييم القاضي الجنائي، فكثير من الجرائم تنطوي على عناصر قيمية لا يمكن إدراكها بالحواس، ولا التثبت منها ماديا، وبطبيعة الحال يترك للقاضي تقدير توافر تلك العناصر من عدمه بناء على اعتقاده
الصميم (1).
ولما أصبحت تتميز به سلطة القاضي الجنائي التقديرية فيما يخص العقوبة أو الوقوف على وسائل الإثبات، ولضمان السير الحسن للعدالة وتطبيق القانون قرر المشرع المغربي وضع قيود وضوابط على هذه السلطة يسير وفقه القاضي
تفاديا لأي تعسف أو خطا (2).
فالقضاء الجنائي لا يعرف حرية اختيار القرار وفقا للصورة التي يمكن أن
ترسم ذهن البعض، فالسلطة التقديرية للقاضي الجنائي تمارس عن طريق ضوابط محددة لا تسمح بفروض التحكم المسموح بها قانونا في نطاق الإدارة العامة.
ومن خلال هذه الضوابط يمكن للجهة المختصة محكمة النقض أن تراقب
مدى صحة الأحكام وتطبيق القانون من خلال تسبيب الأحكام وهو ما يضمن حياد
القاضي وإقناع الخصوم والرأي العام بعدالة هذه الأحكام.
إشكالية الموضوع
إذا كان المشرع المغربي قد أقر بحرية القاضي الجنائي في تكوين قناعته في تقدير الأدلة وكذا تقدير العقوبة، فهل يستقل القاضي بهذا التقدير ويكون بمنأى عن أي رقابة؟ أم أن القاضي في تكوين قناعته أو استعماله لسلطته التقديرية
خاضع للرقابة من طرف محكمة النقض؟
وتتفرع عن هذه الإشكالية المحورية مجموعة من التساؤلات:
ما هو المدى المتروك للقاضي في استعمال سلطته التقديرية؟
ما هي الحدود التي تقف عندها هذه الحرية؟
فهل هي سلطة مطلقة من أي قيد قانوني ؟ أم أنها تستوجب تدخل المشرع
فعلا لتنظيمها وإحاطتها ببعض الضوابط والمعايير حتى لا تنفلت عن غايتها
الأساسية؟
فهل هذه السلطة تخضع لرقابة قضائية، أم أنها تترك مجردة من أي التزام
قانوني؟
منهج وخطة الموضوع
إن دراسة هذا الموضوع تستدعي بداية اعتماد المنهج الوصفي للوقوف
على أهم الأدلة في ميدان الإثبات الجنائي، ثم المنهج التحليلي وذلك ببيان موقف
الفقه والقضاء في هذا الموضوع.
وإثراء الموضوع سنلجأ إلى المقارنة في بعض الإجتهادات القضائية وذلك
باعتماد المنهج المقارن.
وللإحاطة بمختلف جوانب البحث في هذا الموضوع فإن الضرورة
المنهجية اقتضت تقسيمه إلى فصلين على الشكل التالي:
الفصل الأول: نطاق السلطة التقديرية للقاضي الجنائي
الفصل الثاني: آثار السلطة التقديرية للقاضي الجنائي على تسبيب الأحكام ونطاق الرقاب
_________________
رابط التحميل
https://drive.google.com/file/d/1ILBbaio7jHhEB0SsJJV5EJDM7yNrj0jC/view?usp=drivesdk