ماهية المسؤولية الجنائية
مجموعة بحوث وعروض في القانون الجنائي والمسؤولية الجنائية للطبيب
تمتاز المسؤولية الجنائية بمجموعة من الخصائص من بينها أنها مسؤولية شخصية، وتستند هذه الفكرة إلى قول الله تعالى ( ولا تزر وزارة وزر أخرى)(1)، أي أنه لا يجوز أن يتحمل الغير سلوك شخص آخر مهما كانت درجة قرابته أو صلته به، غير أن هذا المبدأ لا يطبق في القانون الجنائي على نسق واحد، فيلاحظ أن فكرة المسؤولية الجنائية عن فعل الغير، أصبحت تحتل مكانة في الدراسات الحديثة، حيث تقام المسؤولية الجنائية استنادا إلى فكرة الخطأ المفترض، وكمثال على ذلك؛ أن الطبيب يسال جنائيا عن أخطاء تابعيه لأنهم يعملون تحت رقابته، فإذا أخطأ أحدهم وترتب على خطأه موت المريض أو تسبب في عاهة، او كان المريض بحاجة إلى رعاية طبية لاحقة، فإن الطبيب يكون مسؤولا عن الخطأ الذي وقع من تابعيه استنادا إلى فكرة الخطأ المفترض، وذلك بتقصيره في الرقابة والمتابعة لواجبات تابعيه.
(1) أما أساس المسؤولية الجنائية، فإنها تقوم على أساس الخطأ، وهو ما تطرقت إليه المدرسة التقليدية، التي اعتمدت في قيام المسؤولية الجنائية على عنصري الركن المعنوي، وهما العلم والإرادة، لذلك سميت بالمسؤولية الأخلاقية، لأن الإنسان له حرية اختيار بين فعل الخير أو الشر، و أن السلوك الاجتماعي أو السلوك المضاد للمجتمع يقوم على الإدراك وحرية الاختيار، لذلك سميت ايضا، بالمسؤولية الناشئة عن حرية الاختيار.
وقد تعرضت نظرية حرية الاختيار إلى انتقادات كثيرة من قبل المدرسة الوضعية الإيطالية، أقامت المسؤولية الجنائية على أساس الحتمية (2)، أي أن الإنسان مجبر على إتيان سلوك معين، وليس مختارا لسلوكه، كما أقام أنصار المدرسة الوضعية إلى اعتبار الخطورة الإجرامية أساسا للمسؤولية الجنائية وتوقيع التدابير الوقائية، غير أن هذه الفكرة تعرضت بدورها إلى النقد من قبل حركة الدفاع الاجتماعي، وذلك لصعوبة معرفة الأشخاص الحاملين للخطورة الإجرامية، وفظهر اتجاه أخر يتزعمه (مارك انسل) الذي حاول ان يوفق بين مذهب حرية الاختيار، ومذهب الحتمية، فتبنى التدابير الوقائية(3) .
وفد كان لهذا الجدل الفقهي الذي ظهر على مستوى المدارس الجنائية، تأثير علي مستوى التشريعات الجنائية الوضعية، حيث أقامت المسؤولية الجنائية على أساس الإدراك أو التمييز وحرية الاختيار، ومن بينها المشرع المغربي في الفصل 132 من ق ج م، الذي يتبنى نفس الاتجاه الذي سارت عليه التشريعات الجنائية، كما اعتمد على فكرة الجزاء الجنائي الذي يتمثل في صورة العقوبة والتدابير الوقائية.
أما بالنسبة للشريعة الإسلامية، فإن المسؤولية الجنائية تقام على أساس الخطأ الشخصي، وان يكون الشخص قادرا على الإدراك أو التمييز و تبتث له حرية الاختيار تحققت مسؤوليته الجنائية .
وقد اهتم الفقهاء الشريعة الإسلامية بدراسة الأساس الذي تقوم عليه مسؤولية الإنسان، إلا أنهم اختلفوا حول هذا الاساس، فانقسموا إلى ثلاث اتجاهات، مذهب المعتزلة ، الذي يذهب الى كون الإنسان يملك له حرية اختيار بين فعل الخير أو الشر، ومذهب الجبرية الذي أقام أفعال الإنسان على أنها خاضعة لله تعالى، وانه ليس وبالتالي لا سلطان للانسان اراته ، ومذهب الأشاعرة الذي حاول التوفيق بين مذهب المعتزلة والجبرية.
(1) وعلى العموم، فإن المسؤولية الجنائية سواء في الشريعة الإسلامية أو القانون الوضعي تقوم على أساس الإدراك او التمييز و حرية الاختيار، أما صور المسؤولية الجنائية، فإنها تتحدد من خلال الركن المعنوي وهي نوعان، الصورة الأولى، تتمثل في حالة عدم اتحاد عناصر الركن المعنوي، حيث يتحقق العلم وتتخلف الإرادة، أو يكون العلم والإرادة مفترضين في السلوك الإجرامي، وتكون المسؤولية خطيئة، أي أن مصدرها الخطأ، والصورة الثانية، وتتمثل في حالة اتحاد عناصر الركن المعنوي من العلم والإرادة في النشاط الإجرامي، والذي يتجلى في القصد الجنائي وتكون المسؤولية هنا عمدية.
وقد عرفت المسؤولية الجنائية باحتلاف صورها نقاشا حادا،خصوصا في اوساط في الفقه الفرنسي، الذي انقسم في هذا الشان إلى اتجاهان،الاتجاه الأول يمثله الفقه القانوني التقليدي،الذي يرى بأن المسؤولية الجنائية والعقاب تحكمهما علاقة تلازم،حيث إن المسؤولية بدون عقاب تفقد معناها من الناحية النظرية والعملية، والاتجاه الثاني يمثله الفقه الحديث الذي يتجاوز النظرية التقليدية للمسؤولية الجنائية، ويرى بأن المسؤولية الجنائية تختلف عن العقاب، إذ على الرغم من كونه يعترف بان اقتراف الجريمة شرط أساسي لبحث إمكانيتي المساءلة الجنائية وتوقيع العقاب على الفاعل، فإنه يؤكد بأنهما مختلفين جوهريا،و ذلك أن العقاب ليس إلا إجراء تقوم المحكمة بتوقيعه على الفاعل، والهدف منه إصلاح الجاني وإعادة إدماجه في المجتمع، ومنع الجريمة من خلال ما تحققه العقوبة من الردع الخاص لمرتكب الجريمة(1)٬ أما جوهر المسؤولية الجنائية فهو تأثيم إرادة الفاعل الذي اختار عن حرية إتيان سلوك، منع القانون إتيانه نيابة عن الدولة، فإنه أمام اختلاف النظامين من حيث الجوهر يكون التلازم الجدلي بينهما مفقودا، إذ تقضي المحكمة بالمساءلة جنائيا لكنها لا تطبق العقوبة والعكس صحيح (2).
فالاتجاه الحديث حول المسؤولية الجنائية له عدة إيجابيات على المستوى العملي حيث إن المساءلة الجنائية لا تعني بالضرورة إنزال العقاب، وهذا يتطلب من القضاء الزجري أن يكون له دور مهم في تطبيق هذا التوجه لتحقيق العدالة الجنائية، وفي هذا الإطار يمكن إدراج المسؤولية الجنائية للطبيب، حيث إن إقرار المسؤولية الجنائية في القانون المنظم لمهمة الطب، لا يعني قطعا أن الأمر يتعلق بالعقاب، و الاكثر من ذلك ام هناك بعض الاتجاهات التي تنادي بعدم تجريم القانون الطبي،و ابرزها اتجاه بعض الفقه الفرنسي الذي يرى بأنه لا يمكن متابعة الطبيب جنائيا، بل يجب أن يكون خاضعا، أثناء مزاولته لمهنته لضميره المهني، مع فسح المجال لتطبيق القانون المدني والعقوبات التأديبية (3).
وقد تبنى المشرع المغربي وجهة نظر اتجاه الفقهي الحديث حول المسؤولية الجنائية، ويظهر ذلك من خلال، اما الفصل 143 ق ج م الذي ينص على الأعذار القانونية، سواء بعدم العقاب، او بتخفيض العقوبة، و اما من خلال إدراج النظرية العامة للمسؤولية الجنائية في الفصول 132 إلى 140 ق ج م والجزاء الجنائي في الفصول 14 إلى 60 ق ج م (1).
والمسؤولية الجنائية بالمفهوم المشار اليه سابقا يجعلها تتميز عن باقي أنواع المسؤولية من عدة نواحي نوردها في ما يلي׃ - فإذا كانت المسؤولية الجنائية هي صلاحية الشخص لتحمل الجزاء الجنائي عما يرتكبه من الجرائم، فإن المسؤولية المدنية تقوم عندما يرتكب شخص ما فعلا مخالفا للقانون، و يترتب عليه ضررا ماديا أو معنويا، يجعل الشخص يتحمل الأثر القانوني المترتب على ذلك والذي يتجلى في التعويض.
وعلى العموم، فان المسؤولية الطبية تقوم على أساس العقد الطبي، كمصدر للعلاقة التي تربط بين الطبيب والمريض، وهو التزام قانوني يلزم الطبيب ببذل العناية اللازمة لشفاء المريض وليس تحقيق نتيجة معينة(2).
وتختلف المسؤولية الجنائية عن المسؤولية المدنية، في أن المسؤولية الجنائية تكون شخصية، في حين أن المسؤولية المدنية يمكن أن تنتقل من شخص إلى آخر نتيجة انتقال الالتزامات التعاقدية والتصرفات القانونية، كما أن المسؤولية الجنائية ترمي إلى تطبيق الجزاء الجنائي، أما المسؤولية المدنية فإنها تقام من أجل الحصول على التعويض.
- و تختلف ايضا المسؤولية الجنائيةعن المسؤولية الإدارية، التي ترمي إلى تحمل المرفق العمومي المسؤولية عما يسببه للأفراد من أضرار، وهي نوعان؛ مسؤولية الإدارية المبنية على الخطأ، ومسؤولية الإدارية المبنية على فكرة تحمل المخاطر، فالنوع الاول يقوم على أساس الخطأ، اما النوع التاني فانه يروم الى تحمل المرفق العمومي المسؤولية الإدارية، وذلك من خلال تخفيف عبئ إثبات الخطأ من قبل المتضرر ، الجدير بالذكر ان المسؤولية الإدارية تختص بنطرها المحاكم الإدارية وفق المادة 8 من القانون المنشئ للمحاكم الإدارية 1993.
(1) وتختلف اخيرا، المسؤولية الجنائية عن المسؤولية التأديبية، في كون هذه الاخيرة تقتضي وجود نظام قانوني لمؤسسة عمومية أو هيئة من الهيئات التي تتمتع بالشخصية المعنوية، وكمثال على ذلك، النظام الأساسي لهيئة الأطباء الوطنية الذي يفرض عقوبات تأديبية على الأطباء الذين يخالفون القانون المنظم لمهنة الطب.
(2) وقد تتم الإجراءات التأديبية وفق الفصل 37 من قانون 21 مارس 1984 المتعلق بهيئة الأطباء الوطنية(3)، التي تنص على أن إخلال الطبيب بالالتزامات التي تقع على عاتقه تجاه المريض، تكون بناء على شكاية من المتضرر أو النيابة العامة، وتحال على المجلس الوطني أو الجهوي للهيئة، وفي حالة إثبات الخطأ الشخصي للطبيب تطبق عليه العقوبات التأديبية وفق الفصل 40 من نفس القانون،(4) وهي إما عقوبات أصلية تتمثل في الإنذار أوالتوبيخ أو التوقف عن ممارسة المهنة لمدة لا تتجاوز سنة، أو عقوبات إضافية تتجلى في المنع المؤقت عن عضوية مجالس الهيئة طوال مدة لا تتجاوز 10 سنوات.
و بالاضافة الى ما تختلف المسؤولية الجنائية والتأديبية، في أن إقرار المسؤولية الجنائية لا يكون إلا من طرف المحاكم الزجرية، بينما ترجع المسؤولية التأديبية إلى الهيئات الإدارية التي منحها المشرع حق تتبع سلوك طائفة معينة، كما أن الدعوى الجنائية المرفوعة على الشخص لمساءلته جنائيا عن ارتكابه لجريمة من الجرائم التي يعاقب عليها القانون الجنائي، ولو انتهت إلى براءته، فقد يعاقب تأديبيا من طرف الهيئة الإدارية التي ينتمي إليها على أساس ارتكابه لخطأ مهني شريطة أن لا يكون الخطأ قد استبعد جنائيا، للإضافة إلى ذلك أن الجزاء الجنائي يتمثل في العقوبة أو التدابير الوقائية، أما العقوبات التأديبية فهي إما الإنذار أو التوبيخ أو التوقف عن ممارسة المهنة لمدة محددة(1).