تأثير السياسة الجنائية على ظاهرة العود
التصميم: المطلب الأول: واقع السياسة الجنائية بالمغرب. الفقرة الأولى: سياسة التجريم و العقاب في المغرب. الفقرة الثانية: وضعية السجون بالمغرب. المطلب الثاني: مدى تأثير السياسة الجنائية على ظاهرة العود. الفقرة الأولى: علاقة التجريم و العقاب بظاهرة العود. الفقرة الثانية: السجن كسبب العود.
المطلب الثاني: مدى تأثير السياسة الجنائية على ظاهرة العود.
العود هو ارتكاب المجرم جريمة أو أكثر بعد أن يكون قد حكم عليه بحكم حائز لقوة الشيئ المحكوم فيه من أجل جريمة سابقة [9]، فهو جزء من الظاهرة الإجرامية و أحد أهداف السياسة الجنائية للتقليل منه، و أحد غايات المؤسسات السجنية التي تسعى لإصلاح المجرم لعدم عودته للإجرام مرة أخرى.
و رغم المجهودات التي نهجها المغرب في صنع و تنزل سياسته الجنائية، فوجئ الجميع بحقية صادمة و نتيجة كارثية لهذا التنزيل، فلا الجريمة انخفضت مستوياتها، و لا المؤسسات السجنية أصبحت قادرة على تطبيق استراتيجيتها التربوية و الإصلاحية و لا المجرم من جهته ردع من معاودة سلوكه الإجرامي، و بموازاة ذلك ارتفاع حالات العود للجريمة[10]، و بالتالي وجب البحث عن علاقة التجريم و العقاب بظاهرة العود (الفقرة الأولى)، و السجن كسبب العود (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: علاقة التجريم و العقاب بظاهرة العود.
يعتبر الردع العام غرض من أغراض العقوبة، فهو لا يحقق دائما بقسوة العقوبة، بل بالعقوبة المؤكدة و سرعتها، بالإضافة إلى أن الأثر الرادع للعقوبة مرتبط ارتباطا وثيقا بالتكوين النفسي للمجرم، حيث يمكن أن ينعدم عند بعضهم[11]، فتصبح العقوبة لا تشكل تهديد لهم، و بالتالي لن تمنعهم العقوبة من العودة للإجرام و تكرار الجريمة نفسها، خصوصا الجرائم ذات عقوبات تافهة.
في علاقة مع العقوبة، توجد بعض الجرائم التي لا تتناسب مع العقوبات التي فرضت فيها، حيث يمكن تحليل هذه الفكرة في شقين:
الشق الأول الذي تكون فيه العقوبة شديدة أكثر من اللازم بسبب المشرع، أو بسبب السلطة التقديرية للقاضي الذي في بعض الأحيان لا يوازن بين العقوبة و أحوال الجريمة و الجاني، فينتج عنها عقوبة مشدد في حقه تدمر فيه ما كان له من محاسن و تدفعه إلى الإجرام و احتراف الجريمة لتبني الشخصية الجديدة الذي قرر القانون ألزم القانون بأن يصبح عليها، و الأمثلة كثيرة و تتكرر في الواقع المعيشي، كحالة من تم الحكم عليه بالسجن على جريمة بسيطة للضرب و الجرح لم تكن نهائيا تستحق العقوبة، لكن نظام العقوبة ألزمه بها، خصوصا من هم أصغر سنا في مراحلهم الدراسية، فمع الوقت تصبح لهم سلوكات عدائية و اندفاعية لارتكاب نفس الجريمة، فيحكم بعقوبة مشددة بسببها و تبدأ رحلته في الإجرام و تشدده فيه.
اما الشق الثاني فيتحقق حين تكون الجريمة ذا كبيرة خصوصا من الناحية الإقتصادية و تكون عقوبتها تافهة تشجع على ارتكاب نلك الجريمة، يظهر هذا الإتجاه في جرائم الأعمال و الأموال خصوصا حينما يكون المتحصل من الجريمة يساوي ملايين الدراهم و يقابله عقوبة بالأشهر، كمن تحصل على الملايين من اختلاس أموال كانت تحت يده بسبب عمله، فيواجه بجريمة خيانة الأمانة ذات عقوبة 6 أشهر كحد أدنى، و يمكن أن تصل لشهر أو شهرين في حالة كانت أول جريمة له حسب ظروف التشديد التي نص عليها الفصل 149 من القانون الجنائي، و بالتالي فهذه تشجيع على ارتكاب الجرم لتفاهة العقوبة بالمقارنة مع العائد من الجريمة، أما في جرائم الشركات و لتفاهة الغرامات التي يواجهون بها و كلما وجدت الشركة منافع من ارتكابها بعض الجرائم خصوصا الجرائم البيئية، فتصبح من عادتها ارتكاب تلك الجريمة و تحمل الغرامة لتفاهتها بالمقارنة مع المنافع التي تحقق لها الجريمة.
تعتبر سياسة التجريم و العقاب التي تنهجها الدولة المغربية و التي ابانت عن ضعفها، سببا للتشجيع عن الإجرام و حالات العود، و من مظاهرها أن الجاني يكون معتادا على الفعل المجرم فلا يمكنه التخلي عن أفعاله فقط لأنها مجرمة، و أفضل مثال هي يظهر في جرائم تجارت المخدرات و استهلاكها الذي يمثل النيبة الأكبر من حالات العود، و الواقع يشهد أن المتاجرين في المواد المخدرة أصبح دخولهم للسجن و الخروج منه عادة، و نفس الشيئ بالنسبة لمستهلكي المواد المخدرة.
أما بالنسبة للعقوبة، فبساطتها في بعض الأحيان لا يمنع الجاني من ارتكابها مرارا و تكرارا، و يظهر هذا جليا في جرائم الأعمال حيث تخترق المقاولات بعض النصوص المجرمة مرارا و تكرارا مع تحملها للغرامة المقررة فيها دون أي ضرر، و نفس الشيئ في بعض جرائم الأموال، و بالتالي أصبحت العقوبة آلية لتشجيع الأشخاص لارتكاب الجريمة و حالات العود.
أما في أحيان أخرى سياسة التجريم و العقاب قاصية خصوصا في الجرائم البسيطة منعدمة الخطورة، و التي لا يجب تكون سببا لدخول السجن، وواقع الحال أن الكثير من هذه الجرائم ينتهب بها الأمر في السجن و في أفضل الأحوال عقوبة موقوفة التنفيذ و ما لها من اثر على مستقبل المحكوم عليه خصوصا في البحث عن العمل، و قد لجأت بعض الدول إلى إقرار نصوص تشريعية جديدة للتصدي لما استجد من الجرائم عبر استحداث آليات قانونية موازية تحمي بها المحكوم عليهم في الجنح البسيطة، ذلك عبر إلغاء تجريم بعض الإنحارافات المنعدمة الخطورة، كما فعلت هولاندا بإلغاء تجريم المخدرات المرنة و و تقنين توزيعها و ترويجها (يلاحظ أنه في المغرب أغلب حالات العود هي في الجرائم المرتبطة بالإتجار في الكحول و جرائم المخدرات)، و خفض الحد الأقصى والنزول بالحد الأدنى للعقوبات السالبة للحرية في أنواع خاصة من الجرائم[12]، يلاحظ مع هذه الإجراءات انخفاض في نسبة التجريم و انخفاض كبير في حالات العود خصوصا و أن جرائم المخدرات من أكبر اسباب ظاهرة العود.
و بالتالي يمكن القول أن بعض العقوبات هي في غير محلها، بالتشديد في جرائم بسيطة و المرونة في جرائم تستحق التشديد، و قد سبق لوزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان السيد مصطفى الرميد أن أكد "أن ارتفاع حالات العود إلى الجريمة يسائل صلاحيات المنظومة الجنائيى الحالية، لاسيما في شقها المتعلق بالمدد السجنية و آليات الإدماج"[13].
في إطار تجويد سياستها في العقاب، جاءت الدولة المغربية بمشروع القانون رقم 22-43 الذي يحمل تطلعات عدة في إطار الحد من الجريمة و العود و إعادة تأهيل المحكوم عليهم، لكنه رغم ما سيحقه هذا القانون عند صدوره، لكن سيظهر نتائج حتمية أخرى تدخل في إشكال أن سياسة العقاب في المغرب تشجع على الإجرام و العود للجريمة، خصوصا مع معرفة الجانحين خصوصا الأحداث منهم أنهم لن يواجه.
الفقرة الثانية: السجن كسبب ا لعود
بسبب تبني المشرع المغربي نهج الغلو في التجريم و العقاب، تسبب هذا في كثرة الجريمة و كثرة الدعاوى القضائية الناتجة عنها و بالتالي كثرة الأحكام القاضية بالسجن التي تسبب في النهاية اكتظاظ في السجون، هذا الإكتظاظ أفرز لنا نوع جديد من الإجرام، هو الإجرام بين المجرمين بل أصبح السجن مكان لتعلم الجريمة، ما ينتج عنه في النهاية اعتياد المجرم عن الإجرام، و شل النظام العقابي من تحقيق غايته.
و من ناحية أخرى ذات طابع اجتماعي، يواجه المحكوم عليه صعوبة في الإندماج في المجتمع، ناتج أساسا عن عدم تقبل المفرج عليهم داخل المجتمع، حيث أوضحت الدراسة أن المفرج عنهم للمرة الأولى لم يستطيعوا التكيف مع المجتمع بصورة طبيعية حيث شعروا برفض المجتمع لهم، و بالتالي يجدون أن لم يعيدوا في أوطانهم، و أن وطنهم هو السجن ما يشكل لهم دافع و رغبة للعودة إليه عبر ارتكاب جريمة هم معتادين عليها [14].
ينتج عن عدم تقبل المجتمع للمفرج عنه بسبب تعرضه للحصار الإجتماعي الذي يستعمله المجتمع كمعاقبة ثانية له يكون أشد قسوة بالنسبة له من قسوة السجن، ما يسبب شعوره بالسخط و العداء في اتجاه المجتمع، فيحاول المجرم معاقبة المجتمع عبر الإجرام ثانية و احتراف الإجرام لإحداث اضطراب فيه، و بالتالي يكون المجتمع هنا هو الدافع لعود المجرم للجريمة[15].
بالإضافة إلى التأثيرات الإجتماعية، يوجد تأثيرات اقتصادية تتجلى في عدم امكانية المفرج عنهم من تدبير شأنهم الإقتصادي و المالي الناتج عن عدم تمكنهم من إيجاد عمل، و أغلب المفرج عنهم يكونون قد اكتسبوا أساليب و أفكار عن كيفية اكتساب الأموال بطرق غير مشروعة، يتجلى أهمها في الإتجار بالمخدرات، فيصبح للمفرج عنه لا حل إلى بامتهان هذه الجريمة، و لما لا و لم يعد له ما يخسره، فالسجن ذهب إليه و علاقاته الإجتماعية تدمرت، فتصبح الجريمة مهنة له يعيدها و يكررها.
كخلاصة، يوجد تياران تمثلان نظرت المهتمين و كذا عامة الشعب عن دور السجون في ردع المحكوم عليه و منعه من الإجرام، فذهب التيار الأول إلى تبني فكرة كون أن السجن حسب دوره المنطقي فهو يحارب الجريمة و يحقق الردع العام و الخاص، كما يبعد الجاني عن حظيرة المجتمع لتفادي اتيانه الجريمة ثانية، و ذلك بإصلاحه و إعادة تأهيله بعد أن ادى دينه إلى المجتمع، ليصبح مواطن صالح و مفيد للمجتمع[16] ، في حين أن التيار الثاني يرى أن السجن و إن كان يفي بدوره المنطقي، فهو لا يستطيع تغيير المحكوم عليه من ناحية تركيبته النفسية و العاطفية التي تدفعه إلى الإجرام، ، بل أن السجن لم ينجح في مهمته التي تهدف إلى خلق جو صالح و خال من بذور الجريمة و الجنوح و مخاطرهما[17].
و تبعا للتيارات الفكرية في الفقرة السابقة، و لفشل السجن في تأدية مهمته في بعض الأحيان، يصبح هذا الأخير وسيلة و أداة لتكوين المجرمين لكثرة الدروس و المعارف التي يكتسبها المحكوم عليه في السجن، و بوصمه بوصم المجرم و السجين الذي سترافقه مدى حياته، فمسالة عوده للجريمة تبثا مسالة وقت نظرا للشخصية الجديدة التي أصبح عليها، و التي ذاقت مرارة السجن و لا تمانع من الذهاب إليه مرة أخرى، خصوصا و إن كان السجن بالنسبة له افضل من التمييز العنصري الذي يلازمه دائما في المجتمع و حتي وسط اسرته و عائلته.
[1] يوسف بنباصر، أزمة السياسة الجنائية (ظاهرة جنوح البسيط نموذج) – رصد ميداني لتمظهرات الأزمة و الحلول المقترحة لمعالجتها، مجلة قانونك، دون ذكر العدد، سنة 2016، دون ذكر الصفحة.
[2] نفس المرجع السابق.
[3] محمد الدقيواق، مرتكزات السياسة الجنائية، مقال منشور بموقع مجلة القانون و الأعمال الدولية. تم الإطلاع عليه بتاريخ 2023-11-12 الساعة 14.00
[4] يوسف بنباصر، م.س، دون ذكر الصفحة.
[5] يوسف بنباصر، م.س، دون ذكر الصفحة.
[6] تقرير حول وضعية السجون بالمغرب علة ضوء المعايير الدولية و التشريعات الوطنية و ضرورة الإصلاح (2016-2020)، مركز دراسات حقوق الإنسان و الديموقراطية بالمغرب، دجنبر 2021، ص 33.
[7] نفس المرجع السابق، ص 195.
[8] يوسف بنباصر، م.س، دون ذكر الصفحة.
[9] عبد الواحد العلمي، شرح القانون الجنائي المغربي، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة السادسة 2016، ص 380.
[10] يوسف بنباصر، م.س، دون ذكر الصفحة.
[11] محمد متيوي مشكوري، أزمة السياسة العقابية و سبل تجاوزها، مجلة المنارة للدراسات القانونية و الإدارية، المجلد 2018، عدد s، دون ذكر الصفحة.
[12] يوسف بنباصر، م.س، دون ذكر الصفحة.
[13] MAAROUF YASSIN, « la politique pénale face au phénomène de la récidive », article déposé sur www.maroclaw.com , vue le 19/11/2023 à 12 :00.
[14] حنان محمد عاطف كشك، المحددات الإجتماعية و الإقتصادية للعود إلى الجريمة، ص 268.
[15] نفس المرجع السابق، ص 269.
[16] مصطفى عبد المجيد كاره، السجن كمؤسسة اجتماعية – دراسة عن ظاهرة العود، دار النشر بالمركز العربي للدراسات الأمنية و التدريب بالرياض، 1987، ص 42.
[17] نفس المرجع السابق، ص 44.