معايير تقدير النفقة في مدونة الاسرة

تؤكد مدونة الاسرة في المادة 189 على أنه : يراعى في تقدير كل ذلك التوسط ودخل الملزم بالنفقة وحال مستحقها ومستوى الأسعار والأعراف والعادات السائدة في الوسط الذي تفرض فيه النفقة

معايير تقدير النفقة في مدونة الاسرة

لقد حث الله سبحانه وتعالى الزوج على التوسعة على زوجه وعياله في الإنفاق وذلك مصداقا لقوله تعالى :  لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما أتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما أتاها، سيجعل الله بعد عسر يسرا .

فمن خلال هذه الآية يتضح أن النفقة تكون بحسب سعة المنفق، وهذا ما أكده فقهاء المالكية حيث اعتبروا أن تقدير النفقة يعتمد على حال الزوج والزوجة والبلد والأسعار ، كما أن آراء الفقهاء قد تباينت في هذا الموضوع ، وذلك على حسب حال الزوج، والزوجة ، وعلى حسب حالة اليسار والإعسار.

أما المشرع المغربي فقد نص في المادة 189 على أنه : يراعى في تقدير كل ذلك التوسط ودخل الملزم بالنفقة، وحال مستحقها ومستوى الأسعار والأعراف والعادات السائدة في الوسط الذي تفرض فيه النفقة".

وبذلك يكون المشرع قد احتفظ بنفس المعايير التي كان معمولا بها في إطار مدونة الأحوال الشخصية سابقا اللهم تقديمه لمعيار التوسط على الوضعية المادية للزوج المنفق ، هذه الأخيرة تم استبدالها بعبارة دخل الملزم بالنفقة ، على أساس أن تعريف مؤسسة الزواج جعل إنشاء الأسرة تحت رعاية الزوجين ( المادة 4) ، إلا أنه عاد وأكد في المادة 194 على وجوب نفقة الزوج على زوجته بمجرد البناء .

وبالتالي فإن الملزم بالنفقة يبقى هو الزوج ، هذا الأخير تجب مراعاة وضعيته المادية كأحد المعايير الأساسية في تقدير نفقة المطلقة.

وبالرجوع إلى الفقرة الثانية من المادة 189 نجد أن المشرع رتب معايير تقدير النفقة كما يلي : - التوسط : يمكن القول بأن اعتبار التوسط من طرف القاضي هو الكفيل بتنفيذ ما قدر من نفقة، ذلك أن إثقال كاهل الملزم بمبالغ باهضة لن يمكن المنفق عليه من التوصل بها، خاصة وأن الملزم بالنفقة يكون قد شرع في تأسيس أسرة جديدة وله التزامات أخرى مما يقتضي تطبيق القاعدة الشرعية " لا ضرر ولا ضرار " وأن الضرر يزال ".

- دخل الملزم بالنفقة : يعد أهم عنصر يدخل في تقدير النفقة ، إذ يتعين أن يكون ذلك التقدير على أساس المداخيل التي حصل عليها المكلف بهذه النفقة ، من مرتب أو أجر أو أرباح، أو غير ذلك من مصادر الرزق ولا ينظر إلى ما يكون له من ثروة لا تدر عليه مداخيل ، مما يعني أنه إذا كان لهذا المطالب بالنفقة عقارات مثلا لا تدر عليه مداخيل فلا تفرض عليه نفقة ذوي المداخيل العالية ، ولا تدخل هذه العقارات في الاعتبار ، كما أن المحكمة تتوفر على صلاحية تعيين خبير للتأكد من الوضعية المادية للزوج.

لكن مع ذلك تبقى مسألة عبء إثبات يسر أو عسر المحكوم عليه بالنفقة تثير بعض المشاكل من حيث المكلف بالإثبات.

وأعتقد أن تطبيق القاعدة العامة في الإثبات القاضية بأن مدعي الشيء ملــزم بإثباته كفيل بحل هذا اللبس، وهذا ما عملت على تطبيقه بعض محاكم المملكة كاستئنافية طنجة مثلا حيث جاء في أحد قراراتها : " وحيث إن المستأنف لم يدل للمحكمة بما يثبت دخله حتى يمكنها أن تبسط رقابتها وتقدر ما إذا كان المبلغ المحكوم به كنفقة للبنت هدى مناسبا أو غير مناسب لوضعيته المادية الأمر الذي يجعل ادعاءه بكونه مجرد مياوم بدخل يومي قدره 30درهما يفتقر للإثبات وبالتالي يستدعي عدم الأخذ به .

فإن كان هذا القرار يهم نفقة الأبناء فإن هذا لا يمنع من تطبيق فلسفته الإثباتية حتى على نفقة الزوجة المطلقة ، خاصة حينما يكون دخل الزوج غير معروف.

وبالمثل إذا أثبت المدعى عليه ضعف دخله فإن المحكمة تستجيب لطلبه وتخفض من المبلغ المحكوم به، ليبقى المعيار الأساس هو قدرة الملزم المالية على أداء النفقة، والتي يجب إثباتها من طرف مدعيها بكافة وسائل الإثبات .

- حال مستحقها : والمقصود بها هنا حال المطلقة وكذا حال الأطفال أي الوضعية المعيشة والتعليمية التي كانوا عليها قبل الطلاق .

كما أن المالكية إضافة إلى اعتبارهم ليسر أو عسر الزوج في تقدير النفقة فإنهم يعتدون أيضا بأحوال الزوجة ، والمدونة سارت على غرار الفقه المالكي ، في اعتبار حال الزوجة، وتركت أمر تقديرها للقضاء ، الذي يجب عليه أن يراعي يسر الزوج، وذلك من خلال الوثائق والمستندات الإثباتية .

- حالة الأسعار : هذا المعيار لم يعد له الأثر الذي كان له في السابق حيث كانت الأسعار ترتفع وتنخفض حسب الأحوال: أما في الوقت الراهن فإن الأسعار في ارتفاع مطرد وفي تزايد مستمر، ولا يحدث انخفاض الأسعار أبدا بل يزداد ارتفاعا.

لذلك فمن الناحية العملية لا يتصور النقص في النفقة بعلة انخفاض الأسعار بل ترتفع فقط بمضي الوقت بموازاة ارتفاع الأسعار .

- الوسط المكاني : وهو ما عبرت عنه المدونة بالأعراف والعادات السائدة في الوسط الذي تفرض فيه النفقة، ذلك أن النفقة تختلف ما بين البادية والمدينة وبين المدينة الصغرى والكبرى، فمثلا المتطلبات المعيشية في مدينة فاس ليست هي نفسها في مدينة الدار البيضاء أو أكادير ، ومن ثم فالقاضي ملزم بمراعاة هذا المعيار بعناية شديدة.

أما ما يتعلق بالأعراف والعادات فهذه يمكن اعتمادها في مناسبة الأعياد الدينية وما تتطلبه من نفقات أو ما يسمى بتوسعة الأعياد، خاصة بالنسبة للأطفال من حيث اللباس وغير ذلك من المتطلبات التي تكون في مثل هذه المناسبات.

والمحكمة في كل ما مر تعتمد على تصريحات الطرفين وحججهما مع الاستعانة بالخبراء في ذلك.

فالذي يفهم من عبارة " ولها أن تستعين بالخبراء في ذلك" الواردة في المادة 190 ، أن الأمر ليس إلزاميا ، خاصة وأن الخبرة تبقى إجراء من إجراءات التحقيق المنصوص عليها في المسطرة المدنية ، والتي إما أن تكون بناء على طلب الطرفين معا أو أحدهما أو تلقائيا بحسب ظروف كل قضية.

بيد أن الأمر كان سيختلف كثيرا لو أن الخبراء المعنيين كانوا خبراء اجتماعيين لأنه في الحقيقة هذه المهمة يجب أن تسند إلى خبير اجتماعي وهذا يجرنا إلى تساؤل آخر وهو هل الخبرة الاجتماعية معمول بها لدى المحاكم في الوقت الحالي؟ .

في الواقع إن قضاءنا لازال منغلقا على نفسه، لم ينفتح بعد على التخصصات الاجتماعية والنفسية بالرغم من أنه يخوض في ميادين لا سبيل لتكملة حلولها إلا بالاستخدام والتوظيف الجيد للبعدين الاجتماعي والنفسي ،طالما أن الأمر يتعلق بعلاقات إنسانية داخل نواة اجتماعية.

هكذا إذن يكون عمل المحكمة سهلا في ظل توفر معايير التقدير السابقة، لكن الأمر يصعب كثيرا في حالة عدم وجود تلك المعايير، خاصة ما يتعلق بدخل الزوج أو الملزم بالنفقة، وذلك إما بسبب عدم إدلاء الزوج بما يثبت حالته المادية وضعيته المادية .

ويصبح الأمر أكثر صعوبة بالنسبة للملزمين غير المنتمين لأسلاك الوظيفة العمومية الشيء الذي يعرض حقوق المستحقين للنفقة للضياع.

بيد أن التوجه القضائي درج على تبني طريقة تكون أكثر إيجابية نظرا لتعلقها بقضايا اجتماعية ومعاشية حساسة في نفس الوقت ، هذه الطريقة التي تعتمد على توجيه اليمين أو القيام بالبحث الاجتماعي ، وإذا ما عجز الأطراف عن إثبات ادعاءتهما بحيث ادعى الزوج العسر والزوجة اليسر فإنه استنادا إلى القاعدة القائلة بأن الأصل في الشخص هو اليسر وعلى من يدعي العكس أن يثبته ، لهذا يتحتم على الزوج أن يثبت عسره خلاف الأصل، وقد ذهب المجلس الأعلى في هذا الاتجاه في القرار عدد 392 الصادر في 20/3/90 ملف عدد 3226/88 حيث نص على أن ادعاء الطاعن بأن مبلغ النفقة غير مناسب لظروفه باعتباره عاطلا بقي مجردا عن الدليل فكان الدفع به لا أثر له والمحكمة غير ملزمة بالرد على ما لا أثر له على قرارها .

وعموما تبقى المعايير السابقة عناصر تعليل تعتمدها المحكمة في تسبيب أحكامها وقراراتها، لأن الأمر يخضع أولا وأخيرا للسلطة التقديرية للقاضي.

What's Your Reaction?

like
0
dislike
0
love
0
funny
0
angry
0
sad
0
wow
0