عقد بيع العقار المحفظ بين الشكلية والرضائية حسب الفصل 489 من قانون الالتزامات و العقود المغربي
مواضيع وعروض في القانون العقاري و الحقوق العينية في مختلف المواضيع. المحررات الاكترونية في المعاملات العقارية، عروض في القانون العقاري، عروض في الحقوق العينية، الملكية في القانون المغربي، قراراتالمحافظ، التعرضات، النظام العقاري في المغرب، المساطر الخاصة للتحفيظ، المسطرة الادارية للتحفيظ، المسطرة القضائية للتحفيظ
خطة الموضوع :
الاجتهاد القائل بشكلية البيع وحيثياته.
الاجتهاد القائل برضائية البيع وحيثياته.
المبحث الأول: علاقة أطراف العقد من جهة و الأغيار من جهة أخرى.
الفقرة الأولى: هل التسجيل المطلوب هو التسجيل بالمحافظة العقارية؟
الفقرة الثانية: هل التسجيل المطلوب هو التسجيل بمصلحة الضرائب؟
المبحث الثاني: علاقة أطراف العقد فيما بينهما.
الفقرة الأولى: المبررات التشريعية والنظرية والواقعية للقول بشكلية عقد البيع.
الفقرة الثانية: المبررات التشريعية والنظرية والواقعية للقول برضائية البيع.
الخلاصة.
مقدمة:
ينص الفصل 489 من قانون العقود والالتزامات على ما يلي:
" إذا كان المبيع عقارا أو حقوقا عقارية أو أشياء أخرى يمكن رهنها رهنا رسميا وجب أن يجري البيع كتابة في محرر ثابت التاريخ، ولا يكون له أثر في مواجهة الغير إلا إذا سجل في الشكل المحدد بمقتضى القانون".
لقد اختلف الاجتهاد القضائي في تفسير وتأويل هذا الفصل وفي استكشاف نية المشرع من خلال عباراته.
فبعض الاجتهادات القضائية ذهبت من خلال حيثيات مختلفة إلى القول إما صراحة أو على الأقل ضمنيا بأن عقد بيع العقار المحفظ هو بيع شكلي في حين ذهب البعض الآخر إلى اعتبار هذا البيع رضائيا ولكل مبرراته:
الاجتهاد القائل بشكلية عقد البيع وحيثياته:
للقول بشكلية هذا البيع فإن الاجتهادات القضائية المذكورة اعتمدت على عبارات الفصل 489 من ق ل ع التي تتطلب لصحة البيع وتحت طائلة بطلانه شكليات خاصة تتجلى فيما يلي:
*الكتابة: "أن يجري البيع كتابة".
*ثبوت التاريخ:" في محرر ثابت التاريخ".
*التسجيل:" إلا إذا سجل في الشكل المحدد بمقتضى القانون".
وبالإضافة إلى ذلك فإن هذه الاجتهادات القضائية ارتكزت فيما ذهبت إليه على بعض مقتضيات القانون العقاري المغربي وبالخصوص على الفصلين 66 و 67 من ظهير 12 عشت 1913 بشأن التحفيظ العقاري، ذلك أن الفصل 66 ينص على أن " كل حق عيني متعلق بعقار محفظ يعتبر غير موجود بالنسبة للغير إلا بتسجيله وابتداء من يوم التسجيل في الرسم العقاري من طرف المحافظ على الأملاك العقارية. " في حين أن نص الفصل على" أن الأفعال الإرادية والاتفاقات التعاقدية الرامية إلى تأسيس حق عيني أو نقله إلى الغير او الاعتراف به أو تغييره أو إسقاطه لا تنتج أي أثر ولو بين الأطراف إلا من تاريخ التسجيل…"
وفي هذا السياق نورد الأحكام والقرارات الآتية مع بعض حيثياتها:
الحكم الصادر عن المحكمة الابتدائية بالدار البيضاء بتاريخ 26/1/1935 والذي جاء فيه:
" حيث أنه عملا بمقتضيات الفصل 489 من ق ل ع فإن البيع المنصب على حقوق عقارية يجب أن يكون كتابة".
" حيث أن هذا المقتضى الواضح والدقيق لا يتضمن أي تمييز أنه يبين بصفة جلية رغبة المشرع في اشتراط وجود البيع بالحجة الكتابية مستبعدا بذلك شهادة الشهود والقرائن التي يمكن أن تنتج من المستندات المدلى بها رفقة الطلب" ( ويتعلق الأمر في النازلة بوصولات تامة تتضمن كل البيانات حول ثمن ومحل البيع).
القرار الصادر عن محكمة الاستئناف بالرباط بتاريخ 12/6/4 والذي جاء فيه:
" حيث أن البيع العقاري المزعوم إبرامه بتاريخ 10/2/1933 من طرف بطاش بن بوشعيب لفائدة اللهبي بن محمد وزوجته رحمة المنصب على جزء التجزئة التي كانت أرضها موضوع الصك العقاري عدد 5688،لم يحرر بمناسبته عقد بيع صحيح من طرف أطرافه وثابت التاريخ وقابل للتسجيل والتقييد فوق الصكوك العقارية.
" حيث أن وصل 3000 فرنك" بمثابة تسبيق " المدلى به في الملف من طرف المدعين لا يمكن أن يكون حجة لاتجاه الأغيار ولا حتى بين الأطراف، كما قرر ذلك خطأ قضاة الدرجة الأولى.
" حيث لا يمكنه (الوصل) إلا أن يثبت وجود محادثات أو على الأكثر وجود بيع مشروط لم يصل إلى تفويت عقاري نهائي.
" حيث أن اجتهادا قارا ومسترسلا يوجب تحرير عقد مكتوب وصحيح للتدليل على بيع عقاري طبقا لمقتضيات الفصل 889 من ق ل ع.
" حيث أن هذه المقتضيات تكون آمرة أكثر بالنسبة للعقارات المحفظة لأن القانون العقاري المغربي، المطبق وحده في النازلة…يستوجب تسجيل العقد فوق الصك العقاري وذلك لينتج آثاره لاتجاه الأغيار فحسب ولكن أيضا بين الأطراف…"
وتجدر الإشارة إلى أن الحكم والقرار أعلاه غير منشورين ولكن أشار إليهما الأستاذ جون جاك بيرتران بمناسبة تعليق له على قرار بمجلة المحاكم المغربية لسنة 1951 ص301 و302.
وصدرت اجتهادات أخرى استوجبت محررا مكتوبا واستبعدت إثبات البيع باللفيف (المحكمة الابتدائية بالدار البيضاء حكم 12/11/1945 منشور بجريدة المحاكم المغربية 10/9/1946 ص145) وكذا (المجلس الأعلى قرار عدد 433 بتاريخ14/ 12/78 ملف عدد 66415 مجلة المحاماة العدد 17 ص115) أو بمجرد شهادة الشهود (محكمة الرباط 18/6/1948 منشور بجريدة المحاكم المغربية 10/4/1949 ص52) أو حتى برسم عدلي حرره عدلان غير أنه ناقص الشكليات: قرار المجلس الأعلى عدد 1486 صادر بتاريخ 6/12/88 في الملف الشرعي عدد 5522/87 والذي جاء فيه:
" أن رسمالشراء المحتج به في النازلة غير جدير بالاعتبار لكونه ناقص الشكليات القانونية، فلم يدرجه العدلان بكناش الجيب ولا وقعت الإشارة فيه إلى تاريخ تضمينه بكناش المحكمة ورقمه ففقد بذلك صفة الورقة الرسمية ولا يعتبر عقدا عرفيا لعدم التوقيع عليه من أطراف العلاقة"
هذا القرار منشور بمجلة "قضاء المجلس الأعلى" العدد 42/43 السنة 14 نونبر 1989 ص132، كما استبعدت شهادة الموثق لكونها لا تكفي ولو بين المتعاقدين لإثبات تملك حق عيني لم يثبت تسجيله بالرسم العقاري لعقار محفظ، قرار المجلس الأعلى عدد 640 بتاريخ 20/9/78 ملف عدد 65558 منشور بمجلة المحاماة عدد14 السنة 12 يناير وفبراير ومارس 1979 ص205.
2- الاجتهاد القائل برضائية عقد البيع وحيثياته:
أنه على عكس هذا فإن بعض الاجتهادات الأخرى أخذت بخلاف هذا الاتجاه.
ولتبرير ما ذهبت إليه فإنها اعتبرت أنه لا يمكن تأويل الفصل 489 من ق ل ع بمعزل عن سابقه وهو الفصل 488 من ق ل ع والذي ينص على أنه:
" يكون البيع تاما بمجرد تراضي عاقديه، أحدهما بالبيع والآخر بالشراء، وباتفاقهما على المبيع والثمن وشروط العقد الأخرى، "مبرزة أن هذا المقتضى القانوني هو الأصل الذي أقر رضائية عقد البيع".
وفي هذا الإطار نورد بعض الاجتهادات مع بعض حيثياتها:
محكمة الاستئناف بالرباط قرار 12/5/1925 منشور بمجموعة قرارات هذه المحكمة 1925 ص227:
" أن البيع في القانون الإسلامي يمكن إثبات وجوده بشهادة الشهود إلا أنه حسب عرف قار في المغرب فإن بيعا عقاريا يتم بالكتابة، وشهادة الشهود لا تكون مقبولة في هذا الميدان إلا إذا كانت هناك ظروف استثنائية تبرر هذا القبول".
قرار محكمة النقض الفرنسية- الغرفة المدنية بتاريخ 2/5/1949 منشور بجريدة المحاكم المغربية 25/10/1949 ص155:
" يكون البيع العقاري تاما بتراضي الأطراف على المبيعوالثمن، وإن معاينة هذا الاتفاق لا تخضع حسب القانون إلى أي شكل مكتوب محدد".
هذا القرار منشور كذلك بمجلة المحاكم المغربية يوليوز 1951 ص300.
وترى هذه الاجتهادات القضائية أن تحرير البيع ليس شرطا لصحته بل أنه يدخل ضمن آثار عقد البيع بعد قيامه ويصبح أحد التزامات البائع بضمان نقل الحق المبيع وباتخاذ جميع الإجراءات القانونية الضرورية لذلك وبالأخص التقييد في الرسم العقاري من أجل الإشهار:
المجلس الأعلى: قرار عدد 265 صادر في 12/6/1968 منشور بمجموعة قرارات المجلس الأعلى المادة المدنية 1966-1982 (منشورات جمعية تنمية البحوث والدراسات القضائية 1985) ص 133 وما يليها:
" حيث أن البائع لكل حق عيني محفظ يلتزم بنقل الحق المبيع للمشتري كما يلتزم بضمان هذا النقل ليتأتى للمشتري الحصول على النتائج القانونية المترتبة على البيع وذلك باتخاذ الإجراءات الضرورية لذلك وبالأخص لإشهار عقد البيع بتقييده في الرسم العقاري.
" وحيث أن امتناع البائع من اتخاذ الاجراءات الضرورية لتقييد البيع في الرسم العقاري يكون إخلالا بالالتزام بضمان نقل الحق المبيع ويوجب على المحاكم أن تجبر البائع على القيام بما يلزم به سواء على إثر دعوى أصلية قام بها المشتري أو على إثر طلب إدخال البائع في دعوى بصفته ضامنا في نطاق الفصل 117 من ظهير المسطرة المدنية".
هذا القرار منشور كذلك بمجلة" قضاء المجلس الأعلى" عدد 4 السنة الأولى يناير 69 ص9 وبمجلة "القضاء والقانون" عدد 95 السنة 10 يناير 69 ص257، وذهبت بعض الاجتهادات القضائية إلى القول بقيام البيع العقاري وبصحته في غياب كل محرر معتمدة على مجرد إشهاد مسلم للمشتري من طرف موثق يشهد فيه بحصول اتفاق الطرفين أمامه أحدهما بالبيع والآخر بالشراء وباتفاقهما على المبيع والثمن وشروط العقد الأخرى:
-قرار محكمة الاستئناف بمراكش بتاريخ 1226/86 في الملف المدني عدد 1937/86،(قرار غير منشور).
-قرار محكمة الاستئناف بمراكش عدد 639 بتاريخ 12/9/1989 في الملف المدني عدد 791/89 (قرار غير منشور).
كما اعتمدت اجتهادات أخرى على شهادة الشهود للوصول إلى نفس النتيجة:
-قرار محكمة الاستئناف بمراكش عدد 1797 صادر بتاريخ 24/11/76 في الملف المدني عدد 3381 (غير منشور) جاء فيه ما يلي:
" وبعد جعل القضية في المداولة تبين أثناءها أن المستأنفين يطلبان إتمام إجراءات بيع الدار الكائنة بملاح زاوية سيدي رحال والتي اشترياها من المستأنف عليه بثمن قدر 4000 درهم توصل بمبلغ 2500 درهم وبقي له على المشتريين 1500 درهم إلى أجل شهر وحرر عدل إشهادا بأن البيع وقع بمحضره وأشهد الطرفان على ذلك والتزم البائع بإحضار رسم تملكه وليشهد على عدل آخر غير أنه امتنع من الإشهاد لديه.
وحيث أن الرسم المحرر من طرف هذا العدل يعتبر إثباتا لوقوع البيع بين الطرفين حيث عينا له الثمن والمثمن وأظهرا اتفاقهما عليه وتوصل البائع ببعض الثمن، هذا العقد الذي عارضه البائع بأن البيع لابد أن يقع الاشهاد به على عدلين ليحررا به رسما والواقع أن ذلك هو المطلوب ولكنه عند إنكار البائع للبيع وقبض الثمن اضطر المشتريان إلى استشهاد العدل بما وقع عليه الاتفاق أمامه فشهد بذلك فكانت شهادته في محلها حيث لم يطعن فيها بالزور وأن له طلب بقية الثمن الذي بقي بذمة المشتريين….
" وحيث أن شهادة الشهود الثلاثة في الرسم عدد 649 شهدوا بحضورهم للبيع الواقع بين المستأنف عليه وأول المستأنفين شهادة مثبتة أيضا للاتفاق على البيع ولا يردها ويبعدها من ميدان الاحتجاج ما زعمه فيها المستأنف عليه.
"وحيث أنه من الثابت أن الاتفاق على البيع قد وقع وأن البائع أخذ جل الثمن وبقي له بعضه فكان من واجب المستأنف عليه أن يحرر عقد البيع مع المشتريين إما على يد عدلين أو بعقد عرفي وإلا كان مخلا بالتزامه".
كما أن المجلس الأعلى بمقتضى قراراه عدد 883 الصادر بتاريخ 2/4/1986 في الملف المدني عدد 4172 أقر على الأقل ضمنيا عدة مبادئ منها خضوع البيع العقاري لمقتضيات الفصل 488 من ق ل ع وأن عدم احترام الشكليات المنصوص عليها في الفصل 489 من ق ل ع لا تؤدي حتما إلى بطلان عقد البيع ونورد هنا بعض حيثيات هذا القرار لما لها من أهمية بالنسبة لهذا الموضوع:
"حيث يعيب الطاعن على القرار خرق مقتضيات الفصول 418 و488 و489 من ظهير العقود والالتزامات ذلك أن القرار المذكور ذهب إلى أن وثيقة البيع التي بنيت عليها الدعوى لا تنسجم مع أحكام الفصل 418 من الظهير المذكور في حين أن البيع يتم بين البائع والمشتري بمجرد اقتران الإيجاب والقبول أبي بمجرد توافق إرادتهما على هذا التصرف بجميع شروطه وأركانه والقانون لا يلزم بإبرامه وفقا لشكل معين إلا إذا يراد به مواجهة الغير، والمحكمة عندما اشترطت أن يكون البيع محررا في وثيقة رسمية تكون قد خرقت صراحة مقتضيات الفصل 488 من ظهير العقود والالتزامات التي تنص على أن البيع يتم بمجرد توافق إرادة طرفيه أحدهما بالبيع والآخر بالشراء وعلى المبيع والثمن وشروط العقد الأخرى كما أنه لا يترتب عن مخالفة الفصل 489 من الظهير المذكور إبطال البيع بين البائع والمشتري وإنما يترتب عن عدم مواجهة الغير الأجنبي عن العقد بالبيع والذي يمكنه وحده التمسك بمقتضيات الفصل المذكور وبعدم الاحتجاج عليه بالبيع المبرم بين المتعاقدين إذا لم يرد في محرر ثابت التاريخ وبذلك يكون القرار المطعونفيه قد أساء فهم النصوص الآنفة الذكر وطبقها تطبيقا غير صائب.
" حيث يتبين صحة ما يعيبه الطاعن ذلك أن هذا الأخير تمسك في المرحلتين الابتدائية والاستثنائية بوثيقة البيع التي تم بينه بصفته نائبا عن أبنائه القاصرين وبين المطلوب في النقض بعد اتفاقهما على المبيع والثمن وأداء جزء من الثمن في حين أن المحكمة أبعدت الوثيقة المذكورة بعلة أنها لا تنسجم مع أحكام الفصول 418 و488 و489 من ظهير العقود والالتزامات.
"فيما يخص توافر أركان وشروط البيع في الوثيقة المذكورة وكذا مخالفتها شكلا للفصول 417 و418 و419 و424 و426 وما يليها مع أنه ليس في الفصول المذكورةما يوجب عدم اعتبار الاتفاق على البيع الذي يقر البائع المطلوب في النقض بالتوقيع عليه والذي يعتبر عقدا عرفيا له نفس قوة الدليل التي للورقة الرسمية ما دام لم يقم أي دليل على إثبات واقعة التدليس التي يزعم البائع أنه كان ضحيتها حينما قدم له العقد للتوقيع عليه على أساس تسلمه شيكا من الطاعن وبذلك تكون المحكمة قد اخترقت مقتضيات الفصول المذكورة مما يعرض قراراها للنقض".
وأخيرا تجدر الإشارة إلى أن المجلس الأعلى أجاز إثبات بيع العقار باللفيف كما جاء في القرار 416 الصادر بتاريخ 11 مايو 1982 المنشور بمجلة "قضاء المجلس الأعلى" عدد 31 ص68:
" أن شهادة اللفيف قد جرى العمل بقبولها في مثل هذا الموضوع لقول الزقاق في لاميته:" وكثرن بدون عدول -وقول صاحب العمل الفاسي: وقدره في الغالب اثنا عشر".
وأنه مما يسترعي الاهتمام أن في هذه القضية التي بت فيها المجلس الأعلى بقراره أعلاه أن الطرف الثاني أدلى لإثباتحقه برسم شراء عرفي ومع ذلك فإنه وقع ترجيح اللفيف على الحجة العرفية.
3- مناقشة الاتجاهين:
أن الاجتهاد على هذا الحال: متضارب ومتعارض.
قد يتبادر إلى الذهن أن نقتصر على الإشارة إلى هذا الواقع ونترك الحسم فيه للمشرع أو للحاكم، تقضي في كل نزاع حسب اقتناعها واجتهادها. وقد يجد القارئ في هذه السطور ما يستعين به للدفاع عن إيجاد الحل الأنسب.
فأي الاتجاهين أصح؟
المبحث الأول: علاقة أطراف العقد من جهة والأغيار من جهة.
قبل الخوض في هذا النقاش يتعين التمييز بين علاقة أطراف العقد فيما بينها من جهة وبين أطراف العقد والأغيار مكن جهة أخرى.
فيما يرجع إلى علاقة أطراف العقد من جهة والأغيار من جهة أخرى فإنه يمكن الحسم بأن الاتجاهين متفقان على أن البيع لا يكون له أثر في مواجهة الغير الأجنبي عن العقد إلا إذا سجل في الشكل المحدد بمقتضى القانون.
إن إرادة المشرع في اشتراط شكل معين وهو التسجيل واضحة في هذا الباب كما أن الجزاء الذي رتبه عن عدم التسجيل واضح ألا وهو انعدام أثر البيع في مواجهة الغير.
إلا أنه يمكن التساؤل عن ماهية التسجيل المطلوب هل هو التسجيل بقسم التسجيل التابع لمديرية الضرائب بوزارة المالية أو هو التسجيل بالمحافظة العقارية؟
الفقرة الأولى: هل التسجيل المطلوب هو التسجيل بالمحافظة العقارية؟
قد يقال أن التسجيل المقصود هو التسجيل بالمحافظة العقارية وفوق الصك العقاري.
ذلك أن هذا التسجيل هو الكفيل وحده بإشهار الحق العيني وبجعل الأغيار يطلعون على حالته وعلى ما يطرأ عليه من تغيير.
ولكن إذا كان هذا هو المقصود فإن الفقرة الأخيرة من الفصل 489 من ق ل ع ( ولا يكون له أثر في مواجهة الغير إلاإذا سجل في الشكل المحدد بمقتضى القانون) ستكون زائدة وذلك بالنظر إلى الفصلين66 و67 من ظهير التحفيظ العقاري والذين ينصان على أن كل حق عيني لا ينتج أي اتجاه الأغيار وحتى بين الأطراف إلا ابتداءا من تاريخ تسجيله في الرسم العقاري. ومن تمة فإنه لا تبقى فائدة من التمييز بين أثر العقد بين الأطراف وأثره اتجاه الأغيار ومن اشتراط الفصل 489 التسجيل بالنسبة للأغيار دون أطراف العقد.
هذا مع الإشارة إلى أن الاجتهاد القار للمحاكم طبق مقتضيات الفصل 67 من ظهير التحفيظ العقاري باستمرار:
- محكمة الدار البيضاء: حكم 30/5/28 -جريدة" المحاكم المغربية" 5 يوليوز 1928.
محكمة الاستئناف بالرباط قار 2 مارس 1935 -المجموعة المغربية بونانRecueil Marocain Penantالجزء II ص9.
-محكمة الاستئناف بالرباط نفس المرجع أعلاه سنة 1938 الجزء II ص61.
-محكمة الاستئناف بالرباط: قرار 1937 مجموعة قرارات محكمة الاستئناف بارباط 1937 ص414.
-محكمة الاستئناف بالرباط قرار 3/2/51 -جريدة "المحاكم المغربية" 1951 ص112.
-محكمة النقض الفرنسية قرار 8 يناير و5 يوليوز- جريدة "المحاكم المغربية" 1956 ص11 و29.
هذه الأحكام والقرارات كلها رفضت أن ترتب أي أثر ولو بين الأطراف لعقد لم يقع تسجيله بالمحافظة العقارية.
الفقرة الثانية: هل التسجيل المطلوب هو التسجيل بإدارة الضرائب؟
وإذا كان التسجيل المطلوب هو التسجيل المطلوب بمصلحة الضرائب فإنه يمكن التساؤل عن الفائدة المرجوة من ورائه.
لا ريب أن التسجيل أنشئ لأغراض جبائية، وهو يمكن مصلحة الضرائب من مراقبة على أموال الخواص وتهيئ وعاء واستخلاص الضرائب حالا ومستقبلا، إلا أن لهذا الإجراء آثار أخرى بواسطته تجري مراقبة من مصلحة التسجيل على صحة العقود.
فظهير 4 مايو 1925 المنظم للتوثيق العصري يلزم في فصله الأول المعدل بمقتضى ظهير 18/5/1934 الموثقين بإخضاع العقود التي يحررونها إلى التسجيل كما أن الفصل 19 من قانون التسجيل بتاريخ 24/12/1958 ينص على أن قاضي التوثيق لا يخاطب على العقود العدلية إلا بعد تسجيلها.
وأن أهم أثر للتسجيل هو ثبوت تاريخ العقد اتجاه الأغيار، وهكذا فالدائن الذي يطالب بحجز عقار مدينه لضمان أداء مبلغ دينه لا يمكن أن يواجه من طرف المدين أو من طرف الغير ببيع للعقار سابق عن تاريخ الحجز إلا إذا كان هذا التفويت ثابت التاريخ بواسطة التسجيل.
أما بالنسبة لأطراف العقد فالتسجيل لا يضمن حقوقهم أكثر مما تضنه الوسائل الأخرى الرامية إلى إثبات التاريخ ذلك أن الفصل 3 من قانون التسجيل والتنبر المؤرخ في 24/12/1958 ينص على أنه لا يمكن للأطراف أن تتمسك بنسخة العدل المدلى بها لإدارة التسجيل وذلك للمطالبة بتنفيذه كما ينص على أن التسجيل بالنسبة للأطراف لا يكون لا حجة تامة ولا يشكل بمفرده حتى بداية الحجة بالكتابة.
إلا أنه بمناسبة تسجيل العقد فإنه تترك نسخة منه لإدارة التسجيل التي تحتفظ بها وتحافظ عليها وقد تستعمل هذه النسخة، إلى جانب وسائل أخرى من أحد الأطراف وفي حالة نزاع حجة بالكتابة.
فإذا كان الغرض من التسجيل مقتصرا على إثبات تاريخ العقد بالنسبة للأغيار وما دام أنه من الممكن أن يتحقق هذا الغرض بالوسائل الأخرى المثبتة للتاريخ والمنصوص عليها في الفصل 425 من ق ل ع فإن إلزامية التسجيل دون غيره من هذه الوسائل تبقى غير واضحة الفائدة، ذلك أن التسجيل لا يترتب عنه واقعيا إشهار ويمكن أن يتم دون تحرير عقد ما دام يمكن ان يتم بمجرد تصريحات شفوية من أطراف العقد طبقا لمقتضيات الفصل 32 من قانون التسجيل.
ومع ذلك فإن المشرع لما نص في الفصل 489 من ق ل ع على التسجيل فإنه يقصد التسجيل بمصلحة الضرائب وليس التسجيل بالمحافظة العقارية.
والدليل على ذلك أن التسجيل أوجبه المشرع في الفصل 195 من ق ل ع بالنسبة لحوالة الحق وفي الفصل 620 من ق ل ع بالنسبة للمعاوضة إذا كان محلها عقارات أو أشياء أخرى يجوز رهنها رهنا رسميا وفي الفصل 1104 من ق ل ع بشأن الصلح إذا كان محله إنشاء أو نقلأو تعديل حقوق واردة على العقارات أو غيرها من الأشياء التي يجوز رهنها رهنا رسميا وكذا في الفصل 629 من ق ل ع بالنسبة لكراء العقارات لأكثر من سنة.
فالتسجيل المقصود هنا ليس هو التسجيل بالمحافظة العقارية لكن التسجيل بمصلحة الضرائب وذلك لأن العقود المنصوص عليها في الفصول أعلاه غير قابلة كلها للتسجيل بالمحافظة العقارية فمثلا الفصل 629 من ق ل ع يتعلق بالكراء لأكثر من سنة وقد تكون المدة مثلا سنتين في حين أن الفصل 65 من ظهير 12/8/1913 لا ينص على ضرورة التسجيل بالمحافظة العقارية إلا إذا زادت مدة الكراء على أكثر من ثلاث سنوات.
on.
ومع كل هذا فإنه يمكن التساؤل عما إذا كان تسجيل عقد البيع بالمحافطة العقارية يكفي لمواجهة الأغيار إذا كان العقد لازال لم يسجل بعد بمصلحة الضرائب.
ذلك أنه صدر مرسوم ملكي بتاريخ 19/12/1966 يعدل الفصل 70 من ظهير 12/8/1913 المنظم للتحفيظ ويبيح للمحافظ تسجيل عقدخاضع للتسجيل بمصلحة الضرائب غير أنه لازاللم يسجل بعد بها شريطة الأداء للمحافظ بنسخة زائدة من العقد ليتولى هو شخصيا إحالتها على مصلحة الضرائب داخل الشهر الموالي للإيداع بالمحافظة من أجل استخلاص الواجبات.
فإذا سجل المحافظ عقد البيع فوق الصك العقاري وهو العقد الذي لا زال لم يسجل بعد بمصلحة التسجيل فهل التسجيل بالمحافظة العقارية لا يكفي لمواجهة الأغيار بتاريخه؟
أن مقتضيات الفصلين 66 و67 تقتضي الجواب بأن التسجيل بالمحافظة كاف لمواجهة الأغيار بتاريخ العقد حتى ولو لم يكن هذا الأخير مسجلا بإدارة التسجيل.
المبحث الثاني: علاقة أطراف العقد فيما بينهما:
الفقرة الأولى: المبررات التشريعية والنظرية والواقعية للقول بشكلية عقد البيع:
أما فيما يرجع لعلاقة الأطراف فيما بينهم فإن ما يؤيد الاتجاه القضائي الأول (شكلية البيع) هو قبل كل شيء نص الفصل 489 من ق ل ع الذي يستلزم "أن يجري البيع كتابة في محرر ثابت التاريخ".
ويمكن القول انه يتعين تطبيق هذا النص مستقلا عن الفصل 488 من ق ل ع الذي يقر مبدأ رضائية عقد البيع بصفة عامة لأن الفصل 489 خاص بالعقار ومعلوم أن النص الخاص يقدم عن النص العام.
كما أنه يمكن القول أن المشرع تعمد عدم ترك الحرية للقضاة فيما يرجع لوسائل الإثبات وأنه ألزمهم بالأخذ بوسيلة إثبات معينة وهي الكتابة دون غيرها من الوسائل الأخرى- وأنه يتعين على القاضي أن يلتزم بهذا القيد وإلا فما يمنعه من وسائل إثبات لا عمل بها كالحجة التي يقيمها المدعي بنفسه لنفسه أو الأخذ بالمعلومات التي وصلت إلى علمه أو شهادة الشاهد الملزم بكثمان السر المهني؟
ومن جهة أخرى لعل المشرع اشترط الكتابة بالنسبة لبيع العقار لما لهذا الأخير من أهمية مالية بالنسبة لغيره من الممتلكات الأخرى كالمنقول حتى لا يخرج من مال المالك إلا بعد حصول يقين تفويته بالكتابة التي لا تدع مجالا للشك وذلك لحمايته من طمع الطامعين المتحايلين على حقوقه بل وحتى لحمايته من نفسه بما قد يصدر عنه من تصرف طائش فجائي سريع وغير متبصر إذ أن كتابة محرر أو تلاوته تتطلب وقتا من الزمن يتيح له فرصة التفكير والتبصر والتوقيع على المحرر يجعله يدرك جسامة الموقف ويشعر ويحس بأنه يلتزم بصفة نهائية لا رجعة فيها.
أضف إلى ذلك أن كتابة المحرر تمكن من تحديد كل الشروط بإسهاب ودقة متناهية قد تقضي في المهد على كل نزاع وتخفف عن المحاكم العناء والجهد وتبعد عن النزاعات شهادة بعض الشهود العابثين المستهترين بالمبادئ والقيم ممن أصموا آذانهم عن منادي السماء وصوت الضمير.
وقبول الإثبات بالقرائن قد يؤدي إلى وقوع في أخطاء قضائية فادحة.
فتسلم شيك من طرف المالك وتسليمه مفتاح العقار للغير وقيام هذا الأخير بإصلاحات دونمعارضة من المالك وسكنى الغير بالغير أو استغلاله قد يشكل كراء لبعض السنوات أو رهما على الشكل المتعارف عليه في بعض الجهات من المغرب ولا يشكل بيعا.
ثم أن الاجتهاد القضائي اليوم أصبح يستلزم الكتابة بالنسبة لعقد الكراء أو لفسخه إذا كانت قيمة الأجرة تزيد عن 250 درهما فمن باب أولى وأحرى أن تكون الكتابة إلزامية بالنسبة لعقد البيع الذي يشكل تصرفا أخطر.
يراجع في هذا الصدد:
قرار المجلس الأعلى عدد 71 الصادر بتاريخ 22/12/1971 في الملف المدني عدد 29337 المنشور بمجلة "قضاء المجلس الأعلى" عدد 26 ص121.
الفقرة الثانية: المبررات التشريعية والنظرية والواقعية للقول برضائية عقد البيع:
أما فيما يرجع للاتجاه الثاني القائل برضائية عقد بيع العقار فإنه يمكن تبريره هو الآخر بعدة اعتبارات.
تجدر الإشارة قبل كل شيء إلى نص الفصل 489من ق ل ع الذي إن كان قد أوجب الكتابة فهو لم برتب صراحة عن توفرها أي جزاء وبالخصوص بطلان عقد البيع بين طرفيه.
ثم أن للبيع يمكن أن يثبت أثناء سريان الدعوى من إقرار الخصم الذي يعترف بالبيع وينازع في عدم الاتفاق على شروط البيع الأخرى والتي يمكن إثباتها بوسائل أخرى.
وإذا كان الفصل 443 من ق ل ع ينص على أن الاتفاقات وغيرها من الأفعال القانونية التي يكون من شأنها أن تنشأ أو تنقل او تعدل أو تنهي الالتزامات أو الحقوق التي تتجاوز قيمتها 250 درهما لا يجوز إثباتها بشهادة الشهود، فإنه تمكن ملاحظة أن الاجتهاد القضائي أقر أن مقتضيات هذا الفصل ليست من النظام العام:
انظر محكمة النقض الفرنسية بخصوص تأويل هذا الفصل:
قرار 27/2/1928 مجموعة قرارات محكمة النقض 1928 ص324.
المجلس الأعلى: قرار الغرفة الجنائية 16/1/1964 جريدة المحاكم المغربية 25/5/1964 ص57.
ومما يؤيد هذا الاتجاه أن بعض القوانين الأجنبية أجازت الاتفاق على ما هم غير مقرر شرعا بشأن عدم قبول شهادة الشهود.
وهكذا فإن الفصل 60 من قانون الإثبات المصري نص على أنه:
"في غير المواد التجارية إذا كان التصرف القانوني تزيد قيمته على عشرين جنيها أو كان غير محدد القيمة فلا تجوز شهادة الشهود في إثبات وجوده أو انقضائه ما لم يوجد اتفاق أو نص يقضي بغير ذلك".
وفي فرنسا إذا كان النص القانوني (وهو المادة 1341) يحدد نصاب الشهادة (في حدود خمسين فرنكا) ويقر مبدأ الإثبات الكتابي بالنسبة لما زاد على النصاب المذكور ولا يتضمن جواز الاتفاق المخالف لهذه الأحكام فإن القضاء الفرنسي ذهب إلى صحة الاتفاقات الخاصة بطرق الإثبات وذلك لعدم اتصال قواعد الإثبات الموضوعية بالنظام العام برغم أنها تتعلق بمصلحة عامة وسند هذا القضاء في ذلك أن الإثبات إنما يتناول حقوقا خاصة وللخصم أن يتنازل عن حقه فله من باب أولى أن يتفق من خصمه على طريقة إثبات هذا الحق كما أن موقف القاضي من الإثبات هو موقف حيادي حيث يعود للخصوم القيام بالدور الإيجابي في تقديم الأدلة واختيار الوسائل التي تؤدي إلى إقرار حقوقهم، فيكون لهم تبعا لذلك الاتفاق على وسائلإثبات حقوقهم دون تدخل من القضاء، وبناء على ذلك فإن القواعد الواردة في القانون بهذا الصدد لا ينبغي تطبيقها إلا إذا لم يوجد اتفاق بين الخصوم في شأن ذلك، ويترتب عن موقف القضاء الفرنسي في هذا الشأن أنه لا يجوز للقاضي أن يحكم من تلقاء نفسه بعدم قبول شهادة الشهود في الدعاوي التي يوجب القانون بشأنها الدليل الكتابي وذلك بعد أن ينزل الخصوم عن التمسك بذلك كما لا يجوز للخصوم أن يتمسكوا لأول مرة أمام محكمة النقض بعدم مراعاة القواعد الخاصة بطرق الإثبات.
ومن جهة أخرى ومن أجل تبرير هذا الاتجاه القضائي القائل برضائية عقد بيع العقار فإنه يمكن ملاحظة أنه إذا كان الفصل 489 يستلزم المحرر الكتابي فإن القواعد العامة بشأن إثبات الالتزامات والمقررة في قانون العقود والالتزامات تبيح تعويض المحرر الكتابي بشهادة الشهود عندما توجد بداية حجة بالكتابة كوصل أو شيك أو مشروع عقد مكتوب بخط أحد الأطراف دون توقيع، الكل وفقا لما قرره الفصل 447 من ق ل ع.
ثم أن المطالبة بالمحرر الكتابي يكون تجاهلا للواقع ذلك أنه ينم عن انعدام الثقة ولا ينسجم مع استحالة الالتجاء إلى الكتابة لأسباب معنوية كلما كان الأمر يتعلق ببيع يتم بين الآباء وأولادهم أو بين الأزواج أو مجرد أصدقاء تربطهم علاقات وطيدة وقديمة.
أضف إلى ذلك أن متطلبات العصر تقتضي السرعة مع تأمين المعاملات وهذا يتطلب عدم التشدد بشأن وسائل الإثبات على غرار ما يجري به العمل في الميدان التجاري إلى درجة أن بعض التشريعات لم تبق تفصل بين القانون المدني والقانون التجاري وقامت بتوحيدهما.
ثم إن عدم إلزام الطرفين بالمحرر الكتابي هو تكريس لمبدأ سلطان الإرادة ولحرية الأطراف التي لا ينبغي تقييدها بوسائل إثبات محددة وهو وسيلة لفرض احترام وتنفيذ الالتزامات بالنسبة للأشخاص ذوي النية السيئة الذين يحاولون التملص مما تعاهدوا عليه مع غيرهم وهو سبيل يرجع للقضاة سلطتهم التقديرية.
ولا شك أن هذا الاتجاه القضائي يستمد سنده من مبادئ العدل والإنصاف: لما يكون القضاة مقتنعين بوجود حق (البيع) فإنهم لا يقبلون أن يتركوه دون حماية لمجرد عدم توفر وسيلة الإثبات المقررة شرعا عملا بالمبدأ القائل بأن إعمال العقد خير من إهماله.
وتجدر الإشارة إلى أن الاتجاه يساعد على تلافي التناقض الذي يحصل من تطبيق مقتضيات الفصل 489 من ق ل ع والفصل 551 من القانون الجنائي الذي ينص على أن من تسلم مقدما مبالغ من أجل تنفيذ عقد ثم رفض تنفيذ هذا العقد أو رد تلك المبالغ دون عذر مشروع يعاقب بالحبس من شهر إلى ستة أشهر وغرامة من مائة وعشرين درهما إلى مائتين وخمسين درهما إذ حصل أن رفضت محكمة الاستئناف في غرفتها المدنية دعوى رامية إلى إتمام البيع (قرار محكمة الإستئناف بمراكش 21/11/88 في الملف عدد 366/88) فيحين قضت نفس المحكمة في غرفتها الجنحية وهي تبث بناء على نفس الوقائع وبين نفس الأطراف على البائع بالحبس لعدم تنفيذ نفس عقد البيع (قرار محكمة الاستئناف بتاريخ 28/7/88 في الملف الجنحي عدد 366/88).
وأخيرا لا يصح القول بأن العقد المكتوب يقضي في المهد على كل النزاعات بل أن الكتابة تكون مبعث نزاعات من نوع آخر كإنكار العلامة أو ادعاء الأمية وعدم معرفة مضمون العقد وادعاء التدليس والزور.
الخلاصة:
باستقراء الاجتهادات القضائية يمكن القول بأن الاجتهاد القضائي باستثناء بعض الحالات عرف تطورا ملحوظا، فبعدما كان يعتبر أن الكتابة شرط لصحة عقد البيع يقوم بقيامها وينعدم بانعدامها أصبح اليوم يعتبر عقد بيع العقار المحفظ رضائي ويثبت بكل الوسائل.
ولقد رأينا أن لكل اتجاه حيثياته كما استعرضنا ما يمكن أن يعزز كلاهما من مبررات تشريعية ونظرية وواقعية.
ولعل الاجتهادات المتطرفة هي التي أدت إلى هذا التناقض والتضارب.
فالاجتهادات التي تستلزم للقول بوجود البيع وبصحته عقد بيع موقع من طرف أطرافه وثابت التاريخ وقابل للتسجيل والتقييد فوق الصك العقاري تشكل تحريفا لنص الفصل 489 من ق ل ع الذي لا يتطلب عقدا ولكن مجرد محرر والفرق واضح بين المصطلحين.
فلو كان المشتري مثلا يتوفر على عقد بيع صحيح وتام الأركان لما التجأ إلى طرق باب القضاء للحصول على حكم يقضي بصحة شرائه.
كما أن الاجتهادات التي تفتح الباب على مصراعيه لقبول جميع وسائل الإثبات كمجرد القرائن مثلا بوجود البيع وبصحته مردودة لما قد تنطوي عليه من خداع وتؤدي إليه من تضليل.
فالصواب اقتراب الحكم أكثر ما يمكن من نص الفصل 489 من ق ل ع وذلك بالاعتماد على محرر مكتوب أن وجد فإن لم يوجد فعلى بداية الحجة بالكتابة على أن تعزز بوسائل الإثبات الأخرى المقبولة شرعا مع مراعاة الحالات الاستثنائية التي تسجل فيها الكتابة شريطة أن تثبت أمام القاضي مبررات هذا الاستثناء وشريطة أن يثبت لديه حصول البيع بالوسائل المقنعة التي لا تدع مجالا لأدنى شك في وقوع البيع وفي صحته.
ويجب ألا يغيب عن أذهاننا أن أحسن حكم وأكثره اقترابا من الصواب هو الحكم الذي يكون أكثر اقترابا من الحقيقة والواقع، فلهذا الحكم تطمئن الأطراف المتنازعة وبمثل هذا الحكم تحس أن العدالة تؤدي واجبها في أحسن الظروف.