مسالة فيما تجب له الطهارتان

مسالة فيما تجب له الطهارتان

مسالة فيما تجب له الطهارتان
66 - 50

مسالة:

فيما تجب له الطهارتان: الغسل، والوضوء.

وذلك واجب للصلاة بالكتاب، والسنة، والاجماع، فرضها ونفلها.

واختلف في: الطواف، ومس المصحف، واختلف ايضا في: سجود التلاوة، وصلاة الجنازة، هل تدخل في مسمى الصلاة التي تجب لها الطهارة؟ واما الاعتكاف، فما علمت احدا قال انه يجب له الوضوء، وكذلك الذكر، والدعاء، فان النبي - صلى الله عليه وسلم - امر الحايض بذلك.

واما القراءة ففيهما خلاف شاذ، فمذهب الاربعة تجب الطهارتان لهذا كله الا الطواف مع الحدث الاصغر.

فقد قيل: فيه نزاع.

والاربعة ايضا لا يجوزون للجنب قراءة القران، ولا اللبث في المسجد اذا لم يكن على وضوء، وتنازعوا في قراءة الحايض، وفي قراءة الشيء اليسير.

وفي هذا نزاع في مذهب الامام احمد، وغيره، كما قد ذكر في غير هذا الموضع، ومذهب اهل الظاهرة: يجوز للجنب ان يقرا للقران، واللبث في المسجد، هذا مذهب داود، واصحابه، وابن حزم، وهذا منقول عن بعض السلف، واما مذهبهم فيما تجب الطهارتان، فالذي ذكره ابن حزم انها لا تجب الا لصلاة هي ركعتان او ركعة الوتر، او ركعة في الخوف، او صلاة الجنازة، ولا تجب عنده الطهارة لسجدتي السهو، فيجوز عنده للجنب، والمحدث، والحايض قراءة القران، والسجود فيه، ومس المصحف.

قال: لان هذه الافعال خير مندوب اليها، فمن ادعى منع هولاء منها فعليه الدليل، واما الطواف فلا يجوز للحايض بالنص، والاجماع، واما الحدث ففيه نزاع بين السلف، وقد ذكر عبد الله بن الامام احمد في المناسك باسناده عن النخعي، وحماد بن ابي سليمان: انه يجوز الطواف مع الحدث الاصغر، وقد قيل ان هذا قول الحنفية او بعضهم، واما مع الجنابة، والحيض: فلا يجوز عند الاربعة، لكن مذهب ابي حنيفة: ان ذلك واجب فيه لا فرض، وهو قول في مذهب احمد.

وظاهر مذهبه كمذهب مالك، والشافعي انه ركن فيه.

والصحيح في هذا الباب ما ثبت عن الصحابة، - رضوان الله عليهم -، وهو الذي دل عليه الكتاب والسنة، وهو ان مس المصحف لا يجوز للمحدث، ولا يجوز له صلاة الجنازة، ولا يجوز له سجود التلاوة، فهذه الثلاثة ثابتة عن الصحابة.

واما الطواف فلا اعرف الساعة فيه نقلا خاصا عن الصحابة، لكن اذا جاز سجود التلاوة مع الحدث فالطواف اولى، كما قاله من قاله من التابعين.

قال البخاري في باب (سجدة المسلمين مع المشركين) : والمشرك نجس ليس له وضوء، وكان ابن عمر يسجد على غير وضوء.

ووقع في بعض نسخ البخاري: يسجد على وضوء.

قال ابن بطال في شرح البخاري: الصواب اثبات غيره لان المعروف عن ابن عمر انه كان يسجد على غير وضوء.

ذكر ابن ابي شيبة: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا زكريا بن ابي زايدة، حدثنا ابو الحسن يعني عبيد بن الحسن، عن رجل زعم انه نسيه عن سعيد بن جبير قال: كان عبد الله بن عمر ينزل عن راحلته فيهريق الماء، ثم يركب فيقرا السجدة فيسجد وما يتوضا.

وذكر عن وكيع، عن زكريا، عن الشعبي في الرجل يقرا السجدة على غير وضوء قال: يسجد حيث كان وجهه.

قال ابن المنذر: واختلفوا في الحايض تسمع السجدة.

فقال عطاء وابو قنزبة، والزهري، وسعيد بن جبير، والحسن البصري، وابراهيم وقتادة: ليس عليها ان تسجد، وبه قال مالك، والثوري، والشافعي، واصحاب الراي، وقد روينا عن عثمان بن عفان قال: تومي براسها.

وبه قال سعيد بن المسيب قال: تومي وتقول: لك سجدت، وقال ابن المنذر: (ذكر من سمع السجدة وهو على غير وضوء) .

قال ابو بكر: واختلفوا في ذلك، فقالت طايفة: يتوضا ويسجد، هكذا قال النخعي، وسفيان الثوري، واسحاق، واصحاب الراي، وقد روينا عن النخعي قولا ثالثا: انه يتيمم ويسجد، وروينا عن الشعبي قولا ثالثا: انه يسجد حيث كان وجهه.

وقال ابن حزم: وقد روي عن عثمان بن عفان، وسعيد بن المسيب: تومي الحايض بالسجود.

وقال سعيد: وتقول: رب لك سجدت، وعن الشعبي جواز سجود التلاوة الى القبلة، واما صلاة الجنازة: فقد قال البخاري: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى على الجنازة» وقال: «صلوا على صاحبكم» .

وقال: «صلوا على النجاشي» سماها صلاة وليس فيها ركوع، ولا سجود، ولا يتكلم فيها، وفيها تكبير وتسليم، قال: وكان ابن عمر لا يصلي الا طاهرا ولا يصلي عند طلوع الشمس ولا غروبها ويرفع يديه.

قال ابن بطال: عرض البخاري للرد على الشعبي، فانه اجاز الصلاة على الجنازة بغير طهارة قال: لانها دعاء ليس فيها ركوع ولا سجود، والفقهاء مجمعون من السلف، والخلف على خلاف قوله، فلا يلتفت الى شذوذه.

اجمعوا انها لا تصلى الا الى القبلة، ولو كانت دعاء كما زعم الشعبي لجازت الى غير القبلة.

قال: واحتجاج البخاري في هذا الباب حسن.

قلت: فالنزاع في سجود التلاوة، وفي صلاة الجنازة، قيل: هما جميعا ليسا صلاة كما قال الشعبي ومن وافقه، وقيل: هما جميعا صلاة تجب لهما الطهارة، والماثور عن الصحابة، وهو الذي تدل عليه النصوص.

والقياس الفرق بين الجنازة والسجود المجرد سجود التلاوة والشكر؛ وذلك لانه قد ثبت بالنص: «لا صلاة الا بطهور» .

كما في الصحيحين: عن ابي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه قال: «لا يقبل الله صلاة احدكم اذا احدث حتى يتوضا» .

وفي صحيح مسلم عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه قال: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول» ، وهذا قد دل عليه القران بقوله تعالى: {يا ايها الذين امنوا اذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وايديكم الى المرافق}[المايدة: 6] الاية، وقد حرم الصلاة مع الجنابة والسكر في قوله: {لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا الا عابري سبيل حتى تغتسلوا}[النساء: 43] .

وثبت ايضا: ان الطهارة لا تجب لغير الصلاة، لما ثبت في صحيح مسلم: من حديث ابن جريج، ثنا سعيد بن الحارث، عن ابن عباس: «ان النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى حاجته من الخلاء، فقرب له طعام، فاكل ولم يمس الماء» .

قال ابن جريج: وزادني عمرو بن دينار، عن سعيد بن الحارث: «ان النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له: انك لم تتوضا؟ قال: ما اردت صلاة فاتوضا» .

قال عمرو: سمعته من سعيد بن الحارث، والذين اوجبوا الوضوء للطواف ليس معهم حجة اصلا، فانه لم ينقل احد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا باسناد صحيح، ولا ضعيف، انه امر بالوضوء للطواف، مع العلم بانه قد حج معه خلايق عظيمة، وقد اعتمر عمرا متعددة، والناس يعتمرون معه، فلو كان الوضوء فرضا للطواف لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - بيانا عاما، ولو بينه لنقل ذلك المسلمون عنه ولم يهملوه.

ولكن ثبت في الصحيح «انه لما طاف توضا» ، وهذا وحده لا يدل على الوجوب، فانه قد كان يتوضا لكل صلاة وقد قال: «اني كرهت ان اذكر الله الا على طهر» .

فيتيمم لرد السلام، وقد ثبت عنه في الصحيح: «انه لما خرج من الخلاء، واكل وهو محدث، قيل له: الا تتوضا؟ قال: ما اردت صلاة فاتوضا» يدل على انه لم يجب عليه الوضوء الا اذا اراد صلاة، وان وضوءه لما سوى ذلك مستحب ليس بواجب.

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ما اردت صلاة فاتوضا " ليس انكارا للوضوء لغير الصلاة، لكن انكار لايجاب الوضوء لغير الصلاة، فان بعض الحاضرين قال له: الا تتوضا؟ فكان هذا القايل ظن وجوب الوضوء للاكل، «فقال - صلى الله عليه وسلم -: ما اردت صلاة فاتوضا» فبين له انه انما فرض الله الوضوء على من قام الى الصلاة، والحديث الذي يروى: «الطواف بالبيت صلاة، الا ان الله اباح فيه الكلام، فمن تكلم فلا يتكلم الا بخير» قد رواه النسايي؛ وهو يروى موقوفا ومرفوعا، واهل المعرفة بالحديث لا يصححونه الا موقوفا، ويجعلونه من كلام ابن عباس، لا يثبتون رفعه.

وبكل حال فلا حجة فيه؛ لانه ليس المراد به: ان الطواف نوع من الصلاة: كصلاة العيد، والجنايز، ولا انه مثل الصلاة مطلقا، فان الطواف يباح فيه الكلام بالنص والاجماع، ولا تسليم فيه، ولا يبطله الضحك والقهقهة، ولا تجب فيه القراءة باتفاق المسلمين، فليس هو مثل الجنازة، فان الجنازة فيها تكبير، وتسليم فتفتح بالتكبير، وتختم بالتسليم، وهذا حد الصلاة التي امر فيها بالوضوء، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم» .

والطواف ليس له تحريم ولا تحليل، وان كبر في اوله فكما يكبر على الصفا والمروة وعند رمي الجمار من غير ان يكون ذلك تحريما؛ ولهذا يكبر كلما حاذى الركن، والصلاة لها تحريم، لانه بتكبيرها يحرم على المصلي ما كان حلالا من الكلام او الاكل، او الضحك او الشرب، او غير ذلك، والطواف لا يحرم شييا، بل كل ما كان مباحا قبل الطواف في المسجد فهو مباح في الطواف، وان كان قد يكره ذلك؛ لانه يشغل عن مقصود الطواف، كما يكره في عرفة، وعند رمي الجمار، ولا يعرف نزاع بين العلماء ان الطواف لا يبطل بالكلام، والاكل والشرب، والقهقهة كما لا يبطل غيره من مناسك الحج بذلك، وكما لا يبطل الاعتكاف بذلك، والاعتكاف يستحب له طهارة الحدث ولا يجب، فلو قعد المعتكف وهو محدث في المسجد لم يحرم، بخلاف ما اذا كان جنبا او حايضا، فان هذا يمنعه منه الجمهور كمنعهم الجنب والحايض من اللبث في المسجد؛ لا لان ذلك يبطل الاعتكاف، ولهذا اذا خرج المعتكف للاغتسال كان حكم اعتكافه عليه في حال خروجه، فيحرم عليه مباشرة النساء في غير المسجد، ومن جوز له اللبث مع الوضوء جوز للمعتكف ان يتوضا، يلبث في المسجد، وهو قول احمد بن حنبل وغيره.

والذي ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «انه نهى الحايض عن الطواف، وبعث ابا بكر اميرا على الموسم، فامر ان ينادي ان لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان» ، وكان المشركون يحجون، وكانوا يطوفون بالبيت عراة، فيقولون: ثياب عصينا الله فيها فلا نطوف فيها الا الحمس ومن دان دينها.

وفي ذلك انزل الله: {يا بني ادم خذوا زينتكم عند كل مسجد}[الاعراف: 31] .

وقوله: {واذا فعلوا فاحشة}[الاعراف: 28] .

مثل: طوافهم بالبيت عراة {قالوا وجدنا عليها اباءنا والله امرنا بها قل ان الله لا يامر بالفحشاء اتقولون على الله ما لا تعلمون}[الاعراف: 28] .

ومعلوم ان ستر العورة يجب مطلقا، خصوصا اذا كان في المسجد الحرام والناس يرونه، فلم يجب ذلك لخصوص الطواف، لكن الاستتار في حال الطواف اوكد لكثرة من يراه وقت الطواف.

فينبغي النظر في معرفة حدود ما انزل الله على رسوله، وهو ان يعرف مسمى الصلاة التي لا يقبلها الله الا بطهور، التي امر بالوضوء عند القيام اليها.

وقد فسر ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله في الحديث الذي في السنن عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه قال: «مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم» .

ففي هذا الحديث دلالتان: احداهما: ان الصلاة تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم، فما لم يكن تحريمه التكبير، وتحليله التسليم، لم يكن من الصلاة.

والثانية: ان هذه هي الصلاة التي مفتاحها الطهور، فكل صلاة مفتاحها الطهور، فتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم، فما لم يكن تحريمه التكبير، وتحليله التسليم، فليس مفتاحه الطهور، فدخلت صلاة الجنازة في هذا، فان مفتاحها الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم.

واما سجود التلاوة، والشكر: فلم ينقل احد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن اصحابه، ان فيه تسليما، ولا انهم كانوا يسلمون منه، ولهذا كان احمد بن حنبل وغيره من العلماء لا يعرفون فيه التسليم.

واحمد في احدى الروايتين عنه لا يسلم فيه، لعدم ورود الاثر بذلك.

وفي الرواية الاخرى: يسلم واحدة او اثنتين، ولم يثبت ذلك بنص بل بالقياس، وكذلك من راى فيه تسليما من الفقهاء ليس معه نص، بل القياس، او قول بعض التابعين.

وقد تكلم الخطابي على حديث نافع، عن ابن عمر قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرا علينا القران، فاذا مر بالسجدة كبر وسجد، وسجدنا معه» .

قال: فيه بيان ان السنة ان يكبر للسجود، وعلى هذا مذاهب اكثر اهل العلم، وكذلك يكبر اذا رفع راسه من السجود.

قال: وكان الشافعي، واحمد يقولان: يرفع يديه اذا اراد ان يسجد.

وعن ابن سيرين، وعطاء: اذا رفع راسه من السجود يسلم.

وبه قال اسحاق بن راهويه.

قال: واحتج لهم في ذلك بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تحريمها التكبير وتحليلها التسليم» ، وكان احمد لا يعرف، وفي لفظ " لا يرى "، التسليم في هذا.

قلت: وهذه الحجة انما تستقيم لهم ان ذلك داخل في مسمى الصلاة، لكن قد يحتجون بهذا على من يسلم انها صلاة فيتناقض قوله.

وحديث ابن عمر رواه البخاري في صحيحه، وليس فيه التكبير، قال: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرا علينا السورة فيها السجدة فيسجد ونسجد، حتى ما يجد احدنا موضع جبهته» .

وفي لفظه: «حتى ما يجد احدنا مكانا لجبهته» .

فابن عمر قد اخبر انهم كانوا يسجدون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر تسليما، وكان ابن عمر يسجد على غير وضوء.

ومن المعلوم انه لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بين لاصحابه ان السجود لا يكون الا على وضوء، لكان هذا ما يعلمه عامتهم؛ لانهم كلهم كانوا يسجدون معه، وكان هذا شايعا في الصحابة، فاذا لم يعرف عن احد منهم انه اوجب الطهارة لسجود التلاوة، وكان ابن عمر من اعلمهم، وافقههم، واتبعهم للسنة، وقد بقي الى اخر الامر ويسجد للتلاوة على غير طهارة، كان هو مما يبين انه لم يكن معروفا بينهم ان الطهارة واجبة لها، ولو كان هذا مما اوجبه النبي - صلى الله عليه وسلم - لكان ذلك شايعا بينهم كشياع وجوب الطهارة للصلاة، وصلاة الجنازة، وابن عمر لم يعرف ان غيره من الصحابة اوجب الطهارة فيها.

ولكن سجودها على الطهارة افضل باتفاق المسلمين.

وقد يقال: انه يكره سجودها على غير طهارة مع القدرة على الطهارة، فان النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سلم عليه مسلم لم يرد عليه حتى تيمم، وقال: «كرهت ان اذكر الله الا على طهر» .

فالسجود اوكد من رد السلام.

لكن كون الانسان اذا قرا وهو محدث يحرم عليه السجود، ولا يحل له ان يسجد لله الا بطهارة قول لا دليل عليه وما ذكر ايضا على ان الطواف ليس من الصلاة، ويدل على ذلك ان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تجزي صلاة لا يقرا فيها بام الكتاب» ، والطواف والسجود لا يقرا فيهما بام الكتاب.

وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «ان الله يحدث من امره ما يشاء، وان مما احدث ان لا تكلموا في الصلاة» .

والكلام يجوز في الطواف، والطواف ايضا ليس فيه تسليم، لكن يفتتح بالتكبير، كما يسجد للتلاوة بالتكبير ومجرد الافتتاح بالتكبير لا يوجب ان يكون المفتتح صلاة، فقد ثبت في الصحيح: «ان النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف على بعير، كلما اتى الركن اشار اليه بشيء بيده وكبر» .

وكذلك ثبت عنه: «انه كبر على الصفا والمروة، وعند رمي الجمار» ؛ ولان الطواف يشبه الصلاة من بعض الوجوه، واما الحايض: فقد قيل: انما منعت من الطواف لاجل المسجد.

كما تمنع من الاعتكاف لاجل المسجد، والمسجد الحرام افضل المساجد، وقد قال تعالى لابراهيم: {وطهر بيتي للطايفين والقايمين والركع السجود}[الحج: 26] .

فامر بتطهيره، فتمنع منه الحايض من الطواف وغير الطواف.

وهذا من سر قول من يجعل الطهارة واجبة فيه، ويقول: اذا طافت وهي حايض عصمت بدخول المسجد مع الحيض.

ولا يجعل طهارتها للطواف كطهارتها للصلاة، بل يجعله من جنس منعها ان تعتكف في المسجد وهي حايض، ولهذا لم تمنع الحايض من ساير المناسك، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الحايض تقضي المناسك كلها الا الطواف بالبيت» ، «وقال لعايشة: افعلي ما يفعل الحاج غير ان لا تطوفي بالبيت» .

ولما «قيل له عن صفية انها حايض، قال: احابستنا هي.

قيل له: انها قد افاضت.

قال: فلا اذا» متفق عليه، وقد اعترض ابن بطال على احتجاج البخاري بجواز السجود على غير وضوء بحديث ابن عباس: «ان النبي - صلى الله عليه وسلم - قرا النجم فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والانس» .

وهذا السجود متواتر عند اهل العلم.

وفي الصحيح ايضا: من حديث ابن مسعود قال: «قرا النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة النجم، فسجد فيها وسجد من معه غير شيخ اخذ كفا من حصى، او تراب، فرفعه الى جبهته وقال: يكفيني هذا، قال: فرايته بعد قتل كافرا» .

قال ابن بطال: هذا لا حجة فيه: لان سجود المشركين لم يكن على وجه العبادة لله، والتعظيم له، «وانما كان لما القى الشيطان على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذكر الهتهم في قوله: {افرايتم اللات والعزى}[النجم: 19] {ومناة الثالثة الاخرى}[النجم: 20] .

فقال: تلك الغرانيق العلى وان شفاعتهن قد ترتجى.

فسجدوا لما سمعوا من تعظيم الهتهم، فلما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - وما القى الشيطان على لسانه من ذلك اشفق وحزن له، فانزل تعالى تانيسا له، وتسليمه عما عرض له: {وما ارسلنا من قبلك من رسول ولا نبي الا اذا تمنى القى الشيطان في امنيته}[الحج: 52] الى قوله {والله عليم حكيم}[الحج: 52] » .

اي اذا تلا القى الشيطان في تلاوته، فلا يستنبط من سجود المشركين جواز السجود على غير وضوء، لان المشرك نجس لا يصح له وضوء ولا سجود، الا بعد عقد الاسلام.

فيقال: هذا ضعيف، فان القوم انما سجدوا لما قرا النبي - صلى الله عليه وسلم - {افمن هذا الحديث تعجبون}[النجم: 59] {وتضحكون ولا تبكون}[النجم: 60] {وانتم سامدون}[النجم: 61] {فاسجدوا لله واعبدوا}[النجم: 62] .

فسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه امتثالا لهذا الامر، وهو السجود لله، والمشركون تابعوه في السجود لله.

وما ذكر من التمني - اذا كان صحيحا - فانه هو كان سبب موافقتهم له في السجود لله، ولهذا لما جرى هذا بلغ المسلمين بالحبشة ذلك، فرجع منهم طايفة الى مكة، والمشركون ما كانوا ينكرون عبادة الله وتعظيمه، ولكن كانوا يعبدون معه الهة اخرى، كما اخبر الله عنهم بذلك، فكان هذا السجود من عبادتهم له، وقد قال: سجد معه المسلمون والمشركون والجن والانس.

واما قوله: لا سجود الا بعد عقد الاسلام، فسجود الكافر بمنزلة دعايه لله، وذكره له، وبمنزلة صدقته، وبمنزلة حجتهم لله وهم مشركون، فالكفار قد يعبدون الله، وما فعلوه من خير اثيبوا عليه في الدنيا، فان ماتوا على الكفر حبطت اعمالهم في الاخرة، وان ماتوا على الايمان فهل يثابون على ما فعلوه في الكفر، فيه قولان مشهوران.

والصحيح: انهم يثابون على ذلك؛ «لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لحكيم بن حزام: اسلمت على ما اسلفت من خير» ، وغير ذلك من النصوص، ومعلوم ان اليهود والنصارى لهم صلاة وسجود.

وان كان ذلك لا ينفعهم في الاخرة اذا ماتوا على الكفر، وايضا فقد اخبر الله في غير موضع من القران عن سجود سحرة فرعون، كما قال تعالى: {والقي السحرة ساجدين}[الاعراف: 120] {قالوا امنا برب العالمين - رب موسى وهارون}[الاعراف: 121 - 122] .

وذلك سجود مع ايمانهم، وهو مما قبله الله منهم، وادخلهم به الجنة، ولم يكونوا على طهارة.

وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بنسخه، ولو قري القران على كفار، فسجدوا لله سجود ايمان بالله ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - او راوا اية من ايات الايمان، فسجدوا لله مومنين بالله ورسوله، لنفعهم ذلك.

ومما يبين هذا ان السجود يشرع منفردا عن الصلاة: كسجود التلاوة، وسجود الشكر، وكالسجود عند الايات، فان ابن عباس لما بلغه موت بعض امهات المومنين سجد، وقال: «ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرنا اذا راينا اية ان نسجد» .

وقد تنازع الفقهاء في السجود المطلق لغير سبب، هل هو عبادة ام لا؟ ومن سوغه يقول: هو خضوع لله، والسجود هو الخضوع، قال تعالى: {وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة}[البقرة: 58] .

قال اهل اللغة: السجود في اللغة هو الخضوع.

وقال غير واحد من المفسرين: امروا ان يدخلوا ركعا منحنين، فان الدخول مع وضع الجبهة على الارض لا يمكن، وقد قال تعالى: {الم تر ان الله يسجد له من في السماوات ومن في الارض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس}[الحج: 18] .

وقال تعالى: {ولله يسجد من في السماوات والارض طوعا وكرها}[الرعد: 15] ، ومعلوم ان سجود كل شيء بحسبه ليس سجود هذه المخلوقات وضع جباهها على الارض، وقد «قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابي ذر، لما غربت الشمس: انها تذهب فتسجد تحت العرش» ، رواه البخاري ومسلم.

فعلم ان السجود اسم جنس، وهو كمال الخضوع لله، واعز ما في الانسان وجهه، فوضعه على الارض لله غاية خضوعه ببدنه، وهو غاية ما يقدر عليه من ذلك.

ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» وقال تعالى: {واسجد واقترب}[العلق: 19] .

فصار من جنس اذكار الصلاة التي تشرع خارج الصلاة: كالتسبيح، والتحميد والتكبير والتهليل، وقراءة القران، وكل ذلك يستحب له الطهارة، ويجوز للمحدث فعل ذلك، بخلاف ما لا يفعل الا في الصلاة: كالركوع، فان هذا لا يكون الا جزءا من الصلاة.

وافضل افعال الصلاة السجود، وافضل اقوالها القراءة، وكلاهما مشروع في غير الصلاة، فيسرت العبادة لله، لكن الصلاة افضل الاعمال، فاشترط لها افضل الاحوال، واشترط للفرض ما لم يشترط للنفل من القيام والاستقبال مع القدرة، وجاز التطوع على الراحلة في السفر كما مضت به سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - فانه قد ثبت في الصحاح: انه كان يتطوع على راحلته في السفر قبل اي وجه توجهت به.

وهذا مما اتفق العلماء على جوازه، وهو صلاة بلا قيام ولا استقبال للقبلة، فانه لا يمكن المتطوع على الراحلة ان يصلي الا كذلك فلو نهى عن التطوع افضى الى تفويت عبادة الله التي لا يقدر عليها الا كذلك، بخلاف الفرض، فانه شيء مقدر يمكنه ان ينزل له، ولا يقطعه ذلك عن سفره، ومن لم يمكنه النزول، لقتال او مرض، او وحل، صلى على الدابة ايضا.

ورخص في التطوع جالسا، لكن يستقبل القبلة، فان الاستقبال يمكنه مع الجلوس، فلم يسقط عنه بخلاف تكليفه القيام، فانه قد يشق عليه ترك التطوع، وكان ذلك تيسيرا للصلاة بحسب الامكان، فاوجب الله في الفرض ما لا يجب في النفل.

وكذلك السجود دون صلاة النفل، فانه يجوز فعله قاعدا، وان كان القيام افضل، وصلاة الجنازة اكمل من النفل من وجه، فاشترط لها القيام بحسب الامكان؛ لان ذلك لا يتعذر، وصلاة النافلة فيها ركوع وسجود، فهي اكمل من هذا الوجه.

والمقصود الاكبر من صلاة الجنازة هو الدعاء للميت، ولهذا كان عامة ما فيها من الذكر دعاء، واختلف السلف والعلماء هل فيها قراءة؟ على قولين مشهورين: لم يوقت النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها دعاء بعينه، فعلم انه لا يتوقت فيها وجوب شيء من الاذكار، وان كانت قراءة الفاتحة فيها سنة، كما ثبت ذلك عن ابن عباس، فالناس في قراءة الفاتحة فيها على اقوال: قيل: تكره.

وقيل: تجب.

والاشبه انها مستحبة، لا تكره، ولا تجب، فانه ليس فيها قران غير الفاتحة، فلو كانت الفاتحة واجبة فيها كما تجب في الصلاة التامة لشرع فيها قراءة زايدة على الفاتحة؛ ولان الفاتحة نصفها ثناء على الله، ونصفها دعاء للمصلي نفسه، لا دعاء للميت، والواجب فيها الدعاء للميت، وما كان تتمة كذلك.

والمشهور عن الصحابة انه اذا سلم فيها سلم تسليمة واحدة لنقصها عن الصلاة التامة، وقوله: «من صلى صلاة لا يقرا فيها بام الكتاب فهي خداج» .

يقال الصلاة المطلقة هي التي فيها ركوع وسجود، بدليل ما لو نذر ان يصلي صلاة.

وهذه صلاة تدخل في قوله: «مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم» .

لكنها تقيد، يقال صلاة الجنازة، ويقال صلوا على الميت، كما قال تعالى: {ولا تصل على احد منهم مات ابدا ولا تقم على قبره}[التوبة: 84] .

والصلاة على الميت قد بينها الشارع انها دعاء مخصوص بخلاف قوله: {خذ من اموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم ان صلاتك سكن لهم}[التوبة: 103] .

تلك قد بين انها الدعاء المطلق الذي ليس له تحريم وتحليل، ولا يشترط له استقبال القبلة، ولا يمنع فيه من الكلام.

والسجود المجرد لا يسمى صلاة، لا مطلقا ولا مقيدا، ولهذا لا يقال: صلاة التلاوة، ولا صلاة الشكر، فلهذا لم تدخل في قوله: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور» .

وقوله: «لا يقبل الله صلاة احدكم اذا احدث حتى يتوضا» .

فان السجود مقصوده الخضوع والذل له.

وقيل لسهل بن عبد الله التستري: ايسجد القلب؟ .

قال: نعم، سجدة لا يرفع راسه منها ابدا، ومسمى الصلاة لا بد فيه من الدعاء، فلا يكون مصليا الا بدعاء بحسب امكانه، والصلاة التي يقصد بها التقرب الى الله لا بد فيها من قران، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اني نهيت ان اقرا القران راكعا او ساجدا» .

فالسجود لا يكون فيه قران، وصلاة التقرب لا بد فيها من قران، بخلاف الصلاة التي مقصودها الدعاء للميت، فانها بقران اكمل، ولكن مقصودها يحصل بغير قران، واما مس المصحف: فالصحيح: انه يجب له الوضوء، كقول الجمهور، وهذا هو المعروف عن الصحابة: سعد، وسلمان، وابن عمر، وفي كتاب عمرو بن حزم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يمس القران الا طاهر» .

وذلك ان النبي - صلى الله عليه وسلم - «نهى ان يسافر بالقران الى ارض العدو» ، مخافة ان تناله ايديهم، وقد اقر المشركين على السجود لله ولم ينكره عليهم، فان السجود لله خضوع.

{ولله يسجد من في السماوات والارض طوعا وكرها}[الرعد: 15] .

واما كلامه فله حرمة عظيمة؛ ولهذا ينهى ان يقرا القران في حال الركوع والسجود، فاذا نهي ان يقرا في السجود لم يجز ان يجعل المصحف مثل السجود، وحرمة المصحف اعظم من حرمة المسجد، والمسجد يجوز ان يدخله المحدث، ويدخله الكافر للحاجة، وقد كان الكفار يدخلونه، واختلف في نسخ ذلك، بخلاف المصحف، فلا يلزم اذا جاز الطواف مع الحدث، ان يجوز للمحدث مس المصحف؛ لان حرمة المصحف اعظم، وعلى هذا فما روي عن عثمان، وسعيد: من ان الحايض تومي بالسجود، هو لان حدث الحايض اغلظ، والركوع هو سجود خفيف، كما قال تعالى: {وادخلوا الباب سجدا}[البقرة: 58] .

قالوا: ركعا فرخص لها في دون كمال السجود.

واما احتجاج ابن حزم على ان ما دون ركعتين ليس بصلاة، بقوله: «صلاة الليل والنهار مثنى مثنى» .

فهذا يرويه الازدي، عن علي بن عبد الله البارقي، عن ابن عمر، وهو خلاف ما رواه الثقات المعروفون عن ابن عمر، فانهم رووا ما في الصحيحين: انه سيل عن صلاة الليل؟ فقال: «صلاة الليل مثنى مثنى، فاذا خفت الفجر فاوتر بواحدة» .

ولهذا ضعف الامام احمد وغيره من العلماء حديث البارقي، ولا يقال هذه زيادة من الثقة، فتكون مقبولة؛ لوجوه: احدهما: ان هذا متكلم فيه.

الثاني: ان ذلك اذا لم يخالف الجمهور، والا فاذا انفرد عن الجمهور ففيه قولان في مذهب احمد وغيره.

الثالث: ان هذا اذا لم يخالف المزيد عليه، وهذا الحديث قد ذكر ابن عمر «ان رجلا سال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الليل فقال: صلاة الليل مثنى مثنى فاذا خفت الصبح فاوتر بواحدة» .

ومعلوم انه لو قال: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى.

فاذا خفت الصبح فاوتر بواحدة لم يجز ذلك، وانما يجوز اذا ذكر صلاة الليل منفردة، كما ثبت في الصحيحين، والسايل انما ساله عن صلاة الليل، والنبي - صلى الله عليه وسلم - وان كان قد يجيب عن اعم مما سيل عنه، كما في حديث البحر «لما قيل له: انا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فان توضانا به عطشنا، افنتوضا من ماء البحر؟ فقال: هو الطهور ماوه الحل ميتته» .

لكن يكون الجواب منتظما كما في هذا الحديث، وهناك اذا ذكر النهار لم يكن الجواب منتظما؛ لانه ذكر فيه قوله «فاذا خفت الصبح فاوتر بواحدة» وهذا ثابت في الحديث لا ريب فيه.

فان قيل: يحتمل ان يكون هذا قد ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجلس اخر كلاما مبتدا لاخر: اما لهذا السايل واما لغيره.

قيل: كل من روى عن ابن عمر انما رواه هكذا، فذكروا في اوله السوال، وفي اخره الوتر، وليس فيه الا صلاة الليل، وهذا خالفهم فلم يذكر ما في اوله ولا ما في اخره، وزاد في وسطه، وليس هو من المعروفين بالحفظ والاتقان، ولهذا لم يخرج حديثه اهل الصحيح: البخاري ومسلم، وهذه الامور وما اشبهها متى تاملها اللبيب علم انه غلط في الحديث، وان لم يعلم ذلك اوجب ريبة قوية تمنع الاحتجاج به على اثبات مثل هذا الاصل العظيم.

ومما يبين ذلك ان الوتر ركعة، وهو صلاة، وكذلك صلاة الجنازة وغيرها، فعلم ان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقصد بذلك بيان مسمى الصلاة وتحديدها، فان الحد يطرد وينعكس؟ فان قيل: قصد بيان ما يجوز من الصلاة.

قيل: ما ذكرتم جايز، وسجود التلاوة والشكر ايضا جايز، فلا يمكن الاستدلال به لا على الاسم، ولا على الحكم، وكل قول ينفرد به المتاخر عن المتقدمين، ولم يسبقه اليه احد منهم، فانه يكون خطا، كما قال الامام احمد بن حنبل: اياك ان تتكلم في مسالة ليس لك فيها امام.

واما سجود السهو: فقد جوزه ابن حزم ايضا على غير طهارة، والى غير القبلة، كسجود التلاوة بناء على اصله الضعيف.

ولهذا لا يعرف عن احد من السلف، وليس هو مثل سجود التلاوة والشكر؛ لان هذا سجدتان يقومان مقام ركعة من الصلاة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح، حديث الشك: «اذا شك احدكم فلم يدر ثلاثا صلى ام اربعا، فليطرح الشك وليبن على ما تيقن، ثم ليسجد سجدتين قبل ان يسلم، فان صلى خمسا شفعتا له صلاته، والا كانتا ترغيما للشيطان» .

وفي لفظ: «وان كانت صلاته تماما، كانتا ترغيما» .

فجعلهما كالركعة السادسة التي تشفع الخامسة المزيدة سهوا، ودل ذلك على انه يوجر عليها؛ لانه اعتقد انها من تمام المكتوبة، وفعلها تقربا الى الله، وان كان مخطيا في هذا الاعتقاد، وفي هذا ما يدل على ان من فعل ما يعتقده قربة بحسب اجتهاده، ان كان مخطيا في ذلك انه يثاب على ذلك: وان كان له علم انه ليس بقربة يحرم عليه فعله.

وايضا فان سجدتي السهو يفعلان اما قبل السلام واما قريبا من السلام، فهما متصلان بالصلاة داخلان فيها، فهما منها.

وايضا فانهما جبران للصلاة، فكانتا كالجزء من الصلاة، وايضا فان لهما تحليلا وتحريما، فانه يسلم منهما ويتشهد، فصارتا اوكد من صلاة الجنازة، وفي الجملة: سجدتا السهو من جنس سجدتي الصلاة، لا من جنس سجود التلاوة والشكر، ولهذا يفعلان الى الكعبة.

وهذا عمل المسلمين من عهد نبيهم، ولم ينقل عن احد انه فعلها الى غير القبلة، ولا بغير وضوء، كما يفعل ذلك في سجود التلاوة، واذا كان السهو في الفريضة كان عليه ان يسجدهما بالارض كالفريضة، ليس له ان يفعلهما على الراحلة، وايضا فانهما واجبتان، كما دل عليه نصوص كثيرة، وهو قول اكثر الفقهاء، بخلاف سجود الشكر، فانه لا يجب بالاجماع، وفي استحبابه نزاع، وسجود التلاوة في وجوبه نزاع، وان كان مشروعا بالاجماع، فسجود التلاوة سببه القراءة فيتبعها.

ولما كان المحدث له ان يقرا فله ان يسجد بطريق الاولى، فان القراءة اعظم من مجرد سجود التلاوة، والمشركون قد سجدوا، وما كانوا يقرءون القران وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - ان يقرا القران في حال الركوع والسجود، فعلم ان القران افضل من هذه الحال.

وقوله: «اقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» اي: من الافعال، فلم تدخل الاقوال في ذلك.

ويفرق بين الاقرب والافضل، فقد يكون بعض الاعمال افضل من السجود، وان كان في السجود اقرب: كالجهاد، فانه سنام العمل، الا ان يراد السجود العام وهو الخضوع، فهذا يحصل له في حال القراءة وغيرها، وقد يحصل للرجل في حال القراءة من الخشوع والخضوع ما لا يحصل له في حال السجود، وهذا كقوله: « اقرب ما يكون الرب تعالى من عبده في جوف الليل» .

وقوله: «ينزل ربنا كل ليلة الى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل» ، وقوله: «انه يدنو عشية عرفة» .

ومعلوم ان من الاعمال ما هو افضل من الوقوف بعرفة، ومن قيام الليل كالصلوات الخمس، والجهاد في سبيل الله تعالى، وقد قال تعالى: {واذا سالك عبادي عني فاني قريب اجيب دعوة الداع اذا دعان}[البقرة: 186] .

فهو قريب ممن دعاه، وقد يكون غير الداعي افضل من الداعي، كما قال: «من شغله قراءة القران عن ذكري ومسالتي اعطيته افضل ما اعطي السايلين» والله اعلم.

What's Your Reaction?

like
0
dislike
0
love
0
funny
0
angry
0
sad
0
wow
0