مسالة الجهر بالبسملة في الصلاة

مسالة الجهر بالبسملة في الصلاة

مسالة الجهر بالبسملة في الصلاة
152 - 68

مسالة:

فيما يشتبه على الطالب للعبادة من جهة الافضلية مما اختلف فيه الايمة من المسايل التي اذكرها: وهي ايما افضل في صلاة الجهر ترك الجهر بالبسملة او الجهر بها؟ وايما افضل المداومة على القنوت في صلاة الفجر، ام تركه، ام فعله احيانا بحسب المصلحة؟ وكذلك في الوتر، وايما افضل طول الصلاة ومناسبة ابعاضها في الكمية والكيفية، او تخفيفها بحسب ما اعتادوه في هذه الازمنة؟ وايما افضل المداومة على الوضوء ام ترك المداومة؟ وايما افضل مع قصر الصلاة في السفر مداومة الجمع، ام فعله احيانا بحسب الحاجة؟ وهل قيام الليل كله بدعة ام سنة، ام قيام بعضه افضل من قيامه كله؟ وكذلك سرد الصوم افضل، ام صوم بعض الايام وافطار بعضها؟ وفي المواصلة ايضا؟ وهل لبس الخشن واكله دايما افضل، ام لا؟ وايما افضل فعل السنن الرواتب في السفر، ام تركها؟ ام فعل البعض دون البعض.

وكذلك التطوع بالنوافل في السفر، وايما افضل الصوم في السفر ام الفطر؟ وايما افضل للجنب ان ينام على وضوء ام يكره له النوم على غير وضوء ام لا؟ وهل يجوز له النوم في المسجد اذا توضا ام لا من غير عذر؟ واذا لم يجد ماء او تعذر عليه استعماله لمرض، او يخاف منه الضرر من شدة البرد، وامثال ذلك، فهل يتيمم ام لا؟ وهل يقوم التيمم مقام الوضوء فيما ذكر ام لا؟ وايما افضل في اغماء هلال رمضان الصوم ام الفطر؟ ام يخير بينهما؟ ام يستحب فعل احدهما؟ وهل ما واظب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في جميع افعاله واحواله واقواله وحركاته وسكناته، وفي شانه كله من العبادات والعادات، هل المواظبة على ذلك كله سنة في حق كل واحد من الامة؟ ام يختلف بحسب اختلاف المراتب والراتبين؟ وايما افضل للسالك العزلة ام الخلطة.

واذا قدر احدهما فهل يكون ذلك على الاطلاق ام وقتا دون وقت، وايما افضل ترك السبب مع الجمع على الله ام السبب مع التفرقة اذا لم يمكن الا احدهما واذا قدر احدهما فهل يكون ذلك مطلقا في ساير الاوقات ام لا؟ افتونا ماجورين.

الجواب::

الحمد لله.

هذه المسايل التي يقع فيها النزاع مما يتعلق بصفات العبادات اربعة اقسام: منها: ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه سن كل واحد من الامرين، واتفقت الامة على ان من فعل احدهما لم ياثم بذلك، لكن قد يتنازعون في الافضل، وهو بمنزلة القراءات الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - التي اتفق الناس على جواز القراءة باي قراءة شاء منها، كالقراءة المشهورة بين المسلمين، فهذه يقرا المسلم بما شاء منها، وان اختار بعضها لسبب من الاسباب.

ومن هذا الباب الاستفتاحات المنقولة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه كان يقولها في قيام الليل، وانواع الادعية التي كان يدعو بها في صلاته في اخر التشهد، فهذه الانواع الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كلها سايغة باتفاق المسلمين، لكن ما امر به من ذلك افضل لنا مما فعله ولم يامر به.

وقد ثبت في الصحيح انه قال: «اذا قعد احدكم في التشهد فليستعذ بالله من اربع، يقول: اللهم اني اعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات.

ومن فتنة المسيح الدجال» .

فالدعاء بهذا افضل من الدعاء بقوله: «اللهم اغفر لي ما قدمت، وما اخرت، وما اسررت، وما اعلنت، وما انت اعلم به مني، انت المقدم، وانت الموخر، لا اله الا انت» وهذا ايضا قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه كان يقوله في اخر صلاته، لكن الاول امر به.

وما تنازع العلماء في وجوبه فهو اوكد مما لم يامر به ولم يتنازع العلماء في وجوبه.

وكذلك الدعاء الذي كان يكرره كثيرا كقوله: {ربنا اتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار}[البقرة: 201] اوكد مما ليس كذلك.

القسم الثاني: ما اتفق العلماء على انه اذا فعل كلا من الامرين كانت عبادته صحيحة، ولا اثم عليه: لكن يتنازعون في الافضل.

وفيما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله، ومسالة القنوت في الفجر والوتر، من جهر بالبسملة، وصفة الاستعاذة ونحوها، من هذا الباب.

فانهم متفقون على ان من جهر بالبسملة صحت صلاته، ومن خافت صحت صلاته وعلى ان من قنت في الفجر صحت صلاته، ومن لم يقنت فيها صحت صلاته، وكذلك القنوت في الوتر.

وانما تنازعوا في وجوب قراءة البسملة، وجمهورهم على ان قراءتها لا تجب، وتنازعوا ايضا في استحباب قراءتها وجمهورهم على ان قراءتها مستحبة.

وتنازعوا فيما اذا ترك الامام ما يعتقد الماموم وجوبه، مثل ان يترك قراءة البسملة والماموم يعتقد وجوبها، او يمس ذكره ولا يتوضا، والماموم يرى وجوب الوضوء من ذلك، او يصلي في جلود الميتة المدبوغة، والماموم يرى ان الدباغ لا يطهر، او يحتجم ولا يتوضا والماموم يرى الوضوء من الحجامة.

والصحيح المقطوع به ان صلاة الماموم صحيحة خلف امامه، وان كان امامه مخطيا في نفس الامر: لما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه قال: «يصلون لكم فان اصابوا فلكم ولهم، وان اخطيوا فلكم وعليهم» .

وكذلك اذا اقتدى الماموم بمن يقنت في الفجر، او الوتر، قنت معه.

سواء قنت قبل الركوع، او بعده، وان كان لا يقنت، لم يقنت معه.

ولو كان الامام يرى استحباب شيء، والمامومون لا يستحبونه، فتركه لاجل الاتفاق والايتلاف: كان قد احسن.

مثال ذلك الوتر فان للعلماء فيه ثلاثة اقوال: احدها: انه لا يكون الا بثلاث متصلة.

كالمغرب: كقول من قاله من اهل العراق.

والثاني: انه لا يكون الا ركعة مفصولة عما قبلها، كقول من قال ذلك من اهل الحجاز.

والثالث: ان الامرين جايزان، كما هو ظاهر مذهب الشافعي واحمد وغيرهما، وهو الصحيح.

وان كان هولاء يختارون فصله عما قبله، فلو كان الامام يرى الفصل، فاختار المامومون ان يصلي الوتر كالمغرب فوافقهم على ذلك تاليفا لقلوبهم كان قد احسن، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعايشة: «لولا ان قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة، ولالصقتها بالارض؛ ولجعلت لها بابين، بابا يدخل الناس منه، وبابا يخرجون منه» .

فترك الافضل عنده؛ ليلا ينفر الناس.

وكذلك لو كان رجل يرى الجهر بالبسملة فام بقوم لا يستحبونه او بالعكس ووافقهم كان قد احسن، وانما تنازعوا في الافضل، فهو بحسب ما اعتقدوه من السنة.

وطايفة من اهل العراق اعتقدت ان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقنت الا شهرا، ثم تركه على وجه النسخ له، فاعتقدوا ان القنوت في المكتوبات منسوخ، وطايفة من اهل الحجاز اعتقدوا ان النبي - صلى الله عليه وسلم - ما زال يقنت حتى فارق الدنيا، ثم منهم من اعتقد انه كان يقنت قبل الركوع، ومنهم من كان يعتقد انه كان يقنت بعد الركوع.

والصواب هو القول الثالث الذي عليه جمهور اهل الحديث.

وكثير من ايمة اهل الحجاز، وهو الذي ثبت في الصحيحين وغيرهما.

«انه - صلى الله عليه وسلم - قنت شهرا يدعو على رعل وذكوان وعصية ثم ترك هذا القنوت، ثم انه بعد ذلك بمدة بعد خيبر، وبعد اسلام ابي هريرة قنت، وكان يقول في قنوته: اللهم، انج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، والمستضعفين من المومنين، اللهم اشدد وطاتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» .

فلو كان قد نسخ القنوت لم يقنت هذه المرة الثانية، وقد ثبت عنه في الصحيح «انه قنت في المغرب، وفي العشاء الاخرة» .

وفي السنن انه «كان يقنت في الصلوات الخمس، واكثر قنوته كان في الفجر» ، ولم يكن يداوم على القنوت لا في الفجر ولا غيرها: بل قد ثبت في الصحيحين عن انس انه قال: «لم يقنت بعد الركوع الا شهرا» .

فالحديث الذي رواه الحاكم وغيره من حديث الربيع بن انس عن انس انه قال: «ما زال يقنت حتى فارق الدنيا» انما قاله في سياق القنوت قبل الركوع، وهذا الحديث لو عارض الحديث الصحيح لم يلتفت اليه، فان الربيع بن انس ليس من رجال الصحيح، فكيف وهو لم يعارضه.

وانما معناه انه كان يطيل القيام في الفجر دايما، قبل الركوع.

واما انه كان يدعو في الفجر دايما قبل الركوع او بعده بدعاء يسمع منه او لا يسمع فهذا باطل قطعا، وكل من تامل الاحاديث الصحيحة علم هذا بالضرورة، وعلم ان هذا لو كان واقعا لنقله الصحابة والتابعون، ولما اهملوا قنوته الراتب المشروع لنا، مع انهم نقلوا قنوته الذي لا يشرع بعينه، وانما يشرع نظيره؛ فان دعاءه لاوليك المعينين، وعلى اوليك المعينين ليس بمشروع باتفاق المسلمين؛ بل انما يشرع نظيره.

فيشرع ان يقنت عند النوازل يدعو للمومنين، ويدعو على الكفار في الفجر، وفي غيرها من الصلوات، وهكذا كان عمر يقنت لما حارب النصارى بدعايه الذي فيه: " اللهم العن كفرة اهل الكتاب " الى اخره.

وكذلك علي - رضي الله عنه - لما حارب قوما قنت يدعو عليهم وينبغي للقانت ان يدعو عند كل نازلة بالدعاء المناسب لتلك النازلة، واذا سمى من يدعو لهم من المومنين، ومن يدعو عليهم من الكافرين المحاربين كان ذلك حسنا.

واما قنوت الوتر فللعلماء فيه ثلاثة اقوال: قيل: لا يستحب بحال لانه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه قنت في الوتر.

وقيل: بل يستحب في جميع السنة، كما ينقل عن ابن مسعود وغيره؛ ولان في السنن ان «النبي - صلى الله عليه وسلم - علم الحسن بن علي - رضي الله عنهما - دعاء يدعو به في قنوت الوتر» ، وقيل: بل يقنت في النصف الاخير من رمضان.

كما كان ابي بن كعب يفعل.

وحقيقة الامر ان قنوت الوتر من جنس الدعاء السايغ في الصلاة، من شاء فعله، ومن شاء تركه.

كما يخير الرجل ان يوتر بثلاث، او خمس، او سبع، وكما يخير اذا اوتر بثلاث ان شاء فصل، وان شاء وصل.

وكذلك يخير في دعاء القنوت ان شاء فعله، وان شاء تركه، واذا صلى بهم قيام رمضان فان قنت في جميع الشهر فقد احسن، وان قنت في النصف الاخير فقد احسن، وان لم يقنت بحال فقد احسن.

كما ان نفس قيام رمضان لم يوقت النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه عددا معينا؛ بل كان هو - صلى الله عليه وسلم - لا يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة، لكن كان يطيل الركعات، فلما جمعهم عمر على ابي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة، ثم يوتر بثلاث، وكان يخف القراءة بقدر ما زاد من الركعات، لان ذلك اخف على المامومين من تطويل الركعة الواحدة، ثم كان طايفة من السلف يقومون باربعين ركعة، ويوترون بثلاث، واخرون قاموا بست وثلاثين، واوتروا بثلاث، وهذا كله سايغ، فكيفما قام في رمضان من هذه الوجوه، فقد احسن.

والافضل يختلف باختلاف احوال المصلين، فان كان فيهم احتمال لطول القيام، فالقيام بعشر ركعات وثلاث بعدها.

كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي لنفسه في رمضان وغيره هو الافضل، وان كانوا لا يحتملونه فالقيام بعشرين هو الافضل، وهو الذي يعمل به اكثر المسلمين، فانه وسط بين العشر وبين الاربعين، وان قام باربعين وغيرها جاز ذلك ولا يكره شيء من ذلك.

وقد نص على ذلك غير واحد من الايمة كاحمد وغيره.

ومن ظن ان قيام رمضان فيه عدد موقت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يزاد فيه ولا ينقص منه فقد اخطا، فاذا كانت هذه السعة في نفس عدد القيام، فكيف الظن بزيادة القيام لاجل دعاء القنوت او تركه، كل ذلك سايغ حسن.

وقد ينشط الرجل فيكون الافضل في حقه تطويل العبادة، وقد لا ينشط فيكون الافضل في حقه تخفيفها.

وكانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معتدلة.

اذا اطال القيام اطال الركوع والسجود، واذا خفف القيام خفف الركوع والسجود، هكذا كان يفعل في المكتوبات، وقيام الليل، وصلاة الكسوف، وغير ذلك.

وقد تنازع الناس، هل الافضل طول القيام؟ ام كثرة الركوع والسجود؟ او كلاهما سواء؟ على ثلاثة اقوال: اصحها ان كليهما سواء، فان القيام اختص بالقراءة، وهي افضل من الذكر والدعاء، والسجود نفسه افضل من القيام، فينبغي انه اذا طول القيام ان يطيل الركوع والسجود، وهذا هو طول القنوت الذي اجاب به النبي - صلى الله عليه وسلم - لما «قيل له: اي الصلاة افضل؟ فقال: طول القنوت» فان القنوت هو ادامة العبادة، سواء كان في حال القيام، او الركوع او السجود، كما قال تعالى: {امن هو قانت اناء الليل ساجدا وقايما}[الزمر: 9] فسماه قانتا في حال سجوده، كما سماه قانتا في حال قيامه.

واما البسملة: فلا ريب انه كان في الصحابة من يجهر بها، وفيهم من كان لا يجهر بها، بل يقروها سرا، او لا يقروها والذين كانوا يجهرون بها اكثرهم كان يجهر بها تارة، ويخافت بها اخرى وهذا لان الذكر قد تكون السنة المخافتة به، ويجهر به لمصلحة راجحة مثل تعليم المامومين، فانه قد ثبت في الصحيح ان «ابن عباس قد جهر بالفاتحة على الجنازة، ليعلمهم انها سنة» .

وتنازع العلماء في القراءة على الجنازة على ثلاثه اقوال: قيل: لا تستحب بحال، كما هو مذهب ابي حنيفة ومالك.

وقيل: بل يجب فيها القراءة بالفاتحة.

كما يقوله من يقوله من اصحاب الشافعي، واحمد.

وقيل: بل قراءة الفاتحة فيها سنة، وان لم يقرا بل دعا بلا قراءة جاز، وهذا هو الصواب.

وثبت في الصحيح ان عمر بن الخطاب كان يقول: " الله اكبر، سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا اله غيرك " يجهر بذلك مرات كثيرة.

واتفق العلماء على ان الجهر بذلك ليس بسنة راتبة: لكن جهر به للتعليم، ولذلك نقل عن بعض الصحابة انه كان يجهر احيانا بالتعوذ، فاذا كان من الصحابة من جهر بالاستفتاح والاستعاذة مع اقرار الصحابة له على ذلك، فالجهر بالبسملة اولى ان يكون كذلك.

وان يشرع الجهر بها احيانا لمصلحة راجحة.

لكن لا نزاع بين اهل العلم بالحديث: ان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجهر بالاستفتاح.

ولا بالاستعاذة؛ بل قد ثبت في الصحيح ان «ابا هريرة قال له: يا رسول الله، ارايت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول؟ قال: اقول: اللهم بعد بيني وبين خطاياي، كما بعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الابيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد» .

وفي السنن عنه انه «كان يستعيذ في الصلاة قبل القراءة» ، والجهر بالبسملة اقوى من الجهر بالاستعاذة؛ لانها اية من كتاب الله تعالى، وقد تنازع العلماء في وجوبها، وان كانوا قد تنازعوا في وجوب الاستفتاح، والاستعاذة.

وفي ذلك قولان في مذهب احمد وغيره، لكن النزاع في ذلك اضعف من النزاع في وجوب البسملة.

والقايلون بوجوبها من العلماء افضل واكثر، لكن لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه كان يجهر بها، وليس في الصحاح ولا السنن حديث صحيح صريح بالجهر، والاحاديث الصريحة بالجهر كلها ضعيفة؛ بل موضوعة؛ ولهذا لما صنف الدارقطني مصنفا في ذلك، قيل له: هل في ذلك شيء صحيح؟ فقال: اما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا، واما عن الصحابة فمنه صحيح، ومنه ضعيف.

ولو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجهر بها دايما، لكان الصحابة ينقلون ذلك.

ولكان الخلفاء يعلمون ذلك، ولما كان الناس يحتاجون ان يسالوا انس بن مالك بعد انقضاء عصر الخلفاء، ولما كان الخلفاء الراشدون ثم خلفاء بني امية وبني العباس كلهم متفقين على ترك الجهر، ولما كان اهل المدينة - وهم اعلم اهل المداين بسنته - ينكرون قراءتها بالكلية سرا، وجهرا، والاحاديث الصحيحة تدل على انها اية من كتاب الله، وليست من الفاتحة، ولا غيرها.

وقد تنازع العلماء: هل هي اية، او بعض اية من كل سورة او ليست من القران الا في سورة النمل؟ او هي اية من كتاب الله حيث كتب في المصاحف، وليست من السور؟ على ثلاثة اقوال.

والقول الثالث: هو اوسط الاقوال، وبه تجتمع الادلة، فان كتابة الصحابة لها في المصاحف دليل على انها من كتاب الله.

وكونهم فصلوها عن السورة التي بعدها دليل على انها ليست منها.

وقد ثبت في الصحيح ان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «نزلت علي انفا سورة فقرا: بسم الله الرحمن الرحيم {انا اعطيناك الكوثر}[الكوثر: 1] الى اخرها» .

وثبت في الصحيح «انه اول ما جاء الملك بالوحي قال: {اقرا باسم ربك الذي خلق}[العلق: 1] {خلق الانسان من علق}[العلق: 2] {اقرا وربك الاكرم}[العلق: 3] {الذي علم بالقلم}[العلق: 4] {علم الانسان ما لم يعلم}[العلق: 5] » ، فهذا اول ما نزل، ولم ينزل قبل ذلك (بسم الله الرحمن الرحيم) وثبت عنه في السنن انه قال: «سورة من القران ثلاثون اية شفعت لرجل حتى غفر له، وهي {تبارك الذي بيده الملك}[الملك: 1] » .

وهي ثلاثون اية بدون البسملة.

وثبت عنه في الصحيح انه قال: «يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، نصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سال.

فاذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين}[الفاتحة: 2] قال الله: حمدني عبدي فاذا قال: {الرحمن الرحيم}[الفاتحة: 3] قال الله: اثنى علي عبدي.

فاذا قال: {مالك يوم الدين}[الفاتحة: 4] قال الله: مجدني عبدي.

فاذا قال: {اياك نعبد واياك نستعين}[الفاتحة: 5] قال: هذه الاية بيني وبين عبدي نصفين.

ولعبدي ما سال.

فاذا قال العبد: {اهدنا الصراط المستقيم}[الفاتحة: 6] {صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين}[الفاتحة: 7] قال الله: هولاء لعبدي ولعبدي ما سال» فهذا الحديث صحيح صريح في انها ليست من الفاتحة، ولم يعارضه حديث صحيح صريح.

واجود ما يرى في هذا الباب من الحديث انما يدل على انه يقرا بها في اول الفاتحة، لا يدل على انها منها، ولهذا كان القراء منهم من يقرا بها في اول السورة ومنهم من لا يقرا بها، فدل على ان كلا الامرين سايغ، لكن من قرا بها كان قد اتى بالافضل، وكذلك من كرر قراءتها في اول كل سورة كان احسن ممن ترك قراءتها؛ لانه قرا ما كتبته الصحابة في المصاحف، فلو قدر انهم كتبوها على وجه التبرك لكان ينبغي ان تقرا على وجه التبرك، والا فكيف يكتبون في المصحف ما لا يشرع قراءته، وهم قد جردوا المصحف عما ليس من القران، حتى انهم لم يكتبوا التامين، ولا اسماء السور ولا التخميس، والتعشير، ولا غير ذلك.

مع ان السنة للمصلي ان يقول عقب الفاتحة: امين، فكيف يكتبون ما لا يشرع ان يقوله، وهم لم يكتبوا ما يشرع ان يقوله المصلي من غير القران، فاذا جمع بين الادلة الشرعية دلت على انها من كتاب الله، وليست من السورة والحديث الصحيح عن انس ليس فيه نفي قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - وابي بكر وعمر وعثمان «فلم اسمع احدا منهم يقرا بسم الله الرحمن الرحيم» او «فلم يكونوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم» ورواية من روى «فلم يكونوا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في اول قراءة ولا اخرها» انما تدل على نفي الجهر، لان انسا لم ينف الا ما علم، وهو لا يعلم ما كان يقوله النبي - صلى الله عليه وسلم - سرا.

ولا يمكن ان يقال: ان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يسكت، بل يصل التكبير بالقراءة، فانه قد ثبت في الصحيحين ان «ابا هريرة قال له: ارايت سكوتك بين التكبير والقراءة، ماذا تقول» ومن تاول حديث انس على نفي قراءتها سرا فهو مقابل لقول من قال مراد انس انهم كانوا يفتتحون بفاتحة الكتاب قبل غيرها من السور، وهذا ايضا ضعيف فان هذا من العلم العام الذي ما زال الناس يفعلونه، وقد كان الحجاج بن يوسف وغيره من الامراء الذين صلى خلفهم انس يقرءون الفاتحة قبل السورة، ولم ينازع في ذلك احمد ولا سيل عن ذلك احد لا انس ولا غيره، ولا يحتاج ان يروي انس هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه، ومن روى عن انس انه شك هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرا البسملة او لا يقراها، فروايته توافق الروايات الصحيحة، لان انسا لم يكن يعلم هل قراها سرا ام لا، وانما نفى الجهر.

ومن هذا الباب الذي اتفق العلماء على انه يجوز فيه الامران: فعل الرواتب في السفر، فانه من شاء فعلها، ومن شاء تركها، باتفاق الايمة، والصلاة التي يجوز فعلها وتركها، قد يكون فعلها احيانا افضل لحاجة الانسان اليها، وقد يكون تركها افضل اذا كان مشتغلا عن النافلة بما هو افضل منها؛ لكن «النبي - صلى الله عليه وسلم - في السفر لم يكن يصلي من الرواتب الا ركعتي الفجر والوتر» ، «ولما نام عن الفجر صلى السنة والفريضة بعدما طلعت الشمس» ، «وكان يصلي على راحلته قبل اي وجه توجهت به، ويوتر عليها» ، غير انه لا يصلي عليها المكتوبة وهذا كله ثابت في الصحيح.

فاما الصلاة قبل الظهر وبعدها، وبعد المغرب، فلم ينقل احد عنه انه فعل ذلك في السفر.

وقد تنازع العلماء في السنن الرواتب مع الفريضة.

فمنهم من لم يوقت في ذلك شييا.

ومنهم من وقت اشياء باحاديث ضعيفة؛ بل احاديث يعلم اهل العلم بالحديث انها موضوعة، كما يوقت ستا قبل الظهر، واربعا بعدها، واربعا قبل العصر، واربعا قبل العشاء، واربعا بعدها ونحو ذلك.

والصواب في هذا الباب القول بما ثبت في الاحاديث الصحيحة دون ما عارضها، وقد ثبت في الصحيح ثلاثة احاديث: حديث ابن عمر قال: «حفظت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر» وحديث عايشة «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي قبل الظهر اربعا» ، وهو في الصحيح ايضا، وسايره في صحيح مسلم، كحديث ابن عمر، وهكذا في الصحيح، وفي رواية صححها الترمذي «صلى قبل الظهر ركعتين» .

وحديث ام حبيبة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صلى في يوم وليلة اثنتي عشرة ركعة تطوعا غير فريضة بنى الله له بيتا في الجنة» .

وقد جاء في السنن تفسيرها: «اربعا قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر» فهذا الحديث الصحيح فيه انه رغب بقوله في ثنتي عشرة ركعة.

وفي الحديثين الصحيحين: «انه كان يصلي مع المكتوبة اما عشر ركعات، واما اثنتي عشرة ركعة» ، «وكان يقوم من الليل احدى عشرة ركعة، او ثلاث عشرة ركعة» ، فكان مجموع صلاة الفريضة والنافلة في اليوم والليلة نحو اربعين ركعة، كان يوتر صلاة النهار بالمغرب، ويوتر صلاة الليل بوتر الليل.

وقد ثبت عنه في الصحيح انه قال: «بين كل اذانين صلاة، بين كل اذانين صلاة، بين كل اذانين صلاة، وقال: في الثالثة لمن شاء» كراهية ان يتخذها الناس سنة.

وثبت في الصحيح ان «اصحابه كانوا يصلون بين اذان المغرب واقامتها ركعتين، وهو يراهم ولا ينهاهم» ، فاذا كان التطوع بين اذاني المغرب مشروعا، فلان يكون مشروعا بين اذاني العصر والعشاء بطريق الاولى لان السنة تعجيل المغرب باتفاق الايمة، فدل ذلك على ان الصلاة قبل العصر، وقبل المغرب، وقبل العشاء: من التطوع المشروع، وليس هو من السنن الراتبة التي قدرها بقوله، ولا داوم عليها بفعله.

ومن ظن انه كان له سنة يصليها قبل العصر قضاها بعد العصر فقد غلط، وانما كانت تلك ركعتي الظهر لما فاتته قضاها بعد العصر، وما يفعل بعد الظهر فهو قبل العصر، ولم يقض بعد العصر الا الركعتين بعد الظهر.

والتطوع المشروع كالصلاة بين الاذانين، وكالصلاة وقت الضحى، ونحو ذلك، هو كساير التطوعات من الذكر القراءة والدعاء مما قد يكون مستحبا لمن لا يشتغل عنه بما هو افضل منه، ولا يكون مستحبا لمن اشتغل عنه بما هو افضل منه، والمداومة على القليل افضل من كثير لا يداوم عليه؛ ولهذا كان عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ديمة.

واستحب الايمة ان يكون للرجل عدد من الركعات يقوم بها من الليل لا يتركها، فان نشط اطالها، وان كسل خففها، واذا نام عنها صلى بدلها من النهار، كما كان «النبي - صلى الله عليه وسلم - اذا نام عن صلاة الليل صلى في النهار اثنتي عشرة ركعة» ، وقال: «من نام عن حزبه فقراه ما بين صلاة الفجر الى صلاة الظهر كتب له كانما قراه من الليل» .

ومن هذا الباب صلاة الضحى فان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يداوم عليها باتفاق اهل العلم بسنته، ومن زعم من الفقهاء ان ركعتي الضحى كانتا واجبتين عليه، فقد غلط.

والحديث الذي يذكرونه «ثلاث هن علي فريضة، ولكم تطوع: الوتر، والفجر، وركعتا الضحى» حديث موضوع: بل ثبت في حديث صحيح لا معارض له ان النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وقت الضحى لسبب عارض؛ لا لاجل الوقت: مثل ان ينام من الليل، فيصلي من النهار اثنتي عشرة ركعة، ومثل ان يقدم من سفر وقت الضحى، فيدخل المسجد فيصلي فيه.

ومثل ما «صلى لما فتح مكة ثماني ركعات» ، وهذه الصلاة كانوا يسمونها صلاة الفتح؛ وكان من الامراء من يصليها اذا فتح مصرا، فان النبي - صلى الله عليه وسلم - انما صلاها لما فتح مكة.

ولو كان سببها مجرد الوقت كقيام الليل، لم يختص بفتح مكة؛ ولهذا كان من الصحابة من لا يصلي الضحى؛ لكن قد ثبت في الصحيحين عن ابي هريرة - رضي الله عنه - قال: «اوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة ايام من كل شهر، وركعتي الضحى، وان اوتر قبل ان انام» .

وفي رواية لمسلم: «وركعتي الضحى كل يوم» .

وفي صحيح مسلم عن ابي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يصبح على كل سلامى من احدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة وامر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزي من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى» .

وفي صحيح مسلم عن زيد بن ارقم قال: «خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - على اهل قباء وهم يصلون الضحى، فقال: صلاة الاوابين اذا رمضت الفصال من الضحى» .

وهذه الاحاديث الصحيحة وامثالها تبين ان الصلاة وقت الضحى حسنة محبوبة.

بقي ان يقال: فهل الافضل المداومة عليها؟ كما في حديث ابي هريرة او الافضل ترك المداومة اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -؟ هذا مما تنازعوا فيه.

والاشبه ان يقال: من كان مداوما على قيام الليل اغناه عن المداومة على صلاة الضحى، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل، ومن كان ينام عن قيام الليل فصلاة الضحى بدل عن قيام الليل.

وفي حديث ابي هريرة «انه اوصاه ان يوتر قبل ان ينام» ، وهذا انما يوصى به من لم يكن عادته قيام الليل، والا فمن كانت عادته قيام الليل، وهو يستيقظ غالبا من الليل، فالوتر اخر الليل افضل له، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «من خشي ان لا يستيقظ اخر الليل فليوتر اوله، ومن طمع ان يستيقظ اخره فليوتر اخره، فان صلاة اخر الليل مشهودة، وذلك افضل» وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «انه سيل: اي الصلاة افضل بعد المكتوبة؟ فقال: قيام الليل» .

What's Your Reaction?

like
0
dislike
0
love
0
funny
0
angry
0
sad
0
wow
0