مسالة نكاح الزانية

مسالة نكاح الزانية

مسالة نكاح الزانية

مسالة:

قال الشيخ - رحمه الله -: " نكاح الزانية " حرام حتى تتوب، سواء كان زنى بها هو او غيره هذا هو الصواب بلا ريب، وهو مذهب طايفة من السلف والخلف: منهم احمد بن حنبل وغيره، وذهب كثير من السلف الى جوازه، وهو قول الثلاثة؛ لكن مالك يشترط الاستبراء، وابو حنيفة يجوز العقد قبل الاستبراء اذا كانت حاملا؛ لكن اذا كانت حاملا لا يجوز وطوها حتى تضع، والشافعي يبيح العقد والوطء مطلقا؛ لان ماء الزاني غير محترم، وحكمه لا يلحقه نسبه.

هذا ماخذه.

وابو حنيفة يفرق بين الحامل وغير الحامل؛ فان الحامل اذا وطيها استلحق ولدا ليس منه قطعا؛ بخلاف غير الحامل.

ومالك واحمد يشترطان " الاستبراء " وهو الصواب؛ لكن مالك واحمد في رواية يشترطان الاستبراء بحيضة، والرواية الاخرى عن احمد هي التي عليها كثير من اصحابه كالقاضي ابي يعلى واتباعه انه لا بد من ثلاث حيض، والصحيح انه لا يجب الا الاستبراء فقط؛ فان هذه ليست زوجة يجب عليها عدة، وليست اعظم من المستبراة التي يلحق ولدها سيدها، وتلك لا يجب عليها الا الاستبراء، فهذه اولى.

وان قدر انها حرة - كالتي اعتقت بعد وطء سيدها واريد تزويجها اما من المعتق واما من غيره - فان هذه عليها استبراء عند الجمهور، ولا عدة عليها.

وهذه الزانية ليست كالموطوءة بشبهة التي يلحق ولدها بالواطي؛ مع ان في ايجاب العدة على تلك نزاعا.

وقد ثبت بدلالة الكتاب وصريح السنة واقوال الصحابة: ان " المختلعة " ليس عليها الا الاستبراء بحيضة؛ لا عدة كعدة المطلقة، وهو احدى الروايتين عن احمد، وقول عثمان بن عفان، وابن عباس، وابن عمر في اخر قوليه.

وذكر مكي: انه اجماع الصحابة، وهو قول قبيصة بن ذويب واسحاق بن راهويه، وابن المنذر، وغيرهم من فقهاء الحديث.

وهذا هو الصحيح كما قد بسطنا الكلام على هذا في موضع اخر.

فاذا كانت المختلعة لكونها ليست مطلقة ليس عليها عدة المطلقة بل الاستبراء - ويسمى الاستبراء عدة - فالموطوءة بشبهة اولى، والزانية اولى.

وايضا " فالمهاجرة " من دار الكفر كالممتحنة التي انزل الله فيها: {يا ايها الذين امنوا اذا جاءكم المومنات مهاجرات فامتحنوهن}[الممتحنة: 10] الاية.

قد ذكرنا في غير هذا الموضع الحديث الماثور فيها، وان ذلك كان يكون بعد استبرايها بحيضة، مع انها كانت مزوجة؛ لكن حصلت الفرقة باسلامها واختيارها فراقه؛ لا بطلاق منه.

وكذلك قوله: {والمحصنات من النساء الا ما ملكت ايمانكم}[النساء: 24] فكانوا اذا سبوا المراة ابيحت بعد الاستبراء، والمسبية ليس عليها الاستبراء بالسنة واتفاق الناس، وقد يسمى ذلك عدة.

وفي السنن في حديث «بريرة لما اعتقت: ان النبي - صلى الله عليه وسلم - امر ان تعتد» فلهذا قال من قال من اهل الظاهر كابن حزم: ان من ليست بمطلقة تستبرا بحيضة الا هذه.

وهذا ضعيف؛ فان لفظ " تعتد " في كلامهم يراد به الاستبراء، كما ذكرنا هذه، وقد روى ابن ماجه عن عايشة «ان النبي - صلى الله عليه وسلم - امرها ان تعتد بثلاث حيض» فقال كذا، لكن هذا حديث معلول.

اما " اولا " فان عايشة قد ثبت عنها من غير وجه ان العدة عندها ثلاثة اطهار، وانها اذا طعنت في الحيضة الثالثة حلت، فكيف تروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه امرها ان تعتد بثلاث حيض؟ ، والنزاع بين المسلمين من عهد الصحابة الى اليوم في العدة: هل هي ثلاث حيض، او ثلاثة اطهار؟ وما سمعنا احدا من اهل العلم احتج بهذا الحديث على انها ثلاث حيض، ولو كان لهذا اصل عن عايشة لم يخف ذلك على اهل العلم قاطبة.

ثم هذه سنة عظيمة تتوافر الهمم والدواعي على معرفتها؛ لان فيها امرين عظيمين " احدهما " ان المعتقة تحت عبد تعتد بثلاث حيض.

" والثاني " ان العدة ثلاث حيض.

وايضا فلو ثبت ذلك كان يحتج به من يرى ان المعتقة اذا اختارت نفسها كان ذلك طلقة باينة كقول مالك وغيره، وعلى هذا فالعدة لا تكون الا من طلاق؛ لكن هذا ايضا قول ضعيف.

والقران والسنة والاعتبار يدل على ان الطلاق لا يكون الا رجعيا، وان كل فرقة مباينة فليست من الطلقات الثلاث حتى الخلع، كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع.

والمقصود هنا الكلام في " نكاح الزانية " وفيه مسالتان " احداهما " في استبرايها، وهو عدتها، وقد تقدم قول من قال: لا حرمة لماء الزاني.

يقال له: الاستبراء لم يكن لحرمة ماء الاول؛ بل لحرمة ماء الثاني؛ فان الانسان ليس له ان يستلحق ولدا ليس منه، وكذلك اذا لم يستبريها وكانت قد علقت من الزاني.

وايضا ففي استلحاق الزاني ولده اذا لم تكن المراة فراشا قولان لاهل العلم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الولد للفراش، وللعاهر الحجر» فجعل الولد للفراش؛ دون العاهر.

فاذا لم تكن المراة فراشا لم يتناوله الحديث، وعمر الحق اولادا ولدوا في الجاهلية بابايهم، وليس هذا موضع بسط هذه المسالة.

" والثانية " انها لا تحل حتى تتوب؛ وهذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة والاعتبار؛ والمشهور في ذلك اية النور قوله تعالى: {الزاني لا ينكح الا زانية او مشركة والزانية لا ينكحها الا زان او مشرك وحرم ذلك على المومنين}[النور: 3] وفي السنن حديث ابي مرثد الغنوي في عناق.

والذين لم يعملوا بهذه الاية ذكروا لها تاويلا ونسخا، اما التاويل: فقالوا المراد بالنكاح الوطء، وهذا مما يظهر فساده بادنى تامل.

اما " اولا " فليس في القران لفظ نكاح الا ولا بد ان يراد به العقد، وان دخل فيه الوطء ايضا.

فاما ان يراد به مجرد الوطء فهذا لا يوجد في كتاب الله قط.

وثانيها " ان سبب نزول الاية انما هو استفتاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في التزوج بزانية، فكيف يكون سبب النزول خارجا من اللفظ،؟ " الثالث " ان قول القايل: الزاني لا يطا الا زانية، او الزانية لا يطوها الا زان، كقوله: الاكل لا ياكل الا ماكولا، والماكول لا ياكله الا اكل، والزوج لا يتزوج الا بزوجة، والزوجة لا يتزوجها الا زوج؛ وهذا كلام ينزه عنه كلام الله.

" الرابع " ان الزاني قد يستكره امراة فيطوها فيكون زانيا ولا تكون زانية، وكذلك المراة قد تزني بنايم ومكره على احد القولين، ولا يكون زانيا.

" الخامس " ان تحريم الزنا قد علمه المسلمون بايات نزلت بمكة، وتحريمه اشهر من ان تنزل هذه الاية بتحريمه.

" السادس " قال: {لا ينكحها الا زان او مشرك}[النور: 3] " فلو اريد الوطء لم يكن حاجة الى ذكر المشرك فانه زان، وكذلك المشركة اذا زنى بها رجل فهي زانية فلا حاجة الى التقسيم.

" السابع " انه قد قال قبل ذلك: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما ماية جلدة}[النور: 2] فاي حاجة الى ان يذكر تحريم الزنا بعد ذلك؟ ، واما " النسخ " فقال سعيد بن المسيب وطايفة: نسخها قوله: {وانكحوا الايامى منكم}[النور: 32] .

ولما علم اهل هذا القول ان دعوى النسخ بهذه الاية ضعيف جدا، ولم يجدوا ما ينسخها، فاعتقدوا انه لم يقل بها احد قالوا: هي منسوخة بالاجماع، كما زعم ذلك ابو علي الجبايي وغيره.

اما على قول من يرى من هولاء ان الاجماع ينسخ النصوص كما يذكر ذلك عن عيسى بن ابان وغيره، وهو قول في غاية الفساد مضمونه ان الامة يجوز لها تبديل دينها بعد نبيها، وان ذلك جايز لهم، كما تقول النصارى: ابيح لعلمايهم ان ينسخوا من شريعة المسيح ما يرونه؛ وليس هذا من اقوال المسلمين.

وممن يظن الاجماع من يقول: الاجماع دل على نص ناسخ لم يبلغنا؛ ولا حديث اجماع في خلاف هذه الاية.

وكل من عارض نصا باجماع وادعى نسخه من غير نص يعارض ذلك النص فانه مخطي في ذلك، كما قد بسط الكلام على هذا في موضع اخر، وبين ان النصوص لم ينسخ منها شيء الا بنص باق محفوظ عند الامة.

وعلمها بالناسخ الذي العمل به اهم عندها من علمها بالمنسوخ الذي لا يجوز العمل به، وحفظ الله النصوص الناسخة اولى من حفظه المنسوخة.

وقول من قال: هي منسوخة بقوله: {وانكحوا الايامى منكم}[النور: 32] في غاية الضعف؛ فان كونها زانية وصف عارض لها، يوجب تحريما عارضا: مثل كونها محرمة، ومعتدة، ومنكوحة للغير؛ ونحو ذلك مما يوجب التحريم الى غاية، ولو قدر انها محرمة على التابيد لكانت كالوثنية، ومعلوم ان هذه الاية لم تتعرض للصفات التي بها تحرم المراة مطلقا او موقتا؛ وانما امر بانكاح الايامى من حيث الجملة؛ وهو امر بانكاحهن بالشروط التي بينها وكما انها لا تنكح في العدة والاحرام لا تنكح حتى تتوب.

وقد احتجوا بالحديث الذي فيه: «ان امراتي لا ترد يد لامس.

فقال طلقها.

فقال: اني احبها.

قال: فاستمتع بها» .

الحديث.

رواه النسايي، وقد ضعفه احمد وغيره، فلا تقوم به حجة في معارضة الكتاب والسنة، ولو صح لم يكن صريحا، فان من الناس من يوول " اللامس " بطالب المال، لكنه ضعيف.

لكن لفظ " اللامس " قد يراد به من مسها بيده، وان لم يطاها فان من النساء من يكون فيها تبرج، واذا نظر اليها رجل او وضع يده عليها لم تنفر عنه، ولا تمكنه من وطيها.

ومثل هذا نكاحها مكروه؛ ولهذا امره بفراقها، ولم يوجب ذلك عليه، لما ذكر انه يحبها، فان هذه لم تزن، ولكنها مذنبة ببعض المقدمات، ولهذا قال: لا ترد يد لامس؛ فجعل اللمس باليد فقط.

ولفظ " اللمس، والملامسة " اذا عني بهما الجماع لا يخص باليد، بل اذا قرن باليد فهو كقوله تعالى: {ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بايديهم}[الانعام: 7] .

وايضا فالتي تزني بعد النكاح ليست كالتي تتزوج وهي زانية؛ فان دوام النكاح اقوى من ابتدايه.

والاحرام والعدة تمنع الابتداء دون الدوام فلو قدر انه قام دليل شرعي على ان الزانية بعد العقد لا يجب فراقها، لكان الزنا كالعدة تمنع الابتداء دون الدوام جمعا بين الدليلين.

فان قيل: ما معنى قوله: {لا ينكحها الا زان او مشرك}[النور: 3] ؟ قيل: المتزوج بها ان كان مسلما فهو زان، وان لم يكن مسلما فهو كافر.

فان كان مومنا بما جاء به الرسول من تحريم هذا وفعله فهو زان، وان لم يكن مومنا بما جاء به الرسول فهو مشرك، كما كانوا عليه في الجاهلية، كانوا يتزوجون البغايا.

يقول: فان تزوجتم بهن كما كنتم تفعلون من غير اعتقاد تحريم ذلك فانتم مشركون، وان اعتقدتم التحريم فانتم زناة.

لان هذه تمكن من نفسها غير الزوج من وطيها، فيبقى الزوج يطوها كما يطوها اوليك، وكل امراة اشترك في وطيها رجلان فهي زانية، فان الفروج لا تحتمل الاشتراك، بل لا تكون الزوجة الا محصنة.

ولهذا لما كان المتزوج بالزانية زانيا كان مذموما عند الناس، وهو مذموم اعظم مما يذم الذي يزني بنساء الناس، ولهذا يقول في " الشتمة ": سبه بالزاي والقاف.

اي قال: يا زوج القحبة، فهذا اعظم ما يتشاتم به الناس، لما قد استقر عند المسلمين من قبح ذلك، فكيف يكون مباحا؟ ، ولهذا كان قذف المراة طعنا في زوجها، فلو كان يجوز له التزوج ببغي لم يكن ذلك طعنا في الزوج، ولهذا قال من قال من السلف: ما بغت امراة نبي قط.

فالله تعالى اباح للانبياء ان يتزوجوا كافرة، ولم يبح تزوج البغي؛ لان هذه تفسد مقصود النكاح؛ بخلاف الكافرة، ولهذا اباح الله للرجل ان يلاعن مكان اربعة شهداء اذا زنت امراته واسقط عنه الحد بلعانه؛ لما في ذلك من الضرر عليه.

وفي الحديث: «لا يدخل الجنة ديوث» .

والذي يتزوج ببغي هو ديوث، وهذا مما فطر الله على ذمه وعيبه بذلك جميع عباده المومنين بل وغير المسلمين من اهل الكتاب وغيرهم، كلهم يذم من تكون امراته بغيا، ويشتم بذلك، ويعير به فكيف ينسب الى شرع الاسلام اباحة ذلك،؟ وهذا لا يجوز ان ياتي به نبي من الانبياء، فضلا عن افضل الشرايع؛ بل يجب ان تنزه الشريعة عن مثل هذا القول الذي اذا تصوره المومن ولوازمه استعظم ان يضاف مثل هذا الى الشريعة، وراى ان تنزيهها عنه اعظم من تنزيه عايشة عما قاله اهل الافك.

وقد امر الله المومنين ان يقولوا: {سبحانك هذا بهتان عظيم}[النور: 16] والنبي - صلى الله عليه وسلم - انما لم يفارق عايشة لانه لم يصدق ما قيل اولا، ولما حصل له الشك استشار عليا، وزيد بن حارثة، وسال الجارية؛ لينظر ان كان حقا فارقها، حتى انزل الله براءتها من السماء، فذلك الذي ثبت نكاحها.

ولم يقل مسلم: انه يجوز امساك بغي.

وكان المنافقون يقصدون بالكلام فيها الطعن في الرسول، ولو جاز التزوج ببغي لقال: هذا لا حرج علي فيه، كما كان النساء احيانا يوذينه حتى يهجرهن، فليس ذنوب المراة طعنا؛ بخلاف بغايها فانه طعن فيه عند الناس قاطبة، ليس احد يدفع الذم عمن تزوج بمن يعلم انها بغية مقيمة على البغاء، ولهذا توسل المنافقون الى الطعن حتى انزل الله براءتها من السماء، وقد كان سعد بن معاذ لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من يعذرني من رجل بلغني اذاه في اهلي؟ ، والله ما علمت على اهلي الا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه الا خيرا فقام: سعد بن معاذ - الذي اهتز لموته عرش الرحمن - فقال: انا اعذرك منه: ان كان من اخواننا من الاوس ضربت عنقه، وان كان من اخواننا الخزرج امرتنا ففعلنا فيه امرك، فاخذت سعد بن عبادة غيرة - قالت عايشة: وكان قبل ذلك امرا صالحا؛ ولكن اخذته حمية؛ لان ابن ابي كان كبير قومه - فقال كذبت لعمر الله لا تقتله، ولا تقدر على قتله.

فقام اسيد بن حضير: فقال: كذبت، لعمر الله لاقتلنه؛ فانك منافق تجادل عن المنافقين.

وثار الحيان حتى نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

فجعل يسكنهم» .

فلولا ان ما قيل في عايشة طعن في النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يطلب المومنون قتل من تكلم بذلك من الاوس والخزرج لقذفه لامراته ولهذا كان من قذف ام النبي - صلى الله عليه وسلم - يقتل.

لانه قدح في نسبه وكذلك من قذف نساءه يقتل؛ لانه قدح في دينه وانما لم يقتلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لانهم تكلموا بذلك قبل ان يعلم براءتها، وانها من امهات المومنين اللاتي لم يفارقهن عليه اذا كان يمكن ان يطلقها فتخرج بذلك من هذه الامومة في اظهر قولي العلماء؛ فان فيمن طلقها النبي - صلى الله عليه وسلم - " ثلاثة اقوال " في مذهب احمد وغيره.

" احدها ": انها ليست من امهات المومنين.

" والثاني ": انها من امهات المومنين.

" والثالث ": يفرق بين المدخول بها وغير المدخول بها.

والاول اصح؛ لان النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خير نساءه بين الامساك والفراق وكان المقصود لمن فارقها ان يتزوجها غيره.

فلو كان هذا مباحا لم يكن ذلك قدحا في دينه.

وبالجملة فهذه المسالة في قلوب المومنين اعظم من ان تحتاج الى كثرة الادلة فان الايمان والقران يحرم مثل ذلك؛ لكن لما كان قد اباح مثل ذلك كثير من علماء المسلمين - الذين لا ريب في علمهم ودينهم من التابعين ومن بعدهم وعلو قدرهم - بنوع تاويل تاولوه احتيج الى البسط في ذلك؛ ولهذا نظاير كثيرة: يكون القول ضعيفا جدا، وقد اشتبه امره على كثير من اهل العلم والايمان وسادات الناس؛ لان الله لم يجعل العصمة عند تنازع المسلمين الا في الرد الى الكتاب والسنة، وكل احد يوخذ من قوله ويترك الا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق على الهوى.

فان قيل: فقد قال: {الزاني لا ينكح الا زانية او مشركة}[النور: 3] ؟ قيل: هذا يدل على ان الزاني الذي لم يتب لا يجوز ان يتزوج عفيفة، كما هو احدى الروايتين عن احمد؛ فانه اذا كان يطا هذه وهذه وهذه كما كان: كان وطوه لهذه من جنس وطيه لغيرها من الزواني، وقد قال الشعبي: من زوج كريمته من فاجر فقد قطع رحمها.

" وايضا " فانه اذا كان يزني بنساء الناس كان هذا مما يدعو المراة الى ان تمكن منها غيره، كما هو الواقع كثيرا، فلم ار من يزني بنساء الناس او ذكر ان الا فيحمل امراته على ان تزني بغيره مقابلة على ذلك ومغايظة.

" وايضا " فاذا كان عادته الزنا استغنى بالبغايا، فلم يكف امراته في الاعفاف، فتحتاج الى الزنا.

" وايضا " فاذا زنى بنساء الناس طلب الناس ان يزنوا بنسايه، كما هو الواقع، فامراة الزاني تصير زانية من وجوه كثيرة، وان استحلت ما حرمه الله كانت مشركة؛ وان لم تزن بفرجها زنت بعينها وغير ذلك، فلا يكاد يعرف في نساء الرجال الزناة المصرين على الزنا الذين لم يتوبوا منه امراة سليمة سلامة تامة، وطبع المراة يدعو الى الرجال الاجانب اذا رات زوجها يذهب الى النساء الاجانب، وقد جاء في الحديث: «بروا اباءكم تبركم ابناوكم، وعفوا تعف نساوكم» .

فقوله: {الزاني لا ينكح الا زانية}[النور: 3] اما ان يراد ان نفس نكاحه ووطيه لها زنا، او ان ذلك يفضي الى زناها.

واما الزانية فنفس وطيها مع اصرارها على الزنا زنا.

وكذلك { {والمحصنات من المومنات}[المايدة: 5] : الحراير، وعن ابن عباس: هن العفايف.

فقد نقل عن ابن عباس تفسير المحصنات بالحراير.

وبالعفايف وهذا حق.

فنقول مما يدل على ذلك قوله تعالى: {يسالونك ماذا احل لهم قل احل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح}[المايدة: 4] ، {وطعام الذين اوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المومنات والمحصنات من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم اذا اتيتموهن اجورهن محصنين غير مسافحين}[المايدة: 5] .

" المحصنات " قد قال اهل التفسير: هن العفايف.

هكذا قال الشعبي، والحسن والنخعي والضحاك، والسدي.

وعن ابن عباس: هن الحراير.

ولفظ (المحصنات) ان اريد به " الحراير " فالعفة داخلة في الاحصان بطريق الاولى؛ فان اصل المحصنة هي العفيفة التي احصن فرجها، قال الله تعالى: {ومريم ابنت عمران التي احصنت فرجها}[التحريم: 12] وقال تعالى: {ان الذين يرمون المحصنات الغافلات المومنات}[النور: 23] وهن العفايف، قال حسان بن ثابت.

حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل ثم عادة العرب ان الحرة عندهم لا تعرف بالزنا؛ وانما تعرف بالزنا الاماء ولهذا «لما بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - هند امراة ابي سفيان على ان لا تزني قالت: اوتزني الحرة؟» ، فهذا لم يكن معروفا عندهم.

والحرة خلاف الامة صارت في عرف العامة ان الحرة هي العفيفة؛ لان الحرة التي ليست امة كانت معروفة عندهم بالعفة، وصار لفظ الاحصان يتناول الحرية مع العفة؛ لان الاماء لم تكن عفايف، وكذلك الاسلام هو ينهى عن الفحشاء والمنكر وكذلك المراة المتزوجة زوجها يحصنها، لانها تستكفي به، ولانه يغار عليها.

فصار لفظ " الاحصان " يتناول: الاسلام، والحرية، والنكاح.

واصله انما هو العفة؛ فان العفيفة هي التي احصن فرجها من غير صاحبها، كالمحصن الذي يمتنع من غير اهله، واذا كان الله انما اباح من المسلمين واهل الكتاب نكاح المحصنات، " والبغايا " لسن محصنات: فلم يبح الله نكاحهن.

ومما يدل على ذلك قوله: {اذا اتيتموهن اجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي اخدان}[المايدة: 5] والمسافح الزاني الذي يسفح ماءه مع هذه وهذه وكذلك المسافحة والمتخذة الخدن الذي يكون له صديقة يزني بها دون غيره فشرط في الحل ان يكون الرجل غير مسافح، ولا متخذ خدن.

فاذا كانت المراة بغيا وتسافح هذا وهذا لم يكن زوجها محصنا لها عن غيره؛ اذ لو كان محصنا لها كانت محصنة، واذا كانت مسافحة لم تكن محصنة.

والله انما اباح النكاح اذا كان الرجال محصنين غير مسافحين، واذا شرط فيه ان لا يزني بغيرها - فلا يسفح ماءه مع غيرها - كان ابلغ، وابلغ.

وقال اهل اللغة: " السفاح " الزنا.

قال ابن قتيبة (محصنين) اي متزوجين (غير مسافحين) قال: واصله من سفحت القربة اذا صببتها.

فسمى " الزنا " سفاحا؛ لانه يصب النطفة، وتصب المراة النطفة.

وقال ابن فارس: " السفاح " صب الماء بلا عقد ولا نكاح، فهي التي تسفح ماءها.

وقال الزجاج: (محصنين) اي عاقدين التزوج.

وقال غيرهما: متعففين غير زانين، وكذلك قال في النساء: {واحل لكم ما وراء ذلكم ان تبتغوا باموالكم محصنين غير مسافحين}[النساء: 24] .

ففي هاتين الايتين اشترط ان يكون الرجال محصنين غير مسافحين بكسر الصاد.

{والمحصن " هو الذي يحصن غيره؛ ليس هو المحصن بالفتح الذي يشترط في الحد.

فلم يبح الا تزوج من يكون محصنا للمراة غير مسافح ومن تزوج ببغي مع بقايها على البغاء ولم يحصنها من غيره - بل هي كما كانت قبل النكاح تبغي مع غيره - فهو مسافح بها لا محصن لها.

وهذا حرام بدلالة القران.

فان قيل: انما اراد بذلك انك تبتغي بمالك النكاح لا تبتغي به السفاح فتعطيها المهر على ان تكون زوجتك ليس لغيرك فيها حق؛ بخلاف ما اذا اعطيتها على انها مسافحة لمن تريد، وانها صديقة لك تزني بك دون غيرك فهذا حرام؟ قيل: فاذا كان النكاح مقصوده انها تكون له؛ لا لغيره، وهي لم تتب من الزنا: لم تكن موفية بمقتضى العقد؟ فان قيل: فانه يحصنها بغير اختيارها، فيسكنها حيث لا يمكنها الزنا؟ قيل: اما اذا احصنها بالقهر فليس هو بمثل الذي يمكنها من الخروج الى الرجال، ودخول الرجال اليها؛ لكن قد عرف بالعادات والتجارب ان المراة اذا كانت لها ارادة في غير الزوج احتالت الى ذلك بطرق كثيرة وتخفي على الزوج، وربما افسدت عقل الزوج بما تطعمه، وربما سحرته ايضا، وهذا كثير موجود: رجال اطعمهم نساوهم، وسحرتهم نساوهم، حتى يمكن المراة ان تفعل ما شاءت؛ وقد يكون قصدها مع ذلك ان لا يذهب هو الى غيرها: فهي تقصد منعه من الحلال، او من الحرام والحلال.

وقد تقصد ان يمكنها ان تفعل ما شاءت فلا يبقى محصنا لها قواما عليها؛ بل تبقى هي الحاكمة عليه.

فاذا كان هذا موجودا فيمن تزوجت ولم تكن بغيا: فكيف بمن كانت بغيا؟ ، والحكايات في هذا الباب كثيرة.

ويا ليتها مع التوبة يلزم معه دوام التوبة: فهذا اذا ابيح له نكاحها، وقيل له: احصنها، واحتفظ امكن ذلك.

اما بدون التوبة فهذا متعذر او متعسر.

ولهذا تكلموا في توبتها فقال ابن عمر واحمد بن حنبل: يراودها على نفسها.

فان اجابته كما كانت تجيبه لم تتب.

وقالت طايفة منهم ابو محمد: لا يراودها؛ لانها قد تكون تابت فاذا راودها نقضت التوبة، ولانه يخاف عليه اذا راودها ان يقع في ذنب معها.

والذين اشترطوا امتحانها قالوا: لا يعرف صدق توبتها بمجرد القول، فصار كقوله: {يا ايها الذين امنوا اذا جاءكم المومنات مهاجرات فامتحنوهن}[الممتحنة: 10] " والمهاجر " قد يتناول التايب، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه، والمهاجر من هجر السوء» فهذه اذا ادعت انها هجرت السوء امتحنت على ذلك، وبالجملة لا بد ان يغلب على قلبه صدق توبتها.

وقوله تعالى: {ولا متخذي اخدان}[المايدة: 5] حرم به ان يتخذ صديقة في السر تزني معه لا مع غيره، وقد قال سبحانه في اية الاماء: {ومن لم يستطع منكم طولا ان ينكح المحصنات المومنات فمن ما ملكت ايمانكم من فتياتكم المومنات والله اعلم بايمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن باذن اهلهن واتوهن اجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات اخدان فاذا احصن فان اتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب}[النساء: 25] فذكر في {الاماء} محصنات غير مسافحات ولا متخذات اخدان، واما " الحراير " فاشترط فيهن ان يكون الرجال محصنين غير مسافحين، وذكر في المايدة {ولا متخذي اخدان}[المايدة: 5] لما ذكر نساء اهل الكتاب، وفي النساء لم يذكر الا غير مسافحين؛ وذلك ان الاماء كن معروفات بالزنا دون الحراير، فاشترط في نكاحهن ان يكن محصنات غير مسافحات ولا متخذات اخدان، فدل ذلك ايضا على ان الامة التي تبغي لا يجوز تزوجها الا اذا تزوجها على انها محصنة يحصنها زوجها، فلا تسافح الرجال ولا تتخذ صديقا.

وهذا من ابين الامور في تحريم نكاح الامة الفاجرة مع ما تقدم.

وقد روي عن ابن عباس (محصنات) عفايف غير زوان (ولا متخذات اخدان) يعني اخلاء: كان اهل الجاهلية يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون ما خفي.

وعنه رواية اخرى: " المسافحات " المعلنات بالزنا " والمتخذات اخدان " ذوات الخليل الواحد.

قال بعض المفسرين: كانت المراة تتخذ صديقا تزني معه ولا تزني مع غيره.

فقد فسر ابن عباس هو وغيره من السلف المحصنات بالعفايف، وهو كما قالوا، وذكروا ان الزنا في الجاهلية كان نوعين: نوعا مشتركا، ونوعا مختصا.

والمشترك ما يظهر في العادة؛ بخلاف المختص فانه مستتر في العادة.

ولما حرم الله المختص وهو شبيه بالنكاح؛ فان النكاح تختص فيه المراة بالرجل: وجب الفرق بين النكاح الحلال والحرام من اتخاذ الاخدان؛ فان هذه اذا كان يزني بها وحدها لم يعرف انها[لم يطاها غيره] ولم يعرف ان الولد الذي تلده منه، ولا يثبت لها خصايص النكاح.

فلهذا كان عمر بن الخطاب يضرب على " نكاح السر " فان نكاح السر من جنس اتخاذ الاخدان شبيه به، لا سيما اذا زوجت نفسها بلا ولي ولا شهود وكتما ذلك: فهذا مثل الذي يتخذ صديقة ليس بينهما فرق ظاهر معروف عند الناس يتميز به عن هذا، فلا يشاء من يزني بامراة صديقة له الا قال: تزوجتها.

ولا يشاء احد ان يقول لمن تزوج في السر: انه يزني بها الا قال ذلك، فلا بد ان يكون بين الحلال والحرام فرق مبين، قال الله تعالى: {وما كان الله ليضل قوما بعد اذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون}[التوبة: 115] وقال تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم}[الانعام: 119] فاذا ظهر للناس ان هذه المراة قد احصنها تميزت عن المسافحات والمتخذات اخدانا، واذا كان يمكنها ان تذهب الى الاجانب لم تتميز المحصنات، كما انه اذا كتم نكاحها فلم يعلم به احد لم تتميز من المتخذات اخدانا.

وقد اختلف العلماء فيما يتميز به هذا عن هذا، فقيل: الواجب الاعلان فقط سواء اشهد او لم يشهد، كقول مالك وكثير من فقهاء الحديث واهل الظاهر واحمد في رواية.

وقيل: الواجب الاشهاد سواء اعلن او لم يعلن، كقول ابي حنيفة والشافعي ورواية عن احمد.

وقيل: يجب الامران وهو الرواية الثالثة عن احمد.

وقيل: يجب احدهما وهو الرواية الرابعة عن احمد.

واشتراط " الاشهاد " وحده ضعيف؛ ليس له اصل في الكتاب ولا في السنة، فانه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه حديث.

ومن الممتنع ان يكون الذي يفعله المسلمون دايما له شروط لم يبينها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وهذا مما تعم به البلوى، فجميع المسلمين يحتاجون الى معرفة هذا.

واذا كان هذا شرطا كان ذكره اولى من ذكر المهر وغيره مما لم يكن له ذكر في كتاب الله ولا حديث ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[فتبين] انه ليس مما اوجبه الله على المسلمين في مناكحهم.

قال احمد بن حنبل وغيره من ايمة الحديث: لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الاشهاد على النكاح شيء، ولو اوجبه لكان الايجاب انما يعرف من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان هذا من الاحكام التي يجب اظهارها واعلانها، فاشتراط المهر اولى؛ فان المهر لا يجب تقديره في العقد بالكتاب والسنة والاجماع، ولو كان قد اظهر ذلك لنقل ذلك عن الصحابة: ولم يضيعوا حفظ ما لا بد للمسلمين عامة من معرفته، فان الهمم والدواعي تتوافر على نقل ذلك، والذي يامر بحفظ ذلك.

وهم قد حفظوا نهيه عن نكاح الشغار، ونكاح المحرم، ونحو ذلك من الامور التي تقع قليلا؛ فكيف النكاح بلا اشهاد اذا كان الله ورسوله قد حرمه وابطله كيف لا يحفظ في ذلك نص عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ، بل لو نقل في ذلك شيء من اخبار الاحاد لكان مردودا عند من يرى مثل ذلك؛ فان هذا من اعظم ما تعم به البلوى اعظم من البلوى بكثير من الاحكام، فيمتنع ان يكون كل نكاح للمسلمين لا يصح الا باشهاد؛ وقد عقد المسلمون من عقود الانكحة ما لا يحصيه الا رب السموات؛ فعلم ان اشتراط الاشهاد دون غيره باطل قطعا؛ ولهذا كان المشترطون للاشهاد مضطربين اضطرابا يدل على فساد الاصل، فليس لهم قول يثبت على معيار الشرع، اذا كان فيهم من يجوزه بشهادة فاسقين، والشهادة التي لا تجب عندهم قد امر الله فيها باشهاد ذوي العدل، فكيف بالاشهاد الواجب؟ ، ثم من العجب ان الله امر " بالاشهاد في الرجعة " ولم يامر به في النكاح، ثم يومرون به في النكاح ولا يوجبه اكثرهم في الرجعة، والله امر بالاشهاد في الرجعة؛ ليلا ينكر الزوج ويدوم مع امراته، فيفضي الى اقامته معها حراما؛ ولم يامر بالاشهاد على طلاق لا رجعة معه، لانه حينيذ يسرحها باحسان عقيب العدة فيظهر الطلاق.

ولهذا قال يزيد بن هارون مما يعيب به اهل الراي: امر الله بالاشهاد في البيع دون النكاح؛ وهم امروا به في النكاح دون البيع، وهو كما قال.

والاشهاد في البيع اما واجب واما مستحب، وقد دل القران والسنة على انه مستحب، واما النكاح فلم يرد الشرع فيه باشهاد واجب ولا مستحب، وذلك ان النكاح امر فيه بالاعلان فاغنى اعلانه مع دوامه عن الاشهاد، فان المراة تكون عند الرجل والناس يعلمون انها امراته، فكان هذا الاظهار الدايم مغنيا عن الاشهاد كالنسب؛ فان النسب لا يحتاج الى ان يشهد فيه احدا على ولادة امراته؛ بل هذا يظهر ويعرف ان امراته ولدت هذا فاغنى هذا عن الاشهاد؛ بخلاف البيع؛ فانه قد يجحد ويتعذر اقامة البينة عليه، ولهذا اذا كان النكاح في موضع لا يظهر فيه كان اعلانه بالاشهاد.

فالاشهاد قد يجب في النكاح؛ لانه به يعلن ويظهر؛ لا لان كل نكاح لا ينعقد الا بشاهدين؛ بل اذا زوجه وليته ثم خرجا فتحدثا بذلك وسمع الناس، او جاء الشهود والناس بعد العقد فاخبروهم بانه تزوجها: كان هذا كافيا.

وهكذا كانت عادة السلف، لم يكونوا يكلفون احضار شاهدين، ولا كتابة صداق.

ومن القايلين بالايجاب من اشتراط شاهدين مستورين، وهو لا يقبل عند الاداء الا من تعرف عدالته: فهذا ايضا لا يحصل به المقصود.

وقد شذ بعضهم فاوجب من يكون معلوم العدالة؛ وهذا مما يعلم فساده قطعا، فان انكحة المسلمين لم يكونوا يلتزمون فيها هذا.

وهذه الاقوال الثلاثة في مذهب احمد على قوله باشتراط الشهادة.

فقيل: يجزي فاسقان: كقول ابي حنيفة.

وقيل: يجزي مستوران، وهذا المشهور عن مذهبه، ومذهب الشافعي.

وقيل: في المذهب لا بد من معروف العدالة.

وقيل: بل ان عقد حاكم فلا يعقده الا بمعروف العدالة؛ بخلاف غيره؛ فان الحكام هم الذين يميزون بين المبرور والمستور.

ثم المعروف العدالة عند حاكم البلد: فهو خلاف ما اجمع المسلمون عليه قديما وحديثا: حيث يعقدون الانكحة فيما بينهم، والحاكم بينهم والحاكم لا يعرفهم.

وان اشترطوا من يكون مشهورا عندهم بالخير فليس من شرط العدل المقبول الشهادة ان يكون كذلك.

ثم الشهود يموتون وتتغير احوالهم، وهم يقولون: مقصود الشهادة اثبات الفراش عند التجاحد، حفظا لنسب الولد.

فيقال: هذا حاصل باعلان النكاح، ولا يحصل بالاشهاد مع الكتمان مطلقا.

فالذي لا ريب فيه ان النكاح مع الاعلان يصح، وان لم يشهد شاهدان.

واما مع الكتمان والاشهاد فهذا مما ينظر فيه.

واذا اجتمع الاشهاد والاعلان.

فهذا الذي لا نزاع في صحته.

وان خلا عن الاشهاد والاعلان: فهو باطل عند العامة.

فان قدر فيه خلاف فهو قليل.

وقد يظن ان في ذلك خلافا في مذهب احمد؛ ثم يقال بما يميز هذا عن المتخذات اخدانا.

وفي المشترطين للشهادة من اصحاب ابي حنيفة من لا يعلل ذلك باثبات الفراش؛ لكن كان المقصود حضور اثنين تعظيما للنكاح.

وهذا يعود الى مقصود الاعلان.

واذا كان الناس ممن يجهل بعضهم حال بعض، ولا يعرف من عنده هل هي امراته او خدينه، مثل الاماكن التي يكثر فيها الناس المجاهيل: فهذا قد يقال: يجب الاشهاد هنا.

ولم يكن الصحابة يكتبون " صداقات " لانهم لم يكونوا يتزوجون على موخر؛ بل يعجلون المهر، وان اخروه فهو معروف؛ فلما صار الناس يتزوجون على الموخر والمدة تطول وينسى: صاروا يكتبون الموخر، وصار ذلك حجة في اثبات الصداق؛ وفي انها زوجة له؛ لكن هذا الاشهاد يحصل به المقصود؛ سواء حضر الشهود العقد او جاءوا بعد العقد فشهدوا على اقرار الزوج والزوجة والولي وقد علموا ان ذلك نكاح قد اعلن، واشهادهم عليه من غير تواص بكتمانه اعلان.

وهذا بخلاف " الولي " فانه قد دل عليه القران في غير موضع والسنة في غير موضع، وهو عادة الصحابة، انما كان يزوج النساء الرجال، لا يعرف ان امراة تزوج نفسها.

وهذا مما يفرق فيه بين النكاح ومتخذات اخدان ولهذا قالت عايشة: لا تزوج المراة نفسها؛ فان البغي هي التي تزوج نفسها.

لكن لا يكتفى بالولي حتى يعلن؛ فان من الاولياء من يكون مستحسنا على قرابته قال الله تعالى: {وانكحوا الايامى منكم والصالحين من عبادكم وامايكم}[النور: 32] وقال تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يومن}[البقرة: 221] فخاطب الرجال بانكاح الايامى، كما خاطبهم بتزويج الرقيق.

وفرق بين قوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركين}[البقرة: 221] وقوله: {ولا تنكحوا المشركات}[البقرة: 221] .

وهذا الفرق مما احتج به بعض السلف من اهل البيت.

" وايضا " فان الله اوجب الصداق في غير هذا الموضع، ولم يوجب الاشهاد.

فمن قال: ان النكاح يصح مع نفي المهر، ولا يصح الا مع الاشهاد: فقد اسقط ما اوجبه الله، واوجب ما لم يوجبه الله.

وهذا مما يبين ان قول المدنيين واهل الحديث اصح من قول الكوفيين في تحريمهم " نكاح الشغار " وان علة ذلك انما هو نفي المهر، فحيث يكون المهر: فالنكاح صحيح، كما هو قول المدنيين، وهو انص الروايتين، واصرحهما عن احمد بن حنبل، واختيار قدماء اصحابه.

وهذا وامثاله مما يبين رجحان اقوال اهل الحديث والاثر واهل الحجاز - كاهل المدينة - على ما خالفها من الاقوال التي قيلت براي يخالف النصوص؛ لكن الفقهاء الذين قالوا براي يخالف النصوص بعد اجتهادهم واستفراغ وسعهم - رضي الله عنهم - قد فعلوا ما قدروا عليه من طلب العلم واجتهدوا، والله يثيبهم، وهم مطيعون لله سبحانه في ذلك، والله يثيبهم على اجتهادهم: فاجرهم الله على ذلك؛ وان كان الذين علموا ما جاءت به النصوص افضل ممن خفيت عليه النصوص.

وهولاء لهم اجران، واوليك لهم اجر كما قال تعالى: {وداود وسليمان اذ يحكمان في الحرث اذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين}[الانبياء: 78] {ففهمناها سليمان وكلا اتينا حكما وعلما}[الانبياء: 79] .

ومن تدبر نصوص الكتاب والسنة وجدها مفسرة لامر النكاح، لا تشترط فيه ما يشترطه طايفة من الفقهاء؛ كما اشترط بعضهم: الا يكون الا بلفظ الانكاح والتزويج.

واشترط بعضهم: ان يكون بالعربية.

واشترط هولاء وطايفة: الا يكون الا بحضرة شاهدين.

ثم انهم مع هذا صححوا النكاح مع نفي المهر.

ثم صاروا طايفتين: طايفة تصحح " نكاح الشغار " لانه لا مفسد له الا نفي المهر، وذلك ليس بمفسد عندهم.

وطايفة تبطله، وتعلل ذلك بعلل فاسدة؛ كما قد بسطناه في مواضع.

وصححوا " نكاح المحلل " الذي يقصد التحليل، فكان قول اهل الحديث واهل المدينة الذين لم يشترطوا لفظا معينا في النكاح ولا اشهاد شاهدين مع اعلانه واظهاره، وابطلوا نكاح الشغار، وكل نكاح نفي فيه المهر، وابطلوا نكاح المحلل اشبه بالكتاب والسنة واثار الصحابة.

ثم ان كثيرا من اهل الراي الحجازي والعراقي وسعوا " باب الطلاق " فاوقعوا طلاق السكران، والطلاق المحلوف به، واوقع هولاء طلاق المكره، وهولاء الطلاق المشكوك فيه فيما حلف به، وجعلوا الفرقة الباينة طلاقا محسوبا من الثلاث، فجعلوا الخلع طلاقا باينا محسوبا من الثلاث.

الى امور اخرى وسعوا بها الطلاق الذي يحرم الحلال، وضيقوا النكاح الحلال.

ثم لما وسعوا الطلاق صار هولاء يوسعون في الاحتيال في عود المراة الى زوجها، وهولاء لا سبيل عندهم الى ردها؛ فكان هولاء في اصار واغلال، وهولاء في خداع واحتيال.

ومن تامل الكتاب والسنة واثار الصحابة تبين له ان الله اغنى عن هذا، وان الله بعث محمدا بالحنيفة السمحة التي امر فيها بالمعروف ونهى عن المنكر، واحل الطيبات وحرم الخبايث، والله سبحانه اعلم.

وصلى الله على محمد واله وصحبه وسلم.

529 - 131 - قال شيخ الاسلام ابن تيمية: السنة: تخفيف الصداق، وان لا يزيد على نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - وبناته: فقد روت عايشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه قال: «ان اعظم النساء بركة ايسرهن ميونة» وعن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خيرهن ايسرهن صداقا» وعن الحسن البصري، قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الزموا النساء الرجال، ولا تغالوا في المهور» .

«وخطب عمر بن الخطاب الناس فقال: الا لا تغالوا في مهور النساء؛ فانها لو كانت مكرمة في الدنيا او تقوى عند الله: كان اولاكم النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ما اصدق امراة من نسايه ولا اصدقت امراة من بناته اكثر من اثنتي عشرة اوقية» .

قال الترمذي: حديث صحيح.

ويكره للرجل ان يصدق المراة صداقا يضر به ان نقده، ويعجز عن وفايه ان كان دينا.

قال ابو هريرة: «جاء رجل الى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: اني تزوجت امراة من الانصار.

فقال: على كم تزوجتها؟ قال: على اربع اوراق.

فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: على اربع اوراق فكانما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك؛ ولكن عسى ان نبعثك في بعث تصيب منه قال: فبعث بعثا الى بني عبس فبعث ذلك الرجل فيهم» .

رواه مسلم في صحيحه.

" والاوقية " عندهم اربعون درهما، وهي مجموع الصداق، ليس فيه مقدم وموخر.

وعن ابي عمرو الاسلمي: انه ذكر انه «تزوج امراة فاتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعينه في صداقها، فقال: كم اصدقت؟ قال: فقلت؛ مايتي درهم.

فقال: لو كنتم تغرفون الدراهم من اوديتكم ما زدتم» رواه الامام احمد في مسنده، واذا اصدقها دينا كثيرا في ذمته وهو ينوي ان لا يعطيها اياه كان ذلك حراما عليه، فانه قد روى ابو هريرة قال: قال رسول الله: «من تزوج امراة بصداق ينوي ان لا يوديه اليها فهو زان، ومن ادان دينا ينوي ان لا يقضيه فهو سارق» .

وما يفعله بعض اهل الجفاء والخيلاء والرياء من تكثير المهر للرياء والفخر، وهم لا يقصدون اخذه من الزوج، وهو ينوي ان لا يعطيهم اياه: فهذا منكر قبيح، مخالف للسنة، خارج عن الشريعة.

وان قصد الزوج ان يوديه وهو في الغالب لا يطيقه فقد حمل نفسه، وشغل ذمته، وتعرض لنقص حسناته، وارتهانه بالدين؛ واهل المراة قد اذوا صهرهم وضروه.

What's Your Reaction?

like
0
dislike
0
love
0
funny
0
angry
0
sad
0
wow
0