مسالة اللعب بالشطرنج

مسالة اللعب بالشطرنج

مسالة اللعب بالشطرنج
1022 - 1 كتاب الملاهي

مسالة:

عن اللعب بالشطرنج، احرام هو ام مكروه ام مباح؟ فان قلتم حرام، فما الدليل على تحريمه، وان قلتم مكروه فما الدليل على كراهته، او يباح فما الدليل على اباحته؟ .

الجواب::

الحمد لله رب العالمين، اللعب بها منه ما هو محرم متفق على تحريمه ومنه ما هو محرم عند الجمهور، ومكروه عند بعضهم، وليس من اللعب بها ما هو مباح مستوي الطرفين عند احد من ايمة المسلمين، فان اشتمل اللعب بها على العوض كان حراما بالاتفاق.

قال ابو عمر بن عبد البر امام المغرب: اجمع العلماء على ان اللعب بها على العوض قمار لا يجوز، وكذلك لو اشتمل اللعب بها على ترك واجب، او فعل محرم مثل ان يتضمن تاخير الصلاة عن وقتها، او ترك ما يجب فيها من اعمالها الواجبة باطنا او ظاهرا، فانها حينيذ تكون حراما باتفاق العلماء.

وقد ثبت في الصحيح: عن «النبي - صلى الله عليه وسلم - انه قال: تلك صلاة المنافق، يرقب الشمس حتى اذا صارت بين قرني شيطان قام، فنقر اربعا لا يذكر الله فيها الا قليلا» .

فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الصلاة صلاة المنافقين، وقد ذم الله صلاتهم بقوله: {ان المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم واذا قاموا الى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله الا قليلا}[النساء: 142] .

وقال تعالى: {فويل للمصلين}[الماعون: 4] {الذين هم عن صلاتهم ساهون}[الماعون: 5] .

وقد فسر السلف السهو عنها بتاخيرها عن وقتها، وبترك ما يومر به فيه، كما بين النبي - صلى الله عليه وسلم - ان صلاة المنافق تشتمل على التاخير والتطفيف.

قال سلمان الفارسي: ان الصلاة مكيال، فمن وفى وفي له، ومن طفف فقد علمتم ما قال الله في المطففين.

وكذلك فسروا قوله: {فخلف من بعدهم خلف اضاعوا الصلاة}[مريم: 59] .

قال: اضاعتها تاخيرها عن وقتها واضاعة حقوقها، كما جاء في الحديث: «ان العبد اذا اكمل الصلاة بطهورها وقراءتها وخشوعها صعدت ولها برهان كبرهان الشمس، وتقول: حفظك الله كما حفظتني، واذا لم يكمل طهورها وقراءتها وخشوعها فانها تلف كما يلف الثوب، ويضرب بها وجه صاحبها وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني» .

والعبد وان اقام صورة الصلاة الظاهرة فلا ثواب الا على قدر ما حضر قلبه فيه منها، كما جاء في السنن لابي داود، وغيره: عن «النبي - صلى الله عليه وسلم - انه قال: ان العبد لينصرف من صلاته ولم يكتب له منها الا نصفها، الا ثلثها، الا ربعها، الا خمسها، الا سدسها، الا سبعها، الا ثمنها، الا تسعها، الا عشرها» .

وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - ليس لك من صلاتك الا ما عقلت منها.

واذا غلب عليها الوسواس ففي براءة الذمة منها ووجوب الاعادة قولان معروفان للعلماء: احدهما: لا تبرا الذمة، وهو قول ابي عبد الله بن حامد، وابي حامد الغزالي وغيرهما ".

والمقصود ان الشطرنج متى شغل عما يجب باطنا او ظاهرا حرام باتفاق العلماء وشغله عن اكمال الواجبات اوضح من ان يحتاج الى بسط.

وكذلك لو شغل عن واجب من غير الصلاة من مصلحة النفس او الاهل، او الامر بالمعروف او النهي عن المنكر، او صلة الرحم او بر الوالدين، او ما يجب فعله من نظر في ولاية او امامة او غير ذلك من الامور، وقل عبد اشتغل بها الا شغلته عن واجب، فينبغي ان يعرف ان التحريم في مثل هذه الصورة متفق عليه.

وكذلك اذا اشتملت على محرم او استلزمت محرما.

فانها تحرم بالاتفاق، مثل اشتمالها على الكذب واليمين الفاجرة، او الخيانة التي يسمونها المغاضاة او على الظلم، او الاعانة عليه، فان ذلك حرام باتفاق المسلمين، ولو كان ذلك في المسابقة والمناضلة، فكيف اذا كان في الشطرنج، والنرد، ونحو ذلك.

وكذلك اذا قدر انها مستلزمة فسادا غير ذلك مثل اجتماع على مقدمات الفواحش، او التعاون على العدوان، او غير ذلك، او مثل ان يفضي اللعب بها الى الكثرة والظهور الذي يشتمل معه على ترك واجب او فعل محرم فهذه الصور وامثالها مما يتفق المسلمون على تحريمها فيها.

واذا قدر خلوها عن ذلك كله فالمنقول عن الصحابة المنع من ذلك، وصح عن علي بن ابي طالب - رضي الله عنه - انه مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي انتم لها عاكفون؟ شبههم بالعاكفين على الاصنام، كما في المسند عن «النبي انه قال: شارب الخمر كعابد وثن» .

والخمر والميسر قرينان في كتاب الله تعالى.

وكذلك النهي عنها معروف عن ابن عمر وغيره من الصحابة، والمنقول عن ابي حنيفة، واصحابه، واحمد، واصحابه تحريمها.

واما الشافعي فانه قال: اكره اللعب بها للخبر، واللعب بالشطرنج والحمام بغير قمار وان كرهناه اخف حالا من النرد، وهكذا نقل عنه غير هذا اللفظ مما مضمونه انه يكرهها ويراها دون النرد ولا ريب ان كراهته كراهة تحريم فانه قال للخبر.

ولفظ الخبر الذي رواه هو عن مالك «من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله» .

فاذا كره الشطرنج وان كانت اخف من النرد وقد نقل عنه انه توقف في التحريم وقال لا يتبين لي انها حرام، وما بلغنا ان احدا نقل عنه لفظا يقتضي نفي التحريم.

والايمة الذين لم تختلف اصحابهم في تحريمها اكثر الفاظهم الكراهة.

قال ابن عبد البر: اجمع مالك واصحابه على انه لا يجوز اللعب بالنرد، ولا بالشطرنج، وقالوا: لا تجوز شهادة المدمن المواظب على لعب الشطرنج.

وقال يحيى: سمعت مالكا يقول: لا خير في الشطرنج وغيرها، وسمعته يكره اللعب بها وبغيرها من الباطل، ويتلو هذه الاية {فماذا بعد الحق الا الضلال}[يونس: 32] .

وقال ابو حنيفة: اكره اللعب بالشطرنج والنرد، فالاربعة تحرم كل اللهو.

وقد تنازع الجمهور في مسالتين: احداهما: هل يسلم على اللاعب بالشطرنج، فمنصوص ابي حنيفة، واحمد والمعافى بن عمران، وغيرهم: انه لا يسلم عليه، ومذهب مالك، وابي يوسف، ومحمد: انه يسلم عليه، ومع هذا ان مذهب مالك ان الشطرنج شر من النرد.

ومذهب احمد: ان النرد شر من الشطرنج كما ذكره الشافعي.

والتحقيق في ذلك انهما اذا اشتملا على عوض، او خلوا عن عوض فالشطرنج شر من النرد؛ لان مفسدة النرد فيها وزيادة مثل صد القلب عن ذكر الله، وعن الصلاة، وغير ذلك، ولهذا يقال: ان الشطرنج على مذهب القدر والنرد على مذهب الجبر، واشتغال القلب بالتفكر في الشطرنج اكثر.

واما اذا اشتمل النرد على عوض فالنرد شر وهذا هو السبب في كون احمد والشافعي وغيرهما جعلوا النرد شرا لاستشعارهم ان العوض يكون في النرد دون الشطرنج.

ومن هنا تبين الشبهة التي وقعت في هذا الباب، فان الله تعالى حرم الميسر في كتابه، واتفق المسلمون على تحريم الميسر، واتفقوا على ان المغالبات المشتملة على القمار من الميسر، سواء كان بالشطرنج، او بالنرد، او بالجوز، او بالكعاب، او البيض، قاله غير واحد من التابعين كعطاء، وطاوس، ومجاهد، وابراهيم النخعي، كل شيء من القمار فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز.

فالذين لم يحرموا الشطرنج كطايفة من اصحاب الشافعي وغيرهم اعتقدوا ان لفظ الميسر لا يدخل فيه الا ما كان قمارا، فيحرم لما فيه من اكل المال بالباطل، كما يحرم مثل ذلك في المسابقة.

والمناضلة لو اخرج كل منهما السبق ولم يكن بينهما محلل حرموا ذلك لانه قمار.

وفي السنن: عن «النبي - صلى الله عليه وسلم - انه قال: من ادخل فرسا بين فرسين وهو امن ان يسبق فهو قمار، ومن ادخل فرسا بين فرسين وهو لا يامن ان يسبق فليس بقمار» .

والنبي - صلى الله عليه وسلم - حرم بيوع الغرر، لانها من نوع القمار، مثل: ان يشتري العبد الابق، والبعير الشارد، فان وجده كان قد قمر البايع وان لم يجده كان البايع قد قمره.

فلما اعتقدوا ان هذه المغالبات انما حرمت لما فيها من اكل المال بالباطل لم يحرموها اذا خلت عن العوض، ولهذا طرد هذا طايفة من اصحاب الشافعي المتقدمين في النرد فلم يحرموها الا مع العوض، لكن المنصوص عن الشافعي وظاهر مذهبه تحريم النرد مطلقا، وان لم يكن فيها عوض، ولهذا قال: اكرهها للخبر، فبين ان مستنده في ذلك الخبر لا القياس عنده.

وهذا مما احتج به الجمهور عليه، فانه اذا حرم النرد ولا عوض عليه فيها، فالشطرنج ان لم يكن مثلها فليس دونها، وهذا يعرفه من خبر حقيقة اللعب بها، فان ما في النرد من الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وعن ايقاع العداوة والبغضاء هو في الشطرنج اكثر بلا ريب، وهي تفعل في النفوس فعل حميا الكووس.

فتصد عقولهم وقلوبهم عن ذكر الله وعن الصلاة اكثر مما يفعله بهم كثير من انواع الخمور والحشيشة، وقليلها يدعو الى كثيرها فتحريم النرد الخالية عن عوض مع اباحة الشطرنج، مثل تحريم الفطرة من خمر العنب واباحة الغرفة من نبيذ الحنطة.

وكما ان ذلك القول في غاية التناقض من جهة الاعتبار، والقياس، والعدل، فهكذا القول في الشطرنج والنرد.

وتحريم النرد ثابت بالنص، كما في السنن عن ابي موسى عن «النبي - صلى الله عليه وسلم - انه قال: من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله» وقد رواه مالك في الموطا، وروايته عن عايشة - رضي الله عنها - انه بلغها ان اهل بيت في دارها كانوا سكانا لها عندهم نرد فارسلت اليهم ان لم تخرجوها لاخرجكم من داري، وانكرت ذلك عليهم.

ومالك عن نافع عن عبد الله بن عمر انه كان اذا وجد من اهله من يلعب بالنرد ضربه وكسرها.

وفي بعض الفاظ الحديث: عن ابي موسى قال: «سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكرت عنده فقال: عصى الله ورسوله من ضرب بكعابها يلعب بها» فعلق المعصية بمجرد اللعب بها ولم يشترط عوضا بل فسر ذلك بانه الضرب بكعابها.

وقد روى مسلم في صحيحه: عن ابي بريدة - رضي الله عنه -، عن «النبي - صلى الله عليه وسلم - انه قال: من لعب بالنردشير فكانما غمس يده في لحم خنزير ودمه» .

وفي لفظ اخر: «فليشقص الخنازير» فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الصحيح اللاعب بها كالغامس يده في لحم الخنزير ودمه، والذي يشقص الخنازير، يقصبها ويقطع لحمها كما يصنع القصاب، وهذا التشبيه متناول اللعب بها باليد، سواء وجد اكل او لم يوجد، كما ان غمس اليد في لحم الخنزير ودمه وتشقيص لحمه متناول لمن فعل ذلك سواء كان معه اكل بالفم، او لم يكن فكما ان ذلك ينهى عنه وان لم يكن معه اكل مال بالباطل.

وهذا يتقرر بوجوه يتبين بها تحريم النرد والشطرنج ونحوهما: احدها: ان يقال: النهي عن هذه الامور ليس مختصا بصورة المقامرة فقط، فانه لو بذل العوض احد المتلاعبين او اجنبي لكان من صور الجعالة، ومع هذا فقد نهي عن ذلك الا فيما ينفع: كالمسابقة، والمناضلة، كما في الحديث الاسبق: «الا في خف او حافر او نصل» لان بذل المال فيما لا ينفع في الدين، ولا في الدنيا منهي عنه وان لم يكن قمارا، واكل المال بالباطل حرام بنص القران وهذه الملاعب من الباطل لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل الا رميه بقوسه، او تاديبه فرسه، او ملاعبته امراته فانهن من الحق» .

قوله: " من الباطل " اي مما لا ينفع، فان الباطل ضد الحق: والحق يراد به الحق الموجود اعتقاده والخبر عنه، ويراد به الحق المقصود الذي ينبغي ان يقصد، وهو الامر النافع، فما ليس من هذا فهو باطل ليس بنافع.

وقد يرخص في بعض ذلك اذا لم يكن فيه مضرة راجحة لكن لا يوكل به المال، ولهذا جاز السباق بالاقدام، والمصارعة، وغير ذلك، وان نهي عن اكل المال به.

وكذلك رخص في الضرب بالدف في الافراح، وان نهي عن اكل المال به، فتبين ان ما نهي عنه من ذلك ليس مخصوصا بالمقامرة، فلا يجوز قصر النهي على ذلك، ولو كان النهي عن النرد ونحوه لمجرد المقامرة لكان النرد مثل سباق الخيل، ومثل الرمي بالنشاب، ونحو ذلك، فان المقامرة اذا دخلت في هذا حرموه، مع انه عمل صالح، واجب او مستحب، كما في الصحيح: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه قال: «ارموا واركبوا، وان ترموا احب الي من ان تركبوا» .

«ومن تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا» .

وكان هو وخلفاوه يسابقون بين الخيل، وقرا على المنبر: {واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل}[الانفال: 60] الاية ثم قال: «الا ان القوة الرمي، الا ان القوة الرمي، الا ان القوة الرمي» .

فكيف يشبه ما امر الله به ورسوله، واتفق المسلمون على الامر به، بما نهى الله عنه ورسوله واصحابه من بعده، واذا لم يجعل الموجب للتحريم الا مجرد المقامرة كان النرد، والشطرنج، كالمناضلة.

الوجه الثاني: ان يقال هب ان علة التحريم في الاصل هي المقامرة، لكن الشارع قرن بين الخمر والميسر في التحريم فقال تعالى: {انما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون}[المايدة: 90] {انما يريد الشيطان ان يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل انتم منتهون}[المايدة: 91] .

فوصف الاربعة بانها رجس من عمل الشيطان، وامر باجتنابها، ثم خص الخمر والميسر بانه {انما يريد الشيطان ان يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة}[المايدة: 91] .

ويهدد من لم ينته عن ذلك بقوله تعالى: {فهل انتم منتهون}[المايدة: 91] كما علق الفلاح بالاجتناب في قوله: {فاجتنبوه لعلكم تفلحون}[المايدة: 90] .

ولهذا يقال ان هذه الاية دلت على تحريم الخمر والميسر من عدة اوجه.

ومعلوم ان الخمر لما امر باجتنابها حرم مقاربتها بوجه، فلا يجوز اقتناوها ولا شرب قليلها، بل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد امر باراقتها، وشق ظروفها، وكسر دنانها، ونهى عن تخليلها، وان كانت ليتامى مع انها اشتريت لهم قبل التحريم، ولهذا كان الصواب الذي هو المنصوص عن احمد، وابن المبارك، وغيرهما انه ليس في الخمر شيء محترم، لا خمرة الخلال ولا غيرها، وانه من اتخذ خلا فعليه ان يفسده قبل ان يتخمر بان يصب في العصير خلا وغير ذلك مما يمنع تخميره، بل كان «النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الخليطين» ليلا يقوى احدهما على صاحبه فيفضي الى ان يشرب الخمر المسكر من لا يدري، ونهى عن الانتباذ في الاوعية التي يدب السكر فيها ولا يدرى ما به: كالدباء والحنتم والظرف المزفت والمنقور من الخشب وامر بالانتباذ في السقاء الموكي لان السكر ينظر.

اذا كان في الشراب انشق الظرف، وان كان في نسخ ذلك او بعضه نزاع ليس هذا موضع ذكره.

فالمقصود سد الذرايع المفضية الى ذلك بوجه من الوجوه، وكذلك كان يشرب النبيذ ثلاثا، وبعد الثلاث يسقيه او يريقه؛ لان الثلاث مظنة سكره، بل كان امر بقتل الشارب في الثالثة او الرابعة فهذا كله.

لان النفوس لما كانت تشتهي ذلك وفي اقتنايها ولو للتخليل ما قد يفضي الى شربها، كما ان شرب قليلها يدعو الى كثيرها فنهي عن ذلك.

فهذا الميسر المقرون بالخمر اذا قدر ان علة تحريمه اكل المال بالباطل، وما في ذلك من حصول المفسدة وترك المنفعة، ومن المعلوم ان هذه الملاعب تشتهيها النفوس، واذا قويت الرغبة فيها او دخل فيها العوض كما جرت به العادة، وكان من حكم الشارع ان ينهى عما يدعو الى ذلك، لو لم يكن فيه مصلحة راجحة، وهذا بخلاف المغالبات التي قد تنفع مثل: المسابقة والمصارعة، ونحو ذلك، فان تلك فيها منفعة راجحة لتقوية الابدان، فلم ينه عنها لاجل ذلك ولم تجر عادة النفوس بالاكتساب بها.

وهذا المعنى نبه عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «من لعب بالنردشير فكانما صبغ يده في لحم خنزير ودمه» فان الغامس يده في ذلك يدعوه الى اكل الخنزير، وذلك مقدمة اكله وسببه وداعيته فاذا حرم ذلك فكذلك اللعب الذي هو مقدمة اكل بالباطل وسببه وداعيته.

وبهذا يتبين ما ذكر العلماء من ان المغالبات ثلاثة انواع.

فما كان معينا على ما امر الله به كما في قوله: {واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل}[الانفال: 60] جاز بجعل وبغير جعل، وما كان مفضيا الى ما نهى الله عنه: كالنرد والشطرنج فمنهي عنه بجعل وبغير جعل، وما قد يكون فيه منفعة بلا مضرة راجحة كالمسابقة والمصارعة جاز بلا جعل.

الوجه الثالث: ان يقال قول القايل ان الميسر انما حرم لمجرد المقامرة دعوى مجردة، وظاهر القران والسنة والاعتبار: يدل على فسادها.

وذلك ان الله تعالى قال: {انما يريد الشيطان ان يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة}[المايدة: 91] فنبه على علة التحريم وهي ما في ذلك من حصول المفسدة، وزوال المصلحة الواجبة والمستحبة، فان وقوع العداوة والبغضاء من اعظم الفساد.

وصدود القلب عن ذكر الله وعن الصلاة اللذين كل منهما اما واجب واما مستحب من اعظم الفساد.

ومن المعلوم ان هذا يحصل في اللعب بالشطرنج والنرد ونحوهما، وان يكن فيه عوض، وهو في الشطرنج اقوى، فان احدهم يستغرق قلبه وعقله وفكره فيما فعل خصمه، وفيما يريد ان يفعل هو، وفي لوازم ذلك ولوازم لوازمه حتى لا يحس بجوعه ولا عطشه، ولا بمن يحضر عنده، ولا بمن يسلم عليه، ولا بحال اهله ولا بغير ذلك من ضرورات نفسه وماله، فضلا ان يذكر ربه او الصلاة.

وهذا كما يجعل لشارب الخمر بل كثير من الشراب يكون عقله اصحى من كثير من اهل الشطرنج والنرد، واللاعب بها لا تنقضي نهمته منها الا بدست بعد دست، كما لا تنقضي نهمة شارب الخمر الا بقدح بعد قدح، وتبقى اثارها في النفس بعد انقضايها اكثر من اثار شارب الخمر، حتى تعرض له في الصلاة والمرض وعند ركوب الدابة، بل وعند الموت وامثال ذلك من الاوقات التي يطلب فيها ذكره لربه وتوجهه اليه، تعرض له تماثيلها وذكر الشاة والرخ والفرزان ونحو ذلك.

فصدها للقلب عن ذكر الله قد يكون اعظم من صد الخمر؛ وهي الى الشرك اقرب كما قال امير المومنين علي بن ابي طالب - رضي الله عنه - للاعبها: {ما هذه التماثيل التي انتم لها عاكفون}[الانبياء: 52] ، وقلب الرقعة.

وكذلك العداوة والبغضاء بسبب غلبة احد الشخصين للاخر، وما يدخل في ذلك من التظالم والتكاذب والخيانة التي هي من اقوى اسباب العداوة والبغضاء، وما يكاد لاعبها يسلم عن شيء من ذلك.

والفعل اذا اشتمل كثيرا على ذلك، وكانت الطباع تقتضيه، ولم يكن فيه مصلحة راجحة، جرمه الشارع قطعا، فكيف اذا اشتمل على ذلك غالبا.

وهذا اصل مستمر في اصول الشريعة كما قد بسطناه في قاعدة سد الذرايع وغيرها، وبينا ان كل فعل افضى الى المحرم كثيرا كان سببا للشر والفساد، فاذا لم يكن فيه مصلحة راجحة شرعية، وكانت مفسدته راجحة، نهي عنه، بل كل سبب يفضي الى الفساد نهي عنه اذا لم يكن فيه مصلحة راجحة، فكيف بما كثر افضاوه الى الفساد، ولهذا نهي عن الخلوة بالاجنبية، واما النظر لها كانت الحاجة تدعو الى بعضه وخص منه فيما تدعو له الحاجة؛ لان الحاجة سبب الاباحة، كما ان الفساد والضرر سبب التحريم، فاذا اجتمعا رجح اعلاهما، كما رجح عند الضرر اكل الميتة، لان مفسدة الموت شر من مفسدة الاغتذاء بالخبيث.

والنرد والشطرنج ونحوهما من المغالبات فيها من المفاسد ما لا يحصى، وليس فيها مصلحة معتبرة، فضلا عن مصلحة مقاومة غايته ان يلهي ويريحها عما يقصد شارب الخمر ذلك.

وفي اراحة النفس بالمباح الذي لا يصد عن المصالح، ولا يجتلب المقاصد غنية، والمومن قد اغناه الله بحلاله عن حرامه، وبفضله عمن سواه: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا}[الطلاق: 2] {ويرزقه من حيث لا يحتسب}[الطلاق: 3] .

وفي سنن ابن ماجه وغيره: عن ابي ذر ان هذه الاية لما نزلت قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا ابا ذر، لو ان الناس كلهم عملوا بهذه الاية، لوسعتهم» .

وقد بين سبحانه في هذه الاية ان المتقي يدفع عنه المضرة، وهو ان يجعل له مخرجا مما ضاق على الناس، ويجلب له المنفعة ويرزقه من حيث لا يحتسب.

وكل ما يتغذى به الحي مما تستريح به النفوس، وتحتاج اليه في طيبها وانشراحها فهو من الرزق، والله تعالى يرزق ذلك لمن اتقاه بفعل المامور، وترك المحظور، ومن طلب ذلك بالنرد والشطرنج، ونحوهما من الميسر، فهو بمنزلة من طلب ذلك بالخمر، وصاحب الخمر يطلب الراحة ولا يزيده الا تعبا وغما.

وان كانت تفيده مقدارا من السرور فما يعقبه من المضار، ويفوته من المسار اضعاف ذلك كما جرب ذلك من جربه، وهكذا ساير المحرمات.

ومما يبين ان الميسر لم يحرم لمجرد اكل المال بالباطل، وان كان اكل المال بالباطل محرما، ولو تجرد عن الميسر، فكيف اذا كان في الميسر، بل في الميسر علة اخرى غير اكل المال بالباطل، كما في الخمر ان الله قرن بين الخمر والميسر، وجعل العلة في تحريم هذا هي العلة في تحريم هذا، ومعلوم ان الخمر لم تحرم لمجرد اكل المال بالباطل، وان كان اكل ثمنها من اكل المال بالباطل، فكذلك الميسر.

يبين ذلك ان الناس اول ما سالوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخمر والميسر انزل الله تعالى: {يسالونك عن الخمر والميسر قل فيهما اثم كبير ومنافع للناس واثمهما اكبر من نفعهما}[البقرة: 219] والمنافع التي كانت قيل: هي المال.

وقيل هي اللذة ومعلوم ان الخمر كان فيها كلا هذين، فانهم كانوا ينتفعون بثمنها والتجارة، فيها كما كانوا ينتفعون باللذة التي في شربها، ثم انه - صلى الله عليه وسلم - لما حرم الخمر لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وبايعها ومشتريها وحاملها والمحمولة اليه وساقيها وشاربها واكل ثمنها، وكذلك الميسر كانت النفوس تنتفع بما تحصله به من المال، وما يحصل به من لذة اللعب.

ثم قال تعالى: {واثمهما اكبر من نفعهما}[البقرة: 219] .

لان الخسارة في المقامرة اكثر، والالم والمضرة في الملاعبة اكثر.

ولعل المقصود الاول لاكثر الناس بالميسر، انما هو الانشراح بالملاعبة والمغالبة، كما ان المقصود الاول لاكثر الناس بالخمر انما هو ما فيها من لذة الشرب، وانما حرم العوض فيها لانه اخذ مال بلا منفعة فيه، فهو اكل مال بالباطل، كما حرم ثمن الخمر، والميتة والخنزير، والاصنام، فكيف تجعل المفسدة المالية هي حكمة النهي، فقط وهي تابعة، وتترك المفسدة الاصلية التي هي فساد العقل والقلب، والمال مادة البدن.

والبدن تابع القلب، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الا ان في الجسد مضغة اذا صلحت صلح بها ساير الجسد، واذا فسدت فسد بها ساير الجسد، الا وهي القلب» .

والقلب هو محل ذكر الله تعالى وحقيقة الصلاة.

فاعظم الفساد في تحريم الخمر والميسر افساد القلب الذي هو ملك البدن ان يصد عما خلق له من ذكر الله والصلاة، ويدخل فيما يفسد من التعادي والتباغض والصلاة حق الحق، والتحاب والموالاة حق الخلق، واين هذا من اكل مال بالباطل.

ومعلوم ان مصلحة البدن مقدمة على مصلحة المال، ومصلحة القلب مقدمة على مصلحة البدن، وانما حرمة المال لانه مادة البدن، ولهذا قدم الفقهاء في كتبهم ربع العبادات على ربع المعاملات، وبهما تتم مصلحة القلب والبدن، ثم ذكروا ربع المناكحات؛ لان ذلك مصلحة الشخص، وهذا مصلحة النوع الذي يبقى بالنكاح.

ثم لما ذكروا المصالح ذكروا ما يدفع المفاسد في ربع الجنايات وقد قال تعالى: {وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون}[الذاريات: 56] وعبادة الله تتضمن معرفته ومحبته والخضوع له، بل تتضمن كل ما يحبه ويرضاه.

واصل ذلك واجله ما في القلوب: الايمان، والمعرفة، والمحبة لله، والخشية له، والانابة اليه، والتوكل عليه، والرضى بحكمه، مما تضمنه الصلاة، والذكر، والدعاء، وقراءة القران، وكل ذلك داخل في معنى ذكر الله والصلاة، وانما الصلاة وذكر الله من باب عطف الخاص على العام كقوله تعالى: {وملايكته ورسله وجبريل وميكال}[البقرة: 98] .

وقوله تعالى: {واذ اخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح}[الاحزاب: 7] .

كما قال تعالى: {يا ايها الذين امنوا اذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا الى ذكر الله وذروا البيع}[الجمعة: 9] .

فجعل السعي الى الصلاة سعيا الى ذكر الله.

ولما كانت الصلاة متضمنة لذكر الله الذي هو مطلوب لذاته والنهي عن الشر الذي هو مطلوب لغيره، قال تعالى: {ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله اكبر}[العنكبوت: 45] اي ذكر الله خارج الذي في الصلاة اكبر من كونها عن الفحشاء والمنكر، وليس المراد ان ذكر الله خارج الصلاة افضل من الصلاة وما فيها من ذكر الله فان هذا خلاف الاجماع.

ولما كان ذكر الله هو مقصود الصلاة قال ابو الدرداء: ما دمت تذكر الله فانت في صلاة ولو كنت في السوق.

ولما كان ذكر الله يعم هذا كله قالوا: ان مجالس الحلال والحرام، ونحو ذلك مما فيه ذكر امر الله ونهيه ووعده ووعيده، ونحو ذلك هي مجالس الذكر.

والمقصود هنا ان يعرف مراتب المصالح والمفاسد، وما يحبه الله ورسوله وما لا يبغضه مما امر الله به ورسوله كان لما يتضمنه من تحصيل المصالح التي يحبها ويرضاها، ودفع المفاسد التي يبغضها ويسخطها، وما نهى عنه كان لتضمنه ما يبغضه، ويسخطه، ومنعه مما يحبه ويرضاه.

وكثير من الناس يقصر نظره عن معرفة ما يحبه الله ورسوله من مصالح القلوب والنفوس ومفاسدها، وما ينفعها من حقايق الايمان وما يضرها من الغفلة والشهوة كما قال تعالى {ولا تطع من اغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان امره فرطا}[الكهف: 28] وقال تعالى: {فاعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد الا الحياة الدنيا}[النجم: 29] {ذلك مبلغهم من العلم}[النجم: 30] .

فتجد كثيرا من هولاء في كثير من الاحكام لا يرى من المصالح والمفاسد الا ما عاد لمصلحة المال والبدن.

وغاية كثير منهم اذا تعدى ذلك ان ينظر الى سياسة النفس وتهذيب الاخلاق بمبلغهم من العلم كما يذكر مثل ذلك المتفلسفة والقرامطة مثل اصحاب رسايل اخوان الصفا وامثالهم، فانهم يتكلمون في سياسة النفس وتهذيب الاخلاق بمبلغهم من علم الفلسفة، وما ضموا اليه مما ظنوه من الشريعة، وهم في غاية ما ينتهون اليه دون اليهود والنصارى بكثير كما بسط في غير هذا الموضع.

وقوم من الخايضين في اصول الفقه، وتعليل الاحكام الشرعية بالاوصاف المناسبة اذا تكلموا في المناسبة، وان ترتيب الشارع للاحكام على الاوصاف المناسبة يتضمن تحصيل مصالح العباد، ودفع مضارهم، وراوا ان المصلحة نوعان: اخروية ودنيوية، جعلوا الاخروية ما في سياسة النفس وتهذيب الاخلاق من الحكم.

وجعلوا الدنيوية ما تضمن حفظ الدماء، والاموال، والفروج، والعقول، والدين الظاهر، واعرضوا عما في العبادات الباطنة والظاهرة من انواع المعارف بالله تعالى، وملايكته، وكتبه، ورسله، واحوال القلوب واعمالها كمحبة الله وخشيته واخلاص الدين له، والتوكل عليه والرجاء لرحمته ودعايه وغير ذلك من انواع المصالح في الدنيا والاخرة.

وكذلك فيما شرعه الشارع من الوفاء بالعهود، وصلة الارحام وحقوق المماليك والجيران وحقوق المسلمين بعضهم على بعض.

وغير ذلك من انواع ما امر به وما نهى عنه حفظا للاحوال السنية وتهذيب الاخلاق.

ويتبين ان هذا جزءا من اجزاء ما جاءت به الشريعة من المصالح.

فهكذا من جعل تحريم الخمر والميسر لمجرد اكل المال بالباطل، والنفع الذي كان فيهما بمجرد اخذ المال يشبه هذا ان هذه المغالبات تصد عن ذكر الله وعن الصلاة من جهة كونها عملا لا من جهة اخذ المال بها لا تصد عن ذكر الله ولا عن الصلاة الا كما يصد ساير انواع اخذ المال.

ومعلوم ان الاموال التي يكتسب بها المال لا ينهى عنها مطلقا لكونها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، بل ينهى منها عما يصد عن الواجب، كما قال تعالى: {يا ايها الذين امنوا اذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا الى ذكر الله وذروا البيع}[الجمعة: 9] وقال تعالى: {فاذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض وابتغوا من فضل الله}[الجمعة: 10] .

وقال تعالى: {يا ايها الذين امنوا لا تلهكم اموالكم ولا اولادكم عن ذكر الله}[المنافقون: 9] .

وقال تعالى: {لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله واقام الصلاة وايتاء الزكاة}[النور: 37] .

فما كان ملهيا وشاغلا عما امر الله تعالى به من ذكره والصلاة له فهو منهي عنه ان لم يكن جنسه محرما كالبيع والعمل في التجارة وغير ذلك.

فلو كان اللعب بالشطرنج والنرد، ونحوهما في جنسه مباحا، وانما حرم اذا اشتمل على اكل المال بالباطل، كان تحريمه من جنس تحريم ما نهي عنه من المبايعات والمواجرات المشتملة على اكل المال بالباطل: كبيوع الغرر، ومعلوم ان هذه لا يعلل النهي عنها بانها تصد عما يجب من ذكر الله وعن الصلاة، فان البيع الصحيح منه ما كان يصد، فيمكن ان يقال في تلك المعاملات الفاسدة لا يعلل تحريمها بانها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وان المعاملات الصحيحة ينهى منها عما يصد عن الواجب، فتبين ان تحريم الميسر ليس لكونه من المعاملات الفاسدة وان نفس العمل به منهي عنه لاجل هذه المفسدة، كما حرم شرب الخمر وهذا بين لمن تدبره.

الا ترى انه لما حرم الربا لما فيه من الظلم واكل المال بالباطل، قرن بذلك ذكر البيع الذي هو عدل، وقدم عليه ذكر الصدقة التي هي احسان، فذكر في اخر سورة البقرة حكم الاموال المحسن والعادل والظالم.

ذكر الصدقة، والبيع، والربا والظلم في الربا، واكل المال بالباطل به ابين منه في الميسر، فان المرابي ياخذ فضلا محققا من المحتاج، ولهذا عاقبه الله بنقيض قصده فقال: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات}[البقرة: 276] .

واما المقامر فانه قد يغلب فيظلم، وقد يغلب فيظلم، فقد يكون المظلوم هو الغني وقد يكون هو الفقير، وظلم الفقير المحتاج اشد من ظلم الغني، وظلم يتعين فيه الظالم القادر اعظم من ظلم لا يتعين فيه الظالم، فان ظلم القادر الغني للعاجز الضعيف اقبح من تظالم قادرين غنيين لا يدرى ايهما هو الذي يظلم، فالربا في ظلم الاموال اعظم من القمار، ومع هذا فتاخر تحريمه وكان اخر ما حرم الله تعالى في القران، فلو لم يكن في الميسر الا مجرد القمار لكان اخف من الربا لتاخر تحريمه، وقد اباح الشارع انواعا من الغرر للحاجة، كما اباح اشتراط ثمر النخل بعد التابير تبعا للاصل، وجوز بيع المجازفة وغير ذلك، واما الربا فلم يبح منه شييا، ولكن اباح العدول عن التقدير بالكيل الى التقدير بالخرص عند الحاجة، كما اباح التيمم عند عدم الماء للحاجة اذ الخرص تقدير بظن، والكيل تقدير بعلم، والعدول عن العلم الى الظن عند الحاجة جايز.

فتبين ان الربا اعظم من القمار الذي ليس فيه الا مجرد اكل المال بالباطل، لكن الميسر تطلب به الملاعبة والمغالبة نهي عنه في الانسان مع فساد ماله لا لفساد ماله، مثل ما فيه من الصدود عن ذكر الله وعن الصلاة، وكل من الخمر والميسر فيه ايقاع العداوة والبغضاء، وفيه الصد عن ذكر الله وعن الصلاة اعظم من الربا وغيره من المعاملات الفاسدة.

تبين ان الميسر اشتمل على مفسدتين: مفسدة في المال، وهي اكله بالباطل.

ومفسدة في العمل؛ وهي ما فيه من مفسدة المال وفساد القلب والعقل، وفساد ذات البين.

وكل من المفسدتين مستقلة بالنهي، فينهى عن اكل المال بالباطل مطلقا، ولو كان بغير ميسر كالربا، وينهى عما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ويوقع بالعداوة والبغضاء.

ولو كان بغير اكل مال، فاذا اجتمعا عظم التحريم، فيكون الميسر المشتمل عليهما اعظم من الربا، ولهذا حرم ذلك قبل تحريم الربا.

ومعلوم ان الله تعالى لما حرم الخمر حرمها ولو كان الشارب يتداوى بها، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح، وحرم بيعها لاهل الكتاب وغيرهم، وان كان اكل ثمنها لا يسد عن ذكر الله وعن الصلاة، ولا يوقع العداوة والبغضاء؛ لان الله تعالى اذا حرم على قوم اكل شيء حرم عليهم ثمنه، كل ذلك مبالغة في الاجتناب، فهكذا الميسر منهي عن هذا وعن هذا، والمعين على الميسر كالمعين على الخمر، فان ذلك من التعاون على الاثم والعدوان.

وكما ان الخمر تحرم الاعانة عليها ببيع، او عصر، او سقي، او غير ذلك، فكذلك الاعانة على الميسر، كبايع الاته، والموجر لها، والمذبذب الذي يعين احدهما، بل مجرد الحضور عند اهل الميسر كالحضور عند اهل شرب الخمر، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من كان يومن بالله واليوم الاخر فلا يجلس على مايدة يشرب عليها الخمر» .

وقد رفع الى عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - قوم يشربون الخمر، فامر بضربهم، فقيل له: ان فيهم صايما، فقال: ابدءوا به، ثم قال: اما سمعت قوله تعالى: {وقد نزل عليكم في الكتاب ان اذا سمعتم ايات الله يكفر بها ويستهزا بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره انكم اذا مثلهم}[النساء: 140] .

فاستدل عمر بالاية، لان الله تعالى جعل حاضر المنكر مثل فاعله، بل اذا كان من دعا الى دعوة مباحة كدعوة العرس لا تجاب دعوته اذا اشتملت على منكر حتى يدعه، مع ان اجابة الدعوة حق، فكيف بشهود المنكر من غير حق يقتضي ذلك.

فان قيل: اذا كان هذا من الميسر، فكيف استجازه طايفة من السلف.

قيل له: المستجيز للشطرنج من السلف بلا عوض: كالمستجيز للنرد بلا عوض من السلف، وكلاهما ماثور عن بعض السلف، بل في الشطرنج قد تبين عذر بعضهم كما كان الشعبي يلعب به لما طلبه الحجاج لتولية القضاء، راى ان يلعب به ليفسق نفسه، ولا يتولى القضاء للحجاج، وراى ان يحتمل مثل هذا ليدفع عن نفسه اعانة مثل الحجاج على مظالم المسلمين، وكان هذا اعظم محذورا عنده، ولم يمكنه الاعتذار الا بمثل ذلك.

ثم يقال: من المعلوم ان الذين استحلوا النبيذ المتنازع فيه من السلف، والذين استحلوا الدرهم بالدرهمين من السلف اكثر واجمل قدرا من هولاء، فان ابن عباس، ومعاوية، وغيرهما رخصوا في الدرهم بالدرهمين وكانوا متاولين ان الربا لا يحرم الا في النساء لا في اليد باليد وكذلك من ظن ان الخمر ليست الا المسكر من عصير العنب، فهولاء فهموا من الخمر نوعا منه دون نوع، وظنوا ان التحريم مخصوص به، وشمول الميسر لانواعه كشمول الخمر والربا لانواعهما.

وليس لاحد ان يتبع زلات العلماء، كما ليس له ان يتكلم في اهل العلم والايمان الا بما هم له اهل، فان الله تعالى عفا للمومنين عما اخطيوا، كما قال تعالى: {ربنا لا تواخذنا ان نسينا او اخطانا}[البقرة: 286] قال الله قد فعلت، وامرنا ان نتبع ما انزل الينا من ربنا ولا نتبع من دونه اولياء، وامرنا ان لا نطيع مخلوقا في معصية الخالق ونستغفر لاخواننا الذين سبقونا بالايمان، فنقول: {ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان}[الحشر: 10] الاية - وهذا امر واجب على المسلمين في كل ما كان يشبه هذا من الامور، وتعظم امر الله تعالى بالطاعة لله ورسوله، وترعى حقوق المسلمين لا سيما اهل العلم منهم كما امر الله ورسوله.

ومن عدل عن هذه الطريق، فقد عدل عن اتباع الحجة الى اتباع الهوى في التقليد، واذى المومنين والمومنات بغير ما اكتسبوا فهو من الظالمين، ومن عظم حرمات الله، واحسن الى عباد الله كان من اولياء الله المتقين، والله سبحانه اعلم.

What's Your Reaction?

like
0
dislike
0
love
0
funny
0
angry
0
sad
0
wow
0