مسالة في حكم البناء في طريق المسلمين الواسع

مسالة في حكم البناء في طريق المسلمين الواسع

مسالة في حكم البناء في طريق المسلمين الواسع
اذا كان البناء لا يضر في المارة وذلك نوعان: احدهما: ان يبني لنفسه فهذا لا يجوز في المشهور من مذهب احمد، وجوزه بعضهم، باذن الامام وقد ذكر القاضي ابو يعلى، ومن خطه نقلته ان هذه المسالة حدثت في ايامه، واختلف فيها جواب المفتين فذكر في المسالة حادثة في الطريق الواسع، هل يجوز للامام ان ياذن في حيازة بعضه؟ بينا ان بعضهم افتى بالجواز، وافتى بعضهم بالمنع، واختاره القاضي، وذكر انه ظاهر كلام احمد، فانه قال في رواية ابن القاسم: اذا كان الطريق قد سلكه الناس وصير طريقا، فليس لاحد ان ياخذ منه شييا قليلا ولا كثيرا، قيل له: وان كان واسعا مثل الشوارع، قال: وان كان واسعا قال: هو اشد ممن اخذ حدا بينه وبين شريكه؛ لان هذا ياخذ من واحد، وهذا ياخذ من جماعة المسلمين.

قلت: وقد صنف ابو عبد الله بن بطة مصنفا فيمن اخذ شييا من طريق المسلمين، وذكر في ذلك اثارا عن احمد وغيره من السلف، وقد ذكر هذه المسالة غير واحد من المتقدمين والمتاخرين من اصحاب احمد منهم: الشيخ ابو محمد المقدسي.

قال في " المغني ": وما كان من الشوارع، والطرقات، والرحبات بين العمران فليس لاحد احياوه، سواء كان واسعا او ضيقا، وسواء ضيق على الناس بذلك، او لم يضيق لان ذلك يشترك فيه المسلمون، وتتعلق به مصلحتهم، فاشبه مساجدهم، ويجوز الارتفاق بالعقود في الواسع؛ من ذلك للبيع والشراء على وجه لا يضيق على احد، ولا يضر بالمارة، لاتفاق اهل الامصار في جميع الاعصار، على اقرار الناس على ذلك من غير انكار، ولانه ارتفاق بمباح من غير اضرار، فلم يمنع كالاحتياز.

قال احمد في السابق الى دكاكين السوق غدوة فهو له الى الليل، وكان هذا في سوق المدينة فيما مضى، وقد قال النبي «منى مناخ من سبق» وله ان يظلل على نفسه بما لا ضرر فيه من بارية وتابوت وكساء ونحوه؛ لان الحاجة تدعو اليه من غير مضرة فيه، وليس له البناء لا دكة ولا غيرها، لانه يضيق على الناس وتعثر به المارة بالليل، والضرير بالليل والنهار، ويبقى على الدوام فربما ادعى ملكه بسبب ذلك والسابق احق به ما دام فيه.

قلت: هذا كله فيما اذا بنى الدكة لنفسه كما يدل عليه اول الكلام واخره ولهذا علل بانه قد يدعي ملكه بسبب ذلك مع ان تعليله هذه المسالة يقتضي ان المنع انما يكون في مظنة الضرر فاذا قدر ان البناء يحاذي ما على يمينه وشماله ولا يضر بالمارة اصلا فهذه العلة منتفية فيه وموجب هذا التعليل الجواز اذا انتفت العلة كاحد القولين اللذين ذكرهما القاضي.

وفي الجملة: في جواز البناء المختص بالباني الذي لا ضرر فيه اصلا باذن الامام قولان، ونظير هذا اذا اخرج روشنا او ميزابا الى الطريق النافذ ولا مضرة فيه، فهل يجوز باذن الامام؟ على قولين في مذهب احمد: احدهما: يجوز كما اختاره ابن عقيل، وابو البركات.

والثاني: لا يجوز كما اختاره غير واحد والمشهور عن احمد تحريما او تنزيها، وذكر ابو بكر المروذي في كتاب " الورع " اثارا في ذلك - منها ما نقله المروذي عن احمد: انه سقف له دارا وجعل ميزابها الى الطريق، فلما اصبح قال: ادع لي النجار حتى يحول الماء الى الدار.

فدعوته له فحوله وقال: ان يحيى القطان كانت مياهه في الطريق، فعزم عليها وصيرها الى الدار.

وذكر عن احمد: انه ذكر ورع شعيب بن حرب، وانه قال: ليس لك ان تطين الحايط ليلا يخرج الى الطريق.

وساله المروذي عن الرجل يحتفر في فنايه البير او المحرم للعلو؟ قال: لا، هذا طريق المسلمين.

قال المروذي: قلت: انما هو بير يحفر ويسد راسها.

قال: اليس هي في طريق المسلمين.

وساله ابن الحكم عن الرجل يخرج الى طريق المسلمين الكنيف او الاسطوانة، هل يكون عدلا؟ قال: لا يكون عدلا ولا تجوز شهادته.

وروى احمد باسناده عن علي انه كان يامر بالمثاعب.

والكنف تقطع عن طريق المسلمين.

وعن عايذ بن عمرو المزني قال: لان يصب طيني في حجلتي احب الي من ان يصب في طريق المسلمين.

قال: وبلغنا انه لم يكن يخرج من داره الى الطريق ماء السماء، وقال: فريي له انه من اهل الجنة.

قيل له: بم ذلك؟ قال: بكف اذاه عن المسلمين.

ومن جوز ذلك احتج بحديث ميزاب العباس.

النوع الثاني: ان يبني، في الطريق الواسع ما لا يضر المارة لمصلحة المسلمين، مثل بناء مسجد يحتاج اليه الناس، او توسيع مسجد ضيق بادخال بعض الطريق الواسع فيه، او اخذ بعض الطريق لمصلحة المسجد، مثل: حانوت ينتفع به المسجد فهذا النوع يجوز في مذهب احمد المعروف.

وكذلك ذكره اصحاب ابي حنيفة، ولكن هل يفتقر الى اذن ولي الامر، على روايتين عن احمد، ومن اصحاب احمد من لم يحك نزاعا في جواز هذا النوع، ومنهم من ذكر رواية ثالثة بالمنع مطلقا، والمسالة في كتب اصحاب احمد القديمة والحديثة، من زمن اصحابه واصحاب اصحابه الى زمن متاخري المصنفين منهم، كابي البركات، وابن تميم، وابن حمدان وغيرهم.

والفاظ احمد في " جامع الخلال "، " والشافي " لابي بكر عبد العزيز " وزاد المسافر " " والمترجم " لابي اسحاق الجوزجاني وغير ذلك، قال اسماعيل بن سعيد الشالنجي: سالت احمد عن طريق واسع وللمسلمين عنه غنى وبهم الى ان يكون مسجدا حاجة، هل يجوز ان يبنى هناك مسجد؟ قال: لا باس اذا لم يضر بالطريق.

ومسايل اسماعيل بن سعيد هذا من اجل مسايل احمد، وقد شرحها ابو اسحاق ابراهيم بن يعقوب الجوزجاني في كتابه " المترجم "، وكان خطيبا بجامع دمشق هنا، وله عن احمد مسايل، وكان يقرا كتب احمد اليه على منبر جامع دمشق، فاحمد اجاز البناء هنا مطلقا، ولم يشترط اذن الامام، وقال له محمد بن الحكم: تكره الصلاة في المسجد الذي يوخذ من الطريق؟ فقال: اكره الصلاة فيه، الا ان يكون باذن الامام.

فهنا اشترط في الجواز اذن الامام.

ومسايل اسماعيل عن احمد بعد مسايل ابن الحكم، فان ابن الحكم صحب احمد قديما، ومات قبل موته بنحو عشرين سنة، واما اسماعيل فانه كان على مذهب اهل الراي، ثم انتقل الى مذهب اهل الحديث، وسال احمد متاخرا، وسال معه سليمان بن داود الهاشمي، وغيره من علماء اهل الحديث، وسليمان كان يقرن باحمد حتى قال الشافعي: ما رايت ببغداد اعقل من رجلين احمد بن حنبل، وسليمان بن داود الهاشمي.

واما الذين جعلوا في المسالة رواية ثالثة، فاخذوها من قوله في رواية المروذي، حكم هذه المساجد التي قد بنيت في الطريق ان تهدم، وقال محمد بن يحيى الكحال: قلت لاحمد: الرجل يزيد في المسجد من الطريق؟ قال: لا يصلى فيه.

ومن لم يثبت رواية ثالثة فانه يقول هذا اشارة من احمد الى مساجد ضيقت الطريق واضرت بالمسلمين، وهذه لا يجوز بناوها بلا ريب.

فان في هذا جمعا بين نصوصه، فهو اولى من التناقض بينها، وابلغ من ذلك ان احمد يجوز ابدال المسجد بغيره، للمصلحة كما فعل ذلك الصحابة.

قال صالح بن احمد: قلت لابي: المسجد يخرب ويذهب اهله ترى ان يحول الى مكان اخر؟ قال اذا كان يريد منفعة الناس فنعم، والا فلا.

قال: وابن مسعود قد حول الجامع المسجد من التمارين، فاذا كان على المنفعة فلا باس، والا فلا، وقد سالت ابي: عن رجل بنى مسجدا، ثم اراد تحويله الى موضع اخر، قال: ان كان الذي بنى المسجد يريد ان يحوله خوفا من لصوص، او يكون موضعه موضعا قذرا فلا باس.

قال احمد: حدثنا يزيد بن هارون، ثنا المسعودي، عن القاسم قال: لما قدم عبد الله بن مسعود الى بيت المال، كان سعد بن مالك قد بنى القصر، واتخذ مسجدا عند اصحاب النمر، قال فنقب بيت المال فاخذ الرجل الذي نقبه، فكتب فيه الى عمر بن الخطاب، فكتب عمر: ان اقطع الرجل، وانقل المسجد، واجعل بيت المال في قبلة المسجد، فانه لا يزال في المسجد مصل.

فنقله عبد الله فخط له هذه الخطة.

قال صالح: قال ابي: يقال ان بيت المال نقب في مسجد الكوفة فحول عبد الله بن مسعود المسجد موضع التاذين اليوم في موضع المسجد العتيق؛ يعني احمد ان المسجد الذي بناه ابن مسعود كان موضع التاذين في زمان احمد، وهذا المسجد هو المسجد العتيق، ثم غير مسجد الكوفة مرة ثالثة.

وقال ابو الخطاب: سيل ابو عبد الله يحول المسجد؟ قال: اذا كان ضيقا لا يسع اهله فلا باس ان يحول الى موضع اوسع منه.

وجوز احمد ان يرفع المسجد الذي على الارض، ويبنى تحته سقاية للمصلحة.

وان تنازع الجيران.

فقال بعضهم: نحن شيوخ لا نصعد في الدرج، واختار بعضهم بناءه.

فقال احمد: ينظر الى ما يختار الاكثر.

وقد تاول بعض اصحابه هذا على انه ابتدا البناء، ومحققو اصحابه يعلمون ان هذا التاويل خطا، لان نصوصه في غير موضع صريحة بتحويل المسجد، فاذا كان احمد قد افتى بما فعله الصحابة، حيث جعلوا المسجد غير المسجد لاجل المصلحة مع ان حرمة المسجد اعظم من حرمة ساير البقاع، فانه قد ثبت في صحيح مسلم: عن ابي هريرة: «ان رسول الله قال: واحب البقاع الى الله مساجدها وابغض البقاع الى الله اسواقها» فاذا جاز جعل البقعة المحترمة المشتركة بين المسلمين، بقعة غير محترمة للمصلحة، فلان يجوز جعل المشتركة التي ليست محترمة: كالطريق الواسع.

بقعة محترمة وتابعة للبقعة المحترمة بطريق الاولى والاحرى، فانه لا ريب ان حرمة المساجد اعظم من حرمة الطرقات.

وكلاهما منفعة مشتركة.

What's Your Reaction?

like
0
dislike
0
love
0
funny
0
angry
0
sad
0
wow
0