كتاب الجنائز

كتاب الجنائز

كتاب الجنائز
ِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَابْتِدَاءِ السَّلَامِ، وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ النَّصُّ وُجُوبُ ذَلِكَ، فَيُقَالُ هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ. الْأَدْيَانُ عِنْدَ الْمَوْتِ عَلَى الْعَبْدِ لَيْسَ أَمْرًا عَامًّا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَلَا هُوَ أَيْضًا مَنْفِيًّا عَنْ كُلِّ أَحَدٍ، بَلْ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْأَدْيَانُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْرَضُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا الَّتِي أَمَرَنَا أَنْ نَسْتَعِيذَ فِي صَلَاتِنَا مِنْهَا، وَوَقْتُ الْمَوْتِ يَكُونُ الشَّيْطَانُ أَحْرَصَ مَا يَكُونُ عَلَى إغْوَاءِ بَنِي آدَمَ. وَعَمَلُ الْقَلْبِ مِنْ التَّوَكُّلِ، وَالْخَوْفِ، وَالرَّجَاءِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ، وَالصَّبْرِ وَاجِبٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَا يَلْزَمُ الرِّضَا بِمَرَضٍ وَفَقْرٍ وَعَاهَةٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَالصَّبْرُ تُنَافِيهِ الشَّكْوَى، وَالصَّبْرُ الْجَمِيلُ تُنَافِيهِ الشَّكْوَى إلَى الْمَخْلُوقِ لَا إلَى الْخَالِقِ بَلْ هِيَ مَطْلُوبَةٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}[الأنعام: 42] إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ. وَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ خَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ وَاحِدًا، فَأَيُّهُمَا غَلَبَ هَلَكَ صَاحِبُهُ وَنَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ مَنْ غَلَبَ خَوْفُهُ وَقَعَ فِي نَوْعٍ مِنْ الْيَأْسِ، وَمَنْ غَلَبَ رَجَاؤُهُ وَقَعَ فِي نَوْعٍ مِنْ الْأَمْنِ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ. وَتُعْتَبَرُ الْمَصْلَحَةُ فِي الْعِبَادَةِ الدِّعَائِيَّةِ، وَلَا يُشْهَدُ بِالْجَنَّةِ إلَّا لِمَنْ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ. وَتَوَاطُؤُ الرُّؤْيَا لِتَوَاطُؤِ الشَّهَادَاتِ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ غَيْرَهُ لَا يَقُومُ بِأَمْرِ الْمَيِّتِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ وَقَالَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ، وَتُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَلَا تَجِبُ وَهُوَ ظَاهِرُ نَقْلِ أَبِي طَالِبٍ، وَيُصَلِّي عَلَى الْجِنَازَةِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ، وَهُوَ وَجْهٌ فِي الْمَذْهَبِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْقُنُوتِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَمَنْ صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ فَلَا يُعِيدُهَا إلَّا لِسَبَبٍ مِثْلُ أَنْ يُعِيدَ غَيْرُهُ الصَّلَاةَ فَيُعِيدَهَا مَعَهُ أَوْ يَكُونَ هُوَ أَحَقَّ بِالْإِمَامَةِ مِنْ الطَّائِفَةِ الَّتِي صَلَّتْ أَوَّلًا، فَيُصَلِّي بِهِمْ وَيُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ إلَى شَهْرٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ. صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ وَهِيَ عَلَى أَعْنَاقِ الرِّجَالِ وَهِيَ وَاقِفَةٌ فَهَذَا لَهُ مَأْخَذَانِ الْأَوَّلُ اسْتِقْرَارُ الْمَحَلِّ فَقَدْ يُخَرَّجُ عَلَى الصَّلَاةِ فِي السَّفِينَةِ وَعَلَى الرَّاحِلَةِ مَعَ اسْتِيفَاءِ الْفَرَائِضِ وَإِمْكَانِ الِانْتِقَالِ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَالثَّانِي اشْتِرَاطُ مُحَاذَاةِ الْمُصَلِّي لِلْجِنَازَةِ، فَلَوْ كَانَتْ أَعْلَى مِنْ رَأْسِهِ فَهَذَا قَدْ يُخَرَّجُ عَلَى عُلُوِّ الْإِمَامِ عَلَى الْمَأْمُومِ فَلَوْ وُضِعَتْ عَلَى كُرْسِيٍّ عَالٍ أَوْ مِنْبَرٍ ارْتَفَعَ الْمَحْذُورُ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي قُلْت قَالَ أَبُو الْمَعَالِي لَوْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ وَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْأَعْنَاقِ أَوْ عَلَى دَابَّةٍ أَوْ صَغِيرٍ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْجِنَازَةَ بِمَنْزِلَةِ الْإِمَامِ. وَقَالَ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ وَجَمَاعَةٌ: يُشْتَرَطُ حُضُورُ السَّرِيرِ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي وَلَا يُصَلَّى عَلَى الْغَائِبِ عَنْ الْبَلَدِ إنْ كَانَ صُلِّيَ عَلَيْهِ وَهُوَ وَجْهٌ فِي الْمَذْهَبِ وَمُقْتَضَى اللَّفْظِ أَنَّ مَنْ هُوَ خَارِجُ السُّورِ أَوْ مَا يُقَدَّرُ سُورًا يُصَلِّي عَلَيْهِ أَمَّا الْغَائِبُ فَهُوَ الَّذِي يَكُونُ انْفِصَالُهُ عَنْ الْبَلَدِ بِمَا يُعَدُّ الذَّهَابُ إلَيْهِ نَوْعُ سَفَرٍ. وَقَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ: إنَّهُ يَكْفِي خَمْسُونَ خُطْوَةً وَأَقْرَبُ الْحُدُودِ مَا يَجِبُ فِيهِ الْجُمُعَةُ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ فِي الْبَلَدِ فَلَا يُعَدُّ غَائِبًا عَنْهُ وَلَا يُصَلَّى كُلَّ يَوْمٍ عَلَى غَائِبٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ يُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ إذَا مَاتَ رَجُلٌ صَالِحٌ صُلِّيَ عَلَيْهِ وَاحْتَجَّ بِقِصَّةِ النَّجَاشِيِّ وَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّهُ كُلَّ لَيْلَةٍ يُصَلِّي عَلَى جَمِيعِ مَنْ مَاتَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا رَيْبَ أَنَّهُ بِدْعَةٌ وَمَنْ مَاتَ وَكَانَ لَا يُزَكِّي وَلَا يُصَلِّي إلَّا فِي رَمَضَانَ يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ أَنْ يَدَعُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ عُقُوبَةً وَنَكَالًا لِأَمْثَالِهِ لِتَرْكِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ عَلَى الْقَاتِلِ نَفْسَهُ وَعَلَى الْغَالِّ وَالْمَدِينِ الَّذِي لَهُ وَفَاءٌ وَلَا بُدَّ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا كَمَنْ عُلَمِ نِفَاقُهُ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ وَمَنْ لِمَ يُعْلَمْ نِفَاقَهُ صَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَرَحَّم عَلَى مَنْ مَاتَ كَافِرًا وَمَنْ مَاتَ مُظْهِرًا لِلْفِسْقِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ كَأَهْلِ الْكَبَائِرِ وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى أَحَدِهِمْ زَجْرًا لِأَمْثَالِهِ عَنْ مِثْلِ فِعْلِهِ كَانَ حَسَنًا وَلَوْ امْتَنَعَ فِي الظَّاهِرِ وَدَعَا لَهُ فِي الْبَاطِنِ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ كَانَ أَوْلَى مِنْ تَفْوِيتِ إحْدَاهُمَا. وَتَرْكُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غُسْلَ الشَّهِيدِ وَالصَّلَاةَ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، أَمَّا اسْتِحْبَابُ التَّرْكِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْفِعْلِ وَيَتْبَعُ الْجِنَازَةَ وَلَوْ لِأَجْلِ أَهْلِهِ فَقَطْ إحْسَانًا إلَيْهِمْ لِتَأَلُّفِهِمْ أَوْ مُكَافَأَةً أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْمَيِّتُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي قُبِضَ فِيهَا» أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُ، وَحَمَلَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَلَى أَنَّ الثِّيَابَ الَّتِي يَمُوتُ فِيهَا الْعَبْدُ هِيَ مَا مَاتَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ سَوَاءٌ كَانَ صَالِحًا أَوْ سَيِّئًا؛ وَرَجَّحَ أَبُو الْعَبَّاسِ هَذَا بِأَنَّ الَّذِي جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ «يُبْعَثُ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ» رَوَاهُ حَاتِمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَقَالَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ تُبَيِّنُ أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ عُرَاةً، وَيُسْتَحَبُّ الْقِيَامُ لِلْجِنَازَةِ إذَا مَرَّتْ بِهِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. وَاخْتِيَارُ ابْنِ عَقِيلٍ، وَإِذَا كَانَ مَعَ الْجِنَازَةِ مُنْكَرٌ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ إزَالَتِهِ تَبِعَهَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَأَنْكَرَ بِحَسَبِهِ وَيُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ مَعَ الْجِنَازَةِ وَلَوْ بِالْقِرَاءَةِ اتِّفَاقًا وَضَرْبُ النِّسَاءِ بِالدُّفِّ مَعَ الْجِنَازَةِ مُنْكَرٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَمَنْ بَنَى فِي مَقْبَرَةِ الْمُسْلِمِينَ مَا يَخْتَصُّ بِهِ فَهُوَ عَاصٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَيَحْرُمُ الْإِسْرَاجُ عَلَى الْقُبُورِ وَاِتِّخَاذُ الْمَسَاجِدِ عَلَيْهَا وَبَيْنَهَا وَيَتَعَيَّنُ إزَالَتُهَا. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمَعْرُوفِينَ وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الْمَشْيُ إلَى الْمَسْجِدِ إلَّا عَلَى الْجَنَابَةِ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَا يَتْرُكُ الْمَسْجِدَ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ لِلْمَيِّتِ عِنْدَ الْقَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ وَاقِفًا قَالَ أَحْمَدُ لَا بَأْسَ بِهِ قَدْ فَعَلَهُ عَلِيٌّ وَالْأَحْنَفُ. وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَقِفُ فَيَدْعُو» وَلِأَنَّهُ مُعْتَادٌ بِدَلِيلٍ قَوْله تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ {وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}[التوبة: 84] وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَتَلْقِينُ الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَلَكِنْ مِنْ الْأَئِمَّةِ مَنْ رَخَّصَ فِيهِ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَقَدْ اسْتَحَبَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَكْرَهُهُ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ بِدْعَةٌ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ فَالْأَقْوَالُ فِيهِ ثَلَاثَةٌ: الِاسْتِحْبَابُ وَالْكَرَاهَةُ وَالْإِبَاحَةُ وَهُوَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ، وَغَيْرُ الْمُكَلَّفِ يُمْتَحَنُ وَيُسْأَلُ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ قَالَهُ أَبُو حَكِيمٍ وَغَيْرُهُ وَيُكْرَهُ دَفْنُ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَاخْتَارَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَصْحَابِ. وَحَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ «ثَلَاثُ سَاعَاتٍ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ أَوْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا» فَسَّرَ بَعْضُهُمْ الْقَبْرَ بِأَنَّهُ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ لَا تُكْرَهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ تَعَمُّدُ تَأْخِيرِ الدَّفْنِ إلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، كَمَا يُكْرَهُ تَعَمُّدُ تَأْخِيرِ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى اصْفِرَارِ الشَّمْسِ بِلَا عُذْرٍ. فَأَمَّا إذَا وَقَعَ الدَّفْنُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ بِلَا تَعَمُّدٍ فَلَا يُكْرَهُ وَلَا يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَحْفِرَ قَبْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ هُوَ وَلَا أَصْحَابُهُ وَالْعَبْدُ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَمُوتُ. وَإِذَا كَانَ مَقْصُودُ الرَّجُلِ الِاسْتِعْدَادَ لِلْمَوْتِ، فَهَذَا يَكُونُ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَيُسْتَحَبُّ الْبُكَاءُ عَلَى الْمَيِّتِ رَحْمَةً لَهُ وَهُوَ أَكْمَلُ مِنْ الْفَرَحِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالْمَيِّتُ يَتَأَذَّى بِنَوْحِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَمَا يُهَيِّجُ الْمُصِيبَةَ مِنْ إنْشَادِ الشِّعْرِ وَالْوَعْظِ فَمِنْ النَّائِحَةِ وَفِي الْفُنُونِ لِابْنِ عَقِيلٍ مَا يُوَافِقُهُ وَيَحْرُمُ الذَّبْحُ وَالتَّضْحِيَةُ عِنْدَ الْقَبْرِ وَنَقَلَ أَحْمَدُ كَرَاهَةَ الذَّبْحِ عِنْدَ الْقَبْرِ وَلِهَذَا كَرِهَ الْعُلَمَاءُ الْأَكْلَ مِنْ هَذِهِ الذَّبِيحَةِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَإِخْرَاجُ الصَّدَقَةِ مَعَ الْجِنَازَةِ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ وَهِيَ تُشْبِهُ الذَّبْحَ عِنْدَ الْقَبْرِ وَلَا يُشْرَعُ شَيْءٌ مِنْ الْعِبَادَاتِ عِنْدَ الْقُبُورِ الصَّدَقَةُ وَغَيْرُهَا، وَيَجُوزُ زِيَارَةُ قَبْرِ الْكَافِرِ لِلِاعْتِبَارِ وَلَا يُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنْ زِيَارَةِ قَبْرِ أَبِيهِ الْمُسْلِمِ، وَاسْتَفَاضَتْ الْآثَارُ بِمَعْرِفَةِ الْمَيِّتِ أَهْلَهُ وَبِأَحْوَالِ أَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ فِي الدُّنْيَا وَأَنَّ ذَلِكَ يُعْرَضُ عَلَيْهِ وَجَاءَتْ الْآثَارُ بِأَنَّهُ يَرَى أَيْضًا وَبِأَنَّهُ يَدْرِي بِمَا يُفْعَلُ عِنْدَهُ فَيُسَرُّ بِمَا كَانَ حَسَنًا وَيَتَأَلَّمُ بِمَا كَانَ قَبِيحًا وَتَجْتَمِعُ أَرْوَاحُ الْمَوْتَى فَيَنْزِلُ الْأَعْلَى إلَى الْأَدْنَى لَا الْعَكْسُ وَلَا تَتْبَعُ النِّسَاءُ الْجَنَائِزَ وَنَقَلَ الْجَمَاعَةُ عَنْ أَحْمَدَ كَرَاهَةَ الْقُرْآنِ عَلَى الْقُبُورِ. وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَعَلَيْهَا قُدَمَاءُ أَصْحَابِهِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ: إنَّ الْقِرَاءَةَ عِنْدَ الْقَبْرِ أَفْضَلُ وَلَا رَخَّصَ فِي اتِّخَاذِهِ عِيدًا كَاعْتِيَادِ الْقِرَاءَةِ عِنْدَهُ فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ أَوْ الذِّكْرِ أَوْ الصِّيَامِ، وَاِتِّخَاذُ الْمَصَاحِفِ عِنْدَ الْقَبْرِ بِدْعَةٌ وَلَوْ لِلْقِرَاءَةِ وَلَوْ نَفَعَ الْمَيِّتَ لَفَعَلَهُ السَّلَفُ بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ كَالْقِرَاءَةِ فِي الْمَسَاجِدِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمُعْتَبَرِينَ أَنَّ الْمَيِّتَ يُؤْجَرُ عَلَى اسْتِمَاعِهِ لِلْقُرْآنِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ يَنْتَفِعُ بِسَمَاعِهِ دُونَ مَا إذَا بَعُدَ فَقَوْلُهُ بَاطِلٌ يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ، وَالْقِرَاءَةَ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِدْعَةٌ بِخِلَافِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْمُحْتَضَرِ فَإِنَّهَا تُسْتَحَبُّ بِيَاسِينَ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي غَرْسِ الْجَرِيدَتَيْنِ نِصْفَيْنِ عَلَى الْقَبْرَيْنِ: إنَّ الشَّجَرَ وَالنَّبَاتَ يُسَبِّحُ مَا دَامَ أَخْضَرَ فَإِذَا يَبِسَ انْقَطَعَ تَسْبِيحُهُ، وَالتَّسْبِيحُ وَالْعِبَادَةُ عِنْدَ الْقَبْرِ مِمَّا تُوجِبُ تَخْفِيفَ الْعَذَابِ كَمَا يُخَفَّفُ الْعَذَابُ عَنْ الْمَيِّتِ بِمُجَاوَرَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْآثَارُ الْمَعْرُوفَةُ وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي الْيَابِسِ مِنْ النَّبَاتِ مَا قَدْ يَكُونُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْجَامِدَاتِ مِثْلُ حُنَيْنِ الْجِذْعِ الْيَابِسِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَسْلِيمِ الْحَجَرِ وَالْمَدَرِ عَلَيْهِ وَتَسْبِيحِ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ. وَهُوَ التَّسْبِيحُ تَسْبِيحٌ مَسْمُوعٌ لَا بِالْحَالِ، كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ النُّظَّارِ، وَأَمَّا هَذِهِ الْأَوْقَافُ عَلَى التُّرَبِ فَفِيهَا مِنْ الْمَصْلَحَةِ بَقَاءُ حِفْظِ الْقُرْآنِ وَتِلَاوَتِهِ وَكَوْنُ هَذِهِ الْأَمْوَالِ مَعُونَةً عَلَى ذَلِكَ وَحَاضَّةً عَلَيْهِ إذْ قَدْ يُدْرَسُ حِفْظُ الْقُرْآنِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ بِسَبَبِ عَدَمِ الْأَسْبَابِ الْحَامِلَةِ عَلَيْهِ وَفِيهَا مَفَاسِدُ أُخَرُ مِنْ حُصُولِ الْقِرَاءَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَالتَّأَكُّلِ بِالْقُرْآنِ وَقِرَاءَتِهِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ وَاشْتِغَالِ النُّفُوسِ بِذَلِكَ عَنْ الْقِرَاءَةِ الْمَشْرُوعَةِ فَمَتَى أَمْكَنَ تَحْصِيلُ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ بِدُونِ ذَلِكَ الْفَسَادِ جَازَ وَالْوَجْهُ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ الْمَنْعِ وَإِبْطَالِهِ وَإِنْ ظَنَّ حُصُولَ مَفْسَدَةٍ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَدْفَعْ أَدْنَى الْفَسَادَيْنِ بِاحْتِمَالٍ لِأَعْلَاهُمَا وَلَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَةِ السَّلَفِ إذَا صَلَّوْا تَطَوُّعًا أَوْ صَامُوا تَطَوُّعًا أَوْ حَجُّوا تَطَوُّعًا أَوْ قَرَءُوا الْقُرْآنَ يُهْدُونَ ثَوَابَ ذَلِكَ إلَى أَمْوَاتِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْ طَرِيقِ السَّلَفِ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَنْتَفِعُ الْمَيِّتُ بِجَمِيعِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْقِرَاءَةِ كَمَا يَنْتَفِعُ بِالْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ مِنْ الصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَنَحْوِهِمَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَكَمَا لَوْ دَعَا لَهُ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ وَالصَّدَقَةُ عَلَى الْمَيِّتِ أَفْضَلُ مِنْ عَمَلِ خَتْمَةٍ وَجَمْعِ النَّاسِ وَلَوْ أَوْصَى الْمَيِّتُ أَنْ يُصْرَفَ مَالٌ فِي هَذِهِ الْخَتْمَةِ وَقَصْدُهُ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ صُرِفَ إلَى مَحَاوِيجَ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَخَتْمَةٍ أَوْ أَكْثَرَ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ جَمْعِ النَّاسِ وَلَا يُسْتَحَبُّ الْقُرْبُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ هُوَ بِدْعَةٌ هَذَا الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَأَقْدَمُ مَنْ بَلَغَنَا أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ الْمُوَفَّقِ أَحَدُ الشُّيُوخِ الْمَشْهُورِينَ كَانَ أَقْدَمَ مِنْ الْجُنَيْدِ وَأَدْرَكَ أَحْمَدُ طَبَقَتَهُ وَعَاصَرَهُ وَعَاشَ بَعْدَهُ وَاتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَإِنَّهُ لَا يَتَمَسَّحُ بِالْقَبْرِ وَلَا يُقَبِّلُهُ بَلْ اتَّفَقُوا أَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ وَلَا يُقَبَّلُ إلَّا الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ، وَالرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ يُسْتَلَمُ وَلَا يُقَبَّلُ عَلَى الصَّحِيحِ قُلْت: بَلْ قَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ يُسْتَحَبُّ تَقْبِيلُ حُجْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَإِذَا سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَدَعَا فِي الْمَسْجِدِ وَلَمْ يَدْعُ مُسْتَقْبِلًا لِلْقَبْرِ كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَهُ وَهَذَا بِلَا نِزَاعٍ أَعْلَمُهُ وَمَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ فِيمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ مَعَ الْمَنْصُورِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي وَقْتِ التَّسْلِيمِ هَلْ يَسْتَقْبِلُ الْقَبْرَ أَوْ الْقِبْلَةَ فَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْقَبْرَ وَتَغْشِيَةُ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَغَيْرِهِمْ لَيْسَ فِي الدِّينِ. وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ الْخَضِرَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَيِّتٌ لَمْ يُدْرِكْ الْإِسْلَامَ وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَمُتْ بِحَيْثُ فَارَقَتْ رُوحُهُ بَدَنَهُ بَلْ هُوَ حَيٌّ مَعَ كَوْنِهِ تُوُفِّيَ وَالتَّوَفِّي الِاسْتِيفَاءُ وَهُوَ يَصْلُحُ لِتَوَفِّي النَّوْمِ وَلِتَوَفِّي الْمَوْتِ الَّذِي هُوَ فِرَاقُ الرُّوحِ الْبَدَنَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْقَبْضَ الَّذِي هُوَ قَبْضُ الرُّوحِ وَالْبَدَنِ جَمِيعًا. وَنَهْيُ النِّسَاءِ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ هَلْ هُوَ نَهْيُ تَنْزِيهٍ أَوْ تَحْرِيمٍ؟ فِيهِ قَوْلَانِ وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي الْعَبَّاسِ تَرْجِيحُ التَّحْرِيمِ لِاحْتِجَاجِهِ بِلَعْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَائِرَاتِ الْقُبُورِ وَتَصْحِيحِهِ إيَّاهُ، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ ادِّعَاءُ النَّسْخِ بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى حُكْمِهِ وَالْمَرْأَةُ لَا يُشْرَعُ لَهَا زِيَارَةٌ، لَا الزِّيَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ وَلَا غَيْرُهَا اللَّهُمَّ إلَّا إذَا اجْتَازَتْ بِقَبْرٍ بِطَرِيقِهَا فَسَلَّمَتْ عَلَيْهِ وَدَعَتْ لَهُ فَهَذَا أَحْسَنُ. وَلَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلَاثٍ إلَّا عَلَى زَوْجِهَا وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُصْلَحَ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ طَعَامٌ يُبْعَثُ بِهِ إلَيْهِمْ وَلَا يُصْلِحُونَ هُمْ طَعَامًا لِلنَّاسِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَقَابِرُ أَهْلِ الذِّمَّةِ مُتَمَيِّزَةً عَنْ مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَكُلَّمَا بَعُدَتْ كَانَ أَصْلَحَ. وَمَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا أَنَّ الْعَذَابَ أَوْ النَّعِيمَ لِرُوحِ الْمَيِّتِ وَبَدَنِهِ وَأَنَّ الرُّوحَ تَبْقَى بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْبَدَنِ مُنَعَّمَةً أَوْ مُعَذَّبَةً وَأَيْضًا تَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ أَحْيَانَا فَيَحْصُلُ لَهُ مَعَهَا النَّعِيمُ أَوْ الْعَذَابُ وَلِأَهْلِ السُّنَّةِ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّ النَّعِيمَ أَوْ الْعَذَابَ يَكُونُ لِلْبَدَنِ دُونَ الرُّوحِ وَعُلَمَاءُ الْكَلَامِ لَهُمْ أَقْوَالٌ شَاذَّةٌ فَلَا عِبْرَةَ بِهَا وَرُوحُ الْآدَمِيِّ مَخْلُوقَةٌ وَقَدْ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ وَغَيْرُهُ. فَصْلٌ قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْكِتَابِيُّ الْمُحَدِّثُ الْمَعْرُوفُ لَيْسَ مِنْ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ مَا يَثْبُتُ إلَّا قَبْرَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ غَيْرُهُ وَقَبْرُ إبْرَاهِيمَ أَيْضًا. وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ فِي كِتَابِ الطَّبَقَاتِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُرَّةَ قَالَ لَا نَعْلَمُ قَبْرَ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ إلَّا ثَلَاثَةً قَبْرَ إسْمَاعِيلَ فَإِنَّهُ تَحْتَ الْمِيزَابِ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَيْتِ وَقَبْرَ هُودٍ فِي كَثِيبٍ مِنْ الرَّمْلِ تَحْتَ جَبَلٍ مِنْ جِبَالِ الْيَمَنِ عَلَيْهِ شَجَرَةٌ تَبْدُو. مَوْضِعُهُ أَشَدُّ الْأَرْضِ حَرًّا، وَقَبْرَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ -. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَالْقُبَّةُ الَّتِي عَلَى الْعَبَّاسِ بِالْمَدِينَةِ يُقَالُ فِيهَا سَبْعَةٌ الْعَبَّاسُ وَالْحَسَنُ وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَأَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَيُقَالُ: إنَّ فَاطِمَةَ تَحْتَ الْحَائِطِ أَوْ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّ رَأْسَ الْحُسَيْنِ هُنَاكَ وَأَمَّا الْقُبُورُ الْمَكْذُوبَةُ مِنْهَا الْقَبْرُ الْمُضَافُ إلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي دِمَشْقَ وَالنَّاسُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ بِظَاهِرِ دِمَشْقَ قَبْرَ أُمِّ حَبِيبَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ كَذَبَ، وَلَكِنْ بِالشَّامِ مِنْ الصَّحَابِيَّاتِ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا أُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ فَهَذِهِ تُوُفِّيَتْ بِالشَّامِ فَهَذِهِ قَبْرُهَا مُحْتَمَلٌ وَأَمَّا قَبْرُ بِلَالٍ فَمُمْكِنٌ فَإِنَّهُ دُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ بِدِمَشْقَ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ دُفِنَ هُنَاكَ وَأَمَّا الْقَطْعُ بِتَعْيِينِ قَبْرِهِ فَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّهُ يُقَالُ: إنَّ تِلْكَ الْقُبُورَ حُرِثَتْ. وَمِنْهَا الْقَبْرُ الْمُضَافُ إلَى أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ غَرْبِي دِمَشْقَ فَإِنَّ أُوَيْسًا لَمْ يَجِئْ إلَى الشَّامِ وَإِنَّمَا ذَهَبَ إلَى الْعِرَاقِ وَمِنْهَا الْقَبْرُ الْمُضَافُ إلَى هُودٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِجَامِعِ دِمَشْقَ كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَإِنَّ هُودًا لَمْ يَجِئْ إلَى الشَّامِ بَلْ بُعِثَ بِالْيَمَنِ وَهَاجَرَ إلَى مَكَّةَ فَقِيلَ: إنَّهُ مَاتَ بِالْيَمَنِ وَقِيلَ: إنَّهُ مَاتَ بِمَكَّةَ وَإِنَّمَا ذَلِكَ قَبْرُ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ الَّذِي تَوَلَّى الْخِلَافَةَ مُدَّةً قَصِيرَةً ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يَعْهَدْ إلَى أَحَدٍ وَكَانَ فِيهِ دَيْنٌ وَصَلَاحٌ وَمِنْهَا قَبْرُ خَالِدٍ بِحِمْصَ يُقَالُ: إنَّهُ قَبْرُ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَخِي مُعَاوِيَةَ هَذَا وَلَكِنْ لَمَّا اُشْتُهِرَ أَنَّهُ خَالِدٌ. وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْعَامَّةِ أَنَّهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ هَلْ هُوَ قَبْرُهُ أَوْ قَبْرُ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ تُوُفِّيَ بِحِمْصَ وَقِيلَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ أَوْ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَأَوْصَى إلَى عُمَرَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا قَبْرُ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ الَّذِي بِدَارِيَّا اُخْتُلِفَ فِيهِ وَمِنْهَا قَبْرُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الَّذِي بِمِصْرَ فَإِنَّهُ كَذِبٌ قَطْعًا فَإِنَّ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ بِإِجْمَاعٍ وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ. وَمِنْهَا مَشْهَدُ الرَّأْسِ الَّذِي بِالْقَاهِرَةِ فَإِنَّ الْمُصَنِّفِينَ فِي مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الرَّأْسَ لَيْسَ بِمِصْرَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا كَذِبٌ وَأَصْلُهُ أَنَّهُ نُقِلَ مِنْ مَشْهَدٍ بِعَسْقَلَانَ وَذَلِكَ الْمَشْهَدُ بُنِيَ قَبْلَ هَذَا بِنَحْوٍ مِنْ سِتِّينَ سَنَةً أَوْ أَوَاخِرَ الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ وَهَذَا بُنِيَ فِي أَثْنَاءِ الْمِائَةِ السَّادِسَةِ بَعْدَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِنَحْوِ ثَلَثِمِائَةِ عَامٍ، وَقَدْ بَيَّنَ كَذِبَ الْمَشْهَدِ أَبُو دِحْيَةَ فِي الْمَعْلَمِ الْمَشْهُورِ وَأَنَّ الرَّأْسَ دُفِنَ بِالْمَدِينَةِ كَمَا ذَكَرَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارَ وَاَلَّذِي صَحَّ مِنْ حَمْلِ الرَّأْسِ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ أَنَّهُ حُمِلَ إلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ وَجَعَلَ يَنْكُتُ بِالْقَضِيبِ عَلَى ثَنَايَاهُ وَقَدْ شَهِدَ ذَلِكَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَفِي رِوَايَةِ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ وَكِلَاهُمَا كَانَ بِالْعِرَاقِ. وَقَدْ رُوِيَ بِإِسْنَادٍ مُنْقَطِعٍ أَوْ مَجْهُولٍ أَنَّهُ حُمِلَ إلَى يَزِيدَ وَجَعَلَ يَنْكُتُ بِالْقَضِيبِ عَلَى ثَنَايَاهُ وَأَنَّ أَبَا بَرْزَةَ كَانَ حَاضِرًا وَأَنْكَرَ هَذَا، وَهَذَا كَذِبٌ فَإِنَّ أَبَا بَرْزَةَ لَمْ يَكُنْ بِالشَّامِ عِنْدَ يَزِيدَ بَلْ كَانَ بِالْعِرَاقِ وَأَمَّا بَدَنُ الْحُسَيْنِ فَبِكَرْبَلَاءَ بِالِاتِّفَاقِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَقَدْ حَدَّثَنِي طَائِفَةٌ عَنْ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ وَطَائِفَةٌ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ خَلَفٍ الدِّمْيَاطِيِّ وَطَائِفَةٌ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْقَسْطَلَّانِيِّ وَطَائِفَةٌ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيِّ صَاحِبِ التَّفْسِيرِ كُلُّ هَؤُلَاءِ حَدَّثَنِي عَنْهُ مَنْ لَا أَتَّهِمُهُ. وَحَدَّثَنِي عَنْ بَعْضِهِمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ كُلٌّ يُحَدِّثُنِي عَمَّنْ حَدَّثَهُ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ أَمْرَ هَذَا الْمَشْهَدِ وَيَقُولُ إنَّهُ كَذِبٌ وَلَيْسَ فِي قَبْرِ الْحُسَيْنِ وَلَا شَيْءٍ مِنْهُ وَاَلَّذِينَ حَدَّثُونِي عَنْ ابْنِ الْقَسْطَلَّانِيِّ ذَكَرُوا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ إنَّمَا فِيهِ غَيْرُهُ. وَمِنْهَا قَبْرُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الَّذِي بِبَاطِنِ النَّجَفِ فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ عَلِيًّا دُفِنَ بِقَصْرِ الْإِمَارَةِ بِالْكُوفَةِ كَمَا دُفِنَ مُعَاوِيَةُ بِقَصْرِ الْإِمَارَةِ بِالشَّامِ وَدُفِنَ عَمْرٌو بِقَصْرِ الْإِمَارَةِ بِمِصْرَ خَوْفًا عَلَيْهِمْ مِنْ الْخَوَارِجِ أَنْ يَنْبُشُوا قُبُورَهُمْ وَلَكِنْ قِيلَ: إنَّ الَّذِي بِالنَّجَفِ قَبْرُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَذْكُرُ أَنَّهُ قَبْرُ عَلِيٍّ وَلَا يَقْصِدُ أَحَدٌ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَثِمِائَةِ سَنَةٍ. وَمِنْهَا قَبْرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي الْجَزِيرَةِ وَالنَّاسُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ مَاتَ بِمَكَّةَ عَامَ قُتِلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَأَوْصَى أَنْ يُدْفَنَ بِالْحِلِّ لِكَوْنِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَدَفَنُوهُ بِأَعْلَى مَكَّةَ وَمِنْهَا قَبْرُ جَابِرٍ الَّذِي بِظَاهِرِ حَرَّانَ وَالنَّاسُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ جَابِرًا تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنْ الصَّحَابَةِ بِهَا. وَمِنْهَا قَبْرٌ نُسِبَ إلَى أُمِّ كُلْثُومٍ وَرُقَيَّةَ بِالشَّامِ وَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ أَنَّهُمَا مَاتَا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ تَحْتَ عُثْمَانَ وَهَذَا إنَّمَا هُوَ سَبَبُ اشْتَرَاك الْأَسْمَاءِ لَعَلَّ شَخْصًا يُسَمَّى بِاسْمِ مَنْ ذُكِرَ، تُوُفِّيَ وَدُفِنَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمَذْكُورَةِ فَظَنَّ بَعْضُ الْجُهَّالِ أَنَّهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

What's Your Reaction?

like
0
dislike
0
love
0
funny
0
angry
0
sad
0
wow
0