المسلك الثامن قوله سبحانه واذا طلقتم النساء فبلغن اجلهن
المسلك الثامن قوله سبحانه واذا طلقتم النساء فبلغن اجلهن
الْمَسْلَكُ الثَّامِنُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ
ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا}[البقرة: 231] ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَلْعَبُونَ بِحُدُودِ اللَّهِ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِآيَاتِهِ طَلَّقْتُك رَاجَعْتُك طَلَّقْتُك رَاجَعْتُك» وَفِي لَفْظٍ لِابْنِ مَاجَهْ «خَلَعْتُك رَاجَعْتُك»
وَقَدْ رُوِيَ مُرْسَلًا عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَرْتَجِعَ الْمَرْأَةَ يَقْصِدُ بِذَلِكَ مُضَارَّتَهَا بِأَنْ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تُشَارِفَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ، ثُمَّ يَرْتَجِعَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا قَبْلَ جِمَاعٍ أَوْ بَعْدَهُ، وَيُمْهِلَهَا حَتَّى تُشَارِفَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ ثُمَّ يَرْتَجِعَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا، فَتَصِيرَ الْعِدَّةُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَهَكَذَا، فَسَّرَهُ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ، وَجَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَوْ وَقَعَ اتِّفَاقًا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ بِأَنْ يَرْتَجِعَهَا رَاغِبًا فِيهِ ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فَيُطَلِّقُهَا ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فَيَرْتَجِعُهَا رَاغِبًا ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فَيُطَلِّقُهَا لَمْ يُحَرَّمْ ذَلِكَ عَلَيْهِ، لَكِنْ لَمَّا فَعَلَهُ لَا لِلرَّغْبَةِ لَكِنْ لِمَقْصُودٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لِيُطِيلَ الْعِدَّةَ عَلَيْهَا حُرِّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَتَطْوِيلُ الْعِدَّةِ هُنَا لَمْ يُحَرَّمْ؛ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ ضَرَرٌ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَحُرِّمَ
وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الضَّرَرَ كَالطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ أَوْ بَعْدَ الْوَطْءِ قَبْلَ اسْتِبَانَةِ الْحَمْلِ، وَإِنَّمَا حُرِّمَ لِأَنَّهُ قَصَدَ الضَّرَرَ، فَالضَّرَرُ هُنَا إنَّمَا حَصَلَ بِأَنْ قَصَدَ بِالْعَقْدِ فُرْقَةً تُوجِبُ ضَرَرًا لَوْ حَصَلَ بِغَيْرِ قَصْدٍ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ سَبَبُهُ حَرَامًا، كَمَا أَنَّ الْمُحَلِّلَ قَصَدَ بِالْعَقْدِ فُرْقَةً تُوجِبُ تَحْلِيلًا لَوْ حَصَلَ بِغَيْرِ قَصْدٍ لَمْ يَكُنْ سَبَبُهُ حَرَامًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ لِغَيْرِ
مَقْصُودِ الْعَقْدِ مُحَرِّمًا لِلْعَقْدِ أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحَرِّمًا لِلْعَقْدِ وَالْفِعْلُ الْمَقْصُودُ هُنَا وَهُوَ الطَّلَاقُ الْمُوجِبُ لِلْعِدَّةِ لَيْسَ مُحَرَّمًا فِي نَفْسِهِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا عَلَى أَصْلِ مَنْ يَعْتَبِرُ ذَلِكَ، وَهُوَ خِلَافُ الْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ مُحَرِّمًا لِلْعَقْدِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ بَاطِلًا، وَذَلِكَ أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُنْضَمَّ إلَى النِّكَاحِ الْمُتَقَدِّمِ يُوجِبُ الْعِدَّةَ الْمُحَرِّمَةَ
لِنِكَاحِهَا، وَيُوجِبُ حِلَّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ النِّكَاحُ وُجُودَ تَحْرِيمٍ شُرِعَ ضِمْنًا، أَوْ وُجُودَ تَحْلِيلٍ شُرِعَ ضِمْنًا.
فَإِنَّهُ مَا شَرَعَ اللَّهُ مِنْ التَّحْرِيمِ أَوْ التَّحْلِيلِ ضِمْنًا وَتَبَعًا لَا أَصْلًا وَقَصْدًا، وَمَتَى أَرَادَهُ الْإِنْسَانُ أَصْلًا وَقَصْدًا فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي حُكْمِهِ.
يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنَّ الطَّلَاقَ سَبَبٌ لِوُجُودِ الْعِدَّةِ، وَإِذَا وَقَعَ كَانَتْ الْعِدَّةُ عِبَادَةً لِلَّهِ تُثَابُ الْمَرْأَةُ عَلَيْهَا إذَا قَصَدَتْ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّ الطَّلَاقَ الثَّانِيَ سَبَبٌ يُحِلُّ الْمُطَلَّقَةَ، وَالرَّجْعَةُ مَقْصُودُهَا الْمُقَامُ مَعَ الزَّوْجَةِ لَا فِرَاقُهَا.
كَمَا أَنَّ النِّكَاحَ مَقْصُودُهُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ فِي الْعِدَّةِ ضَرَرٌ بِالْمَرْأَةِ يُحْتَمَلُ مِنْ الشَّارِعِ إيجَابُ مَا يَتَضَمَّنُهُ، وَلَا يُحْتَمَلُ مِنْ الْعَبْدِ قَصْدُ حُصُولِهِ، وَكَذَلِكَ مِنْ طَلَاقِ الزَّوْجِ الثَّانِي حِلٌّ لِمُحْرِمٍ، وَزَوَالُ ذَلِكَ التَّحْرِيمِ يَتَضَمَّنُ زَوَالَ الْمَصْلَحَةِ الْحَاصِلَةِ فِي ذَلِكَ التَّحْرِيمِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا مَا فِي تَحْرِيمِهَا عَلَى الْمُطَلِّقِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ، وَزَوَالُ هَذِهِ
الْمَصْلَحَةِ يُحْتَمَلُ مِنْ الشَّارِعِ إثْبَاتُ مَا يَتَضَمَّنُهُ، وَلَا يُحْتَمَلُ مِنْ الْعَبْدِ قَصْدُ حُصُولِهِ، وَلَا فَرْقَ فِي الْحَقِيقَةِ بَيْنَ قَصْدِ تَحْلِيلِ مَا لَمْ يُشْرَعْ تَحْلِيلُهُ مَقْصُودًا.
وَبَيْنَ قَصْدِ تَحْرِيمِ مَا لَمْ يُشْرَعْ تَحْرِيمُهُ مَقْصُودًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَا الْوَجْهُ قَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي قَاعِدَةِ الْحِيَلِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا لِخُصُوصِهِ فِي النِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ.