اوجه الرد علي المعارضين
اوجه الرد علي المعارضين
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: " أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِهَا عِنْدَ الْعَامَّةِ " فَمَا فَاتَحْتُ عَامِّيًّا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَطُّ.
وَأَمَّا
✩✩✩✩✩✩✩
الْجَوَابُ:
✩✩✩✩✩✩✩
بِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ الْمُسْتَرْشِدَ الْمُسْتَهْدِيَ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى}[البقرة: 159] الْآيَةَ، فَلَا يُؤْمَرُ الْعَالِمُ بِمَا يُوجِبُ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَأَخَذَا الْجَوَابَ وَذَهَبَا فَأَطَالَا الْغَيْبَةَ، ثُمَّ
رَجَعَا وَلَمْ يَأْتِيَا بِكَلَامٍ مُحَصَّلٍ إلَّا طَلَبَ الْحُضُورِ، فَأَغْلَظْتُ لَهُمْ فِي الْجَوَابِ وَقُلْتُ لَهُمْ بِصَوْتٍ رَفِيعٍ: يَا مُبَدِّلِينَ يَا مُرْتَدِّينَ عَنْ الشَّرِيعَةِ يَا زَنَادِقَةً، وَكَلَامًا آخَرَ كَثِيرًا، ثُمَّ قُمْتُ وَطَلَبْتُ فَتْحَ الْبَابِ وَالْعَوْدَ إلَى مَكَانِي.
وَقَدْ كَتَبْت هُنَا بَعْضَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمِحْنَةِ الَّتِي طَلَبُوهَا مِنِّي فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَبَيَّنْت بَعْضَ مَا فِيهَا مِنْ تَبْدِيلِ الدِّينِ، وَإِتْبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ نَكْتُبُ مِنْهَا مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِيهِ أَمْرٌ بِهَذَا الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ الَّذِي لَمْ يُؤْثَرْ عَنْ اللَّهِ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا بَلْ هُوَ مِنْ ابْتِدَاعِ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْجَهْمِيَّةِ الَّذِي وَصَفَ رَبَّهُ فِيهِ بِمَا وَصَفَهُ، وَنَهَى فِيهِ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ الَّذِي وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ، أَنْ يُفْتَى بِهِ أَوْ يُكْتَبَ بِهِ أَوْ يُبَلَّغَ لِعُمُومِ
الْأُمَّةِ، وَهَذَا نَهْيٌ عَنْ الْقُرْآنِ وَالشَّرِيعَةِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْهُدَى وَالرَّشَادِ وَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعَنْ مَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَى أَنْبِيَائِهِ.
وَأَمْرٌ بِالنِّفَاقِ وَالْحَدِيثِ الْمُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْبِدْعَةِ وَالْمُنْكَرِ وَالضَّلَالِ وَالْغَيِّ وَطَاعَةِ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَاتِّبَاعٍ لِمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ تَبْدِيلِ دِينِ الرَّحْمَنِ بِدِينِ الشَّيْطَانِ وَاِتِّخَاذِ أَنْدَادٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}[التوبة: 71]
وَقَالَ تَعَالَى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ}[التوبة: 67] ، الْآيَةَ.
وَهَذَا الْكَلَامُ نَهْيٌ فِيهِ عَنْ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَمْرٌ بِسَبِيلِ الْمُنَافِقِينَ وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[البقرة: 101] ، - إلَى قَوْلِهِ - {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا}[البقرة: 102] فَذَمَّ سُبْحَانَهُ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ نَبَذَ كِتَابَ اللَّهِ
وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَاتَّبَعَ مَا تَقُولُهُ الشَّيَاطِينُ، وَمَنْ أَمَرَ بِهَذَا الْكَلَامِ، فَقَدْ أَمَرَ بِنَبْذِ كِتَابِ اللَّهِ وَرَاءَ الظَّهْرِ حَيْثُ أَمَرَ بِتَرْكِ التَّعَرُّضِ لِمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ، وَذَلِكَ آيَاتُ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثُ الصِّفَاتِ، فَأَمَرَ بِأَنْ لَا يُفْتَى بِهَا، وَلَا يُكْتَبَ بِهَا، وَلَا تُبَلَّغَ لِعُمُومِ الْأُمَّةِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْإِعْرَاضِ عَنْهَا وَالنَّبْذِ لَهَا وَرَاءَ الظَّهْرِ، وَأَمْرٌ - مَعَ ذَلِكَ -
بِاعْتِقَادِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِمُخَالَفَةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ}[الأنعام: 112] ، {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ}[الأنعام: 121] الْآيَةَ، فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ لِلْأَنْبِيَاءِ عَدُوًّا مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يَعْلَمُ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا بِالْقَوْلِ الْمُزَخْرَفِ غُرُورًا، وَأَخْبَرَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تُوحِي إلَى أَوْلِيَائِهَا بِمُجَادَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ فَالْكَلَامُ الَّذِي يُخَالِفُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، هُوَ مِنْ وَحْيِ الشَّيَاطِينِ وَتِلَاوَتِهِمْ، فَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِهِ، فَقَدْ نَبَذَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَاتَّبَعَ مَا تَتْلُوهُ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: نَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِهَا عِنْدَ الْعَوَامّ وَلَا يَكْتُبَ بِهَا إلَى الْبِلَادِ وَلَا فِي الْفَتَاوَى الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا، يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ أَعْظَمِ أُصُولِ الدِّينِ وَدَعَائِمِهِ التَّوْحِيدِ، فَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِ الصِّفَاتِ آيَةَ الْكُرْسِيِّ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ
أَحَدٌ}[الإخلاص: 1] الَّتِي تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، كَمَا اسْتَفَاضَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَلِكَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ الَّتِي لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا، وَهِيَ أُمُّ الْقُرْآنِ الَّتِي لَا تُجْزِئُ الصَّلَاةُ إلَّا بِهَا فَإِنَّ قَوْلَهُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:
2] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة: 3] {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة: 4] .
كُلُّ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص: 1] قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِمْ فَيَخْتِمُ بِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص: 1] فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: سَلُوهُ
لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ فَأَنَا أُحِبُّ أَقْرَأُ بِهَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ» .
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَا كَانَ صِفَةً لِلَّهِ مِنْ الْآيَاتِ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ قِرَاءَتُهُ، وَاَللَّهُ يُحِبُّ ذَلِكَ، وَيُحِبُّ مَنْ يُحِبُّ ذَلِكَ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي اسْتِحْبَابِ قِرَاءَةِ آيَاتٍ فِي الصِّفَاتِ لِلصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ الَّتِي يَسْمَعُهَا الْعَامِّيُّ وَغَيْرُهُ، بَلْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَكَذَلِكَ أَوَّلُ سُورَةِ الْحَدِيدِ إلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[الحديد: 4]
هِيَ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ.
وَكَذَلِكَ آخِرُ سُورَةِ الْحَشْرِ هِيَ مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِ الصِّفَاتِ بَلْ جَمِيعُ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى هِيَ مِمَّا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ كَقَوْلِهِ: الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ؛ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ، الْعَزِيزُ الْقَوِيُّ، الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ، الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدِ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ.
وَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَعَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَرِضَاهُ وَسَخَطِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَبُغْضِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَعُلُوِّهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ، فَهَلْ يَأْمُر مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ بِأَنْ يُعْرَضَ عَنْ هَذَا كُلِّهِ، وَأَنْ لَا يُبَلِّغَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْآيَاتِ وَنَحْوَهَا مِنْ الْأَحَادِيثِ، وَأَنْ لَا
يَكْتُبَ بِكَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ الَّذِي هُوَ آيَاتُ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثُهَا إلَى الْبِلَادِ وَلَا يُفْتِي فِي ذَلِكَ وِلَايَةً.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}[الجمعة: 2] وَأَسْوَأُ أَحْوَالِ الْعَامَّةِ أَنْ يَكُونُوا أُمِّيِّينَ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى أَنْ يُتْلَى عَلَى الْأُمِّيِّينَ آيَاتِ اللَّهِ، أَوْ عَنْ أَنْ يُعَلِّمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ جَمِيعَ مَنْ أُرْسِلَ إلَيْهِ الرَّسُولُ مِنْ الْعَرَبِ كَانُوا قَبْلَ مَعْرِفَةِ الرِّسَالَةِ أَجْهَلَ
مِنْ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ، فَهَلْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَمْنُوعًا مِنْ تِلَاوَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ إيَّاهُ، أَوَ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ لَيْسَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ؟ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ}[آل عمران: 99] الْآيَةَ، وَقَالَ: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ
وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا}[النساء: 160] أَوَلَيْسَ هَذَا نَوْعًا مِنْ الْأَمْرِ بِهَجْرِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَتَرْكِ اسْتِمَاعِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا}[الفرقان: 30] {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ}[الفرقان: 31] الْآيَةَ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}[فصلت: 26] وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا}[الفرقان: 73] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الأعراف: 204] فَهَلَّا قَالَ فَاسْتَمِعُوا لَهُ لَا لِأَعْظَمَ مَا فِيهِ وَهُوَ مَا
وَصَفْت بِهِ نَفْسِي فَلَا تَسْتَمِعُوهُ أَوْ لَا تُسْمِعُوهُ لِعَامَّتِكُمْ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}[الأنفال: 2] ، وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ}[الزمر: 18] .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ}[المائدة: 83] الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}[الزمر: 23] الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ
عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا}[الكهف: 57] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ}[الإسراء: 106] إلَى قَوْلِهِ: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا}[الإسراء: 109] .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ أَعْظَمَ مَا يَحْذَرُهُ الْمُنَازِعُ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ مَا يَزْعُمُ أَنَّ ظَاهِرَهَا كُفْرٌ وَتَجْسِيمٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الزمر: 67] ، وقَوْله تَعَالَى {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ
مَبْسُوطَتَانِ}[المائدة: 64] .
: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ}[ص: 75] ، وقَوْله تَعَالَى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}[الرحمن: 26] {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ}[الرحمن: 27] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}[طه: 39] وَقَالَ تَعَالَى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ
نَجِيًّا}[مريم: 52] .
{وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ}[الأعراف: 22] الْآيَةَ.
فَهَلْ سُمِعَ أَنَّ أَحَدًا مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مَنَعَ أَنْ يَقْرَأَ هَذِهِ وَتُتْلَى عَلَى الْعَامَّةِ وَهَلْ ذَلِكَ إلَّا بِمَنْزِلَةِ مَنْ مَنَعَ مِنْ سَائِرِ الْآيَاتِ الَّتِي يَزْعُمُ أَنَّ ظَاهِرَهَا كُفْرٌ وَتَجْسِيمٌ وَخَبَرٌ يُخَالِفُ رَأْيَهُ كَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}[الذاريات: 58] ، وَقَوْلُهُ: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا}[غافر: 7] وَقَوْلُهُ: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ
إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ}[النساء: 166] ، وَقَوْلُهُ: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ}[البقرة: 255] ، وقَوْله تَعَالَى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}[البروج: 16] ، وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا}[السجدة: 13] ، وَقَوْلُهُ: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[الأعراف: 186] وَقَوْلُهُ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ
يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}[الأنعام: 125] وَكَذَلِكَ آيَاتُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَأَحَادِيثُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ هَلْ يَتْرُكُ تَبْلِيغَهَا لِمُخَالَفَتِهَا لَهُ، أَوْ الْوَعِيدِيَّةِ أَوْ الْمُرْجِئَةِ، وَآيَاتُ التَّنْزِيهِ وَالتَّقْدِيسِ كَقَوْلِهِ: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}[الإخلاص: 3] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[الإخلاص: 4] .
وَقَوْلُهُ: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}[مريم: 65] وَقَوْلُهُ: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ}[الشعراء: 94] إلَى قَوْلِهِ: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء: 98] ، وَقَوْلُهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الشورى: 11] ، وَقَوْلُهُ: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا}[البقرة: 22] .
وَنَحْوُ ذَلِكَ هَلْ يَتْرُكُ تِلَاوَتَهَا وَتَبْلِيغَهَا لِمُخَالَفَتِهَا لِرَأْيِ أَهْلِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ؟ ،.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ كُتُبَ الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ هِيَ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ، بَلْ قَدْ بُوِّبَ فِيهَا أَبْوَابٌ مِثْلُ كِتَابِ التَّوْحِيدِ وَالرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ " الَّذِي هُوَ آخِرُ كِتَابِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمِثْلُ كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَكِتَابِ النُّعُوتِ " فِي سُنَنِ النَّسَائِيّ فَإِنَّ هَذِهِ مُفْرَدَةٌ لِجَمْعِ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَكَذَلِكَ قَدْ
تَضَمَّنَ " كِتَابُ السُّنَّةِ " مِنْ سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مَا تَضَمَّنَهُ وَكَذَلِكَ تَضَمَّنَ صَحِيحُ مُسْلِمٍ، وَجَامِعُ التِّرْمِذِيِّ، وَمُوَطَّأُ مَالِكٍ.
وَمُسْنَدُ الشَّافِعِيِّ، وَمُسْنَدُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَمُسْنَدُ مُوسَى بْنِ قُرَّةَ الزُّبَيْدِيِّ، وَمُسْنَدُ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ، وَمُسْنَدُ ابْنِ وَهْبٍ، وَمُسْنَدُ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ.
وَمُسْنَدُ مُسَدَّدٍ، وَمُسْنَدُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَمُسْنَدُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَرَ الْعَدَنِيِّ، وَمُسْنَدُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُسْنَدُ بَقِيٍّ بْنِ مَخْلَدٍ، وَمُسْنَدُ الْحُمَيْدِيِّ.
وَمُسْنَدُ الدَّارِمِيِّ، وَمُسْنَدُ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَمُسْنَدُ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ، وَمُسْنَدُ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، وَمُسْنَدُ أَبِي بَكْرٍ الْبَزَّارِ، وَمُعْجَمُ الْبَغَوِيّ، وَالطَّبَرَانِيِّ، وَصَحِيحُ أَبِي حَاتِمِ بْنِ حِبَّانَ، وَصَحِيحُ الْحَاكِمِ، وَصَحِيحُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَالْبَرْقَانِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ، وَالْجَوْزَقِيِّ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمُصَنَّفَاتِ الْأُمَّهَاتِ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا إلَّا اللَّهُ: دَعْ مَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ
مُصَنَّفَاتِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَجَامِعِ الثَّوْرِيِّ، وَجَامِعِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَمُصَنَّفَاتِ وَكِيعٍ، وَهُشَيْمٍ، وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَمَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ.
فَهَلْ امْتَنَعَ الْأَئِمَّة مِنْ قِرَاءَةِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ.
أَمْ مَا زَالَتْ هَذِهِ الْكُتُبُ يَحْضُرُ قِرَاءَتَهَا أُلُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ عَوَامِّ الْمُؤْمِنِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَمَّا حَدَّثَ بِهَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْمُخَالِفِينَ، هَلْ كَانُوا يُخْفُونَهَا عَنْ عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ وَيَتَكَاتَمُونَهَا وَيُوصُونَ بِكِتْمَانِهَا، أَمْ كَانُوا يُحَدِّثُونَ بِهَا كَمَا كَانُوا يُحَدِّثُونَ بِسَائِرِ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ
نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ رِوَايَةِ بَعْضِهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَهَذَا كَمَا قَدْ كَانَ هَذَا يَمْتَنِعُ عَنْ رِوَايَةِ بَعْضِ أَحَادِيثَ فِي الْفِقْهِ وَالْأَحْكَامِ وَبَعْضِ أَحَادِيثِ الْقَدْرِ وَالْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ وَالْوَعِيدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَهُ مَخْصُوصًا بِهَذَا الْبَابِ، وَهَذَا كَانَ يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَيُخَالِفُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ يَرَى أَنَّ رِوَايَتَهَا تَضُرُّ
بَعْضَ النَّاسِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَيَرَى الْآخَرُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ بَلْ يَنْفَعُ، فَكَانَ هَذَا مِمَّا قَدْ يَتَنَازَعُونَ فِيهِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ.
فَأَمَّا الْمَنْعُ مِنْ تَبْلِيغِ عُمُومِ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ لِعُمُومِ الْأُمَّةِ، فَهَذَا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
وَإِنَّمَا هَذَا وَنَحْوُهُ رَأْيُ الْخَارِجِينَ الْمَارِقِينَ مِنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، كَالرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْحَرُورِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ وَهُوَ عَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ ثُمَّ الْأَحَادِيثُ الَّتِي يَتَنَازَعُ الْعُلَمَاءُ فِي رِوَايَتِهَا، أَوْ الْعَمَلُ بِهَا لَيْسَ لِأَحَدِ الْمُتَنَازِعِينَ أَنْ يُكْرِهَ الْآخَرَ عَلَى قَوْلِهِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا}[النساء: 59] .
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ إذَا قُدِّرَ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}[النساء: 59] ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْأُمَّةَ عِنْدَ التَّنَازُعِ بِالرَّدِّ إلَيْهِ وَإِلَى رَسُولِهِ وَوَصَفَ الْمُعْرِضِينَ عَنْ ذَلِكَ بِالنِّفَاقِ وَالْكُفْرِ، فَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى
الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا - وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا}[النساء: 60 - 61] {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا}[النساء: 62] إلَى قَوْله: {بَلِيغًا}[النساء:
63] فَوَصَفَ سُبْحَانَهُ مَنْ دُعِيَ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَأَعْرَضَ عَنْ ذَلِكَ بِالنِّفَاقِ، وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُرِيدُ التَّوْفِيقَ بِذَلِكَ بَيْنَ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يُرِيدُ إحْسَانَ الْعِلْمِ أَوْ الْعَمَلِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}[البقرة: 170] الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي
النَّارِ}[الأحزاب: 66] إلَى قَوْلِهِ: {وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا}[الأحزاب: 68] .
الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ}[البقرة: 159] الْآيَةَ، وَيَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ}[البقرة: 174] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ}[آل عمران: 187] الْآيَةَ فَمَنْ أَمَرَ بِكَتْمِ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ فَقَدْ كَتَمَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ، وَهَذَا مِمَّا ذَمَّ اللَّهُ بِهِ عُلَمَاءَ الْيَهُودِ، وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الزَّائِغِينَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ مِنْ
هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ}[البقرة: 140] .
الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّ مَنْ أَمَرَ بِكِتْمَانِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ كَالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي وَصَفَ اللَّهُ بِهَا نَفْسَهُ، وَوَصَفَهُ بِهَا رَسُولُهُ، وَأَمَرَ مَعَ ذَلِكَ بِوَصْفِ اللَّهِ بِصِفَاتٍ أَحْدَثَهَا الْمُبْتَدِعُونَ، تَحْتَمِلُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ، أَوْ تَجْمَعُ حَقًّا وَبَاطِلًا، وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَجِبُ اعْتِقَادُهُ، وَهُوَ أَصْلُ الدِّينِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ
بِهِ رَسُولَهُ، فَهَذَا مُضَاهَاةٌ لِمَا ذَمَّ اللَّهُ بِهِ مِنْ حَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ حَيْثُ قَالَ: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ}[البقرة: 59] ، وَقَالَ: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[البقرة: 75] إلَى قَوْلِهِ: {مِمَّا يَكْسِبُونَ}[البقرة: 79] .
فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَتَبُوا هَذِهِ الْمَقَالَاتِ الَّتِي ابْتَدَعُوهَا، وَقَالُوا لِلْعَامَّةِ هَذَا أَمْرُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَكُمْ بِهِ، وَهَذَا كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ، فَإِذَا جَمَعُوا إلَى ذَلِكَ كِتْمَانَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، فَقَدْ ضَاهُوا أَهْلَ الْكِتَابِ فِي لَبْسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَكِتْمَانِ الْحَقِّ قَالَ تَعَالَى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}[البقرة: 40] إلَى قَوْلِهِ {وَلا
تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة: 42] .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[آل عمران: 78] .
الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّ هَذَا خِلَافُ إجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا، فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا فِي هَذَا الْبَابِ وَفِي غَيْرِهِ عَلَى وُجُوبِ إتْبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَذَمِّ مَا أَحْدَثَهُ أَهْلُ الْكَلَامِ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ.
مِثْلُ مَا رَوَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالْكَائِيُّ فِي أُصُولِ السُّنَّةِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ، قَالَ: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صِفَةِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ، مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ وَلَا وَصْفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ، فَمَنْ فَسَّرَ الْيَوْمَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ
فَقَدْ خَرَجَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَصِفُوا وَلَمْ يُفَسِّرُوا، وَلَكِنْ أَفْتُوا بِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، ثُمَّ سَكَتُوا فَمَنْ قَالَ بِقَوْلِ جَهْمٍ فَقَدْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ لِأَنَّهُ قَدْ وَصَفَهُ بِصِفَةٍ لَا شَيْءٍ.
الْوَجْهُ التَّاسِعُ: فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ الْإِفْتَاءِ فِي بَابِ الصِّفَاتِ بِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، دُونَ قَوْلِ جَهْمٍ الْمُتَضَمِّنِ لِلنَّفْيِ، فَمَنْ قَالَ لَا يُتَعَرَّضُ لِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِهَا عِنْدَ الْعَوَامّ، وَلَا يُكْتَبُ بِهَا إلَى الْبِلَادِ، وَلَا فِي الْفَتَاوَى الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا، بَلْ يَعْتَقِدُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ النَّفْيِ، فَقَدْ خَالَفَ هَذَا الْإِجْمَاعَ، وَمِنْ أَقَلِّ مَا قِيلَ فِيهِمْ
قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حُكْمِي فِي أَهْلِ الْكَلَامِ أَنْ يُضْرَبُوا بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ، وَيُطَافُ بِهِمْ فِي الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ، وَيُقَالُ هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَأَقْبَلَ عَلَى الْكَلَامِ.
الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: " لَا يَتَعَرَّضُ لِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِهَا عِنْدَ الْعَوَامّ، وَلَا يَكْتُبُ بِهَا إلَى الْبِلَادِ، وَلَا فِي الْفَتَاوَى الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا ".
إمَّا أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا تُتْلَى هَذِهِ الْآيَاتُ وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ عِنْدَ عَوَامِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ هَذَا الْقَوْلُ إنْ أُخِذَ عَلَى إطْلَاقِهِ، فَهُوَ كُفْرٌ صَرِيحٌ فَإِنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى مَا عَلِمُوهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ تِلَاوَةِ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي الصَّلَوَاتِ فَرْضِهَا وَنَفْلِهَا، وَاسْتِمَاعِ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ لِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ تِلَاوَتُهَا
وَإِقْرَاؤُهَا وَاسْتِمَاعُهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ هُوَ مِنْ الدِّينِ الَّذِي لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ تَبْلِيغُ الْأَحَادِيثِ فِي الْجُمْلَةِ هُوَ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَهُوَ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ.
إذْ مَا مِنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَّا وَلَا بُدَّ أَنْ تَرْوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ الْإِثْبَاتِ أَوْ النَّفْيِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُوصَفُ بِالْإِثْبَاتِ، وَهُوَ إثْبَاتُ مَحَامِدِهِ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَتَمْجِيدِهِ، وَيُوصَفُ بِالنَّفْيِ، وَهُوَ نَفْيُ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ عَنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ لَا يُقَالُ حُكْمُهَا كَذَا وَكَذَا إمَّا إقْرَارٌ وَتَأْوِيلٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَ هَذَا فَيَنْبَغِي لِقَائِلِ ذَلِكَ أَنْ يَلْتَزِمَ مَا أَلْزَمَ بِهِ غَيْرَهُ، فَلَا يَنْطِقُ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ بِشَيْءٍ، وَلَا يَقُولُ الظَّاهِرُ مُرَادٌ أَوْ غَيْرُ مُرَادٍ، وَلَا التَّأْوِيلُ سَائِغٌ، وَلَا هَذِهِ النُّصُوصُ لَهَا مَعَانٍ أُخَرُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ إذْ هَذَا تَعَرُّضٌ لِآيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا عَلَى هَذَا
التَّقْدِيرِ، وَإِذَا الْتَزَمَ هُوَ ذَلِكَ وَقَالَ لِغَيْرِهِ: الْتَزِمْ مَا الْتَزَمْتُهُ وَلَا تَزِدْ عَلَيْهَا وَلَا تَنْقُصْ مِنْهَا، فَإِنَّ هَذَا عَدْلٌ بِخِلَافِ مَا إذَا نَهَى غَيْرَهُ عَنْ الْكَلَامِ عَلَيْهَا مَعَ تَكَلُّمِهِ هُوَ عَلَيْهَا، كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلَا يَكْتُبُ بِهَا إلَى الْبِلَادِ وَلَا فِي الْفَتَاوَى الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا.
إنْ أَرَادَ أَنَّهَا أَنْفُسُهَا لَا تُكْتَبُ وَلَا يُفْتَى بِهَا، فَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ أَرَادَ لَا يَكْتُبُ بِحُكْمِهَا، وَلَا يُفْتِي الْمُسْتَفْتِيَ عَنْ حُكْمِهَا، فَيُقَالُ لَهُ: فَعَلَيْك أَيْضًا أَنْ تَلْتَزِمَ ذَلِكَ وَلَا تُفْتِي أَحَدًا فِيهَا بِشَيْءٍ مِنْ الْأُمُورِ النَّافِيَةِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ أَمْرُك لِغَيْرِك بِمِثْلِ مَا فَعَلْته عَدْلًا.
أَمَّا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ إلَى هَذِهِ النُّصُوصِ فَيَتَصَرَّفُ فِيهَا بِأَنْوَاعِ التَّحْرِيفَاتِ وَالتَّأْوِيلَاتِ جُمْلَةً أَوْ تَفْصِيلًا، وَيَقُولُ لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ أَنْتُمْ لَا تُعَارِضُونَ وَلَا تَتَكَلَّمُوا فِيهَا، فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ وَالْإِلْحَادِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ.
الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّ سَلَفَ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتَهَا مَا زَالُوا يَتَكَلَّمُونَ وَيُفْتُونَ وَيُحَدِّثُونَ الْعَامَّةَ وَالْخَاصَّةَ بِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ الصِّفَاتِ، وَهَذَا فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالسُّنَنِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصِيَهُ إلَّا اللَّهُ، حَتَّى إنَّهُ لَمَّا جَمَعَ النَّاسُ الْعِلْمَ وَبَوَّبُوهُ فِي الْكُتُبِ، فَصَنَّفَ ابْنُ جُرَيْجٍ التَّفْسِيرَ وَالسُّنَنَ، وَصَنَّفَ مَعْمَرٌ أَيْضًا، وَصَنَّفَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ،
وَصَنَّفَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَقْدَمِ مَنْ صَنَّفَ فِي الْعِلْمِ صَنَّفُوا هَذَا الْبَابَ، فَصَنَّفَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ كِتَابَهُ فِي الصِّفَاتِ، كَمَا صَنَّفَ كُتُبَهُ فِي سَائِرِ أَبْوَابِ الْعِلْمِ.
وَقَدْ قِيلَ: إنَّ مَالِكًا إنَّمَا صَنَّفَ الْمُوَطَّأَ تَبَعًا لَهُ، وَقَالَ: جَمَعْت هَذَا خَوْفًا مِنْ الْجَهْمِيَّةِ أَنْ يُضِلُّوا النَّاسَ، لَمَّا ابْتَدَعَتْ الْجَهْمِيَّةُ النَّفْيَ وَالتَّعْطِيلَ حَتَّى إنَّهُ لَمَّا صُنِّفَ الْكُتُبُ الْجَامِعَةُ، صَنَّفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا كَمَا صَنَّفَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ الْخُزَاعِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ كِتَابَهُ فِي الصِّفَاتِ وَالرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، وَصَنَّفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ
كِتَابَهُ فِي الصِّفَاتِ وَالرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، وَصَنَّفَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ كِتَابَهُ فِي الصِّفَاتِ وَالرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، وَكِتَابَهُ فِي النَّقْضِ عَلَى الْمَرِيسِيِّ وَصَنَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رِسَالَتَهُ فِي إثْبَاتِ الصِّفَاتِ وَالرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، وَأَمْلَى فِي أَبْوَابِ ذَلِكَ حَتَّى جَمَعَ كَلَامَهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ وَصَنَّفَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْكِنَانِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ كِتَابَهُ
فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، وَصَنَّفَ كُتُبَ السُّنَّةِ فِي الصِّفَاتِ طَوَائِفُ مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ، وَحَنْبَلِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَأَبِي بَكْرٍ الْأَثْرَمِ، وَخُشَيْشِ بْنِ أَصْرَمَ شَيْخِ أَبِي دَاوُد.
وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي عَاصِمٍ، وَالْحَكَمِ بْنِ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيِّ وَلِأَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ، وَأَبِي الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيِّ، وَأَبِي الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيِّ، وَأَبِي أَحْمَدَ الْعَسَّالِ وَأَبِي بَكْرٍ الْآجُرِّيِّ وَأَبِي الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ، كِتَابُ الصِّفَاتِ وَكِتَابُ الرُّؤْيَةِ؛ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بَطَّةَ، وَأَبِي قَاسِمٍ اللَّالَكَائِيِّ، وَأَبِي عُمَرَ
الطَّلْمَنْكِيِّ، وَغَيْرِهِمْ.
وَأَيْضًا فَقَدْ جَمَعَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالْكَلَامِ وَالتَّصَوُّفِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ، وَتَكَلَّمُوا فِي إثْبَاتِ مَعَانِيهَا، وَتَقْرِيرُ صِفَاتِ اللَّهِ دَلَّتْ عَلَيْهَا هَذِهِ النُّصُوصُ، لَمَّا ابْتَدَعَتْ الْجَهْمِيَّةُ جَحْدَ ذَلِكَ وَالتَّكْذِيبَ لَهُ، كَمَا فَعَلَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْكِنَانِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَكَمَا فَعَلَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ
بْنِ خُزَيْمَةَ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَكَمَا فَعَلَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كِلَابٍ، وَأَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْأَشْعَرِيُّ وَأَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ.
الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، وَأَكْمَلَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ الدِّينَ، وَأَتَمَّ عَلَيْهِمْ النِّعْمَةَ وَتَرَكَ أُمَّتَهُ عَلَى الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، وَبَيَّنَ لَهُمْ جَمِيعَ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ، وَكَانَ أَعْظَمُ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ تَعْرِيفَهُمْ رَبَّهُمْ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا، وَمَا يَجِبُ وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَيَثْبُتُ لَهُ فَيُحْمَدُ وَيُثْنَى بِهِ عَلَيْهِ
وَيُمَجَّدُ بِهِ، وَمَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ، فَيُنَزَّهُ عَنْهُ وَيُقَدَّسُ.
ثُمَّ حَدَثَ بَعْدَ الْمِائَةِ الْأُولَى الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَأَتْبَاعُهُ الَّذِينَ عَطَّلُوا حَقِيقَةَ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا، وَسَلَكُوا مَسْلَكَ إخْوَانِهِمْ الْمُعَطِّلَةِ الْجَاحِدِينَ لِلصَّانِعِ وَصَارَ أَغْلِبُ مَا يَصِفُونَ بِهِ الرَّبَّ هُوَ الصِّفَاتُ السَّلْبِيَّةُ الْعَدَمِيَّةُ، وَلَا يُقِرُّونَ إلَّا بِوُجُودٍ مُجْمَلٍ، ثُمَّ يَقْرُنُونَهُ بِسَلْبٍ يَنْفِي الْوُجُودَ، وَمِنْ أَبْلَغِ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ أَنَّ الطَّرِيقَةَ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ
بِهَا أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ بِهَا كُتُبَهُ، مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْإِثْبَاتِ الْمُفَصَّلِ، وَالنَّفْيِ الْمُجْمَلِ، كَمَا يُقَرِّرُ فِي كِتَابِهِ، وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَقُولُ فِي النَّفْيِ.
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[الشورى: 11] ، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}[مريم: 65] ، {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}[الإخلاص: 3] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[الإخلاص: 4] .
وَعَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ اتِّبَاعُ الْمُرْسَلِينَ مِنْ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، وَأَمَّا طَرِيقَةُ هَؤُلَاءِ، فَهِيَ نَفْيٌ مُفَصَّلٌ، لَيْسَ بِكَذَا وَلَا كَذَا، وَإِثْبَاتٌ مُجْمَلٍ.
يَقُولُونَ: هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ لَا يُوصَفُ إلَّا بِسَلْبٍ أَوْ إضَافَةٍ أَوْ مُرَكَّبٍ مِنْهُمَا وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَكُلُّ مَنْ عَلِمَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ، عَلِمَ أَنْ هَؤُلَاءِ فِي غَايَةِ الْمُشَاقَّةِ وَالْمُحَادَّةِ وَالْمُحَارَبَةِ لِلَّهِ وَرُسُلِهِ وَانْتَدَبَ هَؤُلَاءِ فِي تَقْرِيرِ شُبَهٍ عَقْلِيَّةٍ يَنْفُونَ بِهَا الْحَقَّ، وَتَأَوَّلُوا كِتَابَ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، فَحَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَأَلْحَدُوا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ، بِحَيْثُ حَمَلُوهَا عَلَى مَا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُ خِلَافُ مُرَادِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ،
كَمَا فَعَلَ إخْوَانُهُمْ الْقَرَامِطَةُ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَجَحَدُوا الْحَقَائِقَ الْعَقْلِيَّةَ، كَمَا فَعَلَ إخْوَانُهُمْ السُّوفِسْطَائِيَّة فَجَمَعُوا بَيْنَ السَّفْسَطَةِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَالْقَرَامِطَةِ فِي السَّمْعِيَّاتِ، فَلِهَذَا اُنْتُدِبَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَغَيْرُهُمْ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَتَقْرِيرِ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَرَدِّ تَكْذِيبِهِمْ وَتَعْطِيلِهِمْ، وَذَكَرُوا دَلَائِلَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى بَيَانِ الْحَقِّ وَرَدِّ بَاطِلِهِمْ، وَلَمَّا احْتَجَّ
أُولَئِكَ بِشُبَهٍ عَقْلِيَّةٍ، بَيَّنُوا أَيْضًا لَهُمْ أَنَّ الْعَقْلَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ وَصِحَّةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ}[سبأ: 6] ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَمَنْ نَهَى عَنْ بَيَانِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ الْإِثْبَاتِ، وَأَمَرَ بِمَا أَحْدَثَ مِنْ النَّفْيِ الَّذِي لَا يُؤْثَرُ عَنْ الرُّسُلِ، كَانَ قَدْ أَخَذَ مِنْ مُشَاقَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمُحَادَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمُحَارَبَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، بِحَسَبِ مَا سَعَى فِيهِ مِنْ ذَلِكَ، حَيْثُ
أُمِرَ بِتَرْكِ مَا بَعَثَ بِهِ الرَّسُولُ، وَبِإِظْهَارِ مَا يَشْتَمِلُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّ النَّاسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَجْعَلُوا كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ هُوَ الْأَصْلُ الْمُتَّبَعُ، وَالْإِمَامُ الْمُقْتَدَى بِهِ سَوَاءٌ عَلِمُوا مَعْنَاهُ أَوْ لَمْ يَعْلَمُوهُ، فَيُؤْمِنُونَ بِلَفْظِ النُّصُوصِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا حَقِيقَةَ مَعْنَاهَا، وَأَمَّا مَا سِوَى كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلُ أَصْلًا بِحَالٍ، وَلَا يَجِبُ التَّصْدِيقُ بِلَفْظٍ لَهُ حَتَّى يُفْهَمَ مَعْنَاهُ فَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِمَا جَاءَ بِهِ
الرَّسُولُ كَانَ مَقْبُولًا وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا كَانَ مَرْدُودًا، وَإِنْ كَانَ مُجْمَلًا مُشْتَمِلًا عَلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ، لَمْ يَجُزْ إثْبَاتُهُ أَيْضًا، وَلَا يَجُوزُ نَفْيُ جَمِيعِ مَعَانِيهِ.
بَلْ يَجِبُ الْمَنْعُ مِنْ إطْلَاقِ نَفْيِهِ وَإِثْبَاتِهِ، وَالتَّفْصِيلِ وَالِاسْتِفْسَارِ وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الْمُبْتَدَعَةَ الْمُجْمَلَةَ أَصْلًا أُمِرُوا بِهَا وَجَعَلُوا مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فَرْعًا يُعْرَضُ عَنْهَا وَلَا يُتَكَلَّمُ بِهَا وَلَا فِيهَا، فَكَيْفَ يَكُونُ تَبْدِيلُ الدِّينِ إلَّا هَكَذَا؟ ،.
الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ: لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ أَنْ يُلْزِمَ النَّاسَ وَيُوجِبَ عَلَيْهِمْ إلَّا مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَحْظُرُ عَلَيْهِمْ إلَّا مَا حَظَرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَمَنْ وَجَبَ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَحَرَّمَ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَقَدْ شَرَعَ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، وَهُوَ مُضَاهٍ لِمَا ذَمَّهُ اللَّهُ فِي ك