الفصل الثاني كونه تعالى متكلما واثبات قدم كلامه

الفصل الثاني كونه تعالى متكلما واثبات قدم كلامه

الفصل الثاني كونه تعالى متكلما واثبات قدم كلامه
الْفَصْلُ الثَّانِي فِي كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا وَإِثْبَاتِ قِدَمِ كَلَامِهِ فَالدَّلِيلُ حُصُولُ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ آمِرُنَا مُخْبِرٌ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ عِبَارَةً عَنْ مُجَرَّدِ الْأَلْفَاظِ أَوْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ اللَّفْظَةَ الْمَوْضُوعَةَ لِلْأَمْرِ قَدْ كَانَ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَضَعَ اللَّفْظَةَ الَّتِي وَضَعَهَا لِأَنَّ إفَادَةَ مَعْنَى الْأَمْرِ لِإِفَادَةِ مَعْنَى الْخَبَرِ وَبِالْعَكْسِ، فَإِذْنُ كَوْنِ اللَّفْظَةِ الْمُعَيَّنَةِ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا أَوْ خَبَرًا إنَّمَا كَانَ لِدَلَالَتِهِ عَلَى مَاهِيَّةِ الطَّلَبِ وَالزَّجْرِ وَالْحُكْمِ، وَهَذِهِ الْمَاهِيَّاتُ لَيْسَتْ أُمُورًا وَصْفِيَّةً لِأَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ السَّوَادَ لَا يَنْقَلِبُ بَيَاضًا أَوْ غَيْرَهُ وَبِالْعَكْسِ، وَكَذَلِكَ مَاهِيَّةُ الطَّلَبِ لَا تَنْقَلِبُ مَاهِيَّةُ الزَّجْرِ وَلَا الزَّجْرُ مِنْهَا مَاهِيَّةَ الْحُكْمِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَنَقُولُ لَمَّا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى آمِرًا نَاهِيًا مُخْبِرًا وَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا إذَا كَانَ اللَّهُ مَوْصُوفًا بِطَلَبٍ وَزَجْرٍ وَحُكْمٍ. فَهَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ ظَاهِرًا أَنَّهَا لَيْسَتْ عِبَارَةً عَنْ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحَيَاةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْبَقَاءِ بَلْ الَّذِي يَشْتَبِهُ الْحَالُ فِيهِ، أَمَّا فِي الطَّلَبِ وَالزَّجْرِ فَهِيَ الْإِرَادَةُ وَالْكَرَاهِيَةُ وَأَمَّا فِي الْحُكْمِ وَهُوَ الْعِلْمُ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِمَا ثَبَتَ فِي خَلْقِ الْأَعْمَالِ وَإِرَادَةِ الْكَائِنَاتِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَأْمُرُ بِمَا لَا يُرِيدُ وَيَنْهَى عَمَّا يُرِيدُ، فَمُوجِبٌ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ فِي حَقِّ اللَّهِ شَيْئًا سِوَى الْإِرَادَةِ وَذَلِكَ هُوَ الْمَعْنَى بِالْكَلَامِ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّهُ فِي الشَّاهِدِ قَدْ يَحْكُمُ الْإِنْسَانُ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ وَلَا يَعْتَقِدُهُ وَلَا يَظُنُّهُ فَإِذَنْ الْحُكْمُ الذِّهْنِيُّ فِي الشَّاهِدِ مُغَايِرٌ لِهَذِهِ الْأُمُورِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الشَّاهِدِ ثَبَتَ فِي الْغَائِبِ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مَاهِيَّةَ الْخَبَرِ لَا تَخْتَلِفُ فِي الشَّاهِدِ وَالْغَائِبِ قَالَ فَثَبَتَ أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ وَخَبَرَهُ صِفَاتٌ حَقِيقِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ مُغَايِرَةٌ لِذَاتِهِ وَعِلْمِهِ، وَأَنَّ الْأَلْفَاظَ الْوَارِدَةَ فِي الْكُتُبِ الْمُنْزَلَةِ دَلِيلٌ عَلَيْهَا، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَجَبَ الْقَطْعُ بِقِدَمِهَا لِأَنَّ الْأُمَّةَ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْهُمْ مَنْ نَفَى كَوْنَ اللَّهِ مَوْصُوفًا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ بِهَذَا الْمَعْنَى. وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ وَكُلُّ مَنْ أَثْبَتَهُ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ زَعَمَ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ قَدِيمَةٌ فَلَوْ أَثْبَتَ كَوْنَهُ تَعَالَى مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ ثُمَّ حَكَمْنَا بِحُدُوثِ هَذِهِ الصِّفَاتِ كَانَ ذَلِكَ قَوْلًا ثَالِثًا خَارِقًا لِلْإِجْمَاعِ وَهُوَ بَاطِلٌ، ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَسْئِلَةً مِنْهَا مِمَّا نَعَاهُ تَارَةً فِي إثْبَاتِ هَذِهِ الْمَعَانِي لِلَّهِ وَتَارَةً فِي قِدَمِهَا وَقَالَ وَمِنْهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَرْجِعَ بِالْحُكْمِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْخَبَرِ إلَى كَوْنِهِ عَالِمًا بِذَلِكَ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا كَوْنَهُ تَعَالَى مَوْصُوفًا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إنَّ تِلْكَ الْمَعَانِيَ قَدِيمَةٌ بِقَوْلِكُمْ كُلُّ مَنْ أَثْبَتَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ، أَثْبَتَهَا قَدِيمَةً قُلْت الْقَوْلُ فِي إثْبَاتِهَا مَسْأَلَةٌ، وَالْقَوْلُ فِي قِدَمِهَا مَسْأَلَةٌ أُخْرَى. فَلَوْ لَزِمَ مِنْ ثُبُوتِ إحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ ثُبُوتُ الْمَسْأَلَةِ الْأُخْرَى لَزِمَ مِنْ إثْبَاتِ كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِعِلْمٍ قَدِيمٍ إثْبَاتُ كَوْنِهِ تَعَالَى مُتَكَلِّمًا بِكَلَامٍ قَدِيمٍ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا فَكَذَا مَا ذَكَرْتُمُوهُ، ثُمَّ لَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْإِجْمَاعِ يَقْتَضِي قِدَمَ كَلَامِ اللَّهِ لَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِنَوْعٍ آخَرَ مِنْ الْإِجْمَاعِ وَهُوَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْأُمَّةِ لَمْ يُثْبِتْ قِدَمَ كَلَامِ اللَّهِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ فَيَكُونُ التَّمَسُّكُ بِمَا ذَكَرْتُمُوهُ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ، ثُمَّ ذَكَرَ مُعَارَضَاتِ الْمُخَالِفِ بِوُجُوهٍ عَقْلِيَّةٍ وَنَقْلِيَّةٍ تِسْعَةً، وَقَالَ فِي الْجَوَابِ قَوْلُهُ سَلَّمْنَا أَنَّ خَبَرَ اللَّهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ حَكَمَ بِنِسْبَةِ أَمْرٍ إلَى أَمْرٍ لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْحُكْمُ هُوَ الْعِلْمُ، قُلْنَا هَذَا بَاطِلٌ لِوَجْهَيْنِ: أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّ الْقَائِلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَائِلَانِ، قَائِلٌ يَقُولُ نُثْبِتُ لِلَّهِ تَعَالَى خَبَرًا قَدِيمًا وَنُثْبِتُ كَوْنَهُ مُغَايِرًا لِلْعِلْمِ، وَقَائِلٌ لَا نُثْبِتُ لَهُ خَبَرًا قَدِيمًا أَصْلًا فَلَوْ قُلْنَا إنَّ اللَّهَ لَهُ خَبَرٌ قَدِيمٌ ثُمَّ قُلْنَا إنَّهُ هُوَ الْعِلْمُ، كَانَ ذَلِكَ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِأَنَّا بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ فَائِدَةَ الْخَبَرِ فِي الشَّاهِدِ لَيْسَتْ هِيَ الظَّنَّ وَالْعِلْمَ وَالِاعْتِقَادَ، وَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ فِي الشَّاهِدِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْغَائِبِ، كَذَلِكَ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ فَائِدَةَ الْخَبَرِ لَا تَخْتَلِفُ فِي الشَّاهِدِ وَالْغَائِبِ قَوْلُهُ سَلَّمْنَا ثُبُوتَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لِلَّهِ فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّهَا قَدِيمَةٌ، قُلْنَا لِلْإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ قَوْلُهُ لَوْ لَزِمَ مِنْ الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ هَذِهِ الصِّفَةِ لِلَّهِ إثْبَاتُ قِدَمِهَا لِأَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ قَالَ بِالثَّانِي لَزِمَ مِنْ الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ الْعِلْمِ الْقَدِيمِ إثْبَاتُ الْكَلَامِ الْقَدِيمِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ قَالَ بِالثَّانِي، قُلْنَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ مَذْكُورٌ فِي الْمَحْصُولِ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ يُسَاعِدُونَنَا عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ إثْبَاتَ قِدَمِ كَلَامِ اللَّه بِهَذِهِ الطَّرِيقِ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ، قُلْنَا قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْمَحْصُولِ أَنَّ إحْدَاثَ دَلِيلٍ لَمْ يَذْكُرْهُ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ لَا يَكُونُ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ، وَقَالَ فِي الْجَوَابِ عَنْ الْمُعَارَضَةِ، وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ الْخَامِسَةُ وَمَا بَعْدَهَا مِنْ الْوُجُوهِ السَّمْعِيَّةِ فَالْجَوَابُ عَنْهَا حَرْفٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّا لَا نُنَازِعُ فِي إطْلَاقِ لَفْظِ الْقُرْآنِ وَكَلَامِ اللَّهِ عَلَى هَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ فَهُوَ إنَّمَا يُفِيدُ حُدُوثَ الْقُرْآنِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا نَحْنُ بَعْدَ ذَلِكَ نَدَّعِي صِفَةً قَائِمَةً بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَدَّعِي قِدَمَهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تِلْكَ الصِّفَةَ يَسْتَحِيلُ وَصْفُهَا بِكَوْنِهَا عَرَبِيَّةً وَعَجَمِيَّةً وَمُحْكَمَةً وَمُتَشَابِهَةً، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْكَلَامِ الَّذِي حَاوَلُوا إثْبَاتَ حُدُوثِهِ فَنَحْنُ لَا نُنَازِعُهُمْ فِي حُدُوثِهِ، وَالْكَلَامُ الَّذِي نَدَّعِي قِدَمَهُ لَا يَجْرِي فِيهِ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ

What's Your Reaction?

like
0
dislike
0
love
0
funny
0
angry
0
sad
0
wow
0