الاستحسان كمصدر للشريعة
تعريف الشريعة, الشريعة والاسلام , الشريعة و الفقه, التشريع الوضعي والاسلامي , الشريعة الاسلامية ودعوى تأثرها بالقانون الروماني, مقاصد الشريعة, خصائص الشريعة الاسلامية, مصادر الشريعة الاسلامية, القرآن كمصدر للشريعة, السنة كمصدر للشريعة, الإجماع كمصدر للشريعة, القياس كمصدر للشريعة, الاستحسان كمصدر للشريعة, المصالح المرسلة أو الاستصلاح كمصدر للشريعة, الاستصحاب كمصدر للشريعة, العرف كمصدر للشريعة, قول الصحابي كمصدر للشريعة, شرع من قبلنا كمصدر للشريعة, سد الذرائع كمصدر للشريعة, أدوار التشريع الإسلامي, الحكم الشرعي, تعريف الحكم الشرعي, الحكم التكليفي, الحكم الوضعي, الفرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي, أنواع الحكم التكليفي, الواجب, المندوب, المحرم , الرخصة والعزيمة , أقسام الرخصة, أنواع الحكم الوضعي,
ويظهر من التعريف أن الاستحسان نوعان: الأول: ترجيح أحد القياسين على الآخر، ويسمي البزدوي القياس المرجوح بأنه ما ضعف أثره، أي: دليله .
والنوع الثاني: استثناء حكم من القاعدة لمصلحة؛ لأن استمرار القاعدة، وتطبيقها على بعض الفروع، فيه فساد وحرج.
صورته: أن تقع حادثة ليس فيها حكم، ولها وجهتان مختلفتان، الأولى ظاهرة توجب حكمًا ظاهرًا للمجتهد، والأخرى خفية توجب حكمًا دقيقًا، لا يصل إليه المجتهد إلا بعد النظر والتدقيق، فيرجح المجتهد الحكم الخفي، لدليل خاص، على الحكم الظاهر الجلي، ويسمى عمله هذا استحسانًا، وكذا إذا ترجح بنفس المجتهد دليل يوجب استثناء جزئية معينة من حكم كلي أو قاعدة عامة، فيكون هذا استحسانًا.
مثال الأول: التحالف: الأصل أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، ويطبق هذا الأصل على كل قياس، فتكون اليمين على المدعى عليه، وليس على المدعي يمين وإنما عليه البينة، ولكن فقهاء الحنفية قالوا: إذا اختلف البائع والمشتري في مقدار الثمن قبل القبض، فادعى البائع أنه ألفان، وادعى المشتري أنه ألف، فيتحالفان استحسانًا وهو الراجح .
والسبب في ترجيح الاستحسان هنا على القياس أن البائع مدَّعٍ من حيث الظاهر للألفين، ولكنه يعتبر منكرًا لحق المشتري في تسليم المبيع، والمشتري ينكر الزيادة ظاهرًا، ويدعي حق تسليم المبيع ضمنًا، فصار كل منها مدعيًا ومنكرًا في آن واحد، فيتحالفان .
مثال الثاني: ضمان الأجير المشترك ، فالأصل أن الأمين لا يضمنلا بالتعدي أو التقصير في الحفظ، ويقاس عليه الأجير أو العامل الذي يُستأجر للعمل في البيت أو المعمل، ولكن استثنوا الأجير المشترك وهو العامل المشترك الذي يعمل للجميع في آن واحد، مثل مصلح السيارة والأحذية وتجليد الكتب، وقالوا: إنه يضمن استحسانًا، إلا إذا كان الهلاك بقوة قاهرة، وسبب الاستحسان هو الحاجة والضرورة في تأمين أموال الناس خشية أن يُهمل المحافظة عليها أو يضيعها ويتلفها بدون مبالاة .
[حجية الاستحسان] اختلف الأئمة في حجية الاستحسان واعتباره مصدرًا من مصادر التشريع على قولين: القول الأول: أنه حجة شرعية ومصدر من مصادر التشريع، ذهب إلى ذلك الحنفية، وينسب إلى الحنابلة، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر: ٥٥] وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: ١٨] فالآيتان تبينان أن المؤمن يتبع الأحسن، أي: يتبع ما يستحسنه، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن" أي: ما يستحسنه المسلمون فهو حسن ومقبول عند الله تعالى" .
القول الثاني: أن الاستحسان ليس حجة شرعية ولا مصدرًا ولا دليلًامن أدلة الشرع، وأن استنباط الأحكام بالاستحسان هوى وتلذذ وتعسف، وأنه من استحسن فقد شرع من عند نفسه ، وعرفه الغزالي فقال: هو ما يستحسنه المجتهد بعقله ، وهو مذهب الشافعية والمالكية ، وضرب الشافعي مثلًا لذلك كمن يتجه في الصلاة إلى جهة يستحسن أنها الكعبة، بغير دليل.
يقول الشافعي رحمه الله: فإن القول بما استحسن شيء يحدثه لا على مثال سابق ، أي من الكتاب والسنة، واستدل الشافعي على ذلك بأن الاستحسان إن كان مع وجود نص فهو معارض للنص، وإن لم يكن نص في المسألة فهو تعطيل للقياس، وكذا الأمرين غير جائز، فالحكم الشرعي يكون بنص أو إجماع أو اجتهاد، والاجتهاد هو القياس، وإذا تعطل القياس جاز لأهل العقول أن يشرعوا من عندهم بما تستحسنه عقولهم، قال الشافعي: ولم يجعل الله لأحد بعد رسول الله أن يقول إلا من جهة علم مضى قبله، وجهة العلم بعده الكتاب والسنة والإجماع والآثار وما وصفت من القياس عليها ، وأن إجماع الأمة أنهليس للعالم أن يحكم بهواه وشهوته من غير نظر في دلالة الأدلة، وأن الله تعالى خاطب نبيه فقال: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: ٤٩].
والواقع أن الحنفية نظروا إلى الاستحسان من وجهة نظر معينة تختلف عن وجهة نظر الشافعية، وأن اختلافهم في تحديد معناه أدى إلى اختلافهم في حجيته، وأن الشافعية والمالكية، لا ينكرون وجهة نظر الحنفية في مراعاة القياس القوي وتقديمه عند تحقق المصلحة، ويؤيدون ترجيح قياس على قياس لعلة أو سبب، وكذلك الحنفية يوافقون الشافعية في إنكار الاستحسان الموسوم بالتشهي وإعمال العقل والتحكّم والهوى في الأحكام الشرعية، ولو نظر كل طرف في المعنى الذي حدده الآخر لوافقه عليه، فالاختلاف بينهم هو اختلاف لفظي كما يقول علماء الأصول، وأنهم متفقون على استعمال لفظه وحقيقته في الأحكام العملية في مسائل كثيرة ، من ذلك استحسان المصلحة، والاستصناع للمصلحة، وأقر المالكية الاستصلاح، وهو مصلحة .
[حكم الاستحسان ومرتبته بين الأدلة] بالرغم من أن الاستحسان مختلف فيه، ومع ذلك فإنه يأتي في المرتبة الرابعة عند الحنفية القائلين به، وأنه يقدم على القياس، فإذا تعارض الاستحسان مع القياس يقدم الاستحسان، لأن الاستحسان نوع راجح من أنواع القياس الذي يقدم على قياس آخر، قال البزدوي: وإنما الاستحسان عندنا أحد القياسين ، وقال ابن بدران: وحاصل هذا يرجع إلى تخصيص الدليل بدليل أقوى منه في نظر المجتهد .
ولذلك يذكر الحنفية في كتبهم باستمرار العبارة التالية "أن الحكم استحسانًا كذا، وقياسًا كذا" ويفهم منها ترجيح الاستحسان على القياس باتفاق علمائهم.
والاستحسان دليل ظني في دلالته على الأحكام كالقياس، والظن مقبول في الأحكام.