الحمد الله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتـم النبيين وأشرف المرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . أما بعد ، فإن هذه الدراسة التي وفقنا الله إلى إنجازها في إطار أطروحة للدكتوراه ، ترمي إلى بيان موضوع قانوني ذي طبيعة تركيبية تجمع في سياق واحد بين ميدان التوثيق العدلي ومجال المـعالمات العقارية ؛ ولا يخفى ما لهذا الموضوع من أهمية حاولنا إبرازها ضمن رؤية من الجدة والابتكار ، ونطاق قانوني شرعي منفتح على الأبعاد التي تخدمه ، وهو نطاق توصلنا إلى تحديده بالقراءة المتأنية فيما اتصل به من مراجع عامة وخاصة ؛ وذلك لأجل خدمة جملة من الأهداف العلمية ؛ التي اعترضنا في سبيل الوصول إليها صعوبات حاولنا التغلب عليها بحلول عملية ، كان من أهمها تحديد الإشكالية الرئيسية للموضوع وما تفرع عنها من إشكالات ثانوية ؛ ثم اتباع منهج علمي يراعي طبيعة البحث المركبة ، وكل ذلك قادنا إلى إيجاد الخطة التي رأينا أن عناصرها وعناوينها تشكل مفاتيح لمغاليق هذا البحث.
ولبيان كل ذلك بشكل مختصر ، فإننا نوضحه في هذه المقدمة من خلال النقط التالية:
أولا_ موضوع البحث
يدخل التوثيق بمفهومه العام في كل المجالات المعرفية الموجودة ، ويرد بمعنى خاص ينصب على صناعة الوثائق ؛ فيكون إما عرفيا وإما رسميا ، ومن التوثيق الرسمي ما يتم في إطار مهنة "خطة العدالة" ، و هو ما أضحى يعرف بمصطلح "التوثيق العدلي" الذي كثر استعماله في الآونة الأخيرة من لدن العدول خاصة ؛ وفي إطار هذا النوع من التوثيق تتم –مبدئيا - صياغة الوثائق في كل مجالات القانون وفروعه ، ويعد المجال العقاري من المجالات التي يتم فيها اللجوء إلى التوثيق العدلي من أجل حماية وضمان وانتقال الملكية.
والملكية هي حق عيني على شيء معين تعطي صاحبها دون سواه الحق في استعمال ذلك الشيء واستغلاله والتصرف فيه، بدون تعسف ، وضمن الحدود التي رسمها القانون والنظام العام . ويتم تقسيم الملكية إلى أصناف تخضع لمدى اجتماع عناصرها في يد شخص واحد أو تفرقها على عدد من الأشخاص ، ولمدى ما يرد على تلك العناصر من قيود وشروط ؛
فتكون الملكية تامة باستيفاء عناصرها الثلاثة: وهي الاستعمال والاستغلال والتصرف ، وتكون ناقصة عندما لا تجتمع هذه العناصر في يد شخص واحد ، وإنما تتفرق بين اثنين من المالكين فصاعدا ؛ وتكون مقيدة إذا ما وردت عليها شروط تحد من عمل عناصرها، خاصة عنصر التصرف . وبحسب أنواع الملكية السابقة تتنوع الحقوق العينية ، سواء تعلقت هذه الحقوق بالمنقولات أو العقارات ؛ فإذا ما أطلق لفظ الملكية مجردا ، فإننا نعني به ذلك الحق العيني الأصلي الذي تجتمع فيه عناصر الملكية التامة ، وأما الحقوق العينية الأصلية الأخرى –كحق الانتفاع وحق الاستعمال - ، فإن دراستها تتم عادة بمناسبة التطرق للملكية الناقصة ؛ وإذا ما ورد على الملكية قيود فإن الذي يستدعي ذلك غالبا هو رغبة الدائن في الحصول على ضمانات من المدين ، مثل الرهون؛ وهذا الأمر يستوجب الحديث عن الحقوق العينية التبعية. وتأسيسا على ما ذكر فإن الحقوق العينية –سواء كانت أصلية أم تبعية - تعتبر هي محل المعالمات التي تهدف إلى نقل الملكية أو حمايتها أو ضمانها أو تسييرها أو استغلالها؛ فإذا ما تعلق الأمر بملكية تامة في العقارات مثلا ، فإنها تشكل لصاحبها حقا عينيا أصليا يتيح له استعماله أو استغلاله أو التصرف فيه .
وإذا ما قرر المالك التصرف في الحق العيني ، فإنه يكون بذلك قد لجأ إلى استعمال أهم عنصر من عناصر الملكية التامة ؛ وهو عنصر يتضمن معنى قانونيا يتمثل في كل ما يؤدي إلى تفويت الملكية أو نقلها سواء جاء ذلك في شكل تصرف عوضي أو أتى في صورة تصرف تبرعي ؛ كما يتجلى أيضا في كل ما يؤدي إلى اتخاذ الملكية كضمان ؛ وهو هذا المعنى القانوني يقابل الواقعة التي تفتقر –مبدئيا - إلى عنصر الإرادة . كما يتضمن التصرف معنى ماديا كالذي تنطوي عليه أعمال البناء والهدم والحرث ، وهو هذا المعنى قد ينزل إلى مرتبة الاستعمال أو الاستغلال ويكون مرادفا لأحدهما ؛ وقد يكون بذلك عنصرا ضمن عناصر الوقائع المادية –نفسها - التي تكون مصادر لإثبات الحقوق ، مثل الواقعة المتمثلة في الحيازة الموصوفة ، أو ما يسمى باستمرار الملكية . وبالمعنى الأول يتم الحديث –عادة- عن أهلية التصرف التي تقتضي بلوغ سن الرشد دون عارض ، وهي الأهلية المشترطة في العمل إذا كان دائرا بين النفع والضرر ، وبالمعنى الثاني يتم –غالبا - ذكر أهلية الإدارة التي تتطلب بلوغ سن التمييز فقط ، وهي الأهلية الواجبة في العمل إذا كان نافعا أو غير ضار.
وغالبا ما ينصرف إطلاق لفظ التصرف إلى معناه القانوني الذي يعتد بوجود وصحة عنصر الإرادة في الأعمال، من أجل ترتيب الأثر القانوني اللازم ؛ غير أن التصرف بمعناه المادي ، لا يخلو –هو الآخر - من وجود الإرادة ؛ إلا أنه لا يتم النظر إلى هذه الإرادة على أساس أا هي التي ترتب الأثر القانوني اللازم ، بل إن التصرف المادي المنطوي على هذه الإرادة يكون هو نفسه أثرا من آثار تصرف قانوني سبقه ؛ لكن وجود هذا التصرف المادي كعنصر في الواقعة المادية، هو الذي يضفي الحركية على هذه الواقعة الساكنة ، فتصبح –هي أيضا - مصدرا للالتزام أو للإثبات –بحسب الأحولا ،
- ولذلك فإن واقعة الحيازة مثلا لا ترتب آثارها في الالتزام والإثبات إلا بأن يكون التصرف المادي شرطا من شروطها وركنا من أركانها . وتأسيسا على ذلك فإنه يمكن – في المجال العقاري - دراسة الحقوق العينية العقارية من باب معالجة الأثر القانوني الذي ينشأ عندما تنتقل هذه الحقوق من طور الجمود والسكون إلى طور العمل والحركية ؛ ذلك أنه إذا كان هذا الأثر يكمن في ترتيب الحقوق والالتزامات القانونية ؛ فإن الوصول إليه يحتاج إلى الرجوع إلى مصدر مادي واقعي مباشر يعد محركا ودافعا إلى تطبيق القاعدة القانونية ، وهو مصدر يأتي إما في صورة واقعة أو في شكل تصرف . ومؤدى ما سبق أن بين التـصرف والواقعة تداخلا ، وأن هذا التقسيم إنما أملاه الطابع الإجرائي ، المتمثل في إثبات 2 مصدر الحق أو الالتزام ؛ إذ أن إثبات الحق ينصرف إلى إثبات المصدر المادي المتصل بالواقع لا بالقانون ، الذي يستند إليه هذا الحق ؛ وهذا المصدر يكون إما واقعة قانونية أو تصرفا قانونيا .
ولتوثيق مصدر الحق في المجال العقاري، تتيح خطة العدالة مكنة الإشهاد والكتابة في الوقائع والتصرفات معا ؛ ولذلك فإن التصرفات العقارية ينظر إليها في مجال الوثائق العدلية على أنها ذات معنى عام تجتمع فيه التصرفات التي تختص فيها الشهادات الأصلية بحسب المبدأ ، والوقائع التي تختص الشهادات الاسترعائية بتقييدها وتوثيقها من حيث الأصل .
ولذلك فإن النظر إلى الوقائع على أنها تضم التصرفات ، وإلى التصرفات على أنها تنطوي على الوقائع ، بحكم أن عنصري الإرادة القانونية والتجسد المادي يحضران في الأمرين معا ، جعلنا نعنى بدراسة التصرفات العقارية كوقائع في الوثائق العدلية ، فسمينا هذه الأطروحة :"موقع التصرفات العقارية في الوثائق العدلية" ، ويتضمن هذا العنوان من جهة إشارة إلى مصدر الحق الذي يعمل التوثيق العدلي على إظهاره حتى يمكن اعتماده في الإثبات ، وهذا المصدر هو الواقعة القانونية التي دلت عليها لفظة "موقع" المتخذة صيغة المصدر. كما يتضمن العنوان من جهة أخرى التلميح إلى علاقة جدلية متبادلة بين شقيه ، إلى درجة تجعلنا نقول بأنه يسوغ قلبه فنسمي البحث :"موقع الوثائق العدلية في التصرفات العقارية".
وفي ذلك إشارة إلى أن من أراد أن يجعل من هذا البحث سبيلا إلى دراسة الميدان العقاري من خلال خطة العدالة فله ذلك ، ومن أراد أن يوجهه إلى دراسة التوثيق العدلي من خلال المجال العقاري فهو يتمتع هذه الإمكانية ؛ وهذا من بين الأسباب التي جعلتنا نصوغ البحث –كما سيأتي معنا - وفق نمط يجعل من شقي عنوانه حاضرين ومتلاحمين بصفة دائمة من أول الأطروحة إلى آخرها . ولعلنا أردنا –هذا العنوان - أن نبرز ما تضفيه أسباب ومبررات صياغتنا له على موضوع الدراسة من جدة وأهمية.
ثانيا_ أهمية الموضوع
وجدته يكتسي موضوع التصرفات العقارية في الوثائق العدلية أهمية خاصة ، نظرا لأهمية اللأفاظ المشكلة لعنوانه. فالتوثيق العدلي يقدم ضمانات قوية للمتعاقدين ويوفر الحماية للمتقاضين ويعمل على مساعدة القضاء من حيث هيئة وسائل الإثبات ؛ كما أن له آثارا تنعكس على حقوق الإنسان وأعراضه وأمواله، فتوثيق الحق وإقامة الحجة له هو صلب وجوده وحقيقة وقوعه ، لأن الحق بدون إثبات يصبح عند الخصام والنزاع كأنه لم يكن ؛ فأهمية التوثيق من أهمية حقوق الإنسان المختلفة.
والعقار له أهمية باعتباره رمزا للثبات والاستقرار من جهة ، ومنطلقا للمشروعات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية من جهة أخرى . والتصرفات الواردة على العقار من شأنها أن تنقله من طور السكون إلى طور الحركة.ومن هنا تبرز الخطورة، إذ تطرح إشكالات وتساؤلات تتعلق بالملكية العقارية، ومدى شرعية التملك ، ومدى استجابة المعالمة العقارية للجوانب القانونية والاجتماعية والمالية والاقتصادية.فلابد إزاء ذلك من إيجاد معادلة تحفظ الحق لصاحبه وتشجع المستثمر ولا تمس بالسلم الاجتماعي ولا بالمبادئ الطبيعية ولا بمقاصد الشريعة الإسلامية؛ وهذه المعادلة هي ما نسعى إلى بيان معالمها من خلال هذه الدراسة.
وتبرز هذه الأهمية أيضا من خلال الموقف التاريخي الذي وقفه التوثيق العدلي في مسلأة الحقوق الوطنية العقارية، عندما أسس سدا منيعا أمام أطماع الاحتلال الرامية إلى تفويت الأراضي والعقارات المغربية للمستوطنين الأجانب ، إذ لم يحصل طيلة عهد الاحتلال أن حررت وثيقة عدلية واحدة يفوت بموجبها عقار للأجانب، وأيضا لم يتم تحفيظ أي عقار بناء على رسم عدلي ؛ بل إن الاستعمار استحدث لأجل أهدافه الاستيطانية مجموعة من الأنظمة ، من بينها نظام التحفيظ العقاري ونظام العقود العرفية ونظام التوثيق الفرنسي .
ولم يرحل الاحتلال حتى خلف لنا خليطا عقاريا وتشريعيا وتوثيقيا غير متجانس ، أصبحنا بموجبه أمام تعددية عقارية غير مستقرة ، ونصوص تشريعية متضاربة فأضحى العقار عائقا أمام الاستثمار، واختلت المعادلة التي ذكرناها سابقا. ومما زاد الأمر استفحالا أن جانبا من القضاء عمل في كثير من الأحيان على تطبيق النصوص التشريعية العقارية الموروثة عن الاحتلال بشكل حرفي ، دون أن يراعي الظرفية الاستعمارية الاستيطانية التي وضعت في سياق خدمتها تلك النصوص ؛ فكل ما سبق يظهر أن للبحث أهمية تاريخية يزيدها تأكيدا أن الاستعمار أول ما وطأت أقدامه أرض المغرب ...