إن ظاهرة العقوبة كرد فعل اجتماعي ضد الجريمة ليست حديثة النشأة، بل قديمة قدم الانسانية، حيث عرفتها سائر المجتمعات وصاحبتها في تطورها ورقيها. ويكشف لنا التاريخ الانساني أن العقوبات البدنية هي النوع الاكثر شيوعا في النظم 1 العقابية القديمة) (، وهي عقوبات اتسم تنفيذها بالقسوة وعدم العدالة لأن الهدف من 2 إيقاعها لم يكن يتعدى الانتقام من الجاني والتنكيل به وجعله عبرة لغيره) (، فكانت هذه القسوة مدعاة لقيام المرحلة الفلسفية لتصحيح أوضاع القسوة والوحشية التي عاشتها 3 الانظمة العقابية) (، وتميزت هذه المرحلة بثورتها ضد هذه العقوبات والمناداة بإقرار اتجاهات جديدة تقيم العقوبة على أساس مبدأ الشرعية الجنائية كخير ضمان لمرتكبي الجريمة من أن تصيبه عقوبة غير منصوص عليها في القانون، وانسجاما مع هذه الافكار الحديثة ظهر ما يسمى بتفريد العقوبة كمؤسسة قانونية تغيرت معها النظرة إلى وظيفة العقوبة، لتنتقل من الانتقام والتنكيل إلى الاصالح والتأهيل.
وفي ظل هذا التطور اهتدى الفكر الجنائي إلى العقوبات السالبة للحرية كأنسب عقاب يمكن إحالله محل العقوبات البدنية التي دعا إلى إلغائها، ومنذ ذلك الوقت انشغل بضرورة إعادة النظر في المعالمة العقابية للمحكوم عليه ومراعاة قواعد الانسانية في التنفيذ العقابي حتى يحقق العقاب الفائدة المرجوة منه بإعادة تأهيل المحكوم عليه للعودة 4 إلى الحياة الاجتماعية عضوا صالحا في الجماعة) .) وهدف التأهيل يجب أن يبنى على أسس علمية دقيقة ومحكمة في إطار برنامج تهذيبي كالم يزود المحكوم عليه بما يحتاج إليه من تربية مدنية وأخالقية ومهنية وصحية تساعد على إعادة التوازن الذي أخلت به الجريمة المرتكبة وتساعد المحكوم عليه على تقويم اعوجاجه وتنشئة شخصيته على أسس علمية.
ومن العروف أن نجاح هذا البرنامج يقتضي وقتا كافيا لتطبيقه وتنفيذه داخل السجن وتجنيبه أي ظرف يمكن أن يفسد الغرض منه وهو الاصالح والتأهيل كشعار للسياسة 5 العقابية الحديثة التي أصبحت ترى في السجن مؤسسة اجتماعية) ( تربوية لا مؤسسة للتحفظ على الجاني و إهماله. لكن سرعان ما أثبتت التجربة للعيان أن تحقيق هدف الاصالح والتأهيل من خلال العقوبات السالبة للحرية ليست بالسهولة التي كان يعتقدها دعاة الاصالح، فقد كشفت العقوبات الحبسية وخاصة القصيرة منها عن مساوئها التي تبين أنها تتعارض مع الهدف المذكور، وأنها تفسد المحكوم عليه بدال من إصالحه، فهي بالنظر إلى قصرها غير كافية لتطبيق برنامج إصالحي يستفيد منه المحكوم عليه الذي يكون عادة من المجرمين قليلي الخطورة الاجرامية، فيكون لدخوله السجن آثار سيئة تمس مختلف نواحي حياته الاجتماعية والنفسية والاقتصادية، وتمتد هذه اآلثار لتطول أفراد أسرته وعائلته بل والمجتمع ككل الذي يتحمل تبعة فشل العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، التي تعد سببا للعود الجنائي) ( مع ما يترتب عليه من ارتفاع عدد الوافدين مرة ثانية على المؤسسات السجنية التي يطبعها الاكتظاظ كمعرقل أساسي لنجاح المعالمة العقابية. فضال عن ارتفاع النفقات المخصصة لتنفيذها والتي تثقل كاهل الدولة من جهة، وأسرة المحكوم عليهم من جهة ثانية، ناهيك عن بعض المشكالت الهامة التي تثار دائما بالنسبة لهذه العقوبات، ومن ذلك مثال غياب الموارد البشرية المؤهلة للتعالم مع نوعية المحكوم عليهم بالعقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة.
ومن هذا المنطلق بدأ التفكير في استخدام وسائل جديدة للحد من الحالات التي يسمح فيها للمشرع توقيع العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة، فاتجه البحث نحو اقتراح ودراسة بدائل لهذه العقوبات كاستراتيجية جديدة لمواجهة الظاهرة الاجرامية بأقل خسارة ممكنة، ذلك أن هذه البدائل توفر للمحكوم عليه معالمة عقابية خارج أسوار السجن من شأنها تسهيل عملية إدماجه داخل النسيج الاجتماعي مع توفير مقومات هذا الادماج ليحتفظ المحكوم عليه بكل أوضاعه الاجتماعية والاقتصادية ومكتسباته وروابطه الاسرية والاجتماعية. وتتضمن السياسة الجنائية الحديثة جملة من هذه البدائل : فمنها ما هو مقيد للحرية كالاختبار القضائي والشغل من أجل المنفعة العامة والمراقبة الالكترونية، ومنها ما هو ذو طبيعة مالية كالغرامة والغرامة اليومية والمصادرة، ومنها أيضا ما هو مقيد للحقوق والمزايا، أكثر من ذلك يمكن البحث عن بدئل أخرى تستمد من قوانين غير جنائية كالقانون الجنائي الاداري والقانون المدني، بل ويمكن أيضا الاستعانة بما يعرف بالبدائل المجتمعية كالصلح والوساطة.
وتعدد هذه البدائل تساعد القاضي الجنائي المتخصص على اختيار البديل المالئم لمصلحة المحكوم عليه ولمصلحة الضحية أيضا بما يحقق التوازن المطلوب بين طرفي الجريمة عوض الاخلال به عند الحكم بالعقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة. ومما الشك فيه أن دراسة إشكالية العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة والبدائل المقترحة تمثل واحدة من أهم الاشكاليات الحيوية والهامة التي ما زالت تثير الكثير من المناقشات والجدل على مستويات كافة. لذلك فإن اختيار هذا الموضوع ودراسته في ضوء الهدف الاساسي للسياسة العقابية الحديثة المتمثل في إصالح الجاني وإعادة إدماجه في النسيج الاجتماعي له أهمية كبرى باعتباره من أدق مواضيع علم العقاب الحديث الذي يشهد ثورة في مضمونه تتماشى والتيارات الحديثة للسياسة الجنائية المعاصرة والتي يأتي في طليعتها تيار الحد من العقاب. كما أن الوقوف على العديد من المشكالت التي يمكن أن يثيرها هذا البحث على المستوى العملي له أيضا أهمية خاصة تميزه للوصول إلى تقييم علمي موضوعي إلشكالية العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة والبدائل المقترحة، والتي تعد من الدراسات القليلة التي اهتمت بموضوع البدائل وخاصة في الدراسات القانونية المغربية التي تعاني أصال من نقص كبير في الموضوعات التي تشكل صلب علم العقاب الحديث.
إشـكالية البحـث
أثار موضوع العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة والبدائل المقترحة عددا من التساؤالت التي تطلبت الاجابة عليها دراسة وبحث متعمقين إليضاح أبعادها والوصول إلى أغوارها، وتصب هذه التساؤالت أساسا في إشكالية هامة وهي مدى جدوى وفعالية العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة في تحقيق أهداف الاصالح والتأهيل؟ وهل من - 11 - الممكن الاستغناء عنها وإبدالها بعقوبات أخرى؟ وإلى أي حد يمكن لهذه العقوبات الاخرى أن تحل مشكلة العقوبات القصيرة المدة؟ وهل مناخ السياسة الجنائية المغربية كفيل باحتضان هذه البدائل؟
مـنهـج البـحـث
هذه الاسئلة هي التي حاولنا الاجابة عنها في هذه الدراسة معتمدين في ذلك على منهج وصفي وتحليلي مقارن بغية التوصل إلى تصور واضح عن موضوع الدراسة وأهدافه واستخالص نتائجه: ذلك أن منهج الوصف والتحليل يساعد في الوقوف على اآلراء المختلفة في الموضوع ومناقشتها، كما أن المنهج المقارن يفيد في معرفة التوجهات الحديثة والمعاصرة للسياسة الجنائية المقارنة ومدى تطور سبلها في مواجهة الظاهرة الاجرامية لنكون على ضوئها تصورا عاما يمكن من خلاله بناء معالم جديدة لنظرية العقوبات البديلة.
خطـة البـحـث:
لقد اقتضت طبيعة هذا البحث تقسيمه إلى بابين رئيسيين: الباب الاول: خصص للعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة بين متطلبات الردع والتأهيل ارتأينا في فصله الاول ضرورة الوقوف على ماهية هذه العقوبة من خلال التطرق إلى معايير تحديدها وخصائصها، وفي الفصل الثاني تناولنا موقع العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة مبرزا هيمنتها على الجزاء الجنائي وأسباب هذه الهيمنة ثم اآلثار السلبية المترتبة عليها متسائلين عن ضرورة إيجاد بدائل لهذه العقوبات تضفي على العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة وجها جديدا . الباب الثاني: الوجه الجديد للعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، قسم بدوره إلى فصلين: خصص الفصل الاول للحديث عن البدائل في نطاق النظام الجنائي والتي تم تقسيمها إلى بدائل مقيدة للحرية وبدائل مالية وبدائل سالبة أو مقيدة للحقوق أو المزايا، بينما تناولنا في الفصل الثاني البدائل المستمدة من خارج النظام الجنائي وقفنا من خلاله على البدائل القانونية غير الجنائية وكذا البدائل المجتمعية. وأخيرا الانتهاء من البحث بخاتمة كانت عبارة عن استخالص نتائج هذه الدراسة وبعض الاقتراحات بخصوص مستقبل العقوبات البديلة في سياستنا الجنائية.