مقدمة
إن وظیفة التدقیق الداخلي ولدت بعد الأزمة الاقتصادیة الكبیرة سنة 1929 للتدخل في المجال المالي والمحاسبي. وفي نھایة ھذه الأزمة، تم إعتماد الأحكام القانونیة التي تؤثر على الشركات . المدرجة في الولایات المتحدة الأمریكیة لحمایة مصالح المساھمین في البدایة، كان المدققون الداخلیون فقط "مقاولین من الباطن" للمدققین الخارجیین ولم یتمتعوا بمكانة عالیة في الشركات. تدریجیا، إختلفوا عن نظرائھم في التدقیق الخارجي الذین إقتصروا على مراجعة وثائق المحاسبة الرسمیة ثم قام المدققون الداخلیون بتوسیع مجال عملھم للتركیز التدریجي على جمیع عملیات الإدارة. ولقد كان لإعادة توجیھ التدقیق الداخلي إلى مجالات الإدارة بخلاف مراجعة الحسابات التقلیدیة دورا فعالا في تعزیز صورة علامتھا التجاریة ومن بین العوالم الأخرى أیضا التي أدت إلى إنشاء التدقیق الداخلي حجم الشركات أو التشتت الجغرافي للوحدات التابعة لھا. وھكذا ظھرت وضعیة المدقق الداخلي الذي شھد إنتقال مھامھ من التدقیق المحاسبي والمالي إلى التدقیق الإداري حیث ً أصبح المدقق الداخلي مستشار ً ا إداریا حقیقًی ً ا كبیرا لتلبیة توقعات المقاولة من خلال تقدیم توصیات عملیة لتحسین أداء المقاولة.
وفي ھذا الإطار تشكل وظیفة التدقیق والرقابة الممارسة على صفقات الجماعات الترابیة، أحد المواضیع المھمة في سیاق الحدیث عن الرقابة العلیا على المال العام الترابي، حیث یبدو ھذا الإھتمام نابعا من وعي الإدارة الترابیة من خلال الوقوف على مكامن الضعف الذي تعاني منھ الجماعة الترابیة في شتى المجالات، من أجل السیطرة علیھا والتنبؤ بتطوراتھا ومعرفة مدى إحترام المساطر والقوانین الجاري بھا العمل، إضافة الى التأكد من استعمال الموارد استعمالا فعالا وإقتصادیا، بما یخدم الأھداف التنمویة للجماعات الترابیة، خاصة والأدوار الجدیدة التي أصبحت منوطة بھا على المستوى الإقتصادي والإجتماعي أو فیما یخص تقدیم خدمات القرب، إستجابة لمتطلبات المواطن وتحقیقا للتنمیة الترابیة.
ویرجع ھذا الإھتمام بالأساس إلى الدور الحیوي الذي تحتلھ مالیة الجماعات الترابیة، حیث تعتبر الأداة التي تنفد بھا السیاسات العمومیة وتمول بھا كل المرافق العمومیة المحلیة، وتنجز بھا المشاریع التنمویة وتترجم بھا المجالس المنتخبة برامجھا السیاسیة إلى واقع ملموس، لذلك وإیمانا بضرورة النھوض بتدبیر معقلن ورشید للشأن العام الترابي في شقھ المالي، فقد أولى المشرع المغربي منذ الاستقلال أھمیة قصوى للرقابة على المال العام إبتداءا من قانون المحاسبة العمومیة 1958 لسنة .
كما عمل المشرع فیما بعد على إحداث مجموعة الأجھزة الرقابیة أھمھا: اللجنة الوطنیة للحسابات والمفتشیة العامة للمالیة سنة 1960 والمراقبة المالیة على المؤسسات العمومیة، ومراقبة االاتزام بالنفقات سنة 1969 .ووعیا كذلك من المشرع المغربي بضرورة إصلاح المنظومة القانونیة المفعلة لسیاسة اللامركزیة، وتضمینھا إصلاحات مھمة على مستوى الجانب المالي للجماعات الترابیة تم إصدار عدة نصوص قانونیة تخص التنظیم المالي الترابي وذلك سنة 1976 ،وقد تمحورت في الظھیر المتعلق بالتنظیم المالي للجماعات المحلیة وھیئاتھا ، ، وكذا إضافة الى المرسوم المتعلق بصحة االاتزام بالنفقات الخاصة بالجماعات المحلیة وھیئاتھا ، وتعززت ھاتھ النصوص القانونیة المرسوم الخاص بنظام محاسبة الجماعات المحلیة وھیئاتھا بصدور المیثاق الجماعي، وكان الھدف من وراء ھاتھ الإصلاحات ھو الرفع من أداء التدبیر المالي الترابي وتحسین مردودیتھ،
وكذلك النھوض بدور الجماعات الترابیة وجعلھا شریكا رئیسیا في التنمیة الوطنیة. لكن الممارسة المالیة للجماعات الترابیة أنداك، أبانت عن مجموعة من الإختلالات نتیجة سوء التدبیر وإستنزاف المال العام، ومن أجل تجاوز ھذه الإشكالات، شھد المغرب في الآونة الأخیرة صدور ترسانة تشریعیة مھمة، تضمنت إصلاحات قانونیة وتنظیمیة على مستوى التدبیر المالي للجماعات الترابیة في أفق ضمان قیام ھذه الأخیرة بالأدوار المنوطة بھا في تحقیق التنمیة الإقتصادیة والإجتماعیة والثقافیة وملائمة الإطار القانوني والمؤسساتي الذي یحكم تدبیر الشأن الترابي مع كل المستجدات التي عرفھا نظام اللامركزیة الترابیة الذي شكل أھمیة ورغم صدور القانون رقم 08.45 المتعلق بالتنظیم المالي للجماعات الترابیة قصوى لضمان وعقلنة التدبیر المالي الترابي، حیث إعتبر بمثابة النواة الأساسیة المنظمة للتنظیم المالي، وبالنظر كذلك للمقتضیات الإیجابیة التي جاء بھا ھذا القانون، فإن تنامي وتزاید حاجیات الساكنة المحلیة ومتطلباتھا من التنمیة الشالمة والمستدامة، وبروز مجموعة من الإختلالات والإنحرافات التي ظلت تعتري تسییر الجماعات الترابیة كان مطلبا لسن قوانین جدیدة للجماعات الترابیة. وكل ھذا في سبیل أن تتجاوز ھذه القوانین سلبیات المقتضیات القانونیة السابقة، وھو الشيء الذي في یونیو 2015 ،والتي حملت العدید من تأتى بصدور القوانین التنظیمیة للجماعات الترابیة المستجدات التي حاول من خلالھا المشرع المغربي أن یسایر التصور الجدید الذي جاء بھ دستور 2011 بخصوص التنظیم الترابي.
وقد جاءت القوانین التنظیمیة للجماعات الترابیة بمقتضیات ھامة تستھدف تكریس الدیمقراطیة الترابیة وقواعد الحكامة الجیدة في تدبیر الشأن العام الترابي، وربط المسؤولیة بالمحاسبة، ولعل أھمھا والتي من شأنھا أن تنعكس إیجابا على الممارسة المالیة الترابیة، خاصة تلك المتعلقة بإفتحاص التدبیر المالي الترابي، كما أشارت القوانین التنظیمیة للجماعات في أكثر من مناسبة إمكانیة خضوع الجماعات الترابیة لھذه المنھجیة الرقابیة اختیاریا بطلب من رؤساء مجالس الجماعات الترابیة وإجباریا بشكل سنوي من طرف المجالس الجھویة للحسابات والمفتشیة العامة للإدارة الترابیة والمفتشیة العامة للمالیة. وبالتالي فإن من شأن إعتماد تقنیات التدقیق، أن تساھم في عقلنة وتطویر التدبیر المالي للجماعات الترابیة، وترسیخ مبادئ الحكامة الجید، تماشیا مع مبادئ الدستور الجدید للملكة لسنة 2011 ، والذي عزز مكانة الجماعات الترابیة كفاعل أساسي في المسلسل التنموي إلى جانب الدولة والقطاع الخاص ومكونات المجتمع المدني.
ومن مستجدات تدبیر مالیة الجماعات الترابیة، كذلك تبني مقاربة التدبیر المرتكز على الأھداف من أجل تحقیق الفعالیة والنجاعة، وتحسین جودة الخدمات المقدمة للمواطنین، وفي ھذا الصدد تم التنصیص في القوانین التنظیمیة للجماعات الترابیة، على ضرورة تبني ھذا النوع من التدبیر، حیث نصت المادة 245 من القانون التنظیمي للجھات على أن یتخذ رئیس مجلس الجھة '' الإجراءات الضروریة من اجل إعتماد الأسالیب الفعالة لتدبیر الجھة ولاسیما التدبیر بحسب . وھي نفس العبارة الموجود في القانون التنظیمي للعمالات والأقالیم وكذا القانون 9 الأھداف'' التنظیمي للجماعات الترابیة وإنسجاما مع إنتقال التدبیر الترابي من ثقافة المطابقة القانونیة إلى ثقافة النتائج، ترتكز المقاربة الجدیدة على إعادة النظر في مفھوم الرقابة، وذلك بالإنتقال من رقابة مرتكزة على المساطر إلى رقابة مرتكزة على الأداء والنتائج، وبالتالي فمرجعیة المراقبة قانونیة أساسیة بینما مرجعیة التدقیق قویة ووجودیة وقیاسیة تتجاوز حدود المطابقة بین النص القانوني . والتسییر الفعلي إن الأسالیب الحدیثة المتضمنة لآلیة التدقیق، تمتاز بصفتھا التحلیلیة على مستوى تنفیذ المشاریع وتحقیق الأھداف، وتمنح للرقابة أبعادا متطورة تھتم بالجانب التنموي عوض الإقتصار على رقابة التنفیذ الإجرائي الجامد.
لذلك فإن إعتماد منھجیة متطورة في تتبع وتصحیح الأداء، تسمح بتطویر رقابة لاحقة مزدوجة وقویة، تتعلق من جھة بتقییم وتقویم التنفیذ وتدقیق العملیات ومراقبة تحقیق الأھداف، وتھتم من جھة ثانیة بتعزیز الرقابة القضائیة التي تعتبر من أھم اللأیات الرقابیة على الإطلاق، إعتبارا . للضمانات التي تخولھا والأدوار التقییمیة والمفترضة فیھا وھكذا، فإن الغایة من التدقیق لیس الزجر والعقاب وإنما ھو أداة للتقییم والتتبع وتقدیم التوصیات من أجل تحسین جودة المشاریع وإنجاز المھام بفعالیة وبأقل تكلفة ممكنة، حیث سیمكن اللجوء إلى التدقیق من قیاس درجة فعالیة السیاسات والإستراتیجیات وتقدیم حجم الإنجازات والنتائج. فالتدقیق لیس مجرد رقابة شرعیة ومطابقة وإنما یعمل أیضا على مدى نجاعة المراقبة الداخلیة والعلاقة مع باقي القطاعات الحكومیة ومع سلطة الوصایا والشركاء، والتأكد من الإنجاز الفعلي للعملیات ونتائجھا بالنظر إلى الأھداف المسطرة، وینتھي بإعداد تقریر یتم فیھ تقدیم ملاحظات على أسالیب التدبیر وإعداد توصیات وإقتراحات من شأنھا تحسین تدبیر المشاریع في المستقبل. ویرتكز تحلیل ھذا الموضوع على عدد من المفاھیم التي یجب الوقوف عند تحدید معانیھا بما یتماشى وتوجھات ھذا العمل، طالما أن معظمھا تكتسي تعاریف متعددة ومتشعبة إضافة إلى عدم تحدید تعاریف بعضھا في النصوص القانونیة المؤطرة لھذا المجال.
ومن بین المفاھیم الأساسیة التي تتخلل ھذا الموضوع ھناك مفاھیم الإفتحاص والتدقیق، والتدبیر المالي ثم الجماعات الترابیة، وصفقات الجماعات الترابیة ثم مصطلح الحكامة. ففیما یخص كلمة التدقیق فھي كلمة مصدرھا لاتیني مشتقة من''audir '' وتعني الإنصات والإستماع. ویمكن تعریفھ بكونھ ذلك النشاط الذي یطبق بك ل إستقلالیة مساطر منسجمة ومعاییر من أجل تقییم ملائمة وموافقة وأمان وسیر عمل أو جزء من العملیات التي یتم القیام بھا في 12 منظمة ما بالمقارنة مع المعاییر المعتمدة .
ترجع أصول التدقیق إلى مراحل طویلة عبر التاریخ في القرن الثالث قبل المیلاد، وقد إعتادت الحكومات الرومانیة تعیین الباحثین الذین سیطروا على حسابات جمیع المحافظات. ھناك العدید من الأمثلة التي یمكن تقدیمھا كسابقات تاریخیة؛ لكن في الحقیقة لا أحد منھم یفسر ھذه الوظیفة بشكل كالم كما ھو قائم الیوم، لأن وظیفة التدقیق في الواقع وظیفة جدیدة ذات خصائص فردیة لا . تتشابك مع أي سابقة تاریخیة إن تدقیق صفقات الجماعة ترابیة ھو'' القیام بتشخیص في وقت معین للوضعیة الفعلیة والإختلالات التي یمكن أن تطبع تنظیم وتسییر ھذه الصفقات الترابیة، وذلك من طرف شخص أو . ویرتكز التدقیق أثناء ممارستھ على معاییر ھیئة تتمیز بالإحتراف والإستقلالیة عن أي تأثیر'' ، ھذه أساسیة یطلق علیھا قاعدة (3E TROIS (وھي الفعالیة والإقتصادیة والكفاءة أو النجاعة المعادلة التي ستعرف ھي الأخرى تطورا ملموسا بإضافة معیارین اثنین وھما البیئة والمعیار الأخلاقي. وتجدر الإشارة أن مصطلح التدقیق أو مصطلح الإفتحاص، یعكس إختلاف وعدم إجماع المختصین حول مصطلح واحد، فھناك من یستعمل كلمة تدقیق أو إفتحاص أو فحص أو مراجعة أو مراقبة مالیة، وعلى الرغم من الإنتماء المشترك لمؤسسة المجموعة العربیة للرقابة المالیة، .
غیر أن إشكالیة التنوع لیس ھناك قاموس محدد حول إستعمال تقنیات ومفاھیم الرقابة المالیة في المصطلحات اللغویة في اللغات اللاتینیة غیر مطروحة إذ تستعمل كلمة AUDIT التي تعني التدقیق إمكانیة الاكتفاء بإحداھا. أما فیما یخص التدبیر المالي، فالتدبیر في المفھوم الأنجلوساكسوني ’'management ''یشیر إلى ''فن أو طریقة لقیادة مؤسسة ما، لإدارتھا وللتخطیط لتنمیتھا ومراقبتھا في كل المنظمات التي تسعى لتحقیق ھدف ما، سواء تعلق الأمر بمؤسسة القطاع الخاص أو العام، أما في المعنى الفرنسي ''Gestion ''فھو یشیر إلى مجموعة من الوسائل المعتمدة لإعطاء أكبر فعالیة للفعل . العمومي، باستعمال أقل ما یمكن من الموارد المالیة'' ویمكن تعریف التدبیر المالي: '' كل تعبئة شالمة تعتمد الإستعمال الأمثل للموارد المالیة المتاحة وفق أھداف وخطط محددة، وتستھدف من خلال ذلك تحدید المسؤولیات في حالة حدوث . إنحرافات عن الأھداف المرسومة، وضبط خروقات مالیة، كاختلاس أمولا أو تلقي رشاوي'' ویبدو بأن مفھوم التدبیر المالي، ھو مفھوم واسع یتجاوز بكثیر الوظیفة المحاسبة أو المالیة - بالمعنى الضیق - بحكم وظیفتھ ومكانتھ الإستراتیجیة في تحصین المال العام، وتجوید أداء الخدمة . العمومیة بما یتجاوب مع أبعاد التنمیة الإقتصادیة والإجتماعیة والثقافیة والبشریة بكل مقاییسھا ومن ھذا المنطلق، فإن النھوض بالجماعات الترابیة یرتبط بشكل كبیر بضبط الموارد وتحكمھا في قواعد التدبیر المالي المحلي، لذلك أصبحت الجماعات الترابیة مطالبة بإدخال آلیات رقابیة حدیثة كالإفتحاص أو التدقیق سواء الداخلي أو الخارجي عبر مصالح داخلیة من أجل تحدید الممارسة المالیة الترابیة.