الإطار العام:
يعتبر العقار من أهم الركائز الاقتصادية ومحور كل سياسة تنموية في أي مجتمع مهما كان نظامه السياسي والاقتصادي، فهو أساس الاستقرار ومصدر لإرادات معتبرة للدولة لما تترتب عنه من مداخيل وعائدات للخزينة العمومية بفضل تحصيل الوعاء الضريبي عليها، بالإضافة إلى إسهاماته في تفعيل وجلب الاستثمار الوطني والأجنبي على الخصوص، ناهيك عن الأهداف الأخرى التي تحققها خدمة للمصلحة الخاصة للفرد لما لها من انعكاسات إيجابية على المصلحة العليا للبلاد، مما جعله يكون مصدرا لصراعات كانت ولا تزال مستمرة بين الشعوب[1].
لذا نجد أن مختلف أنظمة الدول سعت إلى تنظيم هذا المجال الحيوي بما یتلائم مع سياستها وبالتالي التحكم فيه وتحقيق الأهداف المرجوة منه، ومن جهة أخرى، فقد نص الفصل 489 من قانون الالتزامات والعقود على أن الكتابة هي للإثبات وليست شكلية في البيوع[2]، وهو ما يفسر أهمية إثبات المعالمات العقارية التي ازدادت بفعل التطور التكنولوجي الذي تمخض عن التطور المتنامي للمبادلات أن ظهرت بدائل جديدة للتواصل التقليدي، تمثلت في وسائل وآليات قادرة على تنظيم مختلف جوانب العقود االاكترونية، التي يشهدها العالم اليوم بخطوات رهيبة ومتسارعة[3] تمخضت عن ظهور الحاسوب والأنترنت[4]، فلا ينبغي، والحالة هذه، أن تبقى المجتمعات المدنية بمنآي عن مسايرة التطور الرقمي وحبيسة قواعدها التقليدية التي صارت الآن عاجزة عن ضبط وتنظيم الأساليب الحديثة لهذا النوع من العقود، وهو الوضع الذي حتم على مختلف الدول، التدخل لخلق تشريعات تكون جديرة بتنظيم وضبط المعالمات العقارية مواكبة منها لهذه الثورة الرقمية والتفاعل معها[5] .
ولذلك تدخل المشرع في مجال تنظيم الملكية العقارية بعدة نصوص قانونية ترمي إلى ضبطها وحمايتها ووضع قواعد تحكمها تكون بمثابة عماد تأسيسها وضمانها لتحقيق الأهداف المنتظرة منها، خصوصا لأا أحد ينكر دورها في تشجيع وتمويل المشاريع الاقتصادية والاستثمارية منها، ناهيك عن إسهاماتها في تطوير ما یعرف بالقرض الرهني، هذا الأخير، الذي بتطلب أوعية عقارية من أجل منحها لطالبها باعتبار أن العقار محور هذه العملية.
غبر أن تحقيق هذه الأهداف وأخرى لا تتأتى إلا بوجود أوعية عقارية ثابتة بسندات لها
قوة قانونية في إثبات حق الملكية، هذه المسلأة التي شكلت عقبة عويصة على السلطات خصوصا ما نتج عن مخلفات السياسة الاستعمارية، التي أثرت سلبا على النظام القانوني.
وبصدور القانون رقم 05-53، يكون المغرب قد دخل العهد الرقمي بشكل لا لبس فيه، إذ يندرج هذا القانون في إطار مسعى سياسي عام، يهدف من جهة، الى تشجيع ولوج المغرب إلى تكنولوجيا الإعلام والاتصال، ومن جهة أخرى، للاستجابة لتطلعات المتعالمين المتعطشين للسرعة والفعالية في النظام القانوني، لكن في مقابل ذلك، فإن إعداد وصياغة هذا القانون، اقتضت اعتماد مقاربة قانونية مختلفة، تسعى لوضع قواعد تؤطر مجالا يتميز بالتطور المتلاحق والسريع وبطبيعته غير المادية.
الإطار الخاص
ويشكل بذلك موضوع الاثبات الرقمي للمعالمات العقارية أحد أهم المواضيع القانونية المطروحة على الساحة القانونية والفقهية والقضائية، وذلك بالنظر للإشكالات التي يطرحها منها على وجه التحديد طرق إثبات هذه المعالمات وأيضا الصعوبات المتعلقة بتحرير هذه المعالمات بشكل رقمي.
ومن المعروف أنها كلما تطور الفكر القانوني زاد البحث عن أساليب أكثر نجاعة في تحقيق الأمن العقاري، ذلك أن الاعتماد على الأساليب التقليدية في تحرير المحررات التي تثبت المعالمات العقارية أمر لا ينسجم مع التطور الحاصل في المجتمع، هذا ما يستدعي الوقوف عن الاثبات الرقمي لهذه المعالمات والإشكالات القانونية الناجمة عنه وكيف تصدى لها القضاء المغربي، مستحضرا كذلك مواقف الباحثين والفقهاء بشأنها.
ولعل الوقوف عن هذا الإشكال يستدعي البحث في مختلف التنظيمات القانونية المتعلقة بالمستندات الرقمية منها شروط المستند الرقمي، وسائل حمايته منها التوقيع الالكتروني، وأيضا كيفية تدخل القضاء في هذه العملية.
وطل ذلك لمقاربة تدخل المشرع في الاثبات الرقمي للمعالمات العقارية، وكيفية تعالم القضاء معها، وسبل مواجهة المشكلات القانونية المترتبة عن المنازعات العقارية التي يكون موضوعها الإثبات الرقمي.
الأهمية القانونية
عرفت المنظومة التشريعية في هذا المجال تنوع في طرق إثبات حق الملكية العقارية الخاصة التي ميزها اختلاف في نظامها القانوني، سيما أمام تحول الاتجاه التشريعي في المجال العقاري بخصوص نظام الشهر العقاري، فإبرام العقود التقليدية كان يخضع لنظام قانوني واضح منظم عبر ظهير التحفيظ العقاري وأبضا مدونة الحقوق العينية بالإضافة لظهير الالتزامات والعقود، إلا أن هذا الوضع ازداد أهمية مع بروز نظام التعاقد الالكتروني الأمر الذي شكل منعطفا جديدا في مجال اثبات المعالمات العقارية أمام القضاء الوطني.
ويقصد بالإثبات، إقامة الدليل أمام القضاء بالطريقة القانونية التي يحددها القانون، لتأكيد حق متنازع فيه له أثر قانوني. لذلك كان الأثبات في جوهره اقناعا للمحكمة بادعاء او باخر، من جانب هذا الخصم أو ذاك[6].
وتكمن أهمية البحث التقنية في ضرورة وضع قواعد قانونية وتقنية للتوقيع الالكتروني تتيح إنشاء مجالات جديدة للتعاقدات الالكترونية، وتنظم المعالمات الالكترونية، والبدء في التحول الجذري في المعالمات التي تستخدم فيها آلية الكتابة عن طريق الوسائط الالكترونية التي تفصح عن رغبة كل طرف من أطراف التعاقد في إتمام العقد والتعالم كما كانت تفعل الكتابة التقليدية، وما ينمي التطلعات المشروعة ويستجيب للحاجات المستجدة والمتزايدة من خلال الاعتراف بحجية التوقيع الالكتروني في الإثبات باعتباره المفتاح الحقيقي لكل المشكلات المطروحة وابرام الصفات الالكترونية، وكذا تسييل الدخول بثقة في النظام التجاري العالمي.
- الإشكالية:
وإذا كان العقار المحرك الأساسي للدورة الاقتصادي وجالب الاستثمار للبلدان، فمن البديهي أن تخضع التصرفات الواردة عليه للتحول الرقمي الذي عرفه المغرب في مجال التوثيق، خاصة أن المشرع قام يربط المعالمات العقارية بمبدأ الرسمية من خلال المادة الرابعة من مدونة الحقوق العينية.
وهو ما يبرز بالملموس أن الموضوع يطرح في جوانبه القانونية العديد من الإشكاليات القانونية التي يجب الوقوف عليها من خلال ابراز اشكال مركزي تتمخض عنه العديد من التساؤلات الفرعية.
السؤال المركزي: كيف تدخل المشرع المغربي لتنظيم المعالمات الرقمية في المجال العقاري؟
هذا السؤال تتفرع عنه عديد الأسئلة منها:
- ماهي أهم الوسائل الرقمية لإثبات المعالمات العقارية؟
- كيف عالج المشرع التوقيع االاكتروني؟
- ما هو دور القاضي في تقدير الأدلة الرقمية؟
- التصميم:
إن محاولة البحث في التساؤل المركزي والأسئلة الفرعية يقتضي منا اعتماد محاور رئيسة كالتالي:
الفصل الأول: الإثبات الرقمي للمعالمات العقارية وحجيته
الفصل الثاني: سبل تدخل القضاء لتقدير وسائل الاثبات الرقمية في المنازعات العقارية
[1] يونس الحادي، دور المحررات الرسمية في استقرار المعالمات العقارية، سلسلة الأبحاث المعمقة، مجلة الباحث، العدد 49، ص5.
[2] محمد العروصي، المختصر في بعض العقود المسماة –عقد البيع والمقايضة والكراء، مطبعة مرجان –مكناس-، طبعة 2016، ص141.
[3] حتى المغرب لم يبق بمنأى عن هذه التورة حيت اعتمد بداية استراتيجية كتطبيق للتوجهات التي جاءت في الرسالة الملكية الموجهة للمشاركين في مناظرة الاستراتيجية الوطنية لإدماج المغرب في المجتمع والاعلام.
أنظر: مهدي اوعديش، تطور عمليات التحفيظ العقاري والخدمات المرتبطة بها –التدبير والتوقيع الالكتروني-، رسالة لنيل شهادة الماستر في القانون الخاص، جامعة محمد الخامس، السنة الجامعية 2018-2019، ص 25.
[4] جاء ظهور الأنترنت سنة 1957 إثر إحداث الولايات المتحدة الأمريكية لوكالة مشروع الأبحاث المتقدمة، لخدمة عمليات التأهب السريع للقوات الأمريكية خوفا من الهجوم النووي ابان الحرب الباردة. انظر، عبد الله الكرجي وصليحة حاجي، الإثبات الرقمي، مطبعة الأمنية –الرباط- الطبعة الأولى 2015، ص11.
[5] خالد ممدوح إبراهيم، ابرام العقد الالكتروني دراسة مقارنة، دار الفكر الجامعي، الإسكندرية –مصر-، الطبعة الثانية 2011، ص 311.
[6] ادريس العلوي العبدلاوي، وسائل الاثبات في التشريع المدني المغربي، بدون ذكر مطبعة، الطبعة الأولى 1977، ص 4 وما يليها. أنظر كذلك عبد الرزاق أحمد السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني، الإثبات –اثار الالتزام- دار النشر للجامعات، القاهرة، طبعة 1956، ص26.