ليس هناك ما هو أعظم من القضاء العادل الذي يطمئن الناس في ظله على حقوقهم وحرماتهم ، حتى قيل : " إن القاضي هو القانون " ، فمله نستطيع أن تتوقع تحقيق تلك الحماية النظرية التي يعدنا بها القانون أو ما يسمى " بالأمن القانوني " ، وعندما ينطق القاضي بالحكم العادل في النزاع المطروح ، تدرك يقينا أن القضاء هو أهم وسيلة عملية لتحقيق الأمن القضائي ولم يصل القضاء إلى الوضع الذي هو عليه الآن إلا بعد أشواط طويلة جدا خصوصا في المجتمع العربي الذي كان في عصر الجاهلية وقبل الإسلام لم يعرف أي تنظيم لفك الخصومات بين أفراد هذا المجتمع غير المنظم أصلا في أي من مناحي حياته ، حيث كانت الفوضى في السائدة وكان الضعيف يخضع للقوي بشكل كان البقاء فيه للأقوى وكانت القوة الخاصة في وسيلة احترام القانون في المجتمعات القديمة ، فقد كان الفرد يدفع عن نفسه ما يوجه إليه من اعتداء ، حيث ينتقم بنفسه لنفسه ، وهذا ما يسمى بالانتقام الشخصي أو الانتقام الفردي ، وهو الطاهرة الطبيعية الأولى لرد العدوان بعنوان آخر ، وهو ما كان يسمى بالعدالة الخاصة أو نظام القضاء الخاص ، في مقابل العدالة العامة التي تعرفها الآن.
إذن ، كان المجني عليه ينبض للثأر ، وربما أنه قد لا يستطيع ذلك بسنة فردية ، فإن قبيلته كانت تهب معه للأخذ بالنار ، وكانت الحرب تنتهي في بعض الأحيان بالفدية.
لكن هذه الوسيلة لم تحقق الاستقرار بالمجتمع والأمان المرغوب فيه لعيش الإنسان . فاشتدي الضمير الجماعي إلى ضرورة الالتجاء إلى شخص ثالث لسن المنازعات ، فظهر التحكيم كوسيلة للحد من الفوضى الناجمة عن نظام العدالة الخاصة ، وقد كان ظهوره مرتبطا بالعشيرة أو القبيلة وعندما ظهرت العشيرة ، أدى ذلك إلى تطور فكرة الانتقام ، وأضحى محنونا ، وسات علي ذلك ظهور المصلحة المشتركة للجميع ، وأصبح النظر إلى المجرمين ، على أنهم مخربوا اثر ومقوضواء الحياة الجماعية الطبيعية الآمنة وهكذا رأت العشائر ، أن من مصلحتها أن تحقن الدماء ، وأن تعوض الضحايا ولوك الأمر يعود إلى عدة عشائر ، من هنا نشأ نظام الدية ، حيث كان في البداية اختياريا ، في أن تطور الأمر وأصبح إجباريا ، وبذلك حدث انتقال من عبد العدالة الخاصة إلى عبد الملة العلمة وفرضت الجماعة نفسها طرفا فيه ، وأصبحت تتدخل دون أن تهتم بمن لحقه تضي ونظام الدية ، كان نظاما معروفا ، وهو يقضي بأن يدفع المعتدي أو قبيلته مبلغا من المال لتجنب الأخذ بالثأر ، وكان هذا المبلغ الذي يفتدي به المعتدي نفسه أو تقتديه قبيلته نو من العطاء بنى من ثورة وغضب المعتدى عليه ، كما أنه يرمي إلى تعويض المجني عليه من الأضرار التي لحقت به ، وكذا تعويضه عن التنازل على حقه في الانتقام وعلى ضوء هذا الأمر ، لم تكن للمجتمعات البدائية سلطة عامة قادرة على بناء قواعد قانونية مضبوطة وملزمة ، يخضع لها جميع أفراد القبيلة لتنظيم سلوكيم وفق أحكامها فيضياب القانون عابت قواعد السلطة التي تفرض أحكامه بالقوة عند الضرورة وين ما كان عرض في ذلك الزمان ، للفصل بين الناس فيما ودراسات ، وفق الأشراف المحلية والتقاليد الموروثة عن الأجداد وقد اتخذ التحكيم في بدايته طابعا اختياريا ثم تحول إلى نظام إجباري بابه شد السلة أو العشيرة وفق عادات وأعراف.
غير أن الأوضاع قد تغيرت مع نزول الشريعة الإسلامية ، حيث بدأ بناء أسس متينة للقضاء ، فأصبح هذا الأخير جزءا من التعاليم الدينية ، وركيزة قوية لا غنى عنها في بناء الدولة الإسلامية ، التي تعتبر نشر العدل والمساواة بين الناس في جميع الأحكام والمعالمات ، من الأهداف الكبرى والغابات النبيلة التي يجب تحقيقها ونظرا لخطورته وأهميته في نفس الوقت ، فقد عمل الرسول صلى الله عليه وسلم على تولي ميمة القضاء بنفسه ، حتى يبين للناس طرفه وبين قواعده الأساسية ، فكان عليه الصلاة والسلام لا يفصل بين التين حتى يستمع إلى كل واحد منهما ، هدف التحقق من أمر ادعاء كل طرف ، فكما جاء على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : " البيئة على المدعي واليمين على من أنكر " وعن علي ولي الله عنه ، أن الرسول صلى الله عليه وسلم ، لما بعثه إلى اليمين قاضيا قال : " يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا نقض بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء وبذلك يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد وضع المهمة القضاء الأسس المتينة والقواعد الكبيرة ، حتى يتم فض المنازعات والخصومات بين الناس وفق الحق المبين ولما ظهرت الدولة حلت محل القبيلة أو العشيرة في التنظيم السياسي ونطور وظائفها ، فأسندت مهام الفصل في المنازعات لسلطة قضائية تمارس عملها في مؤسسات مختصة ووفق قوانين وإجراءات تتسم بصفة النظام العام ، وهكذا تطور القضاء من قضاء خاص بتولاد الأفراد إلى قضاء عام تتولاه الدولة وتشرف عليه ، وتنظمه قوانين يخضع لها القضاة والمتقاضين على حد السواء بهدف تنظيم شكل النشاط القضائي
إن الحاجة للقضاء تتمثل في كونه من المصالح العامة والضرورية للأمة ، إذ تبرز است والحاجة إليه من خلال تحقيقه لمجموعة من المبادئ الأساسية لدولة الحق والقانون.
إن دراسة التنظيم القضائي المغربي تقتضي التطرق إلى التطور التاريخي للتنظيم القضائي المغربي ومبادئه الأساسية ( الباب الأول ) ، ثم تتطرق بعد ذلك لتنظيم المحاكم المغربية وأهم اختصاصاتها ( الباب الثاني ) ، كما يلي :
الباب الأول : التطور التاريخي للتنظيم القضائي المغربي ومبادئه الأساسية
الباب الثاني : تنظيم المحاكم المغربية واختصاصاتها