واقع السياسة الجنائية بالمغرب
التصميم: المطلب الأول: واقع السياسة الجنائية بالمغرب. الفقرة الأولى: سياسة التجريم و العقاب في المغرب. الفقرة الثانية: وضعية السجون بالمغرب. المطلب الثاني: مدى تأثير السياسة الجنائية على ظاهرة العود. الفقرة الأولى: علاقة التجريم و العقاب بظاهرة العود. الفقرة الثانية: السجن كسبب العود.
تعرضت السياسة الجنائية في المغرب للعديد من الإنتقادات ناتجة اساسا عن عدم قدرتها على التكيف مع الواقع و ردع الجريمة، حيث أن الإحصائيات تشير إلى زيادة معدلات الجريمة، بل أكثر من هذا تزايد العنف و السلوك الإجرامي للأفراد، مع تزايد في شدة الجرائم و بشاعتها، خصوصا و أن الكثير من الجرائم هي مرتكبة من مجرمين سبق بهم ارتكاب نفس الجريمة أو جريمة مشابهة لها، أي أن نسبة مهمة من الجرائم المسجلة في المغرب هي جرائم تدخل في إطار العود، ما يطرح إشكال نجاعة منظومة التجريم و العقاب في المغرب، بالإضافة إلى إشكال نجاعة المؤسسة السجنية كمؤسسة الهدف منها إصلاح المجرم و منعه من الإجرام و العودة للجريمة.
و بالتالي يتكون إشكال واضح يمكن لأي أحد ملاحظته سواء كان قانوني أو مجرد مواطن عادي، هل السياسة الجنائية المغربية تحد من الجريمة و تردعها؟ بل يوجد من يتعمق في هذا الأشكال و يتسائل إن كانت السياسة الجنائية بالمغرب تردع الجريمة أو تشجعها؟ و نحن في دورنا يمكننا طرح إشكال محوري مفاده إلى أي حد نجحت الدولة المغربية في وضع سياسة جنائية ناجعة و فعالة لمحاربة الجريمة و العود لها؟
سنخصص هذا الموضوع للبحث عن علاقة السياسة الجنائية بالمغرب بظاهرة العود خصوصا فيما يخص دراسة تأثير السياسة الجنائية على ظاهرة العود بصفتها جزء مهم من الظاهرة الإجرامية ككل، و ذلك بدراسة أولا واقع السياسة الجنائية بالمغرب، بدراسة بعض مواضع قصورها، و أثر ذلك على ظاهرة العود، و للإجابة عن الإشكال المطروح سنقسم البحث لمطلبين كالتالي:
المطلب الأول: واقع السياسة الجنائية بالمغرب.
المطلب الثاني: مدى تأثير السياسة الجنائية على ظاهرة العود.
المطلب الأول: واقع السياسة الجنائية بالمغرب.
تعتبر سياسة التجريم و العقاب جزء لا يتجزأ من السياسة الجنائية بالإضافة إلى السياسة التي تهتم بتدبير السجون، حيث يوجد تداخل بينهم بتحقيق الواحدة للأخرى، بمعنى أن سياسة التجريم و العقاب لا تتحقق بدون سياسة لتدبير السجون في المغرب، و بالتالي وجب دراسة سياسة التجريم و العقاب (الفقرة الأولى)، و وضعية السجون في المغرب (الفقرة الثانية) للتمهيد إلى دراسة الثلاثي المتكون من التجريم، العقاب و السجن و أثرهم على طاهرة العود.
الفقرة الأولى: سياسة التجريم و العقاب في المغرب.
لابد من التفرق بينهم بدراسة سياسة التجريم أولا، ثم دراسة سياسة العقب بعدها.
أولا: سياسة التجريم بالمغرب.
تسعى سياسة التجريم في المغرب إلى حماية المصالح الإجتماعية عبر تجريم مجموعة من السلوكات بهدف حفظ النظام العام، و خفض مستويات الجريمة، فهي تضم كل ما يتعلق بالمصالح الجدير بالحماية للمجتمع، و ذلك من خلال القيام بعملية تجريم كل الأفعال التي تمس بالمصالح الأساسية للدولة، فهذه السياسة تتضمن المصالح الإجتماعية بشقيها، الفردي و الجماعي من الإعتداء عليها.
وفي هذا الإطار تباشر الدولة وظيفتها الجزائية لحماية المصالح الاجتماعية، فتختار الجزاء الاكثر صلاحية والاقرب الى التعبير عن مدى تقدير المجتمع لأهمية هذه المصالح، وهذه الأخيرة تتحدد وفقا لظروف واحتياجات كل مجتمع، ويعد التجريم هو أقصى مراتب الحماية لهاته المصالح.
السياسة الجنائية في هذا الشق تعرف أزمة، حيث ان توجه المشرع المغربي لم يعد منسجما وخصوصيات الواقع الجنائي حاليا، فالمغرب لازال يعتمد على تقسيم ثلاثي (جنايات، جنح، مخالفات) هذا التقسيم تم هجرانه من طرف العديد من الأنظمة، لان ذلك يؤدي الى تضخم القضايا، اضافة الى التباين و التباعد بين النصوص القانونية حيث هناك نصوص قانونية بالمدونة العامة للقانون الجنائي الى جانب نصوص خاصة في كل قانون على حدة كما هو الحال بالنسبة لمدونة التجارة، مدونة الضرائب، ناهيك انه ثمة مقتضيات في صلب المجموعة الجنائية بحاجة إلى المراجعة منها المقتضيات المتعلقة بجريمة الرشوة، فالمشرع تصدى بجريمة المرتشي في الفصل 248 والجريمة الراشي في الفصل 251 ولم يتعرض لحكم الوساطة في الرشوة على الرغم من خطورة الفعل الصادر عنها.
بالإضافة إلى أن معالجة النصوص التشريعية لظاهرة الجنوح البسيط كانت تتسم بنوع من الإرتجالية، إضافة إلى فقدان عنصر الفاعلية، ذلك أنه و بغض النظر عن الحكم الهائل من التنصيصات الزجرية بصدد معالجة هذه الجرائم، فالملاحظ أن هذه الأخيرة أضحت تنحو في منحى تصاعدي معاكس لغاية المشرع مما يفسح المجال للجزم بمحدودية آليات الزجر في هذا الخضم[1].
كما يعتمد المشرع المغربي في سياسته للتجريم بالتضييق تارة، و الغلو تارة أخرى، و نتج عن أسلوبه في الغلو في التجريم عن تجريم بعض الجرائم التي تدخل في إطار العادة أو الحاجة أو تجريم أفعال و وقائع فرضت إكراهاتها الظرفية المعيشية، و التي كا الأولى الإستغناء عنها لأن الدولة تتحمل جزء من مسؤولية فيها، و مثال على هذا جرائم التسول و التشرد[2]، و نتج عن هذا التدخل من المشرع في حياة البعض عبر تجريم بعض أفعالهم، إلى ثورانهم ضد القوانين المجرمة و تحديها رغم العقوبات التي تقررها، و نتج عنه خصيصا تكرار هذه الجرائم لاعتياد الناس عليها.
بالإضافة إلى ما سبق، تتميز سياسة التجريم أيضا في المغرب بتقنية الإيستيراد التي تنتهجها الدولة المغربية عبر تبني قوانين و مناهج مستوردة من أنظمة قانونية أخرى في إطار اندماج المغرب في السياسة الدولية، هذا تنج عنه استيراد بعض الجرائم من دول أخرى نجحت التجربة فيها، لكن الدولة المغربية دون دراسات سابقة و معرفة بخصوصية المجتمع المغربي أقحمة تجريم بعض الأفعال في القانون الجنائي ما سبب تعطل هذه المقتضيات و إحداثها لاضطراب مجتمعي تحاول الدولة إصلاحه عبر فرضه و إرغامه على الأفراد لضمان سيادة الدولة، و بالتالي يجب على الدولة المغربية نهج سياسة البحث الإجتماعي عبر القيام بدراسة اجتماعية قبل تنفيذ افكار معينة على الناس التي سوف يواجهوها بالتمرد و عدم الإنصياع، ما يزيد من معدل الإجرام.
ثانيا: سياسة العقاب بالمغرب.
يمكن تعريف سياسة العقاب في كونها مجموعة من التصورات و التوجهات العقابية التي تراها الدولة مناسبة في فترة زمنية محددة لمكافحة الجريمة و معاقبة الجريمة، على يتم تطبيقها و تنفيذها من طرف المؤسسات القضائية و الإدارية المختصة بذلك.
و تهدف العقوبة إلى ردع المحكوم عليه بفعل الحكم الصادر في حقه، و عن طريقها يتم استئصال بؤر الجريمة من المجتمع عن طريق الزج بالمحكوم عليهم في السجن لإبعاد الأشرار و المجرمين من المجتمع، و محاولة إعادة تأهيل هؤلاء المحكوم عليهم لمنعهم من العود في الإجرام، و نزع السلوك الإجرامي منهم، و بالتالي و على الصعيد العام محاولة التقليل من الإجرام عبر ردعه بالعقوبة[3].
وتبرز مكان الضعف وازمة فاعلية النظام العقابي بالمغرب من خلال عدم التوازن وغياب الانسجام في تحديد العقوبات، كما ان العقوبات السالبة للحرية خاصة قصيرة المدة منها، لها سلبيات ومضار يفوق ايجابياتها، وفهي لا تكفي بطبيعتها لاصلاح الجاني واستفادته من البرامج التأهيلية، ولا تحقق جدواها في أداء دورها في اصلاح المحكوم عليه وتأهيله لإعادة إدماجه في المجتمع بعد انقضاء مدة العقوبة، وهذا يؤدي به إلى الاحتكاك بالوسط السجني والتعلم بمن تعودوا عليه ما يمكنه من اكتساب سلوكيات انحرافية أكثر خطورة، كما تؤدي الى تفكيك الروابط المهنية والأسرية للسجين والمس بسمعته.
كما يلاحظ في سياسة المغرب في العقاب إقرار عقوبات قاسية لجرائم لا تتصف بالخطورة، أو لم تعد كذلك، كجرائم الإمتناع عن سداد ثمن وجبة الأكل (532 من قج)، أو ركوب سيارة الأجرة دون مقابل (533 من ق.ج)، أو السرقات الزهيد (506 من ق.ج)، أو إتلاف مزروعات قائمة (597 من ق.ج)، أو التسبب غير العمدي في حريق (607 من ق.ج)، بالإضافة إلى إيقاع عقوبات سالبة للحرية على جرائم بغلب عليها الطابع المدنيبالدرجة الأولى، كما هو الشأن بالنسبةلجريمة عدم التصريح بالإزدياد أو عدم تقديم طفل لمن له الحقق في كفالته أو إمال الأسرة، فهي أفعال جرمية يتعين النظر فيها و في العقوبة المقررة لها، سيما بأنها تمس بأضرارها جميع أطراف الخصومة الجنائية التي تشكل محورا لها[4].
الفقرة الثانية: وضعية السجون بالمغرب.
إن انخراط المغرب في المجتمع الدولي حث عليه تبني سياسة حقوقية موجهة لكل الفئات خصوصا منها الفئات الهشة، و تعد فئة السجناء أهمها، فانتقل المغرب من سمعة مشهورة عنه في سوء تدبيره للسجون سواء على المستوى المعيشي أو الإنساني، إلى دولة ذات سجون ترتقي للتطلعات و المعايير الدولية.
ولكن تبقى الوضعية السجنية تعرف تدهورات خطيرة تتجلى أبعادها في مشاكل عدة، لعل أهمها سياسة التجريم و العقاب الذي ينتجها المغرب و اعتماده على مبدأ الإدانة كأصل في الواقع عكس ما يقوله القانون بأن البراءة هي المبدأ، بالإضافة إلى اعتماد القضاء على شعار الإعتقال أولا[5]، ما يسبب بالدرجة الأولى اكتظاظ بالسجون خصوصا و ان نسبة مهمة من السجناء في المغرب هم معتقلون احتياطيون، حيث تشير الإحصاءات أن نسبة تتراوح 40.4 في المئة[6] من نزلاء السجن في المغرب هم معتقلون احتياطيون بريؤون حتى تثبت إدانتهم بمقتضى مقرر قضائي نهائي، لكن الحال أنه في السجون يساهمون في اكتظاظها، و حتى إن صدر في حقه مقرر بالبراءة فوصمت المجتمع عليه أن سجين يعامل معاملة السجناء، و هذا إشكال خطير يجب على المشرع تداركه.
و بالتالي فإن السياسة العقابية بالمغرب و غلو القضاء في اعتماد الإعتقال الإحتياطي ينتج عنه اكتظاظ خطير في السجون، حيث وصل عدد السجناء في السجن إلى أكثر من 96 ألف سجين في مجموع السجون المغربية، و حسب إحصائية مهمة تمثل فظاعة الإكتظاظ بالسجون بالمغرب، و في السجن المحلي تولال بمكناس المعروف باكتظاظه الدائم، يوجد في الأحياء السجنية التي تضم سجناء الفئة 'أ' (الذين يخضعون لحراسة مشددة)، و الذين يسكنون في غرف تضم 8 أسرة اسمنتية، لكم عدد نزلاء الغرفة هو 12 نزيل[7] بزيادة 4 نزلاء على طاقة الإستيعاب، و معناه أن 4 سجناء لا اسرة لهم.
هذا الإكتظاظ في الواقع يسبب آفات و ممارسات خطيرة لطالما نبهت الجمعيات الحقوقية بها التي تخرج النزيل خصوصا الضعفاء منهم من كرامتهم لتلقي بهم إلى ظلمات خطيرة و مشاكل نفسية لا يمكن تصورها، و يجب على الدولة معالجتها في إطار كرامة الإنسان و حقوقه، و خصوصا ما تلزمه علينا شريعتنا الإسلامية.
و بالتالي يلاحظ أن آليات الزجر التقليدية المتمثلة في المؤسسات السجنية و مراكز التأهيل و التهذيب، زاغت عن مسارها المعهود كمؤسسات إصلاحية و تربوية، لتتحول إلى مجرد مسكنات وقتية محدودة الفاعلية ، و عاجزة عن التموقع في في موضعها الصحيح كأداة لمجابهة الظاهرة الإجرامية، لدرجة أن هذه المؤسسات و غرار مثيلتها لدى بعض الأنظمة المقارة، لم تعد سوى مواقع لتجنيد محترفي الإجرام، و لتأكيد مصداقية هذا التصور نستشهد بما ورد بالكتاب الأبيض المعد المعد من طرف الحكومة البريطانية سنة 1990 والتي أقرت خلاله و بشكل صحريخ أن " السجن ما هو إلى وسيلة باهضة التكاليف لتحويل الأشرار إلى أشخاص أكثرا شرا"[8].
الجزء الثاني في الرابط :
[1] يوسف بنباصر، أزمة السياسة الجنائية (ظاهرة جنوح البسيط نموذج) – رصد ميداني لتمظهرات الأزمة و الحلول المقترحة لمعالجتها، مجلة قانونك، دون ذكر العدد، سنة 2016، دون ذكر الصفحة.
[2] نفس المرجع السابق.
[3] محمد الدقيواق، مرتكزات السياسة الجنائية، مقال منشور بموقع مجلة القانون و الأعمال الدولية. تم الإطلاع عليه بتاريخ 2023-11-12 الساعة 14.00
[4] يوسف بنباصر، م.س، دون ذكر الصفحة.
[5] يوسف بنباصر، م.س، دون ذكر الصفحة.
[6] تقرير حول وضعية السجون بالمغرب علة ضوء المعايير الدولية و التشريعات الوطنية و ضرورة الإصلاح (2016-2020)، مركز دراسات حقوق الإنسان و الديموقراطية بالمغرب، دجنبر 2021، ص 33.
[7] نفس المرجع السابق، ص 195.
[8] يوسف بنباصر، م.س، دون ذكر الصفحة.