جريمة العدوان في تاريخ القانون الدولي والثقافة العربية الإسلامية
رغم فظاعتها ونتائجها المدمرة على البشرية والطبيعة والحياة، مازالت الحرب مقبولة من حيث المبدأ في منطق الدول والمنظمات الدولية بين الحكومية وما زال تعريف جريمة العدوان ينتظر دخوله حرم المحكمة الجنائية الدولية عام 2007. يترك تاريخ البشرية في الحلق غصة بكل ما يتعلق بالحرب، وإن أظهرت معطيات علم الإناسة أن الحرب ظاهرة منتشرة بكثرة وإن اختلف تواترها وتواجدها بين الشعوب وكان لبعضها مثل الاسكيمو Eskimos والأندمانيز Andamanais الاعتزاز بعدم ممارستها، فمن الصعب معرفة كم من الشعوب المسالمة قد أبيدت لأن خيار السلام لم يكن عالميا وبقي قانون الغاب يعطي الأقوى، بالمعنى العسكري للكلمة، الحق في البقاء والهيمنة!
شغلت مشكلة تعريف العدوان الحكماء والفلاسفة على مدى القرون العديدة. وقد انبثق مفهوم العدوان منذ أيام روما القديمة، ويعيد مؤرخو القانون مصطلح العدوان إلى الكلمة اللاتينية "Aggressio" أي الاعتداء. وكان من أقدم تعاريف الظاهرة "اعتداء من دولة أقوى على دولة أضعف لتحقيق مكاسب ومصالح والتوسع في حدود وثروات المعتدي"، نجد في قواميس علم الإناسة (الأنثروبولوجيا) تعبير جماعة بدل دولة باعتبار العدوان قد سبق الدول.
جسدت حياة السيد المسيح القصيرة ووصاياه نضالا لا سابق له ضد منطق العدوان، حيث قامت أركان دعوته على منطق التماسك والتكامل بين الحقيقة والعدالة والحب والسلام. رغم ذلك بقيت الاتجاهات السلمية في التاريخ، داخل وخارج الأديان أضعف من تلك المناصرة لتجريم الحرب بكل أشكالها، "عادلة" كانت أم جائرة. ولعل خير ما يجسد هذه الروح ما جاء في إنجيل متى: "سمعتم أنه قيل لكم :أن تحب قريبك وتبغض عدوك. أما أنا فأقول لكم : أحبوا أعداءكم، وباركوا لاعنيكم، وأحسنوا معاملة الذين يبغضونكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويضطهدونكم".متى 43:5
إن المبرر الأخلاقي الرئيس للحرب هو صيانة الأبرياء من الضرر الأكيد ، لقد ألّف القديس أوغسطين كتابه المسمى " مدينة الإله" في القرن الخامس الميلادي وكان لعمله هذا بالغ الأثر في فكرة الحرب العادلة. يقول أوغسطين فيه - وهو يقرر المعنى الذي أتى به سقراط - : إن الأحسن للفرد المسيحي أن يتأذى بالضرر من أن يؤذي غيره به، ولكن هل يجدر بصاحب المسؤولية الأخلاقية أن يلزم غيره من الأبرياء بترك الدفاع عن أنفسهم؟ الجواب عند أوغسطين وعامة أصحاب فكرة الحرب العادلة هو أن ذلك الإلزام غير صحيح. إذا أقيمت الحجة على أن الأبرياء الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم سيصيبهم ضرر هائل إن لم تستخدم قوة قاهرة لإيقافه. في هذه الحالة يدعونا المبدأ الأخلاقي لحب الجار إلى استخدام القوة.
أوغسطين يؤكد على ضرورة بناء منظومة متكاملة للعلاقات السلمية بين البشر وعدم حصر الموضوع بالتعبير المسلح: " لا يكمن السلام الحقيقي وحسب في غياب الصراعات المسلحة وإنما في النظام السلمي tranquilities ordains على العكس من ذلك غياب الحرب لا يعني بالضرورة غياب الصراع". لقد أوجدت البشرية أشكالا متعددة لحماية نفسها من العدوان وفظائع الحرب أو على الأقل التقليل من أهوال الاعتداء على النفس والعرض والمعتقد والطبيعة والأرض. في المجتمع العربي قبل الإسلامي ابتكر العرب الأشهر الحرم وهي أشهر يحرم فيها وقوع الحرب لأي سبب كان ولأي مبرر كان حفظا للنفوس وردا للعدوان وبحثا عن الوسائل السلمية في حل النزاعات وهي في أهم الروايات عشرين يوما من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشر أيام من ربيع الآخر. وقد سميت الحروب التي جرت في
الأشهر الحرام بالفجار والمفاجرة وعّير من خاضها ويعرف للعرب فجارات أربع.
قراءة في التصور الإسلامي لجريمة العدوان
كرم الإسلام الإنسان لآدميته، لم يفرق في هذا التكريم بين طفل وكهل، بين امرأة ورجل، بين أسود وأبيض أو عربي وأعجمي، مسلم أو غير مسلم. نص التكريم لا قيد فيه ولا حصر (ولقد كرمنا بني آدم)، والتكريم لغة يزيد عن الحق. من هنا شكلت هذه اللحظة التاريخية تأسيسا لحقبة جديدة تعطي كل أسباب التغيير المجتمعي أداة جوهرية تعتبر الإنسان، باستعارة تعبير إخوان الصفا، "أكمل الموجودات وأتم الكائنات وأفضل المخلوقات". فالإنسان في القرآن الكريم خليفة الله تعالى في الأرض, ومزود بالعلم والعقل, وهذه الخاصية لم تكن لمخلوق سواه: "وإذ قال ربك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة"؛ أي الإنسان الذي جاء في وصفه: " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم".
لا يمكن قراءة هذا التكريم دون حفظ حق الحياة باعتباره الشرط الواجب الوجوب للتمتع بأي حق أو تكريم. وعلى هذا الصعيد، القرآن لا ينتظر الكم ليحدد هوية الجريمة، فالضحية الواحدة خسارة لا تعوض والجريمة تبدأ بحياة الفرد الواحد كما جاء في القرآن الكريم: "مـن أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا" من هنا قامت الدعوة الإسلامية على مبدأ السلام ورفض العدوان على الأفراد والجماعات باعتباره جريمة محرمة في كل زمان ومكان. السلام في الإسلام يعني السلم والسلام والسلامة والتسليم والصلح والبراءة من العيوب والسلام من كل عيب وهو اسم من أسماء الله الحسنى حيث جاء في القرآن الكريم: "هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام" (سورة الحشر: الآية: 23). وفي الحديث الشريف (اللهم أنت السلام ومنك السلام) وفي سورة يونس: "والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" (الآية: 25). ولم يكتف الإسلام بذلك، بل أصدر القرآن أمره الإلهي للمؤمنين، قائلاً: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة" (سورة البقرة: الآية 208). والسلام في الاصطلاح لا يخرج عن هذا المعنى والسلام في القرآن الكريم هو الأصل والقاعدة والغاية والعزيمة في علاقات الناس مع بعضهم بعضاً أفرادا وشعوبا ومؤسسات. يقول الدكتور نصر فريد واصل مفتي مصر الأسبق: "الحرب في الإسلام لا تشرع إلا للدفاع عن النفس والدين والوطن لقوله تعالى: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين" ولقوله تعالى "فإن اعتزلوكم ولم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً" وقوله تعالى "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم"، ويؤكد محمد حسين فضل الله على الطابع السلمي المبدئي للفقه بالقول:
"إن الفقه الإسلامي هو فقه إنساني؛ فمثلاً "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة"، "وجادلهم بالتي هي أحسن"، "إن ربك هو أعلم بمن يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين"، "أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين"، "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"؛ ثم نقرأ: "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌّ حميم، وما يُلقّاها الذين صبروا وما يُلقّاها إلا ذو حظ عظيم". الإمام علي بن أبي طالب يقول إن الناس "صنفان، إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"، والنبي يقول: "إن الرفق ما وضع على شيء إلا زانه ولا رفع عن شيء إلا شانه"، وإن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف".
أما الإمام محمد الحسيني الشيرازي وهو من أبرز المدافعين عن أطروحة اللا عنف في الإسلام،فيؤكد على تحريم الإسلام للعدوان والطغيان بالقول: "لا يجوز الاعتداء والطغيان، كذلك لا يجوز التعسف في استعمال الحق، كما لا يجوز الفتوى والقضاء على طبق التعسف إذا كان التعسف يصل إلى الضرر الكثير في حق نفسه ومطلق الضرر في حق الغير، وإلا جاز إذ لا نص بالنسبة إلى لفظ التعسف، وإنما الميزان هو ما ذكر في الشريعة من لفظ، لا ضرر ولا ضرار.." أساس رفض العدوان بكل أشكاله واضح في سورة الممتحنة:"لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون".
"وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" وفي المعنى نفسه كان الحديث النبوي الشريف الذي جاء فيه بلسان رسول الله: " إنما أنا رحمة مهداة".
وهذا بلا نقاش منطوق الآية الكريمة: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ويخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين".
قال الرسول في خطبة حجة الوداع:" أيها الناس: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم إلى إن تلقوا ربكم, كحرمة يومكم هذا, في شهركم هذا, في بلدكم هذا. ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد".
يقوم رفض العدوان في الإسلام برأينا على قاعدتين أساسيتين هما اليوم في صلب مفهوم جريمة العدوان: الأصل في الإسلام هو قبول الآخر الذي لم يقاتل المسلمين في الدين ولم يخرجهم من ديارهم والحرب في الإسلام تكون دوماً دفاعية ضد المعتدي انطلاقا من الآية الكريمة:" وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين".
احترام المواثيق والأعراف والالتزام بالعهود، سواء كانت عامة أو خاصة: (يا أيها الذين أمنوا أوفوا بالعقود) (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً) (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق) (إلا الذين عاهدتم من المشركين، ثم لم ينقصوكم شيئاً، ولم يظاهروا عليكم أحداً، فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، إن الله يحب المتقين).
في الإسلام إذن، كان المبدأ الأساسي في الجنوح للسلم لا للقتال والحرب وتجريم العدوان شكلا ومضمونا. وإن كان ثمة نقطة يجمع عليها أصدقاء و أعداء الإسلام ، فهي أن القتال لم يكن اختيار النبي والمسلمين و إنما من منطلق الدفاع عن النفس، أي ما يعتبر الأساس اليوم في تعريف الاستعمال المشروع للعنف.وقد أبيح القتال من أجل إنقاذ الدين وديمومته لا لغاية إنشاء الدولة ومن أجل حرية العبادة لا لأجل مصادرة حق الاختلاف، وهذه نقطة جوهرية لأنها الأساس في كل جدل إسلامي حول الجهاد والإمامة والحكم. وقد كانت منطلق الاعتزال والإصلاح في الإسلام قديما وتعبر عن وجهة نظر الخط الإسلامي المتنور اليوم. ويؤيد ابن هشام، مؤرخ السيرة النبوية هذا الرأي بالقول :
" كان رسول الله صلى اله عليه وسلم قبل بيعة العقبة لم يؤذن له في الحرب ولم تحلل له الدماء، إنما يؤمر بالدعاء إلى الله والصبر على الأذى، والصفح عن الجاهل، وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من المهاجرين حتى فتنوهم عن دينهم ونفوهم من بلادهم، فهم بين مفتون في دينه، و بين معذب في أيديهم، وبين هارب في البلاد فرارا منهم، منهم من بأرض الحبشة، ومنهم من بالمدينة، وفي كل وجه؛ فلما عتت قريش على الله عز وجل، وردوا عليه ما أرادهم به من الكرامة، وكذبوا نبيه صلى الله عليه وسلم، وعذبوا ونفوا من عبده ووحده وصدق نبيه، واعتصم بدينه، أذن الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في القتال والانتصار على من ظلمهم وبغى عليهم، فكانت أول آية أنزلت في إذنه له في الحرب، وإحلاله الدماء والقتال، لمن بغى عليهم، فيما بلغني عن عروة بن الزبير وغيره من العلماء، قول الله تبارك و تعالى : " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير.
الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع صلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره ..) أي أني إنما أحللت لهم القتال لأنهم ظلموا، ولم يكن لهم ذنب فيما بينهم وبين الناس، إلا أن يعبدوا الله، وأنهم إذا ظهروا أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، يعني النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه رضي الله عنهم أجمعين.". رخص الإسلام القتال لرفع الظلم ووقف جريمة العدوان. ويضيف الدكتور السباعي لهذا المبدأ الدفاع عن حرية الشعب واستقلاله وسلامه في ضمان لحرية العقائد كلها، كذلك نجدة الشعوب المظلومة كافة: "أروع ما نادت به حضارتنا أن الدفاع عن الضعفاء المستذلين في الشعوب الأخرى واجب علينا كما يجب الدفاع عن حريتنا وكرامتنا". ويظهر نص صلح الحديبية آخر السنة السادسة للهجرة ( مايو 628 ) بين قريش و المسلمين تفضيل رسول الإسلام لعهد غير متوازن يرافقه سلام عشر سنوات على الحرب، رغم كل ما أتت به الحرب من غنائم زرعت أولى الامتيازات المادية للانتماء الإسلامي:
" باسمك اللهم، هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس و يكف بعضهم عن بعض على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه، وإن بيننا عيبة مكفوفة ( أي صدور منطوية على ما فيها)، وأنه لا إسلال ولا إغلال ( أي لا سرقة بالخفاء و لا خيانة ) وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.".
حرم النبي محمد قتل النفس غير المقاتلة والاعتداء على النساء والشيوخ والأطفال والأملاك وقطع الشجر والإضرار بمصادر المياه والتحريق وكل ما يعود على الإنسان بنفع في الحروب ويروى عنه قوله "لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا ولا شيخا" في أول تحديد عربي إسلامي للعدوان أثناء القتال أو جريمة الحرب بمصطلحنا المعاصر. ويحض القرآن على مبدأ الحياد الإيجابي، أي السعي إلى المصالحة في الحروب كمبدأ أول ثم التدخل ضد الفئة الباغية في حال استمرارها في العدوان. وقد بقيت الوصايا الأساسية مجتمعة على لسان وصية أبي بكر الصديق الشهيرة: "يا أيها ال��اس، قفوا أوصيكم بعشر، فاحفظوها عني: لا تخونوا ولا تعلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلا صغيرا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة، ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكلة".
تجمع أسس حماية الحقوق الأساسية للناس في زمن الحرب حيث تمنع التعرض للمدنيين والفئات المستضعفة وتطالب بالحفاظ على ما هو حي من النبات والحيوان. وقد أضيف لها عدم هدم بيت أو صومعة أو مكان عبادة في مأثورات لعلي بن أبي طالب وعمر بن عبد العزيز.
عند حصار القدس طلب بطريركها صفرينوس أن يحضر أمير المؤمنين عمر ليسلم له مفاتيح المدينة فاستجاب الخليفة لطلبه؛ ودخل القدس واستلم مفاتيحها، ولما حانت الصلاة، وطلب منه البطريرك صفرينوس لم يفعل الخليفة ذلك خوف أن يستغل ذلك أناس بعده فيطالبوا بموقع الكنيسة تحت حجة أن الخليفة صلى فيها، وبعدها كان عقد الأمان المشهور باسم العهدة العمرية، وقد ورد فيها:
"هذا ما أعطى عبد الله أمير المؤمنين عمر أهل إيليا (القدس) من الأمان أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم ولصلبانهم ومقيمها وبرّيّها وسائر ملتها أنها لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حدها ولا من صليبهم ولا شيء من أموالهم ولا يكرهون على دينهم ولا يضارّ أحد منهم ولا يسكن بإيليا معهم أحد من يهود". في ظلال هذا المسلك، نجد شكوى أهل سمرقند لعمر بن عبد العزيز من توطين مسلمين في مدينتهم غدرا بغير حق. فعين الخليفة قاضيا ينظر في الشكوى. وقد حكم القاضي (المسلم) بإخراج المسلمين. مثل آخر في رسالة الإمام الأوزاعي لعلي بن عبد الله بن عباس عامل لبنان يستنكر عليه أن يبعد بعض السكان عن مناطقهم بعد انتفاضة قام بها الأهالي طالبا إعادة من أجلاهم لبيوتهم ورفض مبدأ العقوبة الجماعية: "كيف تؤخذ عامة بذنوب خاصة حتى يخرجوا من ديارهم وأموالهم، وحكم الله تعالى أن لا تزر وازرة وزر أخرى". ونجد في مخطوطات آيا صوفيا قصصا عن السلطان محمد الفاتح الذي طلب جمع كل آثار القديسين وأماكن العبادة الأرثوذكسية التي سرقت بعد دخول القسطنطينية لتسلم إلى الكنائس والأديرة. ورفض التدخل في انتخابات البطريرك معتبرا قواعد عمل الكنيسة في الوظيفة والتركيب وطريقة الحياة وتقاليد العبادة والعيش حقا لا يجوز الاعتداء عليه.
في تحليله للظاهرة، يحدد مؤسس علم الاجتماع ابن خلدون أربعة أسباب للحروب ثانيها العدوان إلا أنه يربطه بالأمم الوحشية الساكنة بالقفر والتي جعلت معاشها في رماحها .
برزت مدارس قانونية متعددة في الحرب وقوانينها وقواعدها في الغرب في هذه الحقبة. وهي قريبة من الموقف الإسلامي الأول. ففي 1625 اقترح الحقوقي الكبير غروتيوس رأيا في الموقف من الأطراف المتحاربة يلخصه قوله "إن من واجب كل غير المشاركين في حرب أن لا يقوموا بأي عمل يمكن أن يعزز قوة المدافع عن قضية سيئة أو إعاقة عمل من يخوض حربا عادلة". " وفي حالات الشك، من واجب الأطراف غير المشاركة أن تقف على الحياد تجاه الطرفين المحاربين". في حين مالت الدفة عند حقوقيي القرن الثامن والتاسع عشر إلى موقف كورنيليوس فان بنكرشوكCornelius Van Binkershoek " قضية العدالة والجور في الحرب لا تخص الأطراف المحايدة". واعتبروا المساواة في الحقوق بين الأطراف المتصارعة وعدم التدخل من أسباب تسوية الصراع بينهما.
في هذا الصدد ينطوي على الأهمية العلمية الكبيرة ما قدمه الدبلوماسي الروسي فالينوفسكي منذ 192 سنة من التعريف البسيط والواضح لمفهوم الاعتداء، إذ كتب "إن الاعتداء يعرف نفسه بنفسه، فهو عبارة عن اجتياح الجيش لحدود الغير. أما البيانات السياسية والتحركات والخطوات المؤدبة المجاملة الرامية إلى إخفاء النوايا الحقيقية فتذهب سدى وعبثا في حالة كهذه" .
اعتمدت مؤتمرات السلم التي عقدت في لاهاي في عامي 1899 و 1907 اتفاقيات تحدد قوانين وأعراف الأعمال الحربية وتحظر قصف المدن واستخدام الغازات السامة، وقد أكدت عصبة الأمم على هذا الحظر عام 1925. لقد اتبعت اتفاقيات لاهاي المبدأ الذي يعتبر الحرب جزءا من تعريف سيادة الدول كما أن المبارزة جزء من كرامة الأفراد. وعلى الأطراف غير المشاركة اعتبار الحرب أمرا واقعا وعدم التدخل لصالح أي من الطرفين. ولحسن الحظ أن شخصيات عربية وإسلامية مثل المحامي الحلبي عبد الرحمن الكواكبي والمفكر المصلح جمال الدين الأفغاني قد انتقدت في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع العشرين قبول فكرة المبارزة التي يمكن أن تسبب القتل وتحدثت عن نسبية موضوع السيادة واعتبرت العدوان جريمة كبرى. وكان الكواكبي من محاربي فكرة الخدمة الإلزامية للشعوب كافة لأنها تسهم في عسكرة الحياة وجعل الحروب أمرا مقبولا وطبيعيا. فيما يظهر بوضوح أن النظرة النقدية لأي اتفاقية دولية ذات فائدة للناس وتسمح بفتح مجالات التقدم للقوانين الإنسانية الدولية.
القرن العشرين
أقرت عصبة الأمم تعريفا للحرب العدوانية في 27/10/1924 ورد فيه أن "اللجوء إلى الحرب خارقا للمواد 12، 13، 15 من نظام عصبة الأمم، يعتبر حربا عدوانية. كما أن كلا من غزو أراضي دولة الغير بالطرق البرية أو الجوية أو اجتياحها برا أو قصفها أو محاصرة شواطئها يشكل عدوانا". ووفقا لهذا التعريف يشمل العدوان الأفعال التالية: 1- اللجوء إلى الحرب خرقا للمواد 12، 13،15 وبموجب هذه المواد تكون الحرب عدوانية في ثلاث حالات: التجاء الدولة إلى الحرب بغية حسم أي نزاع دولي قد تكون طرفا فيه قبل عرض ذلك النزاع على التحكيم أو القضاء أو مجلس العصبة.
لجوء الدولة إلى الحرب بعد عرض النزاع للفصل فيه بإحدى هذه الطرق ولكن قبل مضي ثلاثة أشهر من تاريخ صدور قرار التحكيم أو حكم القضاء أو تقرير مجلس العصبة الذي يصدر بالإجماع. ج- لجوء الدولة إلى الحرب بغية حسم أي نزاع دولي تكون هي أحد أطرافه كلما قبل الطرف الآخر للنزاع قرار التحكيم أو الحكم القضائي أو التزم بقرار المجلس الصادر بالإجماع ولو في ميعاد الثلاثة أشهر المتقدم.
2- كل غزو لأراضي دولة الغير بالطرق البرية أو الجوية أو اجتياحها أو قصفها أو محاصرة شواطئها.
في عام 1928 تم في باريس توقيع المعاهدة الدولية المتعددة الأطراف المعروفة باسم "معاهدة بريان- كيلوغ" Briand-Kellog أعلنت الدول المتعاقدة بموجبها أنها تدين اللجوء إلى الحرب لفض المنازعات الدولية وأنها ترفضها كأداة للسياسة القومية. تاركة التعبير الوحيد للجوء إلى الحرب في الدفاع المشروع عن النفس (فيما يتطابق مع المفهوم الإسلامي تماما). وقد شكلت عصبة الأمم لجنتان محددتا الموضوع والزمان ad hoc في عامي 1933 و 1937 خلصتا إلى أن الهجوم الياباني على الصين لم يكن للدفاع عن النفس. علما بأن الاتحاد السوفييتي تقدم في عام 1933 إلى اللجنة العامة لمؤتمر نزع السلاح بمشروع مفصل لتعريف جريمة العدوان لم يحظ بالموافقة بسبب المعارضة البريطانية والأمريكية كانت محاكمات نورنبرغ وطوكيو التي أقامها الحلفاء أول تعبير قضائي يحتاج لتعاريف محددة للتمكن من تحديد الجريمة والعقاب. ونجد تعريف جريمة العدوان وراء مصطلح الجريمة ضد السلام التي تناولها المبدأ السادس من مبادئ نورمبرج:
1ـ كل تدبير أو تحضير أو مباشرة لحرب عدوانية أو لحرب ترتكب بالمخالفة لأحكام المعاهدات والمواثيق والاتفاقيات الدولية.
2ـ كل مساهمة في خطة عامة أو مؤامرة لارتكاب أحد الأفعال السابقة.
من المفيد الإشارة إلى أن محكمة نورنبرغ قد رفضت مبدأ الضربة الاستباقية الذي استخدمته ألمانيا النازية ضد النرويج خلال الحرب العالمية الثانية، وأقرت بعدم شرعيتها معتبرة قرار الحكومة النازية احتلال الدانمرك والنرويج، حربا عدوانية. أضاف مشروع تقنين الجرائم ضد سلام وأمن الإنسانية والذي تبنته لجنة القانون الدولي في 28 يوليو سنة 1945، إلى الطوائف المتقدمة بعض الجرائم الأخرى منها:
1ـ تنظيم سلطات الدولة عصابات مسلحة للإغارة على إقليم دولة أخرى أو السماح بذلك التنظيم أو تشجيعه. وسماح سلطات الدولة لعصابات مسلحة باستخدام إقليمها كقاعدة لعمليات، أو كنقطة انطلاق للإغارة على إقليم دولة أخرى وكذلك
المساهمة المباشرة أو المساعدة الممنوحة للإغارة.
2ـ مباشرة سلطات الدولة أنواعاً من النشاط الإرهابي المنظم في دولة أخرى أو تشجيعها إياها أو سماح سلطات الدولة بنشاط تنظيم الغرض منه تنفيذ أفعال إرهابية في دولة أخرى.
3ـ ارتكاب سلطات الدولة أفعالاً على خلاف التعهدات الملقاة عليها بناء على معاهدة تهدف إلى ضمان السلام والأمن الدوليين.
جريمة الحرب العدوانية هي أهم الجرائم ضد السلام طبقاً للمفهوم التقليدي وقد تناولت قواعد القانون الدولي العام جريمة الحرب العدوانية وبالتحديد والتأصيل وجرمت قواعده كثيراً من هذه الأفعال بل تحولت تلك القواعد من تنظيمها للحرب إلى تجريمها على الإطلاق، ثم إلى قواعد تحرم استخدام القوة أو التهديد بها في العلاقات الدولية. في عام 1945 تم توقيع ميثاق منظمة الأمم المتحدة، وجاء فيه إن مهمات هذه الهيئة تتمثل في "تخليص الأجيال القادمة من ويلات الحرب التي كدرت البشرية مرتين في هذا العصر وخلق الظروف المؤاتية لمراعاة العدالة واحترام الالتزامات المترتبة على المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي. يحظر ميثاق الأمم المتحدة كل استعمال للقوة في العلاقات الدولية باستثناء أعمال الردع الجماعي المشار إليها في الفصل السابع المادة 39 التي تتناول كل خطر على السلام أو عمل عدواني، كذلك الدفاع المشروع الفردي والجماعي عن النفس الذي تنص عليه المادة 51 من الميثاق. هذا التعبير الذي يرد وكأنه "حق طبيعي" يتلاقى أيضا بشكل كامل مع المعطيات القرآنية.
قليل من يعرف بأن تعريف جريمة العدوان كان وراء تأخير ولادة المحكمة الجنائية الدولية قرابة نصف قرن. فكما يذكر ناصر أمين أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1951 حين قرارا بتشكيل لجنة مكونة من سبعة عشر دولة، لصياغة معاهدة إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، وقد انتهت اللجنة من إعداد مشروعها عام 1953، إلا أن إقرار هذا المشروع قد أرجئ لحين انتهاء لجنة القانون الدولي من إعداد مشروع تقنين الانتهاكات، وأرجئ إقرار هذا التقنين أيضا لعدم احتوائه على تعريف لجريمة العدوان، ونتيجة لذلك فقد تم تعليق النظر في مشروع النظام الأساسي للمحكمة 1953 ومشروع تقنين الانتهاكات 1954 إلى حين الانتهاء من وضع تعريف لجريمة العدوان.
ولم يكن من السهل التوصل لتعريف جريمة العدوان من كل الأطراف المشاركة، الأمر الذي دفع الجمعية العامة لتشكيل أربعة لجان عملت على التوالي لتعريف جريمة العدوان. بدأت بلجنة أولى (1952 - 1954) ثم لجنة ثانية (1954 - 1957) ثم ثالثة (1959 - 1967) وأخيرا (1967 -1974)، وبحلول عام 1974 أنهت آخر تلك اللجان أعمالها، وأقرت الجمعية العامة بقرارها 3314 في 14/12/1974 بالإجماع تعريف جريمة العدوان:
إن العدوان هو استخدام القوة المسلحة بواسطة دولة ضد السيادة الوطنية أو السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لدولة أخرى ، وفي أي صورة لا تتفق مع ما اشتمل عليه ميثاق هيئة الأمم المتحدة من مبادئ وأهداف . إن المبادأة باستخدام القوة المسلحة من جانب إحدى الدول بما يتناقض والميثاق يوفر الدليل على وقوع عمل من أعمال العدوان ، إلا أن ذلك يجب ألا يتعارض مع حق مجلس الأمن الدولي - تمشيا مع ما كفله له الميثاق في هذا الصدد - في أن يقرر أن الفعل الذي وقع لا ينطبق عليه وصف العدوان وذلك بالنظر إما إلى الملابسات التي أحاطت بوقوعه أو لعدم اشتماله على درجة مناسبة من الخطورة.
أنه تمشيا مع النص السابق ، فإن الأفعال الآتية التي تصدر عن الدول ، حتى وأن لم يسبقها إعلان الحرب ، تكفي لأن تشكل عملاً من أعمال العدوان وهي
(أ) الغزو أو الهجوم الذي تشنه القوات المسلحة لإحدى الدول ضد إقليم دولة أخرى ، وكذلك الاحتلال العسكري الذي ينتج عن هذا الغزو أو الهجوم حتى وأن اتصف بطابع مؤقت . كذلك يعد عدوانا الضم بوسيلة القوة لإقليم دولة أخرى سواء شمل الضم الإقليم
كله أو أقتصر على بعض أجزاء منه .
(ب) سماح إحدى الدول لدولة أخرى بأن تستخدم إقليمها لممارسة العدوان ضد دولة ثالثة.
أنه لا يجوز الالتجاء إلى أية أعذار سياسية أو اقتصادية أو عسكرية أو غيرها لتبرير العدوان.
وقد اعتبرت هذه الوثيقة القانونية الحرب العدوانية جريمة ضد السلام الدولي، وأن العدوان لا بد وأن يقترن به تحديد المسئولية الدولية، كما أن التوسع الإقليمي أو مشابهه من النتائج التي تتحقق عن اقتراف العدوان لا يمكن أن يعترف بشرعيتها.
وكما هو واضح فإن المادة الأولى من التعريف قد تبنت إلى حد كبير نص المادة 2/4 من ميثاق الأمم المتحدة. غير أن لفظ التهديد الوارد في المادة 2/4 من الميثاق قد حذف من التعريف وهو ما يعني أن عناصر جريمة العدوان تكتمل فقط في حالة الاستخدام الفعلي للقوة المسلحة من جانب دولة ضد دولة أخرى. وعلى ذلك فإن أعمال التهديد أو الاستفزاز أو إعلان الحرب لا ترقى إلى درجة العمل العدواني. ينوه القانوني الدولي دومينيك كارو إلى أن هذا التعريف لا يغطي سوى القوة المسلحة. أي أن كافة أنواع الضغط أو التدخلات أو العقوبات السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والمذهبية التي لا تستخدم فيها القوة المسلحة لا ترقى إلى درجة العمل العدواني (ص 146). وقد أُلحقت بالمادة الأولى مذكرة تفسير��ة تفيد أن معنى (الدولة) الواردة في هذه المادة وفي التعريف بصفة عامة يشمل: 1ـ الدولة المعترف بها وغير المعترف بها مادامت قد اكتملت العناصر المكونة لها طبقاً للقانون الدولي. كما وأن هذا اللفظ ينصرف إلى الدول الأعضاء في الأمم المتحدة والدول غير الأعضاء. وهو ما يعني في نفس الوقت أن التعريف بصفة عامة لا ينطبق على الجماعات السياسية التي لا تشكل دولاً بالمعنى بالقانوني. 2ـ إن لفظ الدولة ينصرف إلى دولة واحدة أو مجموعة من الدول في الحالات التي يكون فيها العدوان جماعياً أو اشتركت فيه أكثر من دولة. ثم يذكر التعريف بعض الأعمال التي تعتبر أعمالاً عدوانية على سبيل المثال لا الحصر، وهي على النحو التالي:
1ـ قيام القوات المسلحة لدولة ما بغزو أو شن هجوم على أراضي دولة أخرى أو أي احتلال عسكري ـ مهما كان مؤقتاً ـ ينجم عن مثل هذا الغزو أو الهجوم. أو أي ضم عن طريق استخدام القوة لأراضي دولة أخرى أو أي جزء منها.
2ـ قيام القوات المسلحة لدولة ما بقصف أراضي دولة أخرى، أو استخدام
دولة ما لأية أسلحة ضد أراضي دولة أخرى.
3ـ محاصرة موانئ أو سواحل دولة ما عن طريق استخدام القوة.
4ـ قيام القوات المسلحة لدولة ما بشن هجوم على القوات البرية أو
البحرية أو الأساطيل البحرية والجوية لدولة أخرى.
5ـ استخدام القوات المسلحة لدولة ما، التي تكون متواجدة داخل أراضي دولة أخرى بموجب موافقة من جانب الدولة المضيفة، استخداماً يعد انتهاكاً للشروط المنصوص عليها في الاتفاق بين الدولتين، أو أي مد لوجود هذه القوات في تلك الأراضي بعد انتهاء هذا الاتفاق.
6ـ قيام دولة ما بالسماح باستخدام أراضيها، التي وضعتها تحت تصرف دولة أخرى، من قبل هذه الدولة، بارتكاب عمل عدواني ضد دولة ثالثة.
7ـ قيام دولة ما بإرسال أو إيفاد جماعات مسلحة، أو قوات أو جنود نظاميين أو مرتزقة لارتكاب أعمال بالقوة المسلحة، ضد دولة أخرى تكون على نفس درجة خطورة الأعمال التي ورد ذكرها آنفاً، أو مشاركة تلك الدولة الفعلية في هذه الأعمال.
من التعريف المتقدم وما تضمنه من أفعال تعد من قبيل العدوان وردت على سبيل المثال لا الحصر، يمكننا أن نلاحظ مع أساتذة القانون الدولي أن ما يطلق عليه الآن بإرهاب الدولة تغطيه الفقرة السابقة من المادة الثالثة من التعريف. وبالتالي من الأدق قانونيا عدم استعمال وصف الدولة بالإرهاب في حين يمكن وصفها بأنها دولة عدوانية. فجريمة الإرهاب تختلف اختلافاً جوهرياً عن جريمة العدوان في أن الأخيرة تقع ضد سلامة الأراضي والاستقلال السياسي من الدول، وأطرافها فقط دول بينما الإرهاب هو جريمة تقع ضد سلامة الأشخاص وحقوقهم وحرياتهم الأساسية وأطرافها، كما يذكر الدكتور حنا عيسى لا يكونون إلا أفراداً أو جماعات ومنفذوها لا يكونون إلا أفراداً، ويمكننا أن نضيف قد يقوم جهاز أمن دولة أو أشباح ذوي مصلحة بالفعلة الإرهابية في حالات لا تحصى.
من وجهة نظر الأمم المتحدة التقليدية، جريمة العدوان أخطر من جريمة الإرهاب التي لم تعرّف بعد، حيث خصص الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة للتعامل مع حالات العدوان.
وعند وقوع أي عمل منها فقط يمكن لمجلس الأمن أن يتخذ التدابير العسكرية وغير العسكرية على المستوى الدولي لقمع العدوان وإعادة السلم إلى نصابه.
نستنتج مما تقدم سرده من تعاريف متوافقة مع أطروحات العديد من فقهاء القانون الدولي أن جريمة العدوان تشكل جريمة ضد السلام بامتياز بل ويعتبرها الكثيرون شاملة جميع للجرائم الجسيمة الأخرى وغالبا ما تقود إليها، ويجمع العرف القانوني الدولي على المسؤولية الجنائية لكل من يشارك بالإعداد والمشاركة في حرب عدوانية. ما من شك، أن جريمة العدوان ترد أصلا للعديد من الجرائم الماسة بالجنس البشري وأن ضمها في نطاق صلاحيات المحكمة الجنائية الدولية (المادة الخامسة فقرة 2 من القانون الأساسي) يشكل نصف انتصار نصف هزيمة، كون هذا الضم قد تأجل عمليا سبع سنوات بعد دخول المحكمة حيز الفعل لغياب التعريف المتفق عليه. من هنا إصرار المنظمات غير الحكومية لحقوق الإنسان على الإسراع للتوصل إلى تعريف محدد مع تبيان كيفية اختصاص المحكمة بنظر جريمة العدوان للمحكمة الجنائية الدولية بشكل لا يؤثر على حيادية
واستقلالية المحكمة الجنائية الدولية كجهاز قضائي محايد ومستقل، بتعبير آخر، ألا يتم السماح لمجلس الأمن بتحجيم دور المحكمة في جريمة العدوان ضمن دوره في آلية عملها الثلاثية الأركان: القضاء الجالس (الادعاء العام والقضاة) والواقف (الدفاع) والمقرفص المتربص (مجلس الأمن).
يبقى من مهمة المجتمعات المدنية على الصعيد العالمي البقاء في حالة استنفار تعزل كل أنصار جريمة العدوان على صعيد الرأي العام. فليس سرا أن الدول التي تمارس العدوان اليوم إما تقاطع المحكمة الجنائية الدولية (كما هو حال الولايات المتحدة وإسرائيل) أو تقيد صلاحياتها عبر ما يمكن تسميته امتياز الفيتو الذي يسمح لها بوقف التحقيق في أية مقاضاة خلال فترة عام. إن وجود مجموعات ضغط قوية لمحاسبة مرتكبي جريمة العدوان يسمح بوضع المحاسبة القانونية على أجندة أي قضاء مستقل في أي بلد ديمقراطي، يعمل بفقه الاختصاص الجنائي العالمي ويحترم العرف القانوني الدولي، الذي يعتبر جريمة العدوان من الجرائم الجسيمة الكبرى في المجتمعات البشرية.