أساس المسؤولية

مجموعة مواضيع في النظرية العامة للالتزام في القانون المغربي لإنجازالبحوث والتحضير للمباريات القانونية

أساس المسؤولية
تم التفريق في القانون الفرنسي بين الدعوى الجنائية والدعوى المدنية وتقرر أن جزاء الفعل الضار هو التعويض عن قيمة الضرر الذي أصاب المتضرر، كما تقرر في عهد لوزايل قاعدة مفادها "أن ليس للفرد عند حصول العمل الضار أكثر من المطالبة بحق مدني ولا شأن له بالوجهة الجنائية"، وقد جاءت هذه الخطوة بتأثير واضح من رجال الدين المسيحيين الذين كانوا يوجهون الكهنة بعدم حل كل مجرم يعترف بخطاياه أمامه إلا بعد أن يدفع تعويضا ماليا عن جريمته وذلك تحقيقا للعدالة.

وهكذا لعبت الكنيسة دورا بارزا في ظهور المسؤولية القائمة على خطأ، تلك المسؤولية التي لم تتبلور إلا في القرن السابع عشر على يد الفقيه الفرنسي دوما (Domat) الذي كان يرى أن من يسبب ضررا لغيره نتيجة خطئه أو تقصيره أو عدم احتياطه يلزم بتعويض الضرر الذي أحدثه، ثم جاء بوتيه وفرق بين الجنح وأشباه الجنح باعتبارهما من مصادر الالتزام .

إلا أن التطورات التي عرفها المجتمع نتيجة الثورة الصناعية، وما ترتب عليها من انتشار الآلات في مختلف نواحي الحياة، وكثرة المخاطر، والأضرار المجهولة النسب، وكذلك تنامي الطبقات العمالية، حيث أصبح من الضروري تعويضهم عن الأضرار التي تلحقهم، وكذلك الاهتمام المتزايد بالضحايا والمضرورين إذ أصبح الكل يتعاطف معهم، وأصبح ينظر إلى الشخص بأنه ليس مسؤولا عن الأضرار التي يحدثها بخطئه فقط، وإنما عن الأضرار التي تحدثها الأشياء التي تحت حراسته .

أدت هذه التطورات إلى انحسار تدريجي لفكرة الخطأ الأساس التقليدي للمسؤولية المدنية، التي بدأت تتضاءل شيئا فشيئا تحت ستار الخطأ المفترض فرضا قابلا لإثبات العكس ، هذا في نفس الوقت الذي بدأت فيه نظرية المخاطر في نهاية القرن التاسع عشر في النمو والانتشار استعدادا للقيام بالدور الذي كانت تقوم به نظرية الخطأ التقليدية.

الفقرة الأولى : المسؤولية القائمة على أساس الخطأ الخطأ وصف معنوي مطلق، يحتمل الكثير من المعاني وتنطوي تحته الكثير من الأفعال، فكل فعل يخالف الصواب يعد خطأ ، ويمكن تصور كم الأفعال التي نستطيع وصفها بأنها أفعال خاطئة.

لقد كان الفقيه الفرنسي "دوما" أول من وضع الخطأ كأساس للمسؤولية بصفة مطلقة، حيث قسم الخطأ إلى ثلاثة أقسام : 1 –الخطأ الذي ترتب عليه جناية أو جنحة، وهنا يسأل الفاعل جنائيا من قبل الدولة بالإضافة إلى المساءلة من قبل المضرور.

2 –الخطأ الناتج عن الإخلال بالالتزام متفق عليه.

3 –الخطأ الناتج عن الإخلال بالتزام قانوني لا تتشكل به جناية أو جنحة، ويعتبر خطأ إهمال وعدم تبصر .

لكن المسؤولية التقصيرية عند انفصالها عن المسؤولية الجزائية الذي يتضح في القانون الفرنسي-حيث تم نزع وصف العقوبة في التعويض وظهرت الوظيفة الإصلاحية له - كانت بحاجة لضابط وجودها وتأسيسها، والخطأ أصلح الأسس التي قد تعتمد لوجود المسؤولية التقصيرية خاصة وأنها رغم القول بانفصالها عن المسؤولية الجنائية في القانون الفرنسي ، لم تزل متأثرة بها، حيث وجد ذلك الارتباط التاريخي بينهما، فهي مع هذا الارتباط الخفي، لا تزال بحاجة للفعل ووصفه كما في المسؤولية الجزائية أساسا لقيامها، ولكن طبيعة الأثر والحكم المترتب على وجودها وهو التعويض، وما يهدف إليه من جبر للضرر، أكد الحاجة لوجود ضابط فضفاض واسع، يوائم بين ضرورة جبر الأضرار وعدم قدرة المسؤولية التقصيرية على التخلص من ارتباطها بالمسؤولية الجزائية، فكان الخطأ يمثل المخرج الملبي لتلك الحاجات، والمتناغم مع الفكر الأخلاقي السائد في تلك الفترة الزمنية، ولقد تبناه القانون الفرنسي كأساس للمسؤولية التقصيرية من مدونة نابليون .

الفقرة الثانية : المسؤولية الموضوعية نتيجة للتقدم الذي شهدته المجتمعات المعاصرة أصبحت النزعة المادية هي المتحكمة في مصير حقوق الأفراد، وأصبحت المحاكم تبحث في أبسط السبل التي تمكنها من إلقاء تبعات المسؤولية على الجهة المشكوك فيها، وذلك على أساس أن الضحية يكون أولى بالحماية من غيره.

هكذا كان رد فعل الفقه على هذه الوضعية قويا، بحيث اعتبر أن إسناد المسؤولية على الخطأ ما هو إلا من مخلفات الماضي، حين كان يجري الخلط بين المسؤولية المدنية والمسؤولية الجنائية، إذ إن هذه الأخيرة في نظرهم هي التي تهتم بالخطأ أما المسؤولية المدنية فيجب أن تعنى بالضرر فقط، خاصة وأن الحكم في هذه الأخيرة يجعل التعويض على قدر الضرر بغض النظر عن درجة جسامة الخطأ، هذا بالإضافة إلى أن التطور الاقتصادي جعل من المستحيل في كثير من الفرضيات إثبات خطأ المسؤول خاصة في حوادث الصناعات الكبيرة ووسائل النقل الحديثة .

وظهرت في تأسيس هذه النزعة الموضوعية نظريات فقهية، إذ ظهرت في الفقه الفرنسي نظرية تحمل التبعة التي نادى أنصارها بضرورة جبر الضرر وتعويضه وأنه حتى في حالات الأضرار التي يتعذر فيها الإلقاء بعبء تعويض المضرور على عاتق شخص لصعوبة إثبات الخطأ، فإن العدالة تقتضي وجوب تعويض هذا الضرر، وأنه يجب لذلك إحلال نظرية تحمل التبعة محل المسؤولية الخطيئة تحقيقا للعدالة الاجتماعية التعويضية، وتحقيقا للتوازن بين مراكز المواطنين مضرورين ومنتفعين من الأنشطة التي تنجم عليها هذه الأضرار.

وظهرت في البداية نظرية المخاطر المتكاملة، فكان يجب في نظر أنصارها تعميم النظرية وعدم قصرها على نطاق معين من المخاطر، فكل شخص يجب أن يتحمل مخاطر فعله وتصرفه ونشاطه بصرف النظر عن كون الفعل خاطئا أم غير خاطئ، طالما قامت علاقة سببية بين الفعل والضرر، فالشخص وفقا لهذه النظرية يعد مسؤولا عن نتائج أفعاله أيا كانت، أي سواء كانت تتصف بالخطأ أم لم تتصف به، إلا أن هذا التعميم على هذا النحو تعرض لنقد شديد في الفقه، لأنه ينطوي وبحق على تهديد للنشاط الإنساني ولربما يؤدي إلى إحجام الأفراد عن السعي في الحياة وعن ممارستهم أنشطتهم والتقاعس عن العمل ابتغاء للسلامة وعدم التورط في التعويض.

وكان لهذا الخوف من التعميم أثره في ظهور نظرية التبعة في اتجاه قاعدة الغرم بالغنم، فكما أن صاحب النشاط وصاحب الاستغلال يجني من ورائه مغانم ويحصل على الفوائد والأرباح والثمرات، وطالما أنه يستفيد من نشاطه واستغلاله بنموه وازدهاره وتوسعه، فإنه يجب عدالة تحميله المخاطر الناجمة جراء هذا النشاط، إذ العدل يأبى أن يجني هو الثمار ويتحمل غيره الأضرار.

ووفقا لفريق آخر من أنصار هذه النظرية فإن من استحدث خطرا بنشاطه يجب عليه أن يتحمل تبعات ونتائج هذا الخطر بصرف النظر عن وقوع خطأ، أي دون استلزام وقوع خطأ عن جانبه .

واصطدم فقه المسؤولية الموضوعية التي ينادي بتأسيس المسؤولية على مجرد وقوع الضرر والعلاقة السببية، بأن الواقع القائم للتشريع والقضاء لازال مخلصا لفكرة الخطأ كأساس للمسؤولية المدنية، لذلك تعددت وسائل هذا الفقه في سبيل إعطاء هذا الاتجاه قبولا عمليا، وذلك باعتبار الخطأ والتبعة معا أساسا للمسؤولية كما يذهب الفقيه جوسران، أو باعتبار التبعة أساسا احتياطيا للخطأ كما يذهب الفقيه سافاتييه.

ولكن مع إعراض الفقه عن هذه الحلول إزاء عدم إمكان تحديد فاصل دقيق يبين متى تقوم المسؤولية على الخطأ ومتى تقوم على التبعة، فضلا عن ضعف المبرر القانوني للالتزام بالتعويض عند تخلف ركن الخطأ، فقد قامت محاولة أخرى جديدة من جانب هذا الفقه نادى بها ستارك ، وتسعى إلى إقامة المسؤولية على فكرة الضمان، إذ اعتبر أنه فيما يتعلق بالأضرار المادية والجسمانية فإن وقوع ضرر على الغير يمثل إخلالا بحقه في السلامة، فالقانون يضمن للفرد تعويضا عن أي إخلال بهذا الحق، فثمة فرق بين النشاط المشروع والضرر المشروع، فسواء كان النشاط مشروعا أو غير مشروع، فإن المعمول به هو مشروعية الضرر أو عدم مشروعيته.

وفيما يتعلق بالمسؤولية العقدية، فيرى ستارك أن الادعاء بأن المدين الذي لم ينفذ التزامه قد ارتكب خطأ، يعد تحايلا على الواقع، لأن مسؤولية المدين يجب أن ترتبط مباشرة بتعهده، إذ أنه يلتزم بضمان ما وعد به، وكل ما في الأمر هو تحديد مضمون هذا الضمان، فأساس الضمان العقدي ليس خطأ المدين، ولكنه الرابطة القانونية التي أنشأتها الإرادة التعاقدية .

What's Your Reaction?

like
0
dislike
0
love
0
funny
0
angry
0
sad
0
wow
0