موقف المشرع والفقه والقضاء من الطبيعة القانونية لالتزام مزوّدي الخدمات عبر الإنترنت
مجموعة مواضيع تهتم بالقانون الرقمي و الدولي للتحضير لليحوث والمقالات القانونية
إن التزام مزوّدي الخدمات عبر الإنترنت هو التزام كقاعدة عامة بتقديم خدمات إيصال جمهور المستخدمين بالشبكة ، وهذا الالتزام قد يكون بمقابل أو بالمجان, كالخدمات التي تقدم عبر الإنترنت بالمجان كموقع الـ ( Yahoo ) وغيرها الكثير, وبذلك يجب أن تتوافر لدى مزوّدي الخدمات كل التقنّيات اللازمة والمتطورة والحديثة لضمان الوفاء بالتزاماتهم, وكذلك الالتزام بعدم الإضرار بالغير وهنا سوف يتم بيان الطبيعة القانونية لالتزام مزوّدي الخدمات من حيث مضمون هذا الالتزام , فهل هو التزام ببذل عناية أم هو التزام بتحقيق نتيجة ؟.
" الالتزام بتحقيق غاية أو نتيجة ، يفرض على المدين الوصول إلى نتيجة محددة، كإعطاء شيء أو القيام بعمل أو الامتناع عن عمل، كالتزام المقاول ببناء دار وتسليمها إلى رب العمل والتزام البائع بتسليم المبيع إلى المشتري، والتزام الناقل بإيصال الراكب سالماً إلى مكان الوصول, ولا يسقط الالتزام عن المدين إلا بوجود السبب الأجنبي, أما الالتزام ببذل عناية ففيه لا تقوم مسؤولية المدين إذا أُثبت أنه بذل كل ما باستطاعته من حرص لتحقيق النتيجة المرجوة من الالتزام ولو لم يتحقق كالتزام الطبيب والمحامي, ولهذا التصنيف فوائد عدة أهمها ما يتعلق بعبء الإثبات، ففي الالتزام بنتيجة، إن مجرد عدم تحققها يعني أن المدين مخطئ ولا يُلزم الدائن إلا بإثبات عدم تحقيق النتيجة, في حين أن الالتزام بوسيلة يقع عبء الإثبات على الدائن فعليه أن يثبت عدم بذل المدين العناية المطلوبة، أي تقصيره"(السرحان , خاطر،2000، ص 18-19).
- موقف المشرع من الطبيعة القانونية لالتزام مزوّدي الخدمات عبر الإنترنت:
لم يعالج قانون المعاملات الإلكترونية الأردني مسألة الطبيعة القانونية لالتزام مزوّدي الخدمات عبر الإنترنت, فقد جاء على غرار غيره من القوانين بشأن عدم تعريف مزوّدي الخدمات عبر الإنترنت, وتحديد الطبيعة القانونية لالتزاماتهم بالرغم من أهمية هذه المسألة وبخاصة في وقتنا الحاضر وما قد يستجد مستقبلاً من مسائل بحاجة إلى تقديم الحلول المناسبة لها من قبل المشرع وخاصة مع التزايد المستمر والتطور السريع والانتشار الواسع لشبكة الإنترنت , مما لا يجعل الأردن وعلى غرار غيرة من البلدان بمنأى عما يحدث من مخاطر تنتج عن أنشطة غير مشروعة أو مشروعة تحدث وتمارس عن طريق الإنترنت, وقد عرّف قانون المعاملات الإلكترونية الأردني المعاملات بأنها " إجراء أو مجموعة من الإجراءات يتم بين طرفين أو أكثر لإنشاء التزامات على طرف واحد أو التزامات تبادلية بين أكثر من طرف ويتعلق بعمل تجاري أو التزام مدني أو بعلاقة مع أيه دائرة حكومية " , وعرّف العقد الإلكتروني بأنه " الإتفاق الذي يتم انعقاده بوسائل الكترونية كلياً أو جزئياً "(قانون المعاملات الإلكترونية الأردني , 2001, م2).
وهذا التعريف يشمل كافة المعاملات التي تنفذ بوسائل إلكترونية وهذا ما أشار إليه مشرعنا الكريم في نفس المادة عند تعريفه للمعاملات الإلكترونية حيث نص على أنها "المعاملات التي تنفذ بوسائل الكترونية " (قانون المعاملات الإلكترونية الأردني, 2001, م2) .
مشروع قانون أحكام المعاملات الإلكترونية اللبناني عرّف المعاملات الإلكترونية المؤتمنة بأنها عبارة عن " معاملات يتم إبرامها أو تنفيذها بشكل كلّي بوساطة وسائل أو سجلات إلكترونية من خلال شبكة الإنترنت والتي لا تكون فيها هذه الأعمال أو السجلات خاضعة إلى أية متابعة أو مراجعة من قبل شخص طبيعي، كما في السياق العادي لإنشاء وتنفيذ العقود والمعاملات " (مشروع قانون أحكام المعاملات الإلكترونية اللبناني , 2004, بند 41, م2).
وهذا قريب مما نص عليه المشرع الأردني إلا أن المشرع اللبناني فصّل هنا بأن هذه المعاملات المؤتمنة تكون بشكل كلّي ومن خلال الإنترنت, وميّز المشرع اللبناني هنا فيما بينها وبين المعاملات الإلكترونية بحيث أن المعاملات الإلكترونية تكون " أي تعامل أو عقود أو اتفاقية يتم إبرامها أو تنفيذها بشكل كلّي أو جزئي بوساطة المراسلات الإلكترونية " (مشروع قانون أحكام المعاملات الإلكترونية اللبناني , 2004, بند 38, م2), ويرى الباحث أن المشرع الأردني عندما ذكر بأن المعاملات الإلكترونية هي : المعاملات التي تنفذ بوسائل الكترونية قد توسع في هذا المجال ليتدارك ما قد ينشأ في المستقبل من مستجدات بعكس ما هو الحال عليه عند المشرع اللبناني كما أشار إليه الباحث .
أما بالنسبة لقانون التوقيع الإلكتروني المصري , فلم يعالج مسألة تعريف وتحديد المراكز القانونية لمزوّدي الخدمات عبر الإنترنت, وكذلك قانون التجارة الإلكترونية المصري لم يتطرق إلى مزوّدي الخدمات عبر الإنترنت (قانون التوقيع الإلكتروني المصري رقم 15 لسنة 2004, قانون تنظيم أحكام التجارة الإلكترونية المصري, لسنة 2008).
لم يعالج مشروع قانون أحكام المعاملات الإلكترونية اللبناني كذلك مسألة التزام مزوّدي الخدمات عبر الإنترنت بتحديد مراكزهم القانونية ولم يعرّفه ولم يسند له تعريف , إلا أنه في اقتراح القانون المتعلق بالاتصالات الإلكترونية وبمزوّد الخدمات التقنّية اللبناني وفي الفصل الثاني بيّن مزوّد الخدمة التقنّية وعرّفه بالمادة الخامسة منه بأنه " مزوّد خدمة الاتصال هو من يمكّن الجمهور من ولوج شبكة الاتصالات ويقترح عليه تقديم خدمات نقل المعلومات مباشرة على شبكة الإنترنت , ثم بيّن في المادة السابعة ما يلي : لا يخضع مزوّد خدمة الاتصال إلى أي موجب مراقبة على المعلومات التي يرسلها, أو التي يخزّنها مؤقتاً وإنما عليه دون إبطاء، وتحت طائلة المسؤولية أن يسحب المعلومات المخزنّة مؤقتاً أو أن يجعل الوصول إليها مستحيلاً بناء على طلب من مرسل المعلومات أو وفقاً لقرار من السلطة القضائية" (اقتراح القانون المتعلق بالاتصالات الإلكترونية وبمزوّد الخدمات التقنّية اللبناني , 2004, م5 وم7 ).
وهذا وعلى الرغم من أنه قد أشار إلى مزوّدي خدمات الاتصال إلا أنه لم يجعل عليهم أدنى مسؤولية في المراقبة على مضمون المعلومات , مما يؤدي إلى أنهم يجعلون من الإنترنت – بعد تمكّين جمهور المستفيدين من الاتصال بالشبكة - مكاناً خصباً لوقوع الجرائم والإضرار بالآخرين, وهذا يتنافى مع العدالة وذلك بعدم تسهيل مهمة المغرضين والمجرمين في نشر وإذاعة ما يريدون من معلومات قد تمس بأمن الدولة أو أمن الأفراد , وبالتالي ستؤثر تلك المواقع سلباً على الأفراد والمجتمع معاً .
فلو فرض على مزوّد خدمة الاتصال رقابة من نوع خاص, وهو إيجاد نظام فلتره قانوني للمعلومات, بوساطة أجهزة تعد لذلك أو بوساطة أشخاص مختصين تحت طائلة المسؤولية بعدم إفشاء تلك الأسرار سواء أكانت تخص المستخدمين أم تمس بأمن الدولة , إلا أن الاقتراح السابق المشار إليه , جاء ونص على أنه يجب "على مزوّد الخدمات التقنّية ,مساعدة القضاء على إظهار الحقيقة ، ويترتب على المزوّد الحفاظ على البيانات طيلة مهلة –للتحديد- التي تمكّن من التحقق من هوية الأشخاص الذين يستعملون خدماته, إضافة إلى البيانات المتعلقة بالميزات التقنّية للاتصالات التي يعالجها (اقتراح القانون المتعلق بالاتصالات الإلكترونية وبمزوّد الخدمات التقنّية اللبناني , 2004, م11 ) , وهنا قد أشار إلى أنه يجب على المزوّد أن يحتفظ ولمدة محدودة ببيانات للأشخاص المستخدمين للموقع حتى يتسنى معرفة هوية مسبب الضرر دون أدنى مسؤولية له عند عدم التمكّن من معرفة هوية الشخص بعد مهلة التحديد.
وعلى مستوى المسؤولية العقدية نص مشروع القانون السابق في المادة الثانية عشرة على مسؤولية مزوّد خدمة الاتصال تجاه زبائنه عن حسن تنفيذ الالتزامات الناتجة عن العقد ورتب له الإعفاء من المسؤولية بالكامل أو جزئياً, إذا أثبت أن عدم التنفيذ أو سوء التنفيذ يعود إلى خطأ الزبون أو إلى فعل الغير أو إلى القوة القاهرة وهذه بادرة حسنة جاءت لبيان مسؤولية مزوّد خدمة الاتصال اتجاه الطرف المتعاقد معه إلا أن مشروع القانون السابق لم يبيّن ماهية التزام مزوّد الخدمات , هل هو التزام ببذل عناية أم بتحقيق نتيجة.
وبالتالي, فإن ما تتطلبه وتفرضه الظروف الحالية وبخاصة ما جرى من تقدم وكثرة الأنشطة التي تجري عبر الإنترنت سواء أكانت مشروعة أم غير مشروعة , وما قد يصاحب ذلك من وقوع أضرار قد تصيب أحد الأطراف المتعاقدين مع مزوّدي الخدمات أو قد تصيب الغير, فإن الباحث يرى أنه يتوجب على مشرعنا الكريم أن يتصدى لما قد يحصل من مشاكل عبر الإنترنت, وذلك بوضع نصوص قانونية وسن تشريعات تعالج مسألة تحديد الطبيعة القانونية لالتزام مزوّدي الخدمات عبر الإنترنت وتحديد مراكزهم , حتى يتسنى للطرف المتعاقد أو الغير المضرور المطالبة بحقوقه وليتمكن من الحصول على تعويض عما أصابه من ضرر وما ألم به من خسائر, ومع هذا القصور التشريعي لا بد لنا للاحتكام للقواعد العامة في القانون المدني لتحديد الطبيعة القانونية لالتزام مزوّدي الخدمات .
المشرع الأردني عرّف الالتزام أو الحق الشخصي في القانون المدني الأردني على أنه عبارة عن " رابطة قانونية بين دائن ومدين يطالب بمقتضاها الدائن مدينة بنقل حق عيني أو القيام بعمل أو الامتناع عن عمل" ( القانون المدني الأردني, 1976, م68) .
أما المشرع المصري فقد عرّف الالتزام على أنه " الالتزام حالة قانونية بمقتضاها يجب على الشخص أن ينقل حقاً عينياً, أو أن يقوم بعمل, أو أن يمتنع عن عمل" (القانون المدني المصري , 1948, م121)، وعلى ذلك فإن الالتزام الذي يقع على المدين –الملتزم- إما أن يكون بالقيام بعمل – فعل إيجابي – أو امتناع عن عمل – فعل سلبي – أو الالتزام بنقل حق عيني .
فالالتزام إذاً هو رابطة قانونية تتطلب وجود طرفين دائن ومدين والدائن يكون له الحق المترتب على المدين سواء أكان قيام بعمل أم امتناع عن عمل أو نقل حق عيني.
نص القانون المدني الأردني على أنه "كل إضرار بالغير يلزم فاعله ولو غير مميز بضمان الضرر" ( القانون المدني الأردني, 1976, م 256), فهذا هنا يعتبر واجبا قانونيا بحيث يفرض على كل شخص سواءأكان مميزاً أم غير مميز بعدم الإضرار بالغير، لذلك فالمضرور له الحق في الحصول على تعويض يجبر له الضرر الذي اُلحق به من الغير، فليس من العدل أن يتحمل هو نتيجة فعله, فالأولى بتحمّل النتيجة هو من أحدث الضرر أو كان بسببه.
ونص القانون المدني الأردني على أنه " إذا كان المطلوب من المدين هو المحافظة على الشيء أو القيام بإدارته أو توخي الحيطة بتنفيذ التزامه فإنه يكون قد وفى بالالتزام إذا بذل في تنفيذه من العناية كل ما يبذله الشخص العادي ولو لم يتحقق الغرض المقصود، هذا ما لم ينص القانون أو الاتفاق على غير ذلك " ( القانون المدني الأردني, 1976, ف1, م 358) .
ومن نص المادة وتحليله نرى أن الشخص المطلوب منه المحافظة على الشيء, أو القيام بالإدارة يكون المطلوب منه هو عناية الرجل العادي , وبتطبيق ذلك على مزوّدي الخدمات عبر الإنترنت وباعتبارهم هنا وحسب نص الم��دة الطرف المدين, فإن ما جاء بها هو اعتبارهم قد وفّوا بالتزاماتهم العقدية أو القانونية إذا بذل ما يبذله الشخص العادي – أي بذل عناية – , إلا أن الباحث يرى بأن التزام مزوّد الخدمات عبر الإنترنت لا يكون التزاما ببذل عناية بل لا بد من أن يكون التزامه هو التزام بتحقيق نتيجة وعلى غرار ما جاء به البعض (راجع حول منصور،2006، ص71-74), وذلك لما للدور الكبير الذي يلعبه, وخاصة بأنه يعتبر من المحترفين والذي يجب أن تتوافر لديه التقنّيات ذات الكفاءة العالية, والخبرة والتخصص في هذا المجال وذلك بالأخذ بخصوصية تقديم الخدمات عبر الإنترنت وخطورتها , وهنا لا بد من أن يكون التزامهم هو التزام بتحقيق نتيجة ولا يتم إعفاؤهم من المسؤولية المدنية بقسميها إلا في حدود ما نص عليه القانون وذلك في المادة 261 من القانون المدني الأردني , برأينا لكون محدث الضرر حتى ولو كان من الغير – وعند عدم معرفة هويته- ما كان ليستطيع الإضرار بغيره لولا تمكيّن مزوّدي الخدمات له من الاتصال بالشبكة, فهو الملزم بإصلاح وجبر الضرر, تمشياً مع ما جاء بنص المادة 256 من القانون المدني الأردني والقاعدة الفقهية المشار إليها بأنه " لا ضرر ولا ضرار" ( العسقلاني, 1989, ص475).
"وتختلف طبيعة الالتزام بحسب صفة أطراف العلاقة التعاقدية , فإذا كان العقد بين المحترفين أو المهنيين والمستهلك يكون التزاماً بتحقيق غاية, فعدم قيام الكاتب العدل بإخبار المشتري بالمعلومات غير الصحيحة التي قدمها البائع عن المبيع والتي كان يعلم بها, هو التزام بنتيجة لأنه يدخل ضمن وظيفته المهنية، خاصة وأن المشتري لا يملك وسيلة أخرى لتحري المعلومات" (السرحان , خاطر، 2000، ص 316).
وهنا يرى الباحث وحسب ما جاء به من تعريف لمزوّدي الخدمات بأنهم جميعاً يجب أن يكونوا من المهنيين المحترفيين والمتخصصين , وبالتالي فإن الالتزام الملقى على عاتقهم تجاه المستهلك – المستفيد- يجب أن يكون التزاماً بتحقيق بنتيجة, وذلك لعدم مقدرة هذا المستهلك –المستفيد- وعدم توفر الإمكانية لديه في معظم الأحيان للتحري عن المعلومات وعن مدى مشروعيتها , وهذا لا يأتي إلا من خلال مزوّدي الخدمات .
2- موقف الفقه من الطبيعة القانونية لالتزام مزوّدي الخدمات عبر الإنترنت :
"أورد بعض الفقه أن الالتزام ينحصر في كونه إما التزاماً بعمل, أو امتناعاً عن عمل " (منصور، 2001، ص 20).
ويقول الأستاذ السنهوري: "إن خير تعريف للالتزام هو التعريف الذي يبرز المسألتين التاليتين: (أولاً) أن للالتزام ناحية مادية كما أن له ناحية شخصية، فهو حالة قانونية تربط شخصاً معيناً, (ثانياً) أنه ليس ضرورياً أن يوجد الدائن منذ نشوء الالتزام, ويعرّف الالتزام بأنه حالة قانونية يرتبط بمقتضاها شخص معين, بنقل حق عيني, أو القيام بعمل أو الامتناع عن عمل" (السنهوري، 2000، ص 125).
"ويفرّق الفقه بين الالتزام ببذل عناية, والالتزام بتحقيق غاية في الخطأ العقدي, ففي الالتزام بتحقيق غاية يجب على المدين تحقيق الغاية المرجوة من العقد, فإن لم تتحقق أُعتبر المدين مخلاً بالتزامه العقدي وأفتُرض الخطأ في جانبه ولا يلزم الدائن بإثبات ذلك, إلا أن للمدين رفع المسؤولية إذا أثبت أن عدم تحقق النتيجة جاء لسبب أجنبي خارج عن إرادته أما الالتزام ببذل عناية فلا يفرض على المدين الوصول إلى نتيجة مرجوة, وإنما فقط عليه بذل العناية للوصول إليها والعناية المطلوبة من المدين هنا هي عناية الرجل المعتاد , فإن بذلها يكون قد وفى بالتزامه ولا تقوم مسؤوليته العقدية, مثل المحامي فهو غير ملزم بكسب الدعوى بل ببذل عناية المحامي المعتاد في سبيل ذلك وكفى" (السرحان, خاطر، 2000، ص 313-314).
"ويفرّق الأستاذ -مازو- بين المسؤولية الناشئة عن الإخلال بالتزام تعاقدي ببذل عناية وبين تلك التي تنشأ من عدم الوفاء بالتزام تعاقدي بالحصول على نتيجة معينة, ويرى أن الأصل في الحالة الأولى, أن يقيم الدائن الدليل على وقوع إهمال من المدين ، فإذا كان حكم البراءة قد نفى وقوع الإهمال من المدين فلا محل بعد ذلك للحكم عليه بالتعويض بناء على مسؤوليته التعاقدية، أما في الحالة الثانية فليس مطلوباً من الدائن أن يثبت إهمال المدين بل يكتفي منه بأن يثبت تخلف النتيجة المتعهد بها، فيحكم له بالتعويض ولذلك لا يكون حكم البراءة مانعاً من الحكم بالتعويض إذ لا تناقض بينهما" (مرقس، 1998، ص 123-124).
"يرى بعض الشرّاح أنه إذا كان القانون يفرض بعض الواجبات بنصوص خاصة فليس مؤدى ذلك أن الناس يكونون فيما عدا هذه الواجبات أحراراً في أن يسلكوا كيفما شاءوا، وإنما مؤداه أن يلتزم كل منهم بالسلوك المعتاد, وهذا الالتزام هو واجب قانوني ينشأ من طبيعة الحياة في أي مجتمع وبحكم التضامن الاجتماعي, ومن هذا الفريق (كولان وكابيتان) بحيث تساءلا عن طريقة تعيين هذا السلوك, وأجابا بأن ذلك يكون بالنظر إلى المسلك الذي كان يتبعه الشخص المتبصر المعتني بأموره لو وجد في مركز الفاعل, وقرر أن المرء بحكم وجوده في مجتمع يتعين عليه أن يحرص على عدم الإضرار بالغير, وأنه لذلك يجب عليه أن يسلك لا مسلك الرجل المتوسط العناية فحسب، بل مسلك الرجل المتبصر اليقظ وإلا وقع في الخطأ وفي المسؤولية" (مرقس، 1998، ص19-20).
ويرى الباحث بأن الرأي السابق وما جاء به (كولان وكابيتان) في شأن تحديد السلوك المعتاد بالنظر إلى المسلك الذي يتبعه الشخص المتبصر المعتني بأموره , بحيث يجب عليه أن يسلك مسلك الرجل المتبصر اليقظ وإلا وقع في الخطأ وفي المسؤولية , فهذا معيار قد يكون فيه مغالاة أذا تم تطبيقه وفرضه على مزوّدي الخدمات إذ ما أخذنا بعين الاعتبار خصوصية التعامل بالإنترنت وإمتدادها الواسع , وكذلك الحالة التي أشار إليها (كولان وكابيتان) لقيام المسؤولية على الخطأ , لا تتأتى مع ما يحدثه سلوك - الغير مميز- في الإضرار بالآخرين , بحيث لا يمكن تصور أن تطلب من غير المميز أن يسلك سلوك الرجل المتبصر, وإذا ما أحدث بفعله إضراراً بالغير, فمن هو الملزم بتحمّل ذلك الضرر هل هو المضرور؟ أم محدث الضرر ؟ فإذا استندنا على أساس إن الفعل هل يشكل خطأ أم لا, لا على أساس الضرر, فأن من يتحمّل الضرر الناتج عن فعل الغير مميز هو المضرور وهذا يتنافى مع ما جاء به مشرعنا الكريم والذي أقام المسؤولية التقصيرية على اساس الإضرار أي العمل غير المشروع أو (التعدي) في المادة /256 من القانون المدني الأردني والعقدية على اساس الأخلال بالالتزام العقدي المادة 246 من القانون المدني الأردني.
وبالتالي فإن السلوك المفترض على مزوّدي الخدمات عبر الإنترنت نأخذه على أساس ما يحدثه سلوكه ونشاطه من ضرر للطرف المتعاقد معه أو للغير, وليس على أساس الخطأ فقط الذي يوقع مسببه في المسؤولية, وهو ما أتجه إليه الفقه الإسلامي وأخذ به المشرع الأردني في القانون المدني الأردني كما اشار إليه الباحث , وبالتالي فإن مزوّد الخدمات تجب مساءلته على أساس ما لحق المتعاقد معه أو الغير من ضرر نتيجة نشاطه عبر الشبكة أو فعله سواء أكان إخلالاً بالتزام عقدي مع من تعاقد معه(مسؤولية عقدية) أوعمل غير مشروع - تعدٍ – مع الغير (مسؤولية تقصيرية) وبالتالي , فهو ملزم بالتعويض لجبر الضرر عن المضرور.
" إن اتخاذ معيار الرجل المتبصر اليقظ لتعيين مدى التزامات كل منّا, هو معيارٌ عالٍ من شأنه أن يزيد من مدى الواجبات القانونية, وبالتالي يوّسع من دائرة الخطأ, وأن يسهل للمضرورين إثباته تمشياً مع الاتجاه العام في المسؤولية نحو مساعدة المضرورين, فإن من الواضح أن فيه غبناً كبيراً على أوساط الناس تبصراً, أو يقظة لأنه يحمّلهم بأكثر مما يطيقون ولأن الأحكام يجب أن تبنى على الغالب على مقدرة أوساط الناس ، ولذلك من المتعين الالتفات عن هذه الدرجة العالية للمعيار الموضوعي والوقوف على درجة متوسطة فيه هي مسلك الرجل العادي , وهذا ما أتبعه المشرع المصري في التقنّين المدني الحالي في المواد 192- 211 وغيرها " (مرقس، 1998، ص 32).
وهنا يرى الباحث ويذهب مع ما ذهب إليه –د. سليمان مرقس- بصدد بيان التزامات مزوّدي الخدمات عبر الإنترنت وعلى اعتبار أنهم جميعاً من المتخصصين, والمهنيين المحترفين, فلا بد أن يطّبق عليهم معيار الرجل العادي وبقدر من التشدد لكونهم لا بد من أن يكونوا من المهنيين المتخصصين , وذلك حتى لا تصبح هذه الشبكة العالمية الممتدة, مكاناً تمارس فيه شتى أنواع الجرائم وما قد ينتج عنها من إضرار بالآخرين .
"ويرى جانب من الفقه أن التزام مورّد المعلومات, هو التزام بتحقيق نتيجة إذا كان شخصاً مهنياً متمرساً, وهناك جانب آخر يرى أن التزام مورّد المعلومات يعتبر التزاماً بوسيلة أو التزاماً ببذل عناية " (ناصيف، 2009، ص 271).
ويذهب الباحث مع ما ذهب إليه الجانب الذي يرى أن التزام مورّد المعلومات هو التزام بتحقيق نتيجة, وهذا ينطبق على جميع مزوّدي الخدمات.
3- موقف القضاء من الطبيعة القانونية لالتزام مزوّدي الخدمات عبر الإنترنت:
لم يتعرّض القضاء الأردني وكذلك المصري ألى بيان التزام مزوّدي الخدمات عبر الإنترنت ولم تصدر أحكام بهذا الخصوص.
" فضّل القضاء الفرنسي – محكمة النقض الفرنسية- الاستناد إلى القواعد العامة في المسؤولية فهي أكثر اتفاقا مع الطبيعة الخاصة للإنترنت، وتمت مساءلة مقدّمي الخدمات في أكثر من مناسبة إعمالاً لتلك القواعد واستقر الرأي على أن تلك المسؤولية تتوقف على مدى العلم بالمضمون غير المشروع أو المعلومات المخالفة للقانون والتي يتعامل معها مقدم الخدمة" (منصور، 2006، ص 169).
"وقرر القضاء الفرنسي بأن تقديم الخدمة لأي شخص يطلبها لا تقتصر مهمة مقدمها على مجرد الدور الفنّي لنقل المعلومات ، بل يتعين عليه بداهةً تأمين عدم المساس بحقوق الغير كنتيجة للنشاط الذي تعمد ممارسته في تلك الظروف و يقدم هذا القضاء مبدأ المسؤولية القائمة على فكرة تحمل المخاطر ، بحيث رفعت سيده دعوى بمناسبة نشر صورها عبر الإنترنت تطالب بالتعويض باعتبار ذلك يشكل مساساً بحقها في الصورة, وقررت المحكمة بأن نشاط مقدم خدمة الإيواء لا يقتصر على مجرد الأداء التقنّي لنقل المعلومات ويمكن أن يرتب مسؤوليته، فهو وأن لم يكن مكلّفاً بأجراء رقابة دقيقة وعميقة لمضمون المواقع التي يؤويها, إلا أنه يتعين عليه على الأقل اتخاذ الإجراءات المعقولة , والتي يمكن للمهني الحذر القيام بها ليستبعد من خدماته المواقع التي تتسم بعدم المشروعية الظاهرة , كأن يستخدم مثلاً وسيلة الموتور الباحث moteur de recherché للكشف عن المعلومات أو المحتويات غير المشروعة" (TGI de Nanterre 8 de'c.1999, Jcp, E, 2000,P.657, note varet ؛ نقلاً عن منصور, 2006,ص164).
ويرى الباحث أن ما جاء في الحكم السابق وبالرغم من أنه أُلغي بالاستئناف كما أشار إليه – د. محمد حسين منصور -على أساس أن مورّد خدمة الإيواء يلتزم ببذل وإتخاذ الجهود المناسبة للكشف عن المعلومات أو المحتويات غير المشروعة وأن مسؤولية مزوّد خدمة الإيواء لا تقتصر على مجرد الدور الفنّي ، هو ما تقتضيه الظروف الحالية وما قد يستجد مستقبلاً من مشاكل قانونية, والتي ينبغي التصدي لها حتى لا تكون شبكة الإنترنت ملاذاً لارتكاب الجرائم وإن إقامة القضاء مسؤولية مزوّد الخدمة هنا على أساس المسؤولية القائمة على تحمّل المخاطر نتيجة نشاطه الذي يمارسه من خلال الإنترنت وما قد يترتب عليه من ضرر للمتعاقدين معه أو للغير, وهو ما توصل إليه الباحث سابقا ولكن بتعبير آخر- على أساس أنهم هم الذين مكنّوا المستخدمين من الأتصال بالشبكة وإن نشاطهم قد يكون فيه خطر - بحيث يكون الالتزام الملقى على عاتق مزوّدي الخدمات عبر الإنترنت هو التزام بتحقيق نتيجة ولا تتأتى النتيجة إلا أن يكلّفوا جميعا – مزوّدي الخدمات – بواجب الرقابة والسيطرة على كل ما يبث من معلومات عن طريقهم.
"وقد جرى القضاء الفرنسي على رفض دعوى التعويض التي يرفعها المضرور الذي أصابه ضرر نتيجة لفعل شخص كان ضمن مجموعة محددة ولم يستطع تحديده بالذات، ولكون المضرور لم يستطع إقامة الدليل على نسبة هذا الضرر إلى شخص معين فانتفت رابطة السبيبة والتي لا تنهض المسؤولية دون توافرها، إلا أن القضاء شعر بأن هذا الاتجاه فيه ظلم صارخ وإضاعة لحق الشخص المضرور لمجرد أنه لم يستطع تحديد (شخص) من أصابه بالضرر، فخرجت المحاكم على هذا الاتجاه إذ أخذت تقضي بإلزام جميع أفراد هذه الجماعة بتعويض المضرور وذلك على سبيل التضامن، وقد استعانت بفكرة الخطأ ذاتها حيث اعتبرت كل فرد من أفراد هذه المجموعة أو الجماعة الفعلية مخطئاً " (الذنون, 2006 , ص42- 43).
فخصوصية الإنترنت ونظراً لوجود عدة متدخلين بدءاً من منتج المعلومة ومروراً بهم جميعاً ووصولاً إلى المستخدم تقع عليهم المسؤولية إذا لم يستطع المضرور تحديد (شخص) من أصابه بالضرر .
" وقد أصبحت المعلومات مع ثورة الاتصالات هي البضاعة الأساسية التي تنتقل خلال القنوات الاتصالية وعُملة هذا العصر وثروته ومجالات استثماره, وأصبحت تشكل الأساس الصحيح في القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي وما إلى ذلك من مجالات حياتية أخرى" (كحلون, 2002، ص49).
" وقد اتجه القضاء الفرنسي إلى بناء فكرة الخطر كأساس للمسؤولية وذلك بعد خلق القضاء لما يسمى بالالتزام بالسلامة في مجال عقود النقل البري , وعمل القضاء بعد ذلك على توسيع نطاق هذا الالتزام في العقود المختلفة وذلك لمواجهة المخاطر التي يحملها التطور العلمي والتكنولوجي في أساليب تقديم الخدمات والمنتجات، ففي الالتزام بالسلامة ضمان يقع على عاتق مقدم السلعة أو الخدمة التزام بضمان ما قد ينتج عن أعماله من خطر للمتعاقد معه ، ولذلك لجأ القضاء في تأسيس هذا الالتزام إلى فكرة الالتزام العقدي الضمني, بحيث يفترض أن هذه العقود التي تتضمن أنشطة ذات طبيعة خطرة تتضمن التزاما ضمنياً بالسلامة يقع على عاتق مقدم الخدمة أو السلعة ، وبالرغم من أن الأحكام المتعلقة بالمسؤولية عن الإخلال بهذا الالتزام ذات طبيعة آمرة لا يجوز للبائع أو المنتج أو مقدم الخدمة أن يفرض على المتعاقد معه شروطا يستبعد أو يضيّق من مسؤوليته عن المخاطر إلا إنها اختيارية بالنسبة للمتعاقد معه أو الغير, فهو لا يلتزم بأن يحرك دعوى المسؤولية في مواجهة البائع استنادا إلى أحكام المسؤولية عن الأشياء الخطرة وإنما يكون له أن يعتمد على الأحكام العامة في مجال المسؤولية المدنية -المادة الثالثة عشرة من التوجيه الأوروبي " (الأباصيري ، 2003، ص 218- 225).
وباعتبار أنه ليس هناك ما يمنع من تكييف المعلومات على أنها أموال, وبالتالي ينطبق عليها وصف المنتج وفقاً لمفهوم المسؤولية القائمة على فكرة الخطر، فطالما إن استخدام المعلومات قد يرتب عليها بعض الأضرار التي قد تؤدي إلى الأضرار الجسدية أو المالية فيمكن اعتبار بنك المعلومات – قواعد المعلومات – من المنتجات التي تخضع إلى هذه المسؤولية وأن حركة المعلومات التي يتضمنها تكون كحركة السلع المادية التي يترتب على استخدامها الأضرار المختلفة إذ كانت غير صحيحة أو غير سليمة.
وترتيباً على ذلك, فإن هذه المسؤولية القائمة على الخطر يمكن تطبيقها على المعلومات التي يتم تبادلها وبثها عبر الإنترنت, وعن طريق مزوّدي الخدمات لأنه بدونهم لا يمكن تداول المعلومات وبثها وبالتالي , فإن تداولها هنا وبخاصة عبر الإنترنت قد يشكل خطراً على المتعاقدين مع مزوّدي الخدمات وكذلك على الغير وهنا يقع على عاتق مزوّدي الخدمات واجب الالتزام بضمان ما قد ينتج عن أعماله من خطر وضرر قد يصيب احد المتعاقدين معه أو الغير وهذا لا يتأتى إلا من خلال تدخل المشرع وفرض واجب الرقابة والسيطرة على مزوّدي الخدمات, وذلك على كل ما يُبث ويتم تداوله من معلومات ضمن الشبكة ومن خلال المواقع التي يديرونها, وهذا متطلب هام ويمكن تحقيقه حالياً في ظل التطور التقنّي للوسائل الحديثة, والتي تمّكن المزوّد من السيطرة على المعلومات التي يتم بثها مثل توفر جهاز الموتور الباحث وغيره وبالتالي , يجب تدخل المشرع وتضمين قانون المعاملات الإلكترونية نصوص قانونية تفرض مثل هذا الالتزام والواجب.
" أبدى القضاء قدراً من التشدد وصدرت بعض الأحكام التي حاولت فرض حد أدنى من الالتزام باليقظة نحو مضمون المواقع التي يتم إيواؤها , وذلك بمناسبة الحكم الذي صدر بالتزام المؤوي ببذل عناية, تتمثل بالجهود اليقظة لالتقاط كل موقع ذي مضمون مخالف للقانون أو غير مشروع أو ضار بقصد تصحيح وضعه –وذلك في قضية الفنانة التي تم عرض صورا لها عبر الشبكة دون موافقتها – وتقوم الشركة التي تتولّى تقديم خدمة الإيواء ببذل تلك الجهود من تلقاء نفسها " (الأباصيري ، 2003، ص228- 246).
فالقضاء في الحالة السابقة قد شدد على دور مزوّدي الخدمات , وذلك على اعتبار أن مقدم خدمة الإيواء – كما تنادى به البعض – دوره فنّي بحت , إلا أن المحكمة تشددت فيه وفرضت عليه التزام باليقظة أي المراقبة لمضمون ما يبث عبر المواقع وذلك بالتقاط كل مضمون مخالف للقانون أو غير مشروع, وقياساً على ذلك فإنه إذا كان دور متعهد الإيواء هو دور فنّي بحت ومع ذلك ألقت المحكمة عليه واجب الرقابة, فإنه من البديهي أن يُلقى هذا الواجب وبقدر أعلى من التشدد على جميع مزوّدي الخدمات عبر الإنترنت .