مسالة الماء الذي يجري في ارض الحمام من اغتسال الناس
مسالة الماء الذي يجري في ارض الحمام من اغتسال الناس

مسالة:
في هولاء الذين يعبرون الى الحمام، فاذا ارادوا ان يغتسلوا من الجنابة وقف واحد منهم على الطهور وحده، ولا يغتسل احد معه حتى يفرغ واحد بعد واحد، فهل اذا اغتسل معه غيره لا يطهر؟ وان تطهر من بقية احواض الحمام، فهل يجوز وان كان الماء بايتا فيها؟ وهل الماء الذي يتقاطر من على بدن الجنب من الجماع طاهر ام نجس؟ وهل ماء الحمام عند كونه مسخنا بالنجاسة نجس ام لا؟ وهل الزنبور الذي يكون في الحمام ايام الشتاء هو من دخان النجاسة يتنجس به الرجل اذا اغتسل وجسده مبلول ام لا؟ والماء الذي يجري في ارض الحمام من اغتسال الناس طاهر ام نجس؟ افتونا ليزول الوسواسالجواب::
الحمد لله، قد ثبت في الصحيحين «عن عايشة - رضي الله عنها -: انها كانت تغتسل هي ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اناء واحد يغترفان جميعا» .وفي رواية: «انها كانت تقول: دع لي ويقول هو: دعي لي من قلة الماء» .
وثبت ايضا في الصحيح: «انه كان يغتسل هو وغير عايشة من امهات المومنين من اناء واحد» ، مثل: ميمونة بنت الحارث، وام سلمة.
وثبت «عن عايشة انها قالت: كنت اغتسل انا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اناء واحد قدر الفرق» .
والفرق بالرطل العراقي القديم ستة عشر رطلا، وبالرطل المصري اقل من خمسة عشر رطلا.
وثبت في الصحيح: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «انه كان يتوضا بالمد ويغتسل بالصاع» .
وثبت في الصحيح عن ابن عمر انه قال: «كان الرجال والنساء على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضيون من ماء واحد» .
وهذه السنن الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - واصحابه الذين كانوا بمدينته على عهده دلت على امور احدها: هو اشتراك الرجال والنساء في الاغتسال من اناء واحد، وان كان كل منهما يغتسل بسور الاخر، وهذا مما اتفق عليه ايمة المسلمين بلا نزاع بينهم: ان الرجل والمراة، او الرجال والنساء، اذا توضوا واغتسلوا من ماء واحد جاز، كما ثبت ذلك بالسنن الصحيحة المستفيضة، وانما تنازع العلماء فيما اذا انفردت المراة بالاغتسال، او خلت به، هل ينهى الرجل عن التطهر بسورها؟ على ثلاثة اقوال في مذهب احمد، وغيره.
احدها: لا باس بذلك مطلقا.
والثاني: يكره مطلقا، والثالث: ينهى عنه اذا خلت به دون ما انفردت به ولم تخل به.
وقد روي في ذلك احاديث في السنن وليس هذا موضع هذه المسالة.
فاما اغتسال الرجال والنساء جميعا من اناء واحد فلم يتنازع العلماء في جوازه، واذا جاز اغتسال الرجال والنساء جميعا، فاغتسال الرجال دون النساء جميعا، او النساء دون الرجال جميعا اولى بالجواز، وهذا مما لا نزاع فيه، فمن كره ان يغتسل معه غيره، او راى ان طهره لا يتم حتى يغتسل وحده، فقد خرج عن اجماع المسلمين، وفارق جماعة المومنين.
يوضح ذلك ان الانية التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وازواجه والرجال والنساء يغتسلون منها كانت انية صغيرة، ولم يكن لها مادة لا انبوب ولا غيره، ولم يكن يفيض، فاذا كان تطهر الرجال والنساء جميعا من تلك الانية جايزا، فكيف بهذه الحياض التي في الحمامات وغير الحمامات التي يكون الحوض اكبر من قلتين، فان القلتين اكثر ما قيل فيهما على الصحيح انهما خمسماية رطل بالعراقي القديم، فيكون هذا بالرطل المصري اكثر من ذلك بعشرات من الارطال، فان الرطل العراقي القديم: ماية وثمانية وعشرون درهما، واربعة اسباع درهم، وهذا الرطل المصري: ماية واربعة واربعون درهما، يزيد على ذلك بخمسة عشر درهما، وثلاثة اسباع درهم، وذلك اكثر من اوقية وربع مصرية.
فالخمسماية رطل بالعراقي: اربعة وستون الف درهم ومايتا درهم وخمسة وثمانون درهما، وخمسة اسباع درهم، وذلك بالرطل الدمشقي الذي هو ستماية درهم ماية وسبعة ارطال وسبع رطل، وهذا الرطل المصري اربعماية رطل، وستة واربعون رطلا وكسر اوقية.
ومساحة القلتين ذراع وربع في ذراع وربع طولا وعرضا وعمقا، ومعلوم ان غالب هذه الحياض التي في الحمامات المصرية وغير الحمامات اكثر من هذا المقدار بكثير، فان القلة نحو من هذه القرب الكاينة التي تستعمل بالشام ومصر، فالقلتان قربتان بهذه القرب.
وهذا كله تقريب بلا ريب فان تحديد القلتين انما هو بالتقريب على اصوب القولين ومعلوم ان هذه الحياض فيها اضعاف ذلك.
فاذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتطهر هو وازواجه من تلك الانية، فكيف بالتطهر من هذه الحياض؟ الامر.
الثاني: انه يجوز التطهر من هذه الحياض سواء كانت فايضة او لم تكن، وسواء كانت الانبوب تصب فيها او لم تكن، وسواء كان الماء بايتا فيها او لم يكن.
فانها طاهرة، والاصل بقاء طهارتها وهي بكل حال اكثر ماء من تلك الانية الصغار التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - واصحابه يتطهرون منها ولم تكن فايضة، ولا كان بها مادة من انبوب ولا غيره.
ومن انتظر الحوض حتى يفيض، ولم يغتسل الا وحده، واعتقد ذلك دينا فهو مبتدع، مخالف للشريعة، مستحق للتعزير الذي يردعه وامثاله عن ان يشرعوا في الدين ما لم ياذن به الله، ويعبدون الله باعتقادات فاسدة، واعمال غير واجبة ولا مستحبة.
الامر الثالث: الاقتصاد في صب الماء، فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «انه كان يتوضا بالمد، ويغتسل بالصاع» .
والصاع اكثر ما قيل فيه: انه ثمانية ارطال بالعراقي، كما قال ابو حنيفة، واما اهل الحجاز وفقهاء الحديث كمالك، والشافعي، واحمد، وغيرهم فعندهم: انه خمسة ارطال وثلث بالعراقي وحكاية ابي يوسف مع مالك في ذلك مشهورة، لما ساله عن مقدار الصاع والمد، فامر اهل المدينة ان ياتوه بصيعانهم حتى اجتمع عنده منها شيء كثير، فلما حضر ابو يوسف قال مالك لواحد منهم: من اين لك هذا الصاع؟ قال: حدثني ابي، عن ابيه، انه كان يودي به صدقة الفطر الى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقال الاخر: حدثتني امي عن امها انها كانت تودي به - يعني صدقة حديقتها - الى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال الاخر نحو ذلك، وقال الاخر نحو ذلك.
فقال مالك لابي يوسف: اترى هولاء يكذبون؟ قال: لا، والله ما يكذب هولاء.
قال مالك: فانا حررت هذا برطلكم يا اهل العراق فوجدته خمسة ارطال وثلثا.
فقال ابو يوسف لمالك: قد رجعت الى قولك يا ابا عبد الله، ولو راى صاحبي ما رايت لرجع كما رجعت.
فهذا النقل المتواتر عن اهل المدينة بمقدار الصاع والمد.
وقد ذهب طايفة من العلماء: كابن قتيبة، والقاضي ابي يعلى في تعليقه، وجدي ابي البركات الى: ان صاع الطعام خمسة ارطال وثلث، وصاع الماء ثمانية، واحتجوا بحجج، منها: خبر عايشة انها كانت تغتسل هي ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفرق، والفرق ستة عشر رطلا بالعراقي.
والجمهور على ان الصاع والمد في الطعام والماء واحد، وهو اظهر وهذا مبسوط في موضعه.
والمقصود هنا: ان مقدار طهور النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغسل ما بين ثمانية ارطال عراقية الى خمسة وثلث، والوضوء ربع ذلك، وهذا بالرطل المصري اقل من ذلك واذا كان كذلك فالذي يكثر صب الماء حتى يغتسل بقنطار ماء، او اقل، او اكثر: مبتدع مخالف للسنة، ومن تدين عوقب عقوبة تزجره وامثاله عن ذلك، كساير المتدينين بالبدع المخالفة للسنة، وهذا كله بين في هذه الاحاديث.
فان قيل: انما يفعل نحو هذا لان الماء قد يكون نجسا او مستعملا، بان تكون الانية مثل: الطاسة اللاصقة بالارض، قد تنجست بما على الارض من النجاسة، ثم غرف بها منه، او بان الجنب غمس يده فيه فصار الماء مستعملا، او قطر عليه من عرق سقف الحمام النجس، او المحتمل النجاسة، او غمس بعض الداخلين اعضاءه فيه وهي نجسة فنجسته، فلاحتمال كونه نجسا، او مستعملا احتطنا لديننا، وعدلنا الى الماء الطهور بيقين، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «دع ما يريبك الى ما لا يريبك» .
ولقوله: «من اتقى الشبهات استبرا لعرضه ودينه» .
قيل: الجواب عن هذا من وجوه.
احدها: ان الاحتياط بمجرد الشك في امور المياه ليس مستحبا ولا مشروعا، بل ولا يستحب السوال عن ذلك.
بل المشروع ان يبنى الامر على الاستصحاب فان قام دليل على النجاسة نجسناه، والا فلا يستحب ان يجتنب استعماله بمجرد احتمال النجاسة، واما اذا قامت امارة ظاهرة فذاك مقام اخر.
والدليل القاطع: انه ما زال النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة، والتابعون يتوضيون ويغتسلون ويشربون من المياه التي في الانية، والدلاء الصغار، والحياض، وغيرها، مع وجود هذا الاحتمال، بل كل احتمال لا يسند الى امارة شرعية لم يلتفت اليه.
وذلك ان المحرمات نوعان: محرم لوصفه، ومحرم لكسبه.
فالمحرم لكسبه: كالظلم، والربا، والميسر.
والمحرم لوصفه: كالميتة والدم، ولحم الخنزير، وما اهل لغير الله به والاول اشد تحريما، والتورع فيه مشهور، ولهذا كان السلف يحترزون في الاطعمة، والثياب من الشبهات الناشية من المكاسب الخبيثة.
واما الثاني: فانما حرم لما فيه من وصف الخبث.
وقد اباح الله لنا طعام اهل الكتاب، مع امكان ان لا يذكوه التذكية الشرعية، او يسموا عليه غير الله، واذا علمنا انهم سموا عليه غير الله حرم ذلك في اصح قولي العلماء.
وقد ثبت في الصحيح: من حديث عايشة: «ان النبي - صلى الله عليه وسلم - سيل عن قوم ياتون باللحم ولا يدرى اسموا عليه ام لا؟ فقال: سموا انتم وكلوا» .
واما الماء فهو في نفسه طهور، ولكن اذا خالطته النجاسة وظهرت فيه صار استعماله استعمالا لذلك الخبيث، فانما نهي عن استعماله لما خالطه من الخبيث؛ لا لانه في نفسه خبيث، فاذا لم يكن هنا امارة ظاهرة على مخالطة الخبيث له، كان هذا التقدير والاحتيال مع طيب الماء وعدم التغيير فيه من باب الحرج الذي نفاه الله عن شريعتنا، ومن باب الاصار، والاغلال المرفوعة عنا.
وقد ثبت: ان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - توضا من جرة نصرانية مع قيام هذا الاحتمال.
ومر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وصاحب له بميزاب، فقال صاحبه: يا صاحب الميزاب ملوك طاهر ام نجس؟ فقال عمر: يا صاحب الميزاب لا تخبره فان هذا ليس عليه.
وقد نص على هذه المسالة الايمة: كاحمد، وغيره، نصوا على: انه اذا سقط عليه ماء من ميزاب ونحوه، ولا امارة تدل على النجاسة لم يلزم السوال عنه، بل يكره وان سال فهل يلزم رد الجواب على وجهين، وقد استحب بعض الفقهاء من اصحاب احمد وغيره السوال، وهو ضعيف.
والوجه الثاني: ان يقول: هذه الاحتمالات هنا منتفية، او في غاية البعد، فلا يلتفت اليها، والالتفات اليها حرج ليس من الدين.
ووسوسة ياتي بها الشيطان، وذلك ان الطاسات وغيرها من الانية التي يدخل بها الناس الحمامات طاهرة في الاصل، واحتمال نجاستها اضعف من احتمال نجاسة الاوعية التي في حوانيت الباعة، فاذا كانت انية الادهان والالبان، والخلول والعجين، وغير ذلك من المايعات، والجامدات، والرطبة محكوما بطهارتها، غير ملتفت فيها الى هذا الوسواس، فكيف بطاسات الناس؟ واما قول القايل: انها تقع على الارض: فنعم، وما عند الحياض من الارض طاهر لا شبهة فيه، فان الاصل فيه الطهارة وما يقع عليه من المياه، والسدر، والخطمي، والاشنان، والصابون، وغير ذلك طاهر.
وابدان الجنب من الرجال والنساء طاهرة.
وقد ثبت في الصحيح: من حديث ابي هريرة - رضي الله عنه -، «ان النبي - صلى الله عليه وسلم - لقيه في بعض طرق المدينة.
قال: فانتجشت منه فاغتسلت ثم اتيته فقال: اين كنت فقلت: اني كنت جنبا فكرهت ان اجالسك وانا جنب، فقال سبحان الله ان المومن لا ينجس» .
وهذا متفق عليه بين الايمة ان بدن الجنب طاهر، وعرقه طاهر، والثوب الذي يكون فيه عرقه طاهر، ولو سقط الجنب في دهن او مايع لم ينجسه، بلا نزاع بين الايمة، بل وكذلك الحايض عرقها طاهر، وثوبها الذي يكون فيه عرقها طاهر.
وقد ثبت في الصحيح: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «انه اذن للحايض ان تصلي في ثوبها الذي تحيض فيه، وانها اذا رات فيه دما ازالته وصلت فيه» فاذا كان كذلك فمن اين ينجس ذلك البلاط؟ اكثر ما يقال انه قد يبول عليه بعض المغتسلين، او يبقى عليه، او يكون على بدن بعض المغتسلين نجاسة يطا بها الارض ونحو ذلك.
وجواب هذا من وجوه: احدها: ان هذا قليل نادر، وليس هذا المتيقن من كل بقعة.
الثاني: ان غالب من تقع منه نجاسة يصب عليها الماء الذي يزيلها.
الثالث: انه اذا اصاب ذلك البلاط شيء من هذا فان الماء الذي يفيض من الحوض، والذي يصبه الناس، يطهر تلك البقعة وان لم يقصد تطهيرها، فان القصد من ازالة النجاسة ليس بشرط عند احد من الايمة الاربعة، ولكن بعض المتاخرين من اصحاب الشافعي، واحمد، ذكروا وجها ضعيفا في ذلك ليطردوا قياسهم في مناظرة ابي حنيفة في اشتراط النية في طهارة الحدث، كما ان زفر نفى وجوب النية في التيمم طردا لقياسه، وكلا القولين مطرح.
وقد نص الايمة على ان ماء المطر يطهر الارض التي يصيبها، وغالب الماء الذي يصب على الارض ليس بمستعمل، فان اكثر الماء الذي يصبه الناس لا يكون عن جنابة، ولا يكون متغيرا.
الوجه الثالث: ان يقال: هب ان الحوض وقعت فيه نجاسة محققة، او انغمس فيه جنب، فهذا ماء كثير.
وقد ثبت عن ابي سعيد: «ان النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له: يا رسول الله، انك تتوضا من بير بضاعة، وهي بير يلقى فيها الحيض، ولحوم الكلاب، والنتن فقال: الماء طهور لا ينجسه شيء» .
قال الامام: حديث بير بضاعة صحيح.
وفي السنن: عن ابن عمر «ان النبي - صلى الله عليه وسلم - سيل عن الماء يكون بارض الفلاة، وما ينوبه من السباع والدواب.
فقال: اذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء.
وفي لفظ لم يحمل الخبث» .
وبير بضاعة بير كساير الابار، وهي باقية الى الان بالمدينة من الناحية الشرقية، ومن قال انها كانت عينا جارية فقد غلط غلطا بينا، فانه لم يكن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة عين جارية اصلا، ولم يكن بها الا الابار، منها يتوضيون ويغتسلون، ويشربون مثل: بير اريس التي بقباء، او البير التي ببيرحاء حديقة ابي طلحة، والبير التي اشتراها عثمان وحبسها على المسلمين، وغير هذه الابار، وكان سقيهم للنخل، والزرع من الابار، بالنواضح والسواني، ونحو ذلك، او بماء السماء وما ياتي من السيول، فاما عين جارية فلم تكن لهم.
وهذه العيون التي تسمى عيون حمزة انما احدثها معاوية في خلافته، وامر الناس بنقل الشهداء من موضعها، فصاروا ينبشونهم وهم رطاب لم ينتنوا حتى اصابت المسحاة رجل احدهم، فانبعثت دما، وكذلك عين الزرقاء محدثة، لكن لا ادري متى احدثت؟ وهذا امر لا ينازع فيه احد من العلماء العالمين بالمدينة واحوالهما، وانما ينازع في مثل هذا بعض اتباع علماء العراق، الذين ليس لهم خبرة باحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ومدينته، وسيرته.
واذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضا من تلك البير التي يلقى فيها الحيض، ولحوم الكلاب، والنتن، فكيف يشرع لنا ان نتنزه عن امر فعله النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ وقد ثبت عنه انه انكر على من يتنزه عما يفعله، وقال: «ما بال اقوام يتنزهون عن اشياء اترخص فيها؟ والله اني لاخشاكم لله واعلمكم بحدوده» ولو قال قايل: نتنزه عن هذا لاجل الخلاف فيه، فان من اهل العراق من يقول الماء اذا وقعت فيه نجاسة نجسته وان كان كثيرا، الا ان يكون مما لا تبلغه النجاسة، ويقدرونه بما لا يتحرك احد طرفيه بتحرك الطرف الاخر.
وهل العبرة بحركة المتوضي او بحركة المغتسل؟ على قولين.
وقدر بعضهم ذلك بعشرة اذرع في عشرة اذرع، ويحتجون بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يبولن احدكم في الماء الدايم ثم يغتسل منه» .
ثم يقولون اذا تنجست البير فانه ينزح منها دلاء مقدرة في بعض النجاسات، وفي بعضها تنزح البير كلها، وذهب بعض متكلميهم الى ان البير تطم، فهذا الاختلاف يورث شبهة في الماء اذا وقعت فيه نجاسة.
قيل لهذا القايل: الاختلاف انما يورث شبهة اذا لم تتبين سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاما اذا بينا ان النبي - صلى الله عليه وسلم - ارخص في شيء، وقد كره ان نتنزه عما ترخص فيه، وقال لنا: «ان الله يحب ان يوخذ برخصه كما يكره ان توتى معصيته» ، رواه احمد، وابن خزيمة في صحيحه: فان تنزهنا عنه عصينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله ورسوله احق ان نرضيه.
وليس لنا ان نغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لشبهة وقعت لبعض العلماء كما كان عام الحديبية، ولو فتحنا هذا الباب لكنا نكره لمن ارسل هديا ان يستبيح ما يستبيحه الحلال لخلاف ابن عباس.
ولكنا نستحب للجنب اذا صام ان يغتسل لخلاف ابي هريرة.
ولكنا نكره تطيب المحرم قبل الطواف لخلاف عمر، وابنه، ومالك، ولكنا نكره له ان يلبي الى ان يرمي الجمرة بعد التعريف لخلاف مالك، وغيره.
ومثل هذا واسع لا ينضبط.
واما من خالف في شيء من هذا من السلف والايمة - رضي الله عنهم -: فهم مجتهدون قالوا بمبلغ علمهم واجتهادهم، وهم اذا اصابوا فلهم اجران، واذا اخطيوا فلهم اجر، والخطا محطوط عنهم، فهم معذورون لاجتهادهم؛ ولان السنة البينة لم تبلغهم، ومن انتهى الى ما علم فقد احسن.
فاما من تبلغه السنة من العلماء وغيرهم، وتبين له حقيقة الحال فلم يبق له عذر في ان يتنزه عما ترخص فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يرغب عن سنته لاجل اجتهاد غيره.
فانه قد ثبت عنه في الصحيحين: «انه بلغه ان اقواما يقول احدهم: اما انا فاصوم لا افطر، ويقول الاخر: فانا اقوم، ولا انام، ويقول الاخر: اما انا فلا اتزوج النساء، ويقول الاخر: اما انا فلا اكل اللحم.
فقال بل اصوم وافطر، وانام، واتزوج النساء، واكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني» .
ومعلوم ان طايفة من المنتسبين الى العلم والدين، يرون ان المداومة على قيام الليل، وصيام النهار، وترك النكاح، وغيره من الطيبات، افضل من هذا، وهم في هذا اذا كانوا مجتهدين معذورين.
ومن علم السنة فرغب عنها، لاجل اعتقاد ان ترك السنة الى هذا افضل، وان هذا الهدي افضل من هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يكن معذورا، بل هو تحت الوعيد النبوي بقوله: «من رغب عن سنتي فليس مني» .
وفي الجملة: باب الاجتهاد والتاويل باب واسع ييول بصاحبه الى ان يعتقد الحرام حلالا، كمن تاول في ربا الفضل، والانبذة المتنازع فيها، وحشوش النساء، والى ان يعتقد الحلال حراما: مثل بعض ما ذكرناه من صور النزاع مثل الضب وغيره، بل يعتقد وجوب قتل المعصوم او بالعكس، فاصحاب الاجتهاد وان عذروا، وعرفت مراتبهم من العلم والدين، فلا يجوز ترك ما تبين من السنة والهدي لاجل تاويلهم والله اعلم.
وبهذا يظهر الجواب عن قولهم: انه قد يغمس يده فيه، او ينغمس فيه الجنب، فانه قد ثبت بالسنة ان هذا لا توثر فيه النجاسة: فكيف توثر فيه الجنابة؟ وقد اجاب الجمهور عن نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن: " ان يبول الرجل في الماء الدايم ثم يغتسل منه " باجوبة.
احدها: ان النهي عن الاغتسال، وعن البول؛ لان ذلك قد يفضي الى الاكثار من ذلك، حتى يتغير الماء، واذا بال، ثم اغتسل فقد يصيبه البول قبل استحالته.
وهذا جواب من يقول: الماء لا ينجس الا بالتغير، كما يقول ذلك من يقوله من اصحاب مالك، واحمد في رواية اختارها ابو محمد البغدادي صاحب التعليقة.
الثاني: ان ذلك محمول على ما دون القلتين، توفيقا بين الاحاديث.
وهذا جواب الشافعي، وطايفة من اصحاب احمد.
الثالث: ان النص انما ورد في البول، والبول اغلظ من غيره؛ لان اكثر عذاب القبر منه، وصيانة الماء منه ممكنة؛ لانه يكون باختيار الانسان، فلما غلظ وصيانة الماء عنه ممكنة فرق بينه وبين ما يعسر صيانة الماء عنه وهو دونه، وهذا جواب احمد في المشهور عنه واختيار جمهور اصحابه.
الجواب الرابع: انا نفرض ان الماء قليل، وان المغتسلين غمسوا فيه ايديهم، فهذا بعينه صورة النصوص التي وردت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فانه كان يغتسل هو والمراة من ازواجه من اناء واحد، وقد تنازع الفقهاء الذين يقولون بان الماء المتطهر به يصير مستعملا اذا غمس الجنب يده فيه، هل يصير مستعملا؟ على قولين مشهورين، وهو نظير غمس المتوضي يده بعد غسل وجهه عند من يوجب الترتيب: كالشافعي، واحمد.
والصحيح عندهم الفرق بين ان ينوي الغسل او لا ينويه، فان نوى مجرد الغسل صار مستعملا، وان نوى مجرد الاغتراف لم يصر مستعملا.
وان اطلق لم يصر مستعملا على الصحيح.
وقد ثبت في الصحيح: «عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: انه اغترف من الاناء بعد غسل وجهه» كما ثبت عنه انه اغترف منه في الجنابة ولم يحرج على المسلمين في هذا الموضع.
بل قد علمنا يقينا ان: اكثر توضو المسلمين واغتسالهم على عهده كان من الانية الصغار، وانهم كانوا يغمسون ايديهم في الوضوء والغسل جميعا، فمن جعل الماء مستعملا بذلك فقد ضيق ما وسعه الله.
فان قيل: فنحن نحترز من ذلك لاجل قول من ينجس الماء المستعمل.
قيل: هذا ابعد عن السنة، فان نجاسة الماء المستعمل نجاسة حسية: كنجاسة الدم ونحوه، وان كان احدى الروايتين عن ابي حنيفة، فهو مخالف لقول سلف الامة وايمتها.
مخالف للنصوص الصحيحة، والادلة الجلية.
وليس هذه المسالة من موارد الظنون، بل هي قطعية بلا ريب.
فقد ثبت في الصحيح: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «انه توضا وصب وضوءه على جابر» ، وانهم كانوا يقتتلون على وضويه، كما ياخذون نخامته، وكما اقتسموا شعره عام حجة الوداع.
فمن نجس الماء المستعمل كان بمنزلة من نجس شعور الادميين، بل بمنزلة من نجس البصاق كما يروى عن سلمان.
وايضا فبدن الجنب طاهر بالنص، والاجماع، والماء الطاهر اذا لاقى محلا طاهرا لم ينجس بالاجماع.
واما احتجاجهم بتسمية ذلك طهارة، وانها ضد النجاسة فضعيف من وجهين احدهما: انه لا يسلم ان كل طهارة فضدها النجاسة، فان الطهارة تنقسم الى طهارة خبث وحدث، طهارة عينية وحكمية.
الثاني: انا نسلم ذلك ونقول النجاسة انواع: كالطهارة، فيراد بالطهارة الطهارة من الكفر والفسوق، كما يراد بالنجاسة ضد ذلك كقوله تعالى: {انما المشركون نجس}[التوبة: 28] .
وهذه النجاسة لا تفسد الماء، بدليل ان سور اليهودي والنصراني طاهر، وانيتهم التي يصنعون فيها المايعات، ويغمسون فيها ايديهم طاهرة.
«وقد اهدى اليهودي للنبي - صلى الله عليه وسلم - شاة مشوية، واكل منها لقمة مع علمه انهم باشروها» .
«وقد اجاب - صلى الله عليه وسلم - يهوديا الى خبز شعير واهالة سنخة» .
والثاني: يراد بالطهارة: الطهارة من الحدث، وضد هذه نجاسة الحدث، كما قال احمد في بعض اجوبته لما سيل عن نحو ذلك انه انجس الماء، فظن بعض اصحابه انه اراد نجاسة الجنب، فذكر ذلك رواية عنه، وانما اراد احمد نجاسة الحدث واحمد - رضي الله عنه - لا يخالف سنة ظاهرة معلومة له قط، والسنة في ذلك اظهر من ان تخفى على اقل اتباعه، لكن نقل عنه انه قال: اغسل بدنك منه، والصواب ان هذا لا يدل على النجاسة، فان غسل البدن من الماء المستعمل لا يجب بالاتفاق.
ولكن ذكروا عن احمد - رحمه الله - في استحباب غسل البدن منه روايتين، الرواية التي تدل على الاستحباب لاجل الشبهة.
والصحيح ان ذلك لا يجب ولا يستحب؛ لان هذا عمل للنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكونوا يغسلون ثيابهم بما يصيبهم من الوضوء.
الثالث: يراد بالطهارة الطهارة من الاعيان الخبيثة التي هي نجسة، والكلام في هذه النجاسة بالقول بان الماء المستعمل صار بمنزلة الاعيان الخبيثة: كالدم، والماء المنجس، ونحو ذلك، هو القول الذي دلت النصوص، والاجماع القديم، والقياس الجلي على بطلانه.
وعلى هذا فجميع هذه المياه التي في الحياض، والبرك التي في الحمامات، والطرقات، وعلى ابواب المساجد، وفي المدارس، وغير ذلك: لا يكره التطهر بشيء منها وان سقط فيها الماء المستعمل، وليس للانسان ان يتنزه عن امر ثبتت فيه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرخصة، لاجل شبهة وقعت لبعض العلماء - رضي الله عنهم - اجمعين.
وقد تبين بما ذكرناه جواب السايل عن: الماء الذي يقطر من بدن الجنب بجماع او غيره، وتبين ان الماء طاهر، وان التنزه عنه، او عن ملامسته للشبهة التي في ذلك بدعة مخالفة للسنة، ولا نزاع بين المسلمين ان الجنب لو مس مغتسلا لم يقدح في صحة غسله.
واما المسخن بالنجاسة فليس ينجس باتفاق الايمة اذا لم يحصل له ما ينجسه، واما كراهته ففيها نزاع، لا كراهة فيه في مذهب الشافعي، وابي حنيفة، ومالك، واحمد في احدى الروايتين عنهما، وكرهه مالك، واحمد في الرواية الاخرى عنهما.
وهذه الكراهة لها ماخذان.
احدهما: احتمال وصول اجزاء النجاسة الى الماء فيبقى مشكوكا في طهارته شكا مستندا الى امارة ظاهرة، فعلى هذا الماخذ متى كان بين الوقود والماء حاجز حصين كمياه الحمامات لم يكره؛ لانه قد تيقن ان الماء لم تصل اليه النجاسة.
وهذه طريقة طايفة من اصحاب احمد: كالشريف ابي جعفر، وابن عقيل، وغيرهما.
والثاني: ان سبب الكراهة كونه سخن بايقاد النجاسة، واستعمال النجاسة مكروه عندهم؛ والحاصل بالمكروه مكروه، وهذه طريقة القاضي وغيره.
فعلى هذا انما الكراهة اذا كان التسخين حصل بالنجاسة.
فاما اذا كان غالب الوقود طاهرا، او شك فيه لم تكن هذه المسالة واما دخان النجاسة: فهذا مبني على اصل، وهو: ان العين النجسة الخبيثة اذا استحالت حتى صارت طيبة كغيرها من الاعيان الطيبة، مثل: ان يصير ما يقع في الملاحة من دم وميتة وخنزير، ملحا طيبا كغيرها من الملح، او يصير الوقود رمادا، وخرسفا، وقصرملا، ونحو ذلك، ففيه للعلماء قولان.
احدهما: لا يطهر كقول الشافعي، وهو احد القولين في مذهب مالك، وهو المشهور عن اصحاب احمد، واحدى الروايتين عنه، والرواية الاخرى: انه طاهر، وهذا مذهب ابي حنيفة، ومالك في احد القولين، واحدى الروايتين عن احمد.
ومذهب اهل الظاهر وغيرهم: انها تطهر، وهذا هو الصواب المقطوع به، فان هذه الاعيان لم تتناولها نصوص التحريم لا لفظا، ولا معنى، فليست محرمة ولا في معنى المحرم، فلا وجه لتحريمها، بل تتناولها نصوص الحل، فانها من الطيبات، وهي ايضا في معنى ما اتفق على حله، فالنص والقياس يقتضي تحليلها.
وايضا فقد اتفقوا كلهم على الخمر اذا صارت خلا بفعل الله تعالى، صارت حلالا طيبا، واستحالة هذه الاعيان اعظم من استحالة الخمر، والذين فرقوا بينهما قالوا: الخمر نجست بالاستحالة فطهرت بالاستحالة.
بخلاف الدم والميتة، ولحم الخنزير.
وهذا الفرق ضعيف، فان جميع النجاسات نجست ايضا بالاستحالة، فان الدم مستحيل عن اعيان طاهرة، وكذلك العذرة والبول، والحيوان النجس، مستحيل عن مادة طاهرة مخلوقة.
وايضا فان الله تعالى حرم الخبايث لما قام بها من وصف الخبث، كما انه اباح الطيبات لما قام بها من وصف الطيب، وهذه الاعيان المتنازع فيها ليس فيها شيء من وصف الخبث، وانما فيها وصف الطيب.
فاذا عرف هذا: فعلى اصح القولين: فالدخان، والبخار المستحيل عن النجاسة: طاهر؛ لانه اجزاء هوايية ونارية ومايية، وليس فيه شيء من وصف الخبث وعلى القول الاخر فلا بد ان يعفى من ذلك عما يشق الاحتراز منه، كما يعفى عما يشق الاحتراز منه على اصح القولين، ومن حكم بنجاسة ذلك ولم يعف عما يشق الاحتراز منه، فقوله اضعف الاقوال، هذا اذا كان الوقود نجسا.
فاما الطاهر: كالخشب والقصب، والشوك فلا يوثر باتفاق العلماء، وكذلك ارواث ما يوكل لحمه من الابل والبقر والغنم والخيل فانها طاهرة في اصح قولي العلماء والله اعلم.
واما الماء الذي يجري على ارض الحمام مما يفيض وينزل من ابدان المغتسلين غسل النظافة وغسل الجنابة وغير ذلك فانه طاهر، وان كان فيه من الغسل كالسدر والخطمي والاشنان ما فيه الا اذا علم في بعضه بول او قيء او غير ذلك من النجاسات، فذلك الماء الذي خالطته هذه النجاسات له حكمه، واما ما قبله وما بعده فلا يكون له حكمه بلا نزاع، لا سيما وهذه المياه جارية بلا ريب، بل ماء الحمام الذي هو فيه اذا كان الحوض فايضا فانه جار في اصح قولي العلماء وقد نص على ذلك احمد وغيره من العلماء وهو بمنزلة ما يكون في الانهار من حفرة ونحوها، فان هذا الماء وان كان الجريان على وجهه فانه يستخلف شييا فشييا ويذهب وياتي ما بعده لكن يبطي ذهابه بخلاف الذي يجري جميعه.
وقد تنازع العلماء في الماء الجاري على قولين.
احدهما: لا ينجس الا بالتغير، وهذا مذهب ابي حنيفة مع تشديده في الماء الدايم، وهو ايضا مذهب مالك، والقول القديم للشافعي، وهو انص الروايتين عن احمد واختيار محققي اصحابه، والقول الاخر للشافعي، وهي الرواية الاخرى عن احمد انه كالدايم، فتعتبر الجرية، والصواب الاول، فان النبي - صلى الله عليه وسلم - فرق بين الدايم والجاري في نهيه عن الاغتسال فيه والبول فيه، وذلك يدل على الفرق بينهما؛ ولان الجاري اذا لم تغيره النجاسة فلا وجه لنجاسته.
وقوله «اذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث» .
انما دل على ما دونهما بالمفهوم، والمفهوم لا عموم له فلا يدل ذلك على ان ما دون القلتين يحمل الخبث، بل اذا فرق فيه بين دايم وجار؛ او اذا كان في بعض الاحيان يحمل الخبث كان الحدث معمولا به.
فاذا كان طاهرا بيقين، وليس في نجاسته نص ولا قياس، وجب البقاء على طهارته مع بقاء صفاته، واذا كان حوض الحمام الفايض اذا كان قليلا ووقع فيه بول، او دم او عذرة، ولم تغيره، لم ينجسه على الصحيح، فكيف بالماء الذي جميعه يجري على ارض الحمام، فانه اذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره، لم ينجس، وهذا يتضح بمسالة اخرى، وهو ان الارض، وان كانت ترابا، او غير تراب، اذا وقعت عليها نجاسة من بول، او عذرة، او غيرهما؛ فانه اذا صب الماء على الارض حتى زالت عين النجاسة فالماء والارض طاهران، وان لم ينفصل الماء في مذهب جماهير العلماء، فكيف بالبلاط؟ ولهذا قالوا: ان السطح اذا كانت عليه نجاسة، واصابه ماء المطر، حتى ازال عينها، كان ما ينزل من الميازيب طاهرا، فكيف بارض الحمام؟ فاذا كان بها بول، او قيء فصب عليه ماء حتى ذهبت عينه كان الماء والارض طاهرين وان لم يجر الماء؛ فكيف اذا جرى وزال عن مكانه، والله اعلم.
وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، وذكرنا بضعة عشر دليلا شرعيا على طهارة بول ما يوكل لحمه وروثه، فاذا كانت طاهرة فكيف بالمستحيل منها ايضا، وطهارة هذه الارواث بينة في السنة فلا يجعل الخلاف فيها شبهة يستحب لاجله اتقاء ما خالطته، اذ قد ثبت بالسنة الصحيحة ان النبي - صلى الله عليه وسلم - واصحابه كانوا يلابسونها.
واما روث ما لا يوكل لحمه: كالبغال، والحمير، فهذه نجسة عند جمهور العلماء، وقد ذهب طايفة الى طهارتها، وانه لا ينجس من الارواث، والابوال الا بول الادمي وعذرته، لكن على القول المشهور قول الجمهور اذا شك في الروثة: هل هي من روث ما يوكل لحمه او من روث ما لا يوكل لحمه، ففيها قولان للعلماء، هما وجهان في مذهب احمد احدهما: يحكم بنجاستها؛ لان الاصل في الارواث النجاسة.
والثاني: وهو الاصح يحكم بطهارتها؛ لان الاصل في الاعيان الطهارة.
ودعوى ان الاصل في الارواث النجاسة ممنوع، فلم يدل على ذلك لا نص، ولا اجماع، ومن ادعى اصلا بلا نص، ولا اجماع فقد ابطل، واذا لم يكن معه الا القياس فروث ما يوكل لحمه طاهر، فكيف يدعي ان الاصل نجاسة الارواث؟ اذا عرف ذلك، فان تيقن ان الوقود نجس، فالدخان من مسايل الاستحالة كما تقدم، واما اذا تيقن طهارته فلا نزاع فيه، وان شك هل فيه نجس فالاصل الطهارة، وان تيقن ان فيه روثا، وشك في نجاسته فالصحيح الحكم بطهارته.
وان علم اشتماله على طاهر ونجس، وقلنا بنجاسة المستحيل عنه كان له حكمه فيما يصيب بدن المغتسل: يجوز ان يكون من الطاهر، ويجوز ان يكون من النجس، فلا ينجس بالشك، كما لو اصابه بعض رماد مثل هذا الوقود، فانا لا نحكم بنجاسة البدن بذلك، وان تيقنا ان في الوقود نجسا، لامكان ان يكون هذا الرماد غير نجس، والبدن طاهر بيقين فلا نحكم بنجاسته بالشك، وهذا اذا لم يختلط الرماد النجس بالطاهر، او البخار النجس بالطاهر.
فاما اذا اختلطا بحيث لا يتميز احدهما عن الاخر، فما اصاب الانسان يكون منهما جميعا، ولكن الوقود في مقره لا يكون مختلطا، بل رماد كل نجاسة يبقى في حيزها.
فان قيل: لو اشتبه الحلال بالحرام: كاشتباه اخته باجنبية، او الميتة بالمذكى، اجتنبهما جميعا.
ولو اشتبه الماء الطاهر بالنجس: فقيل: يتحرى للطهارة اذا لم يكن النجس نجس الاصل بان يكون بولا كما قاله الشافعي: وقيل: لا يتحرى بل يجتنبهما كما لو كان احدهما بولا، وهو المشهور من مذهب احمد، وطايفة من اصحاب مالك.
وقيل: يتحرى اذا كانت الانية اكبر، وهذا مذهب ابي حنيفة، وطايفة من اصحاب احمد، وفي تقدير الكبير نزاع معروف عندهم، فهنا ايضا اشتبهت الاعيان النجسة بالطاهرة، فاشتبه الحلال بالحرام.
قيل: هذا صحيح، ولكن مسالتنا ليست من هذا الباب، فانه اذا اشتبه الحلال بالحرام اجتنبهما؛ لانه اذا استعملهما لزم استعمال الحرام قطعا، وذلك لا يجوز، فهو بمنزلة اختلاط الحلال بالحرام على وجه لا يمكن تمييزه: كالنجاسة اذا ظهرت في الماء، وان استعمل احدهما من غير دليل شرعي كان ترجيحا بلا مرجح، وهما مستويان في الحكم، فليس استعمال هذا باولى من هذا، فيجتنبان جميعا.
واما اشتباه الماء الطاهر بالنجس، فانما نشا فيه النزاع؛ لان الطهارة بالطهور واجبة، وبالنجس حرام، فقد اشتبه واجب بحرام.
والذين منعوا التحري قالوا: استعمال النجس حرام، واما استعمال الطهور فانما يجب مع العلم والقدرة، وذلك منتف هنا.
ولهذا تنازعوا: هل يحتاج الى ان يعدم الطهور بخلط او اراقة؟ على قولين مشهورين: اصحهما انه لا يجب؛ لان الجهل كالعجز.
والشافعي - رحمه الله - انما جوز التحري اذا كان الاصل فيهما الطهارة؛ لانه حينيذ يكون قد استعمل ما اصله طاهر وقد شك في تنجسه فيبقى الامر فيه على استصحاب الحال.
والذين نازعوه قالوا: ما صار نجسا بالتغير فهو بمنزلة نجس الاصل قد زال الاستصحاب بيقين النجاسة كما لو حرمت احدى امراتيه برضاع، او طلاق، او غيرهما، فانه بمنزلة من تكون محرمة الاصل عنده، ومسالة اشتباه الحلال بالحرام ذات فروع متعددة.
واما اذا اشتبه الطاهر بالنجس، وقلنا يتحرى او لا يتحرى، فانه اذا وقع على بدن الانسان، او ثوبه، او طعامه شيء من احدهما: لا ينجسه؛ لان الاصل الطهارة، وما ورد عليه مشكوك في نجاسته، ونحن منعنا من استعمال احدهما؛ لانه لا ترجيح بلا مرجح.
فاما تنجس ما اصابه ذلك فلا يثبت بالشك، نعم لو اصابا ثوبين حكم بنجاسة احدهما، ولو اصابا بدنين فهل يحكم بنجاسة احدهما، هذا مبني على ما اذا تيقن الرجلان ان احدهما احدث او ان احدهما طلق امراته، وفيه قولان: احدهما: انه لا يجب على واحد منهما طهارة ولا طلاق، كما هو مذهب الشافعي وغيره، واحد القولين في مذهب احمد؛ لان الشك في رجلين لا في واحد، فكل واحد منهما له ان يستصحب حكم الاصل في نفسه.
والثاني: ان ذلك بمنزلة الشخص الواحد، وهو القول الاخر في مذهب احمد، وهو اقوى؛ لان حكم الايجاب او التحريم يثبت قطعا في حق احدهما، فلا وجه لرفعه عنهما جميعا.
وسر ما ذكرناه اذا اشتبه الطاهر بالنجس، فاجتنابهما جميعا واجب؛ لانه يتضمن لفعل المحرم، واجتناب احدهما؛ لان تحليله دون الاخر تحكم، ولهذا لما رخص من رخص في بعض الصور عضده بالتحري، او به واستصحابه الحلال.
فاما ما كان حلالا بيقين، ولم يخالطه ما حكم بانه نجس، فكيف ينجس؟ ولهذا لو تيقن ان في المسجد او غيره بقعة نجسة، ولم يعلم عينها، وصلى في مكان منه، ولم يعلم انه المتنجس صحت صلاته؛ لانه كان طاهرا بيقين، ولم يعلم انه نجس.
وكذلك لو اصابه شيء من طين الشوارع لم يحكم بنجاسته، وان علم ان بعض طين الشوارع نجس.
ولا يفرق في هذا بين العدد المنحصر وغير المنحصر، وبين القلتين والكثير، كما قيل مثل ذلك في اشتباه الاخت بالاجنبية؛ لانه هناك اشتبه الحلال بالحرام، وهنا شك في طريان التحريم على الحلال.
واذا شك في النجاسة، هل اصابت الثوب او البدن؟ فمن العلماء من يامر بنضحه، ويجعل حكم المشكوك فيه النضح كما يقوله مالك، ومنهم من لا يوجب ذلك، فاذا احتاط ونضح المشكوك فيه كان حسنا، كما روي في نضح انس للحصير الذي اسود من طول ما لبث، ونضح عمر ثوبه ونحو ذلك، والله اعلم.
What's Your Reaction?






