مسالة القراءة خلف الامام
مسالة القراءة خلف الامام

مسالة:
في القراءة خلف الامام؟الجواب::
الحمد لله للعلماء فيه نزاع واضطراب مع عموم الحاجة اليه واصول الاقوال ثلاثة: طرفان، ووسط.فاحد الطرفين انه لا يقرا خلف الامام بحال.
والثاني: انه يقرا خلف الامام بكل حال.
والثالث: وهو قول اكثر السلف؛ انه اذا سمع قراءة الامام انصت، ولم يقرا، فان استماعه لقراءة الامام خير من قراءته، واذا لم يسمع قراءته قرا لنفسه، فان قراءته خير من سكوته، فالاستماع لقراءة الامام افضل من القراءة، والقراءة افضل من السكوت، هذا قول جمهور العلماء كمالك واحمد بن حنبل وجمهور اصحابهما، وطايفة من اصحاب الشافعي، وابي حنيفة، وهو القول القديم للشافعي، وقول محمد بن الحسن.
وعلى هذا القول؛ فهل القراءة حال مخافتة الامام بالفاتحة واجبة على الماموم؟ او مستحبة؟ على قولين في مذهب احمد.
اشهرهما انها مستحبة، وهو قول الشافعي القديم، والاستماع حال جهر الامام هل هو واجب او مستحب؟ والقراءة اذا سمع الامام هل هي محرمة او مكروهة؟ وهل تبطل الصلاة اذا قرا؟ على قولين في مذهب احمد وغيره: احدهما: ان القراءة حينيذ محرمة، واذا قرا بطلت صلاته، وهذا احد الوجهين اللذين حكاهما ابو عبد الله بن حامد، في مذهب احمد.
والثاني: ان الصلاة لا تبطل بذلك، وهو قول الاكثرين، وهو المشهور من مذهب احمد، ونظير هذا اذا قرا حال ركوعه وسجوده: هل تبطل الصلاة؟ على وجهين من مذهب احمد؛ لان «النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى ان يقرا القران راكعا او ساجدا» .
والذين قالوا: يقرا حال الجهر، والمخافتة، انما يامرونه ان يقرا حال الجهر بالفاتحة خاصة، وما زاد على الفاتحة فان المشروع ان يكون فيه مستمعا لا قاريا.
وهل قراءته للفاتحة مع الجهر واجبة او مستحبة ؟ على قولين: احدهما: انها واجبة، وهو قول الشافعي في الجديد، وقول ابن حزم.
والثاني: انها مستحبة، وهو قول الاوزاعي، والليث بن سعد، واختيار جدي ابي البركات، ولا سبيل الى الاحتياط في الخروج من الخلاف في هذه المسالة، كما لا سبيل الى الخروج من الخلاف في وقت العصر، وفي فسخ الحج، ونحو ذلك من المسايل.
يتعين في مثل ذلك النظر فيما يوجبه الدليل الشرعي، وذلك ان كثيرا من العلماء يقول: صلاة العصر يخرج وقتها اذا صار ظل كل شيء مثليه، كالمشهور من مذهب مالك والشافعي، وهو احدى الروايتين عن احمد.
وابو حنيفة يقول: حينيذ يدخل وقتها، ولم يتفقوا على وقت تجوز فيه صلاة العصر، بخلاف غيرها فانه اذا صلى الظهر بعد الزوال بعد مصير ظل كل شيء مثله، سوى ظل الزوال صحت صلاته، والمغرب ايضا تجزي باتفاقهم اذا صلى بعد الغروب، والعشاء تجزي باتفاقهم اذا صلى بعد مغيب الشفق الابيض، الى ثلث الليل، والفجر تجزي باتفاقهم اذا صلاها بعد طلوع الفجر الى الاسفار الشديد، واما العصر فهذا يقول: تصلى الى المثلين، وهذا يقول: لا تصلى الا بعد المثلين، والصحيح انها تصلى من حين يصير ظل كل شيء مثله الى اصفرار الشمس، فوقتها اوسع، كما قاله هولاء، وهولاء، وعلى هذا تدل الاحاديث الصحيحة المدنية، وهو قول ابي يوسف، ومحمد بن الحسن وهو الرواية الاخرى عن احمد.
والمقصود هنا ان من المسايل مسايل لا يمكن ان يعمل فيها بقول يجمع، لكن ولله الحمد القول الصحيح عليه دلايل شرعية تبين الحق.
ومن ذلك فسخ الحج الى العمرة، فان الحج الذي اتفق الايمة على جوازه ان يهل متمتعا يحرم بعمرة ابتداء، ويهل قارنا وقد ساق الهدي، فاما ان افرد او قرن ولم يسق الهدي ففي حجه نزاع بين السلف والخلف.
والمقصود هنا القراءة خلف الامام فنقول: اذا جهر الامام استمع لقراءته، فان كان لا يسمع لبعده فانه يقرا في اصح القولين، وهو قول احمد وغيره، وان كان لا يسمع لصممه، او كان يسمع همهمة الامام ولا يفقه ما يقول: ففيه قولان في مذهب احمد، وغيره.
والاظهر انه يقرا؛ لان الافضل ان يكون اما مستمعا، واما قاريا، وهذا ليس بمستمع، ولا يحصل له مقصود السماع، فقراءته افضل من سكوته، فنذكر الدليل على الفصلين على انه في حال الجهر يستمع، وانه في حال المخافتة يقرا.
فالدليل على الاول الكتاب، والسنة، والاعتبار: اما الاول: فانه تعالى قال: {واذا قري القران فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون}[الاعراف: 204] وقد استفاض عن السلف انها نزلت في القراءة في الصلاة، وقال بعضهم في الخطبة، وذكر احمد بن حنبل الاجماع على انها نزلت في ذلك، وذكر الاجماع على انه لا تجب القراءة على الماموم حال الجهر.
ثم يقول: قوله تعالى: {واذا قري القران فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون}[الاعراف: 204] لفظ عام، فاما ان يختص القراءة في الصلاة، او في القراءة في غير الصلاة، او يعمهما.
والثاني باطل قطعا؛ لانه لم يقل احد من المسلمين: انه يجب الاستماع خارج الصلاة، ولا يجب في الصلاة، ولان استماع المستمع الى قراءة الامام الذي ياتم به ويجب عليه متابعته اولى من استماعه الى قراءة من يقرا خارج الصلاة داخلة في الاية، اما على سبيل الخصوص، واما على سبيل العموم، وعلى التقديرين فالاية دالة على امر الماموم بالانصات لقراءة الامام، وسواء كان امر ايجاب او استحباب.
فالمقصود حاصل، فان المراد ان الاستماع اولى من القراءة، وهذا صريح في دلالة الاية على كل تقدير، والمنازع يسلم ان الاستماع مامور به دون القراءة، فيما زاد على الفاتحة.
والاية امرت بالانصات اذا قري القران.
والفاتحة ام القران، وهي التي لا بد من قراءتها في كل صلاة، والفاتحة افضل سور القران.
وهي التي لم ينزل في التوراة ولا في الانجيل ولا في الزبور ولا في القران مثلها، فيمتنع ان يكون المراد بالاية الاستماع الى غيرها دونها، مع اطلاق لفظ الاية وعمومها، مع ان قراءتها اكثر واشهر، وهي افضل من غيرها.
فان قوله: {واذا قري القران}[الاعراف: 204] يتناولها، كما يتناول غيرها، وشموله لها اظهر لفظا ومعنى.
والعادل عن استماعها الى قراءتها انما يعدل لان قراءتها عنده افضل من الاستماع، وهذا غلط يخالف النص والاجماع، فان الكتاب والسنة امرت الموتم بالاستماع دون القراءة، والامة متفقة على ان استماعه لما زاد على الفاتحة افضل من قراءته لما زاد عليها.
فلو كانت القراءة لما يقرا الامام افضل من الاستماع لقراءته لكان قراءة الماموم افضل من قراءته لما زاد على الفاتحة، وهذا لم يقل به احد.
وانما نازع من نازع في الفاتحة لظنه انها واجبة على الماموم مع الجهر، او مستحبة له حينيذ.
وجوابه ان المصلحة الحاصلة له بالقراءة يحصل بالاستماع ما هو افضل منها، بدليل استماعه لما زاد على الفاتحة، فلولا انه يحصل له بالاستماع ما هو افضل من القراءة لكان الاولى ان يفعل افضل الامرين، وهو القراءة، فلما دل الكتاب والسنة والاجماع على ان الاستماع افضل له من القراءة، علم ان المستمع يحصل له افضل مما يحصل للقاري، وهذا المعنى موجود في الفاتحة وغيرها، فالمستمع لقراءة الامام يحصل له افضل مما يحصل بالقراءة، وحينيذ فلا يجوز ان يومر بالادنى وينهى عن الاعلى.
وثبت انه في هذه الحالة قراءة الامام له قراءة، كما قال ذلك جماهير السلف والخلف من الصحابة والتابعين لهم باحسان.
وفي ذلك الحديث المعروف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه قال: «من كان له امام فقراءة الامام له قراءة» وهذا الحديث روي مرسلا، ومسندا لكن اكثر الايمة الثقات رووه مرسلا عن عبد الله بن شداد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - واسنده بعضهم، ورواه ابن ماجه مسندا، وهذا المرسل قد عضده ظاهر القران والسنة، وقال به جماهير اهل العلم من الصحابة والتابعين ومرسله من اكابر التابعين، ومثل هذا المرسل يحتج به باتفاق الايمة الاربعة، وغيرهم، وقد نص الشافعي على جواز الاحتجاج بمثل هذا المرسل.
فتبين ان الاستماع الى قراءة الامام امر دل عليه القران دلالة قاطعة؛ لان هذا من الامور الظاهرة التي يحتاج اليها جميع الامة، فكان بيانها في القران ممن يحصل به مقصود البيان، وجاءت السنة موافقة للقران.
ففي صحيح مسلم عن ابي موسى الاشعري قال: «ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبنا، فبين لنا سنتنا، وعلمنا صلاتنا، فقال: اقيموا صفوفكم، ثم ليومكم احدكم، فاذا كبر فكبروا واذا قرا فانصتوا» وهذا من حديث ابي موسى الطويل بالمشهور لكن بعض الرواة زاد فيه على بعض، فمنهم من لم يذكر قوله: «واذا قرا فانصتوا» ومنهم من ذكرها، وهي زيادة في الثقة، لا تخالف المزيد، بل توافق معناه، ولهذا رواه مسلم في صحيحه.
فان الانصات الى القاري من تمام الايتمام به فان من قرا على قوم لا يستمعون لقراءته لم يكونوا موتمين به، وهذا مما يبين حكمة سقوط القراءة على الماموم، فان متابعته لامامه مقدمة على غيرها، حتى في الافعال، فاذا ادركه ساجدا سجد معه، واذا ادركه في وتر من صلاته تشهد عقب الوتر، وهذا لو فعله منفردا لم يجز، وانما فعله لاجل الايتمام، فيدل على ان الايتمام يجب به ما لا يجب على المنفرد ويسقط به ما يجب على المنفرد.
وعن ابي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «انما جعل الامام ليوتم به، فاذا كبر فكبروا، واذا قرا فانصتوا» رواه احمد، وابو داود، والنسايي، وابن ماجه.
قيل لمسلم بن الحجاج: حديث ابي هريرة صحيح، يعني «واذا قرا فانصتوا» قال هو عندي صحيح فقيل له: لما لا تضعه هاهنا؟ يعني في كتابه، فقال: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هاهنا، انما وضعت هاهنا ما اجمعوا عليه.
وروى الزهري، عن ابن اكيمة الليثي، عن «ابي هريرة ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف من صلاة جهر فيها، فقال: هلا قرا معي احد منكم انفا؟ فقال رجل: نعم.
يا رسول الله، قال: اني اقول ما لي انازع القران.
قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما جهر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقراءة في الصلوات، حين سمعوا ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» رواه احمد وابو داود، وابن ماجه، والنسايي، والترمذي، وقال: حديث حسن قال ابو داود: سمعت محمد بن يحيى بن فارس، يقول: قوله " فانتهى الناس " من كلام الزهري وروي عن البخاري نحو ذلك، فقال: في الكنى من التاريخ، وقال ابو صالح حدثني الليث حدثني يوسف عن ابن شهاب سمعت ابن اكيمة الليثي يحدث ان سعيد بن المسيب سمع «ابا هريرة يقول: صلى لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة جهر فيها بالقراءة ثم قال: هل قرا منكم احد معي؟ قلنا: نعم، قال: اني اقول ما لي انازع القران قال: فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر الامام» ، قال الليث: حدثني ابن شهاب ولم يقل: فانتهى الناس، وقال بعضهم: هو قول الزهري، وقال بعضهم: هو قول ابن اكيمة والصحيح انه قول الزهري وهذا اذا كان من كلام الزهري فهو من ادل الدلايل على ان الصحابة لم يكونوا يقرءون في الجهر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فان الزهري من اعلم اهل زمانه، او اعلم اهل زمانه بالسنة، وقراءة الصحابة خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - اذا كانت مشروعة واجبة او مستحبة تكون من الاحكام العامة، التي يعرفها عامة الصحابة التابعين لهم باحسان، فيكون الزهري من اعلم الناس بها، فلو لم يبينها لاستدل بذلك على انتفايها، فكيف اذا قطع الزهري بان الصحابة لم يكونوا يقرءون خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجهر فان قيل: قال البيهقي: ابن اكيمة رجل مجهول لم يحدث الا بهذا الحديث وحده، ولم يحدث عنه غير الزهري قيل: ليس كذلك، بل قد قال ابو حاتم الرازي فيه: صحيح الحديث، حديثه مقبول.
وحكي عن ابي حاتم البستي انه قال: روى عنه الزهري، وسعيد بن ابي هلال، وابن ابيه عمر، وسالم بن عمار بن اكيمة بن عمر.
وقد روى مالك في موطيه عن وهب بن كيسان، انه سمع جابر بن عبد الله يقول: " من صلى ركعة لم يقرا فيها، لم يصل الا وراء الامام " وروي ايضا عن نافع ان عبد الله بن عمر كان اذا سيل: هل يقرا خلف الامام؟ يقول: اذا صلى احدكم خلف الامام تجزيه قراءة الامام، واذا صلى وحده فليقرا.
قال: وكان عبد الله بن عمر، لا يقرا خلف الامام ، وروى مسلم في صحيحه عن عطاء بن يسار انه سال زيد بن ثابت عن القراءة مع الامام، فقال: لا قراءة مع الامام في شيء.
وروى البيهقي عن ابي وايل ان رجلا سال ابن مسعود عن القراءة خلف الامام، فقال: انصت للقران، فان في الصلاة شغلا، وسيكفيك ذلك الامام، وابن مسعود وزيد بن ثابت هما فقيها اهل المدينة، واهل الكوفة من الصحابة وفي كلامهما تنبيه على ان المانع انصاته لقراءة الامام.
وكذلك البخاري في " كتاب القراءة خلف الامام " عن علي بن ابي طالب قال: وروى الحارث عن علي يسبح في الاخريين، قال: ولم يصح، وخالفه عبيد الله بن ابي رافع، حدثنا عثمان بن سعيد، سمع عبيد الله بن عمرو، عن اسحاق بن راشد، عن الزهري، عن عبيد الله بن ابي رافع مولى بني هاشم، حدثه عن علي بن ابي طالب: اذا لم يجهر الامام في الصلوات، فاقرا بام الكتاب، وسورة اخرى في الاوليين، من الظهر والعصر، وفاتحة الكتاب في الاخريين من الظهر والعصر، وفي الاخرة من المغرب، وفي الاخريين، من العشاء.
وايضا: ففي اجماع المسلمين على انه فيما زاد على الفاتحة يومر بالاستماع دون القراءة: دليل على ان استماعه لقراءة الامام خير له من قراءته معه بل على انه مامور بالاستماع دون القراءة مع الامام.
وايضا: فلو كانت القراءة في الجهر واجبة على الماموم للزم احد امرين: اما ان يقرا مع الامام، واما ان يجب على الامام ان يسكت له حتى يقرا ولم نعلم نزاعا بين العلماء انه لا يجب على الامام ان يسكت لقراءة الماموم بالفاتحة ولا غيرها، وقراءته معه منهي عنها بالكتاب والسنة.
فثبت انه لا تجب عليه القراءة معه في حال الجهر، بل نقول: لو كانت قراءة الماموم في حال الجهر والاستماع مستحبة، لاستحب للامام ان يسكت لقراءة الماموم، ولا يستحب للامام السكوت ليقرا الماموم عند جماهير العلماء، وهذا مذهب ابي حنيفة ومالك واحمد بن حنبل وغيرهم.
وحجتهم في ذلك ان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يسكت ليقرا المامومون، ولا نقل هذا احد عنه، بل ثبت عنه في الصحيح سكوته بعد التكبير للاستفتاح، وفي السنن: «انه كان له سكتتان سكتة.
في اول القراءة، وسكتة بعد الفراغ من القراءة» .
وهي سكتة لطيفة للفصل لا تتسع لقراءة الفاتحة.
وقد روي ان هذه السكتة كانت بعد الفاتحة، ولم يقل احد: انه كان له ثلاث سكتات، ولا اربع سكتات، فمن نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث سكتات او اربع فقد قال قولا لم ينقله عن احد من المسلمين، والسكتة التي عقب قوله: {ولا الضالين}[الفاتحة: 7] من جنس السكتات التي عند رءوس الاي.
ومثل هذا لا يسمى سكوتا؛ ولهذا لم يقل احد من العلماء: انه يقرا في مثل هذا.
وكان بعض من ادركنا من اصحابنا يقرا عقب السكوت عند رءوس الاي.
فاذا قال الامام: {الحمد لله رب العالمين}[الفاتحة: 2] قال: {الحمد لله رب العالمين}[الفاتحة: 2] واذا قال: {اياك نعبد واياك نستعين}[الفاتحة: 5] قال: {اياك نعبد واياك نستعين}[الفاتحة: 5] وهذا لم يقله احد من العلماء.
وقد اختلف العلماء في سكوت الامام على ثلاثة اقوال: فقيل: لا سكوت في الصلاة بحال، وهو قول مالك.
وقيل: فيها سكتة واحدة للاستفتاح، كقول ابي حنيفة.
وقيل فيها: سكتتان، وهو قول الشافعي، واحمد وغيرهما لحديث سمرة بن جندب: «ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان له سكتتان: سكتة حين يفتتح الصلاة، وسكتة اذا فرغ من السورة الثانية.
قبل ان يركع» فذكر ذلك لعمران بن حصين، فقال: كذب سمرة فكتب في ذلك الى المدينة الى ابي بن كعب، فقال: صدق سمرة، رواه احمد واللفظ له وابو داود وابن ماجه، والترمذي، وقال حديث حسن.
وفي رواية ابي داود: «سكتة اذا كبر.
وسكتة اذا فرغ من {غير المغضوب عليهم ولا الضالين}[الفاتحة: 7] » واحمد رجح الرواية الاولى واستحب السكتة الثانية؛ لاجل الفصل، ولم يستحب احمد ان يسكت الامام لقراءة الماموم، ولكن بعض اصحابه استحب ذلك، ومعلوم ان النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كان يسكت سكتة تتسع لقراءة الفاتحة، لكان هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فلما لم ينقل هذا احد علم انه لم يكن.
والسكتة الثانية في حديث سمرة قد نفاها عمران بن حصين، وذلك انها سكتة يسيرة، قد لا ينضبط مثلها، وقد روي انها بعد الفاتحة.
ومعلوم انه لم يسكت الا سكتتين، فعلم ان احداهما طويلة والاخرى بكل حال لم تكن طويلة متسعة لقراءة الفاتحة.
وايضا فلو كان الصحابة كلهم يقرءون الفاتحة خلفه اما في السكتة الاولى واما في الثانية لكان هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فكيف ولم ينقل هذا احد عن احد من الصحابة انهم كانوا في السكتة الثانية خلفه يقرءون الفاتحة، مع ان ذلك لو كان مشروعا لكان الصحابة احق الناس بعلمه، وعمله، فعلم انه بدعة.
وايضا فالمقصود بالجهر استماع المامومين، ولهذا يومنون على قراءة الامام في الجهر دون السر، فاذا كانوا مشغولين عنه بالقراءة فقد امر ان يقرا على قوم لا يستمعون لقراءته، وهو بمنزلة ان يحدث من لم يستمع لحديثه، ويخطب من لم يستمع لخطبته، وهذا سفه تنزه عنه الشريعة.
ولهذا روي في الحديث: «مثل الذي يتكلم والامام يخطب كمثل الحمار يحمل اسفارا» فهكذا اذا كان يقرا والامام يقرا عليه.
فصل واذا كان الماموم مامورا بالاستماع والانصات لقراءة الامام، لم يشتغل عن ذلك بغيرها، لا بقراءة، ولا ذكر، ولا دعاء، ففي حال جهر الامام لا يستفتح، ولا يتعوذ.
وفي هذه المسالة نزاع.
وفيها ثلاثة اقوال، هي ثلاث روايات عن احمد.
قيل: انه حال الجهر يستفتح ويتعوذ، ولا يقرا؛ لانه بالاستماع يحصل له مقصود القراءة؛ بخلاف الاستفتاح والاستعاذة، فانه لا يسمعهما.
وقيل: يستفتح ولا يتعوذ، لان الاستفتاح تابع لتكبيرة الاحرام بخلاف التعوذ فانه تابع للقراءة، فمن لم يقرا لا يتعوذ.
وقيل: لا يستفتح ولا يتعوذ حال الجهر، وهذا اصح، فان ذلك يشغل عن الاستماع والانصات المامور به، وليس له ان يشتغل عما امر به بشيء من الاشياء.
ثم اختلف اصحاب احمد: فمنهم من قال: هذا الخلاف انما هو في حال سكوت الامام، هل يشتغل بالاستفتاح، او الاستعاذة، او باحدهما او لا يشتغل الا بالقراءة لكونها مختلفا في وجوبها.
واما في حال الجهر فلا يشتغل بغير الانصات والمعروف عند اصحابه ان هذا النزاع هو في حال الجهر، لما تقدم من التعليل، واما في حال المخافتة فالافضل له ان يستفتح، واستفتاحه حال سكوت الامام افضل من قراءته في ظاهر مذهب احمد، وابي حنيفة وغيرهما؛ لان القراءة يعتاض عنها بالاستماع، بخلاف الاستفتاح.
واما قول القايل: ان قراءة الماموم مختلف في وجوبها، فيقال: وكذلك الاستفتاح هل يجب؟ فيه قولان مشهوران في مذهب احمد.
ولم يختلف قوله: انه لا يجب على الماموم القراءة في حال الجهر، واختار ابن بطة وجوب الاستفتاح، وقد ذكر ذلك روايتين عن احمد.
فعلم ان من قال من اصحابه كابي الفرج بن الجوزي ان القراءة حال المخافتة افضل في مذهبه من الاستفتاح، فقد غلط على مذهبه.
ولكن هذا يناسب قول من استحب قراءة الفاتحة حال الجهر، وهذا ما علمت احدا قاله من اصحابه، قبل جدي ابي البركات، وليس هو مذهب احمد ولا عامة اصحابه، مع ان تعليل الاحكام بالخلاف علة باطلة في نفس الامر، فان الخلاف ليس من الصفات التي يعلق الشارع بها الاحكام في نفس الامر، فان ذلك وصف حادث بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن يسلكه من لم يكن عالما بالادلة الشرعية في نفس الامر، لطلب الاحتياط.
وعلى هذا ففي حال المخافتة هل يستحب له مع الاستفتاح الاستعاذة اذا لم يقرا؟ على روايتين.
والصواب: ان الاستعاذة لا تشرع الا لمن قرا، فان اتسع الزمان للقراءة استعاذ وقرا، والا انصت.
واما الفصل الثاني: وهو القراءة اذا لم يسمع قراءة الامام كحال مخافتة الامام وسكوته، فان الامر بالقراءة والترغيب فيها يتناول المصلي اعظم مما يتناول غيره، فان قراءة القران في الصلاة افضل منها خارج الصلاة، وما ورد من الفضل لقاري القران يتناول المصلي اعظم مما يتناول غيره؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من قرا القران فله بكل حرف عشر حسنات، اما اني لا اقول: الم حرف، ولكن الف حرف، ولام حرف، وميم حرف» قال الترمذي: حديث صحيح.
وقد ثبت في خصوص الصلاة قوله في الحديث الصحيح، الذي رواه مسلم عن «ابي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من صلى صلاة لم يقرا فيها بام القران فهي خداج - ثلاثا اي: غير تمام فقيل لابي هريرة: اني اكون وراء الامام.
فقال: اقرا بها في نفسك فاني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي، ونصفها لعبدي ولعبدي ما سال.
فاذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين}[الفاتحة: 2] قال الله: حمدني عبدي، فاذا قال: {الرحمن الرحيم}[الفاتحة: 3] قال الله: اثنى علي عبدي، فاذا قال: {مالك يوم الدين}[الفاتحة: 4] قال: مجدني عبدي، وقال مرة: فوض الي عبدي - فاذا قال: {اياك نعبد واياك نستعين}[الفاتحة: 5] قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سال، فاذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم}[الفاتحة: 6] {صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين}[الفاتحة: 7] قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سال» .
وروى مسلم في صحيحه عن «عمران بن حصين: ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر، فجعل رجل يقرا خلفه: ب {سبح اسم ربك الاعلى}[الاعلى: 1] ، فلما انصرف قال: ايكم قرا او ايكم القاري - قال رجل: انا، قال: قد ظننت ان بعضكم خالجنيها» رواه مسلم.
فهذا قد قرا خلفه في صلاة الظهر ولم ينهه ولا غيره عن القراءة، لكن قال: «قد ظننت ان بعضكم خالجنيها» اي نازعنيها.
كما قال في الحديث الاخر: «اني اقول ما لي انازع القران» .
وفي المسند عن «ابن مسعود قال: كانوا يقرءون خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: خلطتم علي القران» فهذا كراهة منه لمن نازعه وخالجه، وخلط عليه القران، وهذا لا يكون ممن قرا في نفسه بحيث لا يسمعه غيره، وانما يكون ممن اسمع غيره، وهذا مكروه لما فيه من المنازعة لغيره، لا لاجل كونه قاريا خلف الامام، واما مع مخافته الامام فان هذا لم يرد حديث بالنهي عنه، ولهذا قال: " ايكم القاري؟ ".
اي القاري الذي نازعني، لم يرد بذلك القاري في نفسه، فان هذا لا ينازع، ولا يعرف انه خالج النبي - صلى الله عليه وسلم - وكراهة القراءة خلف الامام انما هي اذا امتنع من الانصات المامور به، او اذا نازع غيره، فاذا لم يكن هناك انصات مامور به، ولا منازعة فلا وجه للمنع من تلاوة القران في الصلاة.
والقاري هنا لم يعتض عن القراءة باستماع، فيفوته الاستماع والقراءة جميعا، مع الخلاف المشهور في وحوب القراءة في مثل هذه الحال، فخلاف وجوبها في حال الجهر، فانه شاذ حتى نقل احمد الاجماع على خلافه.
وابو هريرة وغيره من الصحابة فهموا من قوله: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فاذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين}[الفاتحة: 2] » ان ذلك يعم الامام والماموم.
وايضا فجميع الاذكار التي يشرع للامام ان يقولها سرا يشرع للماموم ان يقولها سرا كالتسبيح في الركوع والسجود، وكالتشهد والدعاء.
ومعلوم ان القراءة افضل من الذكر والدعاء، فلاي معنى لا تشرع القراءة في السر وهو لا يسمع قراءة السر، ولا يومن على قراءة الامام في السر.
وايضا فان الله سبحانه لما قال: {واذا قري القران فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون}[الاعراف: 204] .
وقال: {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والاصال ولا تكن من الغافلين}[الاعراف: 205] .
وهذا امر للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولامته، فانه ما خوطب به خوطبت به الامة ما لم يرد نص بالتخصيص.
كقوله: {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب}[ق: 39] .
وقوله: {واقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل}[هود: 114] .
وقوله: {اقم الصلاة لدلوك الشمس الى غسق الليل}[الاسراء: 78] .
ونحو ذلك.
وهذا امر يتناول الامام والماموم والمنفرد بان يذكر الله في نفسه بالغدو والاصال، وهو يتناول صلاة الفجر والظهر والعصر، فيكون الماموم مامورا بذكر ربه في نفسه لكن اذا كان مستمعا كان مامورا بالاستماع، وان لم يكن مستمعا كان مامورا بذكر ربه في نفسه.
والقران افضل من الذكر كما قال تعالى: {وهذا ذكر مبارك انزلناه}[الانبياء: 50] .
وقال تعالى: {وقد اتيناك من لدنا ذكرا}[طه: 99] .
وقال تعالى: {ومن اعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة اعمى}[طه: 124] .
وقال: {ما ياتيهم من ذكر من ربهم محدث}[الانبياء: 2] .
وايضا: فالسكوت بلا قراءة ولا ذكر ولا دعاء ليس عبادة، ولا مامورا به، بل يفتح باب الوسوسة، فالاشتغال بذكر الله افضل من السكوت، وقراءة القران من افضل الخير، واذا كان كذلك فالذكر بالقران افضل من غيره، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه قال: «افضل الكلام بعد القران اربع - وهن من القران - سبحان الله، والحمد لله، ولا اله الا الله، والله اكبر» رواه مسلم في صحيحه.
وعن عبد الله بن ابي اوفى قال: «جاء رجل الى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: اني لا استطيع ان اخذ من القران شييا فعلمني ما يجزيني منه، فقال: قل سبحان الله، والحمد لله، ولا اله الا الله، والله اكبر، ولا حول ولا قوة الا بالله فقال: يا رسول الله، هذا لله فما لي، قال: قل: اللهم ارحمني، وارزقني، وعافني، واهدني فلما قام قال: هكذا بيديه - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اما هذا فقد ملا يديه من الخير» رواه احمد، وابو داود، والنسايي.
والذين اوجبوا القراءة في الجهر: احتجوا بالحديث الذي في السنن عن عبادة ان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اذا كنتم ورايي فلا تقرءوا الا بفاتحة الكتاب، فانه لا صلاة لمن لم يقرا بها» وهذا الحديث معلل عند ايمة الحديث بامور كثيرة، ضعفه احمد وغيره من الايمة وقد بسط الكلام على ضعفه في غير هذا الموضع، وبين ان الحديث الصحيح قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا صلاة الا بام القران» فهذا هو الذي اخرجاه في الصحيحين ورواه الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة واما هذا الحديث فغلط فيه بعض الشاميين واصله ان عبادة كان يوم ببيت المقدس، فقال هذا فاشتبه عليهم المرفوع بالموقوف على عبادة.
وايضا: فقد تكلم العلماء قديما وحديثا في هذه المسالة، وبسطوا القول فيها، وفي غيرها، من المسايل.
وتارة افردوا القول فيها في مصنفات مفردة، وانتصر طايفة للاثبات في مصنفات مفردة: كالبخاري وغيره.
وطايفة للنفي: كابي مطيع البلخي، وكرام، وغيرهما.
ومن تامل مصنفات الطوايف تبين له القول الوسط.
فان عامة المصنفات المفردة تتضمن صور كل من القولين المتباينين، قول من ينهى عن القراءة خلف الامام، حتى في صلاة السر.
وقول من يامر بالقراءة خلفه مع سماع جهر الامام، والبخاري ممن بالغ في الانتصار للاثبات بالقراءة حتى مع جهر الامام؛ بل يوجب ذلك، كما يقوله الشافعي في الجديد، وابن حزم، ومع هذا فحججه ومصنفه انما تتضمن تضعيف قول ابي حنيفة في هذه المسالة وتوابعها، مثل كونه.
What's Your Reaction?






