مسالة الفرق بين الطلاق الحلال والطلاق الحرام

مسالة الفرق بين الطلاق الحلال والطلاق الحرام

مسالة الفرق بين الطلاق الحلال والطلاق الحرام
546 - 9 -

مسالة:

سيل الشيخ - رحمه الله تعالى - ايضا عن الفرق بين الطلاق الحلال والطلاق الحرام؟ وعن الطلاق الحرام هل هو لازم او ليس بلازم؟ وعن الفرق بين الخلع والطلاق؟ وعن حكم الحلف بلفظ الحرام، هل هو طلاق ام لا؟ وعن بسط الحكم في ذلك؟ فاجاب - رحمه الله تعالى - بقوله: الطلاق منه ما هو محرم بالكتاب والسنة والاجماع.

ومنه ما ليس بمحرم.

فالطلاق المباح - باتفاق العلماء - هو ان يطلق الرجل امراته طلقة واحدة؛ اذا طهرت من حيضتها، بعد ان تغتسل وقبل ان يطاها ثم يدعها فلا يطلقها حتى تنقضي عدتها.

وهذا الطلاق يسمى " طلاق السنة " فان اراد ان يرتجعها في العدة فله ذلك بدون رضاها ولا رضا وليها.

ولا مهر جديد.

وان تركها حتى تقضي العدة، فعليه ان يسرحها باحسان فقد بانت منه.

فان اراد ان يتزوجها بعد انقضاء العدة جاز له ذلك؛ لكن يكون بعقد؛ كما لو تزوجها ابتداء او تزوجها غيره ثم ارتجعها في العدة، او تزوجها بعد العدة واراد ان يطلقها؛ فانه يطلقها كما تقدم.

ثم اذا ارتجعها، او تزوجها مرة ثانية، واراد ان يطلقها، فانه يطلقها كما تقدم، فاذا طلقها الطلقة الثالثة حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، كما حرم الله ذلك ورسوله، وحينيذ فلا تباح له الا بعد ان يتزوجها غيره النكاح المعروف الذي يفعله الناس اذا كان الرجل راغبا في نكاح المراة ثم يفارقها.

فاما ان تزوجها بقصد ان يحلها لغيره فانه محرم عند اكثر العلماء، كما نقل عن الصحابة والتابعين لهم باحسان، وغيرهم، وكما دلت على ذلك النصوص النبوية، والادلة الشرعية.

ومن العلماء من رخص في ذلك، كما قد بين ذلك في غير هذا الموضع.

وان كانت المراة مما لا تحيض لصغرها او كبرها؛ فانه يطلقها متى شاء، سواء كان وطيها او لم يكن يطوها؛ فان هذه عدتها ثلاثة اشهر.

ففي اي وقت طلقها لعدتها؛ فانها لا تعتد بقروء، ولا بحمل؛ لكن من العلماء من يسمي هذا " طلاق سنة " ومنهم من لا يسميه " طلاق سنة " ولا " بدعة ".

وان طلقها في الحيض، او طلقها بعد ان وطيها وقبل ان يتبين حملها: فهذا الطلاق محرم، ويسمى " طلاق البدعة " وهو حرام بالكتاب والسنة والاجماع.

وان كان قد تبين حملها، واراد ان يطلقها: فله ان يطلقها.

وهل يسمى هذا طلاق سنة؟ او لا يسمى طلاق سنة، ولا بدعة؟ فيه نزاع لفظي.

وهذا الطلاق المحرم في الحيض، وبعد الوطء وقبل تبين الحمل هل يقع؟ او لا يقع؟ سواء كانت واحدة او ثلاثا، فيه قولان معروفان للسلف والخلف.

وان طلقها ثلاثا في طهر واحد بكلمة واحدة او كلمات؛ مثل ان يقول: انت طالق ثلاثا.

او انت طالق وطالق وطالق.

او انت طالق، ثم طالق، ثم طالق.

او يقول: انت طالق، ثم يقول: انت طالق، ثم يقول: انت طالق، او يقول: انت طالق ثلاثا، او عشر طلقات، او ماية طلقة.

او الف طلقة ونحو ذلك من العبارات فهذا للعلماء من السلف والخلف فيه ثلاثة اقوال، سواء كانت مدخولا بها او غير مدخول بها، ومن السلف من فرق بين المدخول بها وغير المدخول بها.

وفيه قول رابع محدث مبتدع: احدها: انه طلاق مباح لازم، وهو قول الشافعي، واحمد في الرواية القديمة عنه: اختارها الخرقي.

الثاني: انه طلاق محرم لازم وهو قول مالك، وابي حنيفة، واحمد في الرواية المتاخرة عنه.

اختارها اكثر اصحابه، وهذا القول منقول عن كثير من السلف، من الصحابة، والتابعين.

والذي قبله منقول عن بعضهم.

الثالث: انه محرم، ولا يلزم منه الا طلقة واحدة.

وهذا القول منقول عن طايفة من السلف والخلف من اصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، ويروى عن علي وابن مسعود وابن عباس القولان؛ وهو قول كثير من التابعين ومن بعدهم؛ مثل طاوس وخلاس بن عمرو؛ ومحمد بن اسحاق؛ وهو قول داود واكثر اصحابه.

ويروى ذلك عن ابي جعفر محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر بن محمد، ولهذا ذهب الى ذلك من ذهب من الشيعة، وهو قول بعض اصحاب ابي حنيفة، ومالك، واحمد بن حنبل.

واما القول الرابع: الذي قاله بعض المعتزلة والشيعة: فلا يعرف عن احد من السلف، وهو انه لا يلزمه شيء.

والقول الثالث: هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة: فان كل طلاق شرعه الله في القران في المدخول بها انما هو الطلاق الرجعي؛ لم يشرع الله لاحد ان يطلق الثلاث جميعا، ولم يشرع له ان يطلق المدخول بها طلاقا باينا، ولكن اذا طلقها قبل الدخول بها بانت منه، فاذا انقضت عدتها بانت منه.

فالطلاق ثلاثة انواع باتفاق المسلمين: الطلاق الرجعي: وهو الذي يمكنه ان يرتجعها فيه بغير اختيارها، واذا مات احدهما في العدة ورثه الاخر.

والطلاق الباين: وهو ما يبقى به خاطبا من الخطاب، لا تباح له الا بعقد جديد.

والطلاق المحرم لها: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وهو فيما اذا طلقها ثلاث تطليقات، كما اذن الله ورسوله، وهو: ان يطلقها ثم يرتجعها في العدة، او يتزوجها ثم يطلقها ثم يرتجعها، او يتزوجها ثم يطلقها الطلقة الثالثة.

فهذا الطلاق المحرم لها حتى تنكح زوجا غيره باتفاق العلماء.

وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله في المدخول بها طلاق باين يحسب من الثلاث.

ولهذا كان مذهب فقهاء الحديث كالامام احمد في ظاهر مذهبه، والشافعي في احد قوليه، واسحاق بن راهويه، وابي ثور، وابن المنذر.

وداود وابن خزيمة وغيرهم: ان " الخلع " فسخ للنكاح وفرقة باينة بين الزوجين، لا يحسب من الثلاث.

وهذا هو الثابت عن الصحابة: كابن عباس.

وكذلك ثبت عن عثمان بن عفان وابن عباس وغيرهما: ان المختلعة ليس عليها ان تعتد بثلاثة قروء؛ وانما عليها ان تعتد بحيضة، وهو قول اسحاق بن راهويه؛ وابن المنذر وغيرهما، وهو احدى الروايتين عن احمد.

وروي في ذلك احاديث معروفة في السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يصدق بعضها بعضا، وبين ان ذلك ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: روي عن طايفة من الصحابة انهم جعلوا الخلع طلاقا؛ لكن ضعفه ايمة الحديث، كالامام احمد بن حنبل؛ وابن خزيمة؛ وابن المنذر، والبيهقي، وغيرهم، كما روي في ذلك عنهم.

والخلع: ان تبذل المراة عوضا لزوجها؛ ليفارقها، قال الله تعالى: {والمطلقات يتربصن بانفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن ان يكتمن ما خلق الله في ارحامهن ان كن يومن بالله واليوم الاخر وبعولتهن احق بردهن في ذلك ان ارادوا اصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم}[البقرة: 228] {الطلاق مرتان فامساك بمعروف او تسريح باحسان ولا يحل لكم ان تاخذوا مما اتيتموهن شييا الا ان يخافا الا يقيما حدود الله فان خفتم الا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فاوليك هم الظالمون}[البقرة: 229] {فان طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فان طلقها فلا جناح عليهما ان يتراجعا ان ظنا ان يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون - واذا طلقتم النساء فبلغن اجلهن فامسكوهن بمعروف او سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا ايات الله هزوا واذكروا نعمت الله عليكم وما انزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا ان الله بكل شيء عليم}[البقرة: 230 - 231] فبين سبحانه ان المطلقات بعد الدخول يتربصن اي ينتظرن ثلاث قروء.

" والقرء " عند اكثر الصحابة: كعثمان، وعلي، وابن مسعود، وابي موسى، وغيرهم: الحيض.

فلا تزال في العدة حتى تنقضي الحيضة الثالثة، وهذا مذهب ابي حنيفة، واحمد في اشهر الروايتين عنه.

وذهب ابن عمر وعايشة وغيرهما ان العدة تنقضي بطعنها في الحيضة الثالثة، وهي مذهب مالك، والشافعي.

واما المطلقة قبل الدخول فقد قال الله تعالى: {يا ايها الذين امنوا اذا نكحتم المومنات ثم طلقتموهن من قبل ان تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا}[الاحزاب: 49] .

ثم قال: {وبعولتهن احق بردهن في ذلك}[البقرة: 228] .

اي في ذلك التربص.

ثم قال: {الطلاق مرتان}[البقرة: 229] .

فبين ان الطلاق الذي ذكره هو الطلاق الرجعي الذي يكون فيه احق بردها: هو (مرتان) مرة بعد مرة، كما اذا قيل للرجل: سبح مرتين.

او سبح ثلاث مرات.

او ماية مرة.

فلا بد ان يقول: سبحان الله.

سبحان الله.

حتى يستوفي العدد.

فلو اراد ان يجمل ذلك فيقول: سبحان الله مرتين، او ماية مرة.

لم يكن قد سبح الا مرة واحدة والله تعالى لم يقل: الطلاق طلقتان.

بل قال: {مرتان}[البقرة: 229] فاذا قال لامراته: انت طالق اثنتين، او ثلاثا، او عشرا، او الفا.

لم يكن قد طلقها الا مرة واحدة، «وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لام المومنين جويرية: لقد قلت بعدك اربع كلمات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله عدد خلقه.

سبحان الله زنة عرشه.

سبحان الله رضى نفسه.

سبحان الله مداد كلماته» .

اخرجه مسلم في صحيحه.

فمعناه انه سبحانه يستحق التسبيح بعدد ذلك، «كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ربنا ولك الحمد، ملء السموات، وملء الارض، وملء ما بينهما.

وملء ما شيت من شيء بعد» .

ليس المراد انه سبح تسبيحا بقدر ذلك.

فالمقدار تارة يكون وصفا لفعل العبد، وفعله محصور.

وتارة يكون لما يستحقه الرب، فذاك الذي يعظم قدره؛ والا فلو قال المصلي في صلاته: سبحان الله عدد خلقه.

لم يكن قد سبح الا مرة واحدة.

ولما شرع النبي - صلى الله عليه وسلم - ان يسبح دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، ويحمد ثلاثا وثلاثين، ويكبر ثلاثا وثلاثين.

فلو قال: سبحان الله، والحمد لله، والله اكبر، عدد خلقه.

لم يكن قد سبح الا مرة واحدة.

ولا نعرف ان احدا طلق على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - امراته ثلاثا بكلمة واحدة فالزمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالثلاث، ولا روي في ذلك حديث صحيح ولا حسن، ولا نقل اهل الكتب المعتمد عليها في ذلك شييا؛ بل رويت في ذلك احاديث كلها ضعيفة باتفاق علماء الحديث، بل موضوعة؛ بل الذي في صحيح مسلم وغيره من السنن والمسانيد، عن طاوس، عن ابن عباس انه قال: «كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابي بكر، وسنتين من خلافة عمر: طلاق الثلاث واحدة.

فقال عمر: ان الناس قد استعجلوا في امر كانت لهم فيه اناة، فلو امضيناه عليهم، فامضاه عليهم» .

وفي رواية لمسلم وغيره، عن طاوس «ان ابا الصهباء قال لابن عباس: اتعلم انما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابي بكر وثلاثا من امارة عمر؟ فقال ابن عباس: نعم» .

وفي رواية: «ان ابا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك، الم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابي بكر واحدة؟ قال: قد كان ذلك، فلما كان في زمن عمر تتابع الناس في الطلاق فاجازه عليهم» .

وروى الامام احمد في مسنده، حدثنا سعيد بن ابراهيم، حدثنا ابي عن محمد بن اسحاق، حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس، «عن ابن عباس انه قال: طلق ركانة بن عبد يزيد اخو بني المطلب امراته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا؛ قال: فساله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف طلقتها؟ قال: طلقتها ثلاثا.

قال؛ فقال: في مجلس واحد؟ قال: نعم.

قال: فانما تلك واحدة فارجعها ان شيت.

قال: فرجعها» .

فكان ابن عباس يرى ان الطلاق عند كل طهر؛ وقد اخرجه ابو عبد الله المقدسي في كتابه " المختارة " الذي هو اصح من " صحيح الحاكم ".

وهكذا روى ابو داود وغيره من حديث.

وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " في مجلس واحد " مفهومه انه لو لم يكن في مجلس واحد لم يكن الامر كذلك؛ وذلك لانها لو كانت في مجالس لامكن في العادة ان يكون قد ارتجعها؛ فانها عنده، والطلاق بعد الرجعة يقع.

والمفهوم لا عموم له في جانب المسكوت عنه؛ بل قد يكون فيه تفصيل، كقوله: «اذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث» ، او: «لم ينجسه شيء» .

وهو اذا بلغ قلتين فقد يحمل الخبث، وقد لا يحمله.

وقوله: «في الابل السايمة الزكاة» .

وهي اذا لم تكن سايمة قد يكون فيها الزكاة - زكاة التجارة - وقد لا يكون فيها، وكذلك قوله: «من قام ليلة القدر ايمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» ، ومن لم يقمها فقد يغفر له بسبب اخر، وكقوله: «من صام رمضان ايمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» .

وقوله تعالى: {ان الذين امنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله اوليك يرجون رحمت الله}[البقرة: 218] .

ومن لم يكن كذلك فقد يعمل عملا اخر يرجو به رحمة الله مع الايمان، وقد لا يكون كذلك.

فلو كان في مجالس فقد يكون له فيها رجعة، وقد لا يكون؛ بخلاف المجلس الواحد الذي جرت عادة صاحبه بانه لا يراجعها فيه؛ فان له فيه الرجعة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: «ارجعها ان شيت» ، ولم يقل كما قال في حديث ابن عمر: «مره فليراجعها» .

فامره بالرجعة، والرجعة يستقل بها الزوج: بخلاف المراجعة.

وقد روى ابو داود وغيره «ان ركانة طلق امراته البتة فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: الله ما اردت الا واحدة؟ فقال: ما اردت بها الا واحدة.

فردها اليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» .

وابو داود لما لم يرو في سننه الحديث الذي اخرجه احمد في مسنده فقال: حديث " البتة " اصح من حديث ابن جريج: «ان ركانة طلق امراته ثلاثا» ، لان اهل بيته اعلم؛ لكن الايمة الاكابر العارفون بعلل الحديث والفقه فيه: كالامام احمد بن حنبل، والبخاري، وغيرهما وابي عبيد، وابي محمد بن حزم، وغيره: ضعفوا حديث البتة، وبينوا ان رواته قوم مجاهيل، لم تعرف عدالتهم وضبطهم، واحمد اثبت حديث الثلاث، وبين انه الصواب مثل قوله: حديث ركانة لا يثبت انه طلق امراته البتة.

وقال ايضا: حديث ركانة في " البتة " ليس بشيء، لان ابن اسحاق يرويه عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: «ان ركانة طلق امراته ثلاثا» .

واهل المدينة يسمون من طلق ثلاثا طلق البتة.

واحمد انما عدل عن حديث ابن عباس؛ لانه كان يرى ان الثلاث جايزة، موافقة للشافعي.

فامكن ان يقال: حديث ركانة منسوخ.

ثم لما رجع عن ذلك، وتبين انه ليس في القران والسنة طلاق مباح الا الرجعي عدل: عن حديث ابن عباس، لانه افتى بخلافه، وهذا علة عنده في احدى الروايتين عنه؛ لكن الرواية الاخرى التي عليها اصحابه انه ليس بعلة، فيلزم ان يكون مذهبه العمل بحديث ابن عباس.

وقد تبين في غير هذا الموضع اعذار الايمة المجتهدين - رضي الله عنهم - الذين الزموا من اوقع جملة الثلاث بها مثل عمر - رضي الله عنه -؛ فانه لما راى الناس قد اكثروا مما حرمه الله عليهم من جمع الثلاث، ولا ينتهون عن ذلك الا بعقوبة: راى عقوبتهم بالزامها: ليلا يفعلوها، اما من نوع التعزير العارض الذي يفعل عند الحاجة، كما كان يضرب في الخمر ثمانين، ويحلق الراس.

وينفي، وكما «منع النبي - صلى الله عليه وسلم - الثلاثة الذين تخلفوا عن الاجتماع بنسايهم» ، واما ظنا ان جعلها واحدة كان مشروطا بشرط وقد زال، كما ذهب الى مثل ذلك في متعة الحج: اما مطلقا، واما متعة الفسخ.

والالزام بالفرقة لمن لم يقم بالواجب: مما يسوغ فيه الاجتهاد؛ لكن تارة يكون حقا للمراة، كما في العنين، والمولى عند جمهور العلماء، والعاجز عن النفقة عند من يقول به.

وتارة يقال: انه حق لله، كما في تفريق الحكمين بين الزوجين عند الاكثرين اذا لم يجعلا وكيلين، وكما في وقوع الطلاق بالمولى عند من يقول بذلك من السلف والخلف اذا لم يف في مدة التربص، كما قال من الفقهاء من اصحاب احمد وغيره: انهما اذا تطاوعا في الاتيان في الدبر فرق بينهما، والاب الصالح اذا امر ابنه بالطلاق لما راه من مصلحة الولد فعليه ان يطيعه.

كما قال احمد وغيره، كما «امر النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عمر ان يطيع اباه لما امره ابوه بطلاق امراته» .

فالالزام اما من الشارع: واما من الامام بالفرقة اذا لم يقم الزوج بالواجب: هو من موارد الاجتهاد.

فلما كان الناس اذا لم يلزموا بالثلاث يفعلون المحرم راى عمر الزامهم بذلك، لانهم لم يلزموا طاعة الله ورسوله مع بقاء النكاح؛ ولكن كثير من الصحابة والتابعين نازعوا من قال ذلك: اما لانهم لم يروا التعزير بمثل ذلك.

اما لان الشارع لم يعاقب بمثل ذلك.

وهذا فيمن يستحق العقوبة، واما من لا يستحقها بجهل او تاويل فلا وجه لالزامه بالثلاث.

وهذا شرع شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما شرع نظايره لم يخصه؛ ولهذا قال من قال من السلف والخلف: ان ما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - في فسخ الحج الى العمرة - التمتع كما امر به اصحابه في حجة الوداع - هو شرع مطلق، كما اخبر به لما «سيل اعمرتنا هذه لعامنا هذا؟ ام للابد؟ فقال: لا؛ بل لابد الابد، دخلت العمرة في الحج الى يوم القيامة» .

وان قول من قال: انما شرع للشيوخ لمعنى يختص بهم مثل بيان جواز العمرة في اشهر الحج: قول فاسد؛ لوجوه مبسوطة في غير هذا الموضع.

وقد قال تعالى: {يا ايها الذين امنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم فان تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول ان كنتم تومنون بالله واليوم الاخر ذلك خير واحسن تاويلا}[النساء: 59] ، فامر المومنين عند تنازعهم برد ما تنازعوا فيه الى الله والرسول.

فما تنازع فيه السلف والخلف وجب رده الى الكتاب والسنة.

وليس في الكتاب والسنة ما يوجب الالزام بالثلاث بمن اوقعها جملة بكلمة او كلمات بدون رجعة او عقدة؛ بل انما في الكتاب والسنة الالزام بذلك من طلق الطلاق الذي اباحه الله ورسوله؛ وعلى هذا يدل القياس والاعتبار بساير اصول الشرع؛ فان كل عقد يباح تارة ويحرم تارة - كالبيع والنكاح - اذا فعل على الوجه المحرم لم يكن لازما نافذا كما يلزم الحلال الذي اباحه الله ورسوله.

ولهذا اتفق المسلمون على ان ما حرمه الله من نكاح المحارم ومن النكاح في العدة ونحو ذلك يقع باطلا غير لازم، وكذلك ما حرمه الله من بيع المحرمات: كالخمر، والخنزير؛ والميتة.

وهذا بخلاف ما كان محرم الجنس كالظهار، والقذف، والكذب، وشهادة الزور، ونحو ذلك، فان هذا يستحق من فعله العقوبة بما شرعه الله من الاحكام؛ فانه لا يكون تارة حلالا وتارة حراما حتى يكون تارة صحيحا وتارة فاسدا.

وما كان محرما من احد الجانبين مباحا من الجانب الاخر - كافتداء الاسير، واشتراء المجحود عتقه، ورشوة الظالم لدفع ظلمة او لبذل الحق الواجب، وكاشتراء الانسان المصراة وما دلس عيبه، واعطاء المولفة قلوبهم ليفعل الواجب او ليترك المحرم، وكبيع الجالب لمن تلقى منه ونحو ذلك، فان - المظلوم يباح له فعله، وله ان يفسخ العقد، وله ان يمضيه؛ بخلاف الظالم فان ما فعله ليس بلازم.

والطلاق هو مما اباحه الله تارة، وحرمه اخرى.

فاذا فعل على الوجه الذي حرمه الله ورسوله لم يكن لازما نافذا كما يلزم ما احله الله ورسوله، كما في الصحيحين، عن عايشة - رضي الله عنها -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه قال: «من عمل عملا ليس عليه امرنا فهو رد» وقد قال تعالى: {الطلاق مرتان فامساك بمعروف او تسريح باحسان}[البقرة: 229] فبين ان الطلاق الذي شرعه الله للمدخول بها - وهو الطلاق الرجعي - (مرتان) وبعد المرتين: اما (امساك بمعروف) بان يراجعها فتبقى زوجته، وتبقى معه على طلقة واحدة.

واما (تسريح باحسان) بان يرسلها اذا انقضت العدة، كما قال تعالى: {يا ايها الذين امنوا اذا نكحتم المومنات ثم طلقتموهن من قبل ان تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا}[الاحزاب: 49] .

ثم قال بعد ذلك: {ولا يحل لكم ان تاخذوا مما اتيتموهن شييا الا ان يخافا الا يقيما حدود الله فان خفتم الا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به}[البقرة: 229] .

وهذا هو الخلع سماه " افتداء " لان المراة تفتدي نفسها من اسر زوجها، كما يفتدي الاسير والعبد نفسه من سيده بما يبذله.

قال تعالى: {فان طلقها}[البقرة: 230] يعني الطلقة الثالثة {فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره}[البقرة: 230] .

{فان طلقها}[البقرة: 230] يعني هذا الزوج الثاني {فلا جناح عليهما}[البقرة: 230] يعني عليها وعلى الزوج الاول {ان يتراجعا ان ظنا ان يقيما حدود الله}[البقرة: 230] وكذلك قال الله تعالى: {يا ايها النبي اذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن واحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن الا ان ياتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك امرا - فاذا بلغن اجلهن فامسكوهن بمعروف او فارقوهن بمعروف واشهدوا ذوي عدل منكم واقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يومن بالله واليوم الاخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا}[الطلاق: 1 - 2] {ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه ان الله بالغ امره قد جعل الله لكل شيء قدرا}[الطلاق: 3] .

وفي الصحيح والسنن والمسانيد «عن عبد الله بن عمر: انه طلق امراته وهي حايض.

فذكر عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فتغيض عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -.

وقال: مره فليراجعها حتى تحيض ثم تطهر، ثم ان شاء بعد امسكها.

وان شاء طلقها قبل ان يجامعها.

فتلك العدة التي امر الله ان يطلق لها النساء» ، () وفي رواية في الصحيح: «انه امره ان يطلقها طاهرا او حاملا» وفي رواية في الصحيح " قرا النبي - صلى الله عليه وسلم -: {اذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن}[الطلاق: 1] .

وعن ابن عباس وغيره من الصحابة: " الطلاق على اربعة اوجه: وجهان حلال.

ووجهان حرام.

فاما اللذان هما حلال: فان يطلق امراته طاهرا في غير جماع.

او يطلقها حاملا قد استبان حملها.

واما اللذان هما حرام: فان يطلقها حايضا.

او يطلقها بعد الجماع لا يدري اشتمل الرحم على ولد ام لا.

ورواه الدارقطني وغيره.

وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - انه لا يحل له ان يطلقها الا اذا طهرت من الحيض قبل ان يجامعها، وهذا هو الطلاق للعدة.

اي: لاستقبال العدة، فان ذلك الطهر او العدة.

فان طلقها قبل العدة يكون قد طلقها قبل الوقت الذي اذن الله فيه، ويكون قد طول عليها التربص.

وطلقها من غير حاجة به الى طلاقها، والطلاق في الاصل مما يبغضه.

وهو ابغض الحلال الى الله.

وانما اباح منه ما يحتاج اليه الناس كما تباح المحرمات للحاجة: فلهذا حرمها بعد الطلقة الثالثة حتى تنكح زوجا غيره عقوبة له، لينتهي الانسان عن اكثار الطلاق.

فاذا طلقها لم تزل في العدة متربصة ثلاثة قروء، وهو مالك لها يرثها وترثه، وليس له فايدة في تعجيل الطلاق قبل وقته؛ كما لا فايدة في مسابقة الامام، ولهذا لا يعتد له بما فعله قبل الامام؛ بل تبطل صلاته اذا تعمد ذلك في احد قولي العلماء.

وهو لا يزال معه في الصلاة حتى يسلم.

ولهذا جوز اكثر العلماء الخلع في الحيض؛ لانه على قول فقهاء الحديث ليس بطلاق؛ بل فرقة باينة، وهو في احد قوليهم تستبرا بحيضة لا عدة عليها، وهذه احدى الروايتين عند احمد؛ ولانها تملك نفسها بالاختلاع فلهما فايدة في تعجيل الابانة لرفع الشر الذي بينهما؛ بخلاف الطلاق الرجعي فانه لا فايدة في تعجيله قبل وقته؛ بل ذلك شر بلا خير.

وقد قيل: انه طلاق في وقت لا يرغب فيها، وقد لا يكون محتاجا اليه، بخلاف الطلاق وقت الرغبة فانه لا يكون الا عن حاجة.

«وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عمر: مره فليراجعها» مما تنازع العلماء فيه في مراد النبي - صلى الله عليه وسلم -: ففهم منه طايفة من العلماء، ان الطلاق قد لزمه، فامره ان يرتجعها؛ ثم يطلقها في الطهر ان شاء.

وتنازع هولاء: هل الارتجاع واجب او مستحب؟ وهل له ان يرتجعها في الطهر الاول او الثاني؟ وفي حكمة هذا النهي؛ اقوال: ذكرناها وذكرنا ماخذها في غير هذا الموضع.

وفهم طايفة اخرى: ان الطلاق لم يقع، ولكنه لما فارقها ببدنه كما جرت العادة من الرجل اذا طلق امراته اعتزلها ببدنه واعتزلته ببدنها؛ «فقال لعمر: مره فليراجعها» ، ولم يقل: فليرتجعها.

" والمراجعة " مفاعلة من الجانبين: اي ترجع اليه ببدنها فيجتمعان كما كانا؛ لان الطلاق لم يلزمه، فاذا جاء الوقت الذي اباح الله فيه الطلاق طلقها حينيذ ان شاء.

قال هولاء: ولو كان الطلاق قد لزم لم يكن في الامر بالرجعة ليطلقها طلقة ثانية فايدة؛ بل فيه مضرة عليهما؛ فان له ان يطلقها بعد الرجعة بالنص والاجماع، وحينيذ يكون في الطلاق مع الاول تكثير الطلاق؛ وتطويل العدة، وتعذيب الزوجين جميعا؛ فان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوجب عليه ان يطاها قبل الطلاق؛ بل اذا وطيها لم يحل له ان يطلقها حتى يتبين حملها؛ او تطهر الطهر الثاني.

وقد يكون زاهدا فيها يكره ان يطاها فتعلق منه؛ فكيف يجب عليه وطوها؟ ، ولهذا لم يوجب الوطء احد من الايمة الاربعة وامثالهم من ايمة المسلمين؛ ولكن اخر الطلاق الى الطهر الثاني.

ولولا انه طلقها اولا لكان له ان يطلقها في الطهر الاول؛ لانه لو ابيح له الطلاق في الطهر الاول لم يكن في امساكها فايدة مقصودة بالنكاح اذا كان لا يمسكها الا لاجل الطلاق؛ فانه لو اراد ان يطلقها في الطهر الاول لم يحصل الا زيادة ضرر عليهما، والشارع لا يامر بذلك، فاذا كان ممتنعا من طلاقها في الطهر الاول ليكون متمكنا من الوطء الذي لا يعقبه طلاق: فان لم يطاها، او وطيها او حاضت بعد ذلك: فله ان يطلقها؛ ولانه اذا امتنع من وطيها في ذلك الطهر ثم طلقها في الطهر الثاني: دل على انه محتاج الى طلاقها؛ لانه لا رغبة له فيها اذ لو كانت له فيها رغبة لجامعها في الطهر الاول.

قالوا: لانه لم يامر ابن عمر بالاشهاد على الرجعة كما امر الله ورسوله، ولو كان الطلاق قد وقع وهو يرتجعها لامر بالاشهاد؛ ولان الله تعالى لما ذكر الطلاق في غير اية لم يامر احدا بالرجعة عقيب الطلاق؛ بل قال: {فاذا بلغن اجلهن فامسكوهن بمعروف}[الطلاق: 2] ، فخير الزوج اذا قارب انقضاء العدة بين ان يمسكها بمعروف - وهو الرجعة - وبين ان يسيبها فيخلي سبيلها اذا انقضت العدة؛ ولا يحبسها بعد انقضاء العدة كما كانت محبوسة عليه في العدة، قال الله تعالى: {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن الا ان ياتين بفاحشة مبينة}[الطلاق: 1] .

وايضا فلو كان الطلاق المحرم قد لزم لكان حصل الفساد الذي كرهه الله ورسوله.

وذلك الفساد لا يرتفع برجعة يباح له الطلاق بعدها، والامر برجعة لا فايدة فيها مما تنزه عنه الله ورسوله؛ فانه ان كان راغبا في المراة فله ان يرتجعها، وان كان راغبا عنها فليس له ان يرتجعها، فليس في امره برجعتها مع لزوم الطلاق له مصلحة شرعية؛ بل زيادة مفسدة: ويجب تنزيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الامر بما يستلزم زيادة الفساد، والله ورسوله انما نهى عن الطلاق البدعي لمنع الفساد، فكيف يامر بما يستلزم زيادة الفساد؟ ، وقول الطايفة الثانية اشبه بالاصول والنصوص، فان هذا القول متناقض؛ اذ الاصل الذي عليه السلف والفقهاء: ان العبادات والعقود المحرمة اذا فعلت على الوجه المحرم لم تكن لازمة صحيحة، وهذا وان كان نازع فيه طايفة من اهل الكلام فالصواب مع السلف وايمة الفقهاء؛ لان الصحابة والتابعين لهم باحسان كانوا يستدلون على فساد العبادات والعقوبة بتحريم الشارع لها، وهذا متواتر عنهم.

وايضا فان لم يكن ذلك دليلا على فسادها لم يكن عن الشارع ما يبين الصحيح من الفاسد، فان الذين قالوا: النهي لا يقتضي الفساد.

قالوا: نعلم صحة العبادات والعقود وفسادها بجعل الشارع هذا شرطا او مانعا ونحو ذلك.

وقوله هذا صحيح، وليس بصحيح، من خطاب الوضع والاخبار.

ومعلوم انه ليس في كلام الله ورسوله.

وهذه العبارات مثل قوله: الطهارة شرط في الصلاة والكفر مانع من صحة الصلاة، وهذا العقد، وهذه العبادة لا تصح ونحو ذلك؛ بل انما في كلامه الامر والنهي، والتحليل والتحريم، وفي نفي القبول والصلاح، كقوله: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول» ، وقوله: " هذا لا يصلح ".

وفي كلامه: " ان الله يكره كذا " وفي كلامه: الوعد، ونحو ذلك من العبارات فلم نستفد الصحة والفساد الا بما ذكره، وهو لا يلزم ان يكون الشارع بين ذلك، وهذا مما يعلم فساده قطعا.

وايضا فالشارع يحرم الشيء لما فيه من المفسدة الخالصة، او الراجحة.

ومقصوده بالتحريم المنع من ذلك الفساد، وجعله معدوما.

فلو كان مع التحريم يترتب عليه من الاحكام ما يترتب على الحلال فيجعله لازما نافذا كالحلال لكان ذلك الزاما منه بالفساد الذي قصد عدمه.

فيلزم ان يكون ذلك الفساد قد اراد عدمه مع انه الزم الناس به، وهذا تناقض ينزه عنه الشارع - صلى الله عليه وسلم -.

وقد قال بعض هولاء: انه انما حرم الطلاق الثلاث ليلا يندم المطلق؛ دل على لزوم الندم له اذا فعله.

وهذا يقتضي صحته.

فيقال له: هذا يتضمن ان كلما نهى الله عنه يكون صحيحا، كالجمع بين المراة وعمتها؛ ليلا يفضي الى قطيعة الرحم.

فيقال: ان كان ما قاله هذا صحيحا هنا دليل على صحة العقد؛ اذ لو كان فاسدا لم تحصل القطيعة، وهذا جهل؛ وذلك ان الشارع بين حكمته في منعه مما نهى عنه، وانه لو اباحه للزم الفساد، فقوله تعالى: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك امرا}[الطلاق: 1] .

وقوله - عليه السلام -: «لا تنكح المراة على عمتها ولا خالتها؛ فانكم اذا فعلتم ذلك قطعتم ارحامكم» ، ونحو ذلك: يبين ان الفعل لو ابيح لحصل به الفساد، فحرم منعا من هذا الفساد.

ثم الفساد ينشا من اباحته ومن فعله.

واذا اعتقد الفاعل انه مباح، او انه صحيح فاما مع اعتقاد انه محرم باطل والتزام امر الله ورسوله فلا تحصل المفسدة وانما تحصل المفسدة من مخالفة امر الله ورسوله، والمفاسد فيها فتنة وعذاب، قال الله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن امره ان تصيبهم فتنة او يصيبهم عذاب اليم}[النور: 63] .

وقول القايل: لو كان الطلاق غير لازم لم يحصل الفساد.

فيقال: هذا هو مقصود الشارع - صلى الله عليه وسلم - فنهى عنه، وحكم ببطلانه، ليزول الفساد، ولولا ذلك لفعله الناس واعتقدوا صحته فيلزم الفساد.

وهذا نظير قول من يقول: النهي عن الشيء يدل على انه مقصود، وانه شرعي، وانه يسمى بيعا، ونكاحا، وصوما.

كما يقولون في نهيه عن نكاح الشغار، ولعنه المحلل والمحلل له، ونهيه عن بيع الثمار قبل ان يبدو صلاحها، ونهيه عن صوم يوم العيدين، ونحو ذلك.

فيقال: اما تصوره حسا فلا ريب فيه.

وهذا كنهيه عن نكاح الامهات والبنات، وعن بيع الخمر والميتة ولحم الخنزير والاصنام، كما في الصحيحين عن جابر «ان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ان الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والاصنام.

فقيل: يا رسول الله، ارايت شحوم الميتة، فانه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس.

فقال: لا هو حرام ثم قال: قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها واكلوا اثمانها» فتسميته لهذا نكاحا وبيعا لم يمنع ان يكون فاسدا باطلا؛ بل دل على امكانه حسا.

وقول القايل: انه شرعي: ان اراد انه يسمى بما اسماه به الشارع؛ فهذا صحيح.

وان اراد ان الله اذن فيه: فهذا خلاف النص، والاجماع.

وان اراد انه رتب عليه حكمه، وجعله يحصل المقصود، ويلزم الناس حكمه؛ كما في المباح فهذا باطل بالاجماع في اكثر الصور التي هي من موارد النزاع، ولا يمكنه ان يدعي ذلك في صورة مجمع عليها؛ فان اكثر ما يحتج به هولاء بنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الطلاق في الحيض ونحو ذلك مما هو من موارد النزاع؛ فليس معهم صورة قد ثبت فيها مقصودهم؛ لا بنص، ولا اجماع.

وكذلك " المحلل " الملعون، لعنه لانه قصد التحليل للاول بعقده؛ لا لانه احلها في نفس الامر فانه لو تزوجها بنكاح رغبة لكان قد احلها بالاجماع؛ وهذا غير ملعون بالاجماع فعلم ان اللعنة لمن قصد التحليل.

وعلم ان الملعون لم يحللها في نفس الامر ودلت اللعنة على تحريم فعله، والمنازع يقول فعله مباح.

فتبين انه لا حجة معهم: بل الصواب مع السلف وايمة الفقهاء، ومن خرج عن هذا الاصل من العلماء المشهورين في بعض المواضع فان لم يكن له جواب صحيح والا فقد تناقض، كما تناقض في مواضع غير هذه.

والاصول التي لا تناقض فيها ما اثبت بنص او اجماع.

وما سوى ذلك فالتناقض موجود فيه، وليس هو حجة على احد.

والقياس الصحيح الذي لا يتناقض هو موافق للنص والاجماع؛ بل ولا بد ان يكون النص قد دل على الحكم؛ كما قد بسط في موضع اخر.

وهذا معنى العصمة؛ فان كلام المعصوم لا يتناقض، ولا نزاع بين المسلمين ان الرسول - صلى الله عليه وسلم - معصوم فيما بلغه عن الله تعالى، فهو معصوم فيما شرعه للامة باجماع المسلمين.

وكذلك الامة ايضا معصومة ان تجتمع على ضلالة؛ بخلاف ما سوى ذلك، ولهذا كان مذهب ايمة الدين ان كل احد من الناس يوخذ من قوله ويترك الا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانه الذي فرض الله على جميع الخلايق الايمان به وطاعته، وتحليل ما حلله وتحريم ما حرمه، وهو الذي فرق الله به بين المومن والكافر، واهل الجنة واهل النار، والهدى والضلال، والغي والرشاد، فالمومنون اهل الجنة واهل الهدى والرشاد؛ هم متبعون.

والكفار اهل النار، واهل الغي، والضلال هم الذين لم يتبعوه.

ومن امن به باطنا، وظاهرا، واجتهد في متابعته: فهو من المومنين السعداء وان كان قد اخطا وغلط في بعض ما جاء به، فلم يبلغه او لم يفهمه، قال الله تعالى عن المومنين: {ربنا لا تواخذنا ان نسينا او اخطانا}[البقرة: 286] .

وقد ثبت في الصحيح، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " قد فعلت ".

وفي السنن عنه - صلى الله عليه وسلم - انه قال: «العلماء ورثة الانبياء، ان الانبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وانما ورثوا العلم؛ فمن اخذ به اخذ بحظ وافر» .

وقد قال تعالى: {وداود وسليمان اذ يحكمان في الحرث اذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين}[الانبياء: 78] {ففهمناها سليمان وكلا اتينا حكما وعلما}[الانبياء: 79] .

فقد خص احد النبيين الكريمين بالتفهم مع ثنايه على كل منهما بانه اوتي علما وحكما.

فهكذا اذا خص الله احد العالمين بعلم امر وفهمه لم يوجب ذلك ذم من لم يحصل له ذلك من العلماء.

بل كل من اتقى الله ما استطاع فهو من اولياء الله المتقين؛ وان كان قد خفي عليه من الدين ما فهمه غيره.

وقد قال واثلة بن الاسقع - وبعضهم يرفعه الى النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من طلب علما فادركه فله اجران، ومن طلب علما فلم يدركه فله اجر» .

وهذا يوافق ما في الصحيح عن عمرو بن العاص، وعن ابي هريرة: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اذا اجتهد الحاكم فاصاب فله اجران، واذا اجتهد الحاكم فاخطا فله اجر» () .

وهذه الاصول لبسطها موضع اخر.

وانما المقصود هنا التنبيه على هذا؛ لان الطلاق المحرم مما يقول فيه كثير من الناس: انه لازم.

والسلف ايمة الفقهاء والجمهور يسلمون: ان النهي يقتضي الفساد.

ولا يذكرون في الاعتذار عن هذه الصورة فرقا صحيحا.

وهذا مما تسلط به عليهم من نازعوهم في ان النهي يقتضي الفساد.

واحتج بما سلموه له من الصور؛ وهذه حجة جدلية لا تفيد العلم بصحة قوله؛ وانما تفيد ان منازعيه اخطيوا: اما في صورة النقض واما في محل النزاع.

وخطوهم في احداهما لا يوجب ان يكون الخطا في محل النزاع؛ بل هذا الاصل اصل عظيم عليه مدار كثير من الاحكام الشرعية، فلا يمكن نقضه بقول بعض العلماء الذين ليس معهم نص ولا اجماع؛ بل الاصول والنصوص لا توافق؛ بل تناقض قولهم.

ومن تدبر الكتاب والسنة تبين له ان الله لم يشرع الطلاق المحرم جملة قط.

واما الطلاق الباين فانه شرعه قبل الدخول، وبعد انقضاء العدة.

وطايفة من العلماء يقول لمن لم يجعل الثلاث المجموعة الا واحدة: انتم خالفتم عمر؛ وقد استقر الامر على التزام ذلك في زمن عمر، وبعضهم يجعل ذلك اجماعا، فيقول لهم: انتم خالفتم عمر في الامر المشهور عنه الذي اتفق عليه الصحابة، بل وفي الامر الذي معه فيه الكتاب والسنة، فان منكم من يجوز التحليل.

وقد ثبت عن عمر انه قال: " لا اوتي بمحلل ولا محلل له الا رجمتهما ".

وقد اتفق الصحابة على النهي عنه، مثل: عثمان، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وغيره؛ ولا يعرف عن احد من الصحابة انه اعاد المراة الى زوجها بنكاح تحليل.

وعمر وساير الصحابة معهم الكتاب والسنة: «كلعن النبي - صلى الله عليه وسلم - المحلل والمحلل له» وقد خالفهم من خالفهم في ذلك اجتهادا، والله يرضى عن جميع علماء المسلمين.

وايضا فقد ثبت، عن عمر، انه كان يقول في الخلية والبرية ونحو ذلك: " انها طلقة رجعية ".

واكثرهم يخالفون عمر في ذلك.

وقد ثبت عن عمر: انه خير المفقود اذا رجع فوجد امراته قد تزوجت غيره بين امراته وبين المهر.

وهذا ايضا معروف عن غيره من الصحابة: كعثمان، وعلي.

وذكره احمد عن ثمانية من الصحابة، وقال: الى اي شيء يذهب الذي يخالف هولاء؟ ، ومع هذا فاكثرهم يخالفون عمر وساير الصحابة في ذلك، ومنهم من ينقض حكم من حكم به.

وعمر والصحابة جعلوا الارض المفتوحة عنوة؛ كارض الشام، ومصر، والعراق، وخراسان، والمغرب، فييا للمسلمين؛ ولم يقسم عمر ولا عثمان ارضا فتحها عنوة، ولم يستطب عمر انفس جميع الغانمين في هذه الارضين؛ وان ظن بعض العلماء انهم استطابوا انفسهم في السواد، بل طلب منهم بلال والزبير وغيرهما قسمة ارض العنوة فلم يجبهم، ومع هذا فطايفة منهم يخالف عمر والصحابة في مثل هذا الامر العظيم الذي استقر الامر عليه من زمنهم؛ بل ينقض حكم من حكم بحكمهم ايضا.

فابو بكر وعمر وعثمان وعلي لم يخمسوا قط مال فيء ولا خمسه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا جعلوا خمس الغنيمة خمسة اقسام متساوية، ومع هذا: فكثير منهم يخالف ذلك.

ونظاير هذا متعددة.

والاصل الذي اتفق عليه علماء المسلمين: انما تنازعوا فيه وجب رده الى الله والرسول، كما قال تعالى: {يا ايها الذين امنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم فان تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول ان كنتم تومنون بالله واليوم الاخر ذلك خير واحسن تاويلا}[النساء: 59] .

ولا يجوز لاحد ان يظن بالصحابة انهم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اجمعوا على خلاف شريعته؛ بل هذا من اقوال اهل الالحاد؛ ولا يجوز دعوى نسخ ما شرعه الرسول باجماع احد بعده، كما يظن طايفة من الغالطين؛ بل كلما اجمع المسلمون عليه فلا يكون الا موافقا لما جاء به الرسول؛ لا مخالفا له؛ بل كل نص منسوخ باجماع الامة فمع الامة النص الناسخ له؛ تحفظ الامة النص الناسخ كما تحفظ النص المنسوخ، وحفظ الناسخ اهم عندها واوجب عليها من حفظ المنسوخ، ويمنع ان يكون عمر والصحابة معه اجمعوا على خلاف نص الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ ولكن قد يجتهد الواحد وينازعه غيره، وهذا موجود في مسايل كثيرة.

هذا منها، كما بسط في موضع غير هذا.

ولهذا لما راى عمر - رضي الله عنه -: ان المبتوتة لها السكنى والنفقة فظن ان القران يدل عليه نازعه اكثر الصحابة، فمنهم من قال: لها السكنى فقط.

ومنهم من قال: لا نفقة لها ولا سكنى.

وكان من هولاء ابن عباس وجابر وفاطمة بنت قيس، وهي التي روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه قال: «ليس لك نفقة ولا سكنى» .

فلما احتجوا عليها بحجة عمر، وهي قوله تعالى: {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن الا ان ياتين بفاحشة مبينة}[الطلاق: 1] .

قالت هي وغيرها من الصحابة - كابن عباس وجابر وغيرهما: هذا في الرجعية لقوله تعالى: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك امرا}[الطلاق: 1] فاي امر يحدث بعد الثلاث؟ ، وفقهاء الحديث كاحمد بن حنبل في ظاهر مذهبه وغيره من فقهاء الحديث مع فاطمة بنت قيس.

وكذلك ايضا في: " الطلاق "، لما قال تعالى: {لعل الله يحدث بعد ذلك امرا}[الطلاق: 1] .

قال غير واحد من الصحابة والتابعين والعلماء: هذا يدل على ان الطلاق الذي ذكره الله هو الطلاق الرجعي؛ فانه لو شرع ايقاع الثلاث عليه لكان المطلق يندم اذا فعل ذلك، ولا سبيل الى رجعتها: فيحصل له ضرر بذلك، والله امر العباد بما ينفعهم، ونهاهم عما يضرهم؛ ولهذا قال تعالى ايضا بعد ذلك: {فاذا بلغن اجلهن فامسكوهن بمعروف او فارقوهن بمعروف}[الطلاق: 2] .

وهذا انما يكون في الطلاق الرجعي؛ لا يكون في الثلاث، ولا في الباين.

وقال تعالى: {واشهدوا ذوي عدل منكم واقيموا الشهادة لله}[الطلاق: 2] .

فامر بالاشهاد على الرجعة؛ والاشهاد عليها مامور به باتفاق الامة، قيل: امر ايجاب.

وقيل: امر استحباب.

وقد ظن بعض الناس: ان الاشهاد هو الطلاق، وظن ان الطلاق الذي لا يشهد عليه لا يقع.

وهذا خلاف الاجماع، وخلاف الكتاب والسنة، ولم يقل احد من العلماء المشهورين به؛ فان الطلاق اذن فيه اولا، ولم يامر فيه بالاشهاد، وانما امر بالاشهاد حين قال: {فاذا بلغن اجلهن فامسكوهن بمعروف او فارقوهن بمعروف}[الطلاق: 2] .

والمراد هنا بالمفارقة: تخلية سبيلها اذا قضت العدة، وهذا ليس بطلاق ولا برجعة ولا نكاح.

والاشهاد في هذا باتفاق المسلمين، فعلم ان الاشهاد انما هو على الرجعة.

ومن حكمة ذلك: انه قد يطلقها ويرتجعها، فيزين له الشيطان كتمان ذلك حتى يطلقها بعد ذلك طلاقا محرما ولا يدري احد، فتكون معه حراما، فامر الله ان يشهد على الرجعة ليظهر انه قد وقعت به طلقة، كما امر النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجد اللقطة ان يشهد عليها؛ ليلا يزين الشيطان كتمان اللقطة؛ وهذا بخلاف الطلاق، فانه اذا طلقها ولم يراجعها بل خلى سبيلها فانه يظهر للناس انها ليست امراته؛ بل هي مطلقة؛ بخلاف ما اذا بقيت زوجة عنده فانه لا يدري الناس اطلقها ام لم يطلقها.

واما النكاح فلا بد من التمييز بينه وبين السفاح واتخاذ الاخدان، كما امر الله تعالى؛ ولهذا مضت السنة باعلانه، فلا يجوز ان يكون كالسفاح مكتوما؛ لكن؛ هل الواجب مجرد الاشهاد؟ او مجرد الاعلان وان لم يكن اشهاد؟ او يكفي ايهما كان؟ هذا فيه نزاع بين العلماء، كما قد ذكر في موضعه.

وقال الله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا}[الطلاق: 2] {ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه ان الله بالغ امره قد جعل الله لكل شيء قدرا}[الطلاق: 3] .

وهذه الاية عامة في كل من يتق الله.

وسياق الاية يدل على ان التقوى مرادة من هذا النص العام، فمن اتقى الله في الطلاق فطلق كما امر الله تعالى جعل الله له مخرجا مما ضاق على غيره، ومن يتعد حدود الله فيفعل ما حرم الله عليه فقد ظلم نفسه، ومن كان جاهلا بتحريم طلاق البدعة، فلم يعلم ان الطلاق في الحيض محرم، او ان جمع الثلاث محرم: فهذا اذا عرف التحريم وتاب صار ممن اتقى الله فاستحق ان يجعل الله له مخرجا.

ومن كان يعلم ان ذلك حرام، وفعل المحرم وهو يعتقد انها تحرم عليه، ولم يكن عنده الا من يفتيه بانها تحرم عليه: فانه يعاقب عقوبة بقدر ظلمه، كمعاقبة اهل السبت بمنع الحيتان ان تاتيهم، فانه ممن لم يتق الله فعوقب بالضيق.

وان هداه الله فعرفه الحق، والهمه التوبة، وتاب: " فالتايب من الذنب كمن لا ذنب له "، وحينيذ فقد دخل فيمن يتقي الله، فيستحق ان يجعل الله له فرجا ومخرجا، فان نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - نبي الرحمة، ونبي الملحمة.

فكل من تاب فله فرج في شرعه؛ بخلاف شرع من قبلنا فان التايب منهم كان يعاقب بعقوبات: كقتل انفسهم، وغير ذلك؛ ولهذا كان ابن عباس اذا سيل عمن طلق امراته ثلاثا يقول له: لو اتقيت الله لجعل لك مخرجا.

وكان تارة يوافق عمر في الالزام بذلك للمكثرين من فعل البدعة المحرمة عليهم؛ مع علمهم بانها محرمة.

وروي عنه انه كان تارة لا يلزم الا واحدة.

وكان ابن مسعود يغضب على اهل هذه البدعة، ويقول: ايها الناس من اتى الامر على وجهه فقد تبين له؛ والا فوالله ما لنا طاقة بكل ما تحدثون.

ولم يكن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ولا ابي بكر؛ ولا عمر؛ ولا عثمان؛ ولا علي " نكاح تحليل " ظاهر تعرفه الشهود والمراة والاولياء.

ولم ينقل احد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا خلفايه الراشدين انهم اعادوا المراة على زوجها بنكاح تحليل، فانهم انما كانوا يطلقون في الغالب طلاق السنة.

ولم يكونوا يحلفون بالطلاق؛ ولهذا لم ينقل عن الصحابة نقل خاص في الحلف؛ وانما نقل عنهم الكلام في ايقاع الطلاق؛ لا في الحلف به.

والفرق ظاهر بين الطلاق وبين الحلف به، كما يعرف الفرق بين النذر وبين الحلف بالنذر، فاذا كان الرجل يطلب من الله حاجة فقال: ان شفى الله مرضي.

او قضى ديني، او خلصني من هذه الشدة؛ فلله علي ان اتصدق بالف درهم.

او اصوم شهرا؛ او اعتق رقبة؛ فهذا تعليق نذر يجب عليه الوفاء به بالكتاب والسنة والاجماع.

واذا علق النذر على وجه اليمين فقال: ان سافرت معكم ان زوجت فلانا.

ان اضرب فلانا.

ان لم اسافر من عندكم؛ فعلي الحج.

او: فمال صدقة.

او: فعلي عتق.

فهذا عند الصحابة وجمهور العلماء هو حالف بالنذر؛ ليس بناذر.

فاذا لم يف بما التزمه اجزاه كفارة يمين، وكذلك افتى الصحابة فيمن قال: ان فعلت كذا فكل مملوك لي حر.

انه يمين

What's Your Reaction?

like
0
dislike
0
love
0
funny
0
angry
0
sad
0
wow
0