مسالة فيم استقر اطلاقه من الملوك المتقدمين
مسالة فيم استقر اطلاقه من الملوك المتقدمين

مسالة:
فيم استقر اطلاقه من الملوك المتقدمين والى الان من وجوه البر والقربات على سبيل المرتب المرتزقين من الفقراء والمساكين على اختلاف احوالهم، فمنهم الفقير الذي لا مال له ومنهم من له عايلة كثيرة يلزمه نفقتهم، وكسبه لا يقوم بكلفتهم، ومنهم المنقطع الى الله تعالى، الذي ليس له سبب يتسبب به لا يحسن صنعة يصنعها، ومنهم العاجز عن الحركة لكبر او ضعف، ومنهم الصغير دون البالغ والنساء الارامل، وذو العاهات، ومنهم المشتغلون بالعلم الشريف وقراءة القران، ومن للمسلمين بهم نفع عام، وله في بيت المال نصيب، ومنهم ارباب الزوايا والربط المتجردون للعبادة وتلقي الواردين من الفقهاء واهل العلم وغيرهم من ابناء السبيل، ومنهم ايتام المستشهدين في سبيل الله تعالى من اولاد الجند وغيرهم ممن لم يخلف له ما يكفيه.وممن يسال احياء الموات فاحياها او استصلح احراسا عالية لتكون له مستمرة بعد اصلاحها فاستخرجها في مدة سنين عديدة، واستقرت عليه على جاري الفوايد في مثل ذلك، فهل تكون هذه الانساب التي اتصفوا بها مسوغة لهم تناول ما قالوه من ذلك، واطلقه لهم ملوك الاسلام وثوابهم على وجه المصلحة، واستقر بايديهم الى الان ام لا؟ وما حكم من ينزلهم بعدم الاستحقاق مع وجود هذه الصفات، وتقرب الى السلطان بالسعي بقطع ارزاقهم المودي الى تعطيل الزوايا، ومعظم الزوايا والربط التي يرتفق بها ابناء السبيل وغيرهم من المجردين ويقوم بها شعار الاسلام، هل يكون بذلك اثما عاصيا، ام لا؟ وهل يجب ان يكلف هولاء اثبات استحقاقهم، مع كون ذلك مستقرا بايديهم من قبل اولي الامر، ولو كلفوا ذلك فهل يتعين عليهم اثباته عند حاكم بعينه غريب من بلادهم متظاهر بمنافرتهم مع وجود عدد من الحكام غيره في بلادهم او لا؟ وما حكم من عجز منهم عن الاثبات لضعفه عن اقامة البينة الشرعية لما غلب عليه الحال من ان شهود هذا الزمان لا يودون شهادة الا باجرة ترضيهم، وقد يعجز الفقير عن مثلها، وكذلك النسوة اللاتي لا يعلم الشهود احوالهن غالبا.
واذا سال الامام حاكما عن استحقاق من ذكر فاجاب بانه لا يستحق من هولاء المذكورين، ومن يجري مجراهم الا الاعمى والمكسح والزمن لا غير، واضرب عما سواهم من غير اطلاع على حقيقة احوالهم، هل يكون بذلك اثما عاصيا ام لا؟ وما الذي يجب عليه في ذلك، واذا ساله الامام عن الزوايا والربط هل يستحق من هو بها ما هو مرتب لهم، فاجاب بان هذه الزوايا والربط دكاكين، ولا شك ان فيهم الصلحاء والعلماء، وحملة الكتاب العزيز، والمنقطعين الى الله تعالى هل يكون موذيا لهم بذلك ام لا؟ وما حكم هذا القول المطلق فيهم مع عدم المعرفة بجميعهم.
والاضطلاع على حقيقة احوالهم بالكلية، اذا تبين سقوطه وبطلانه هل تسقط بذلك روايته وما عداها من اخباره ام لا؟ وهل للمقذفين الدعوى عليه بهذا الطعن، عليهم المودي عند الملوك الى قطع ارزاقهم وان يكلفوه اثبات ذلك واذا عجز عن اثباته، فهل لهم مطالبته بمقاضاة ام لا؟ واذا عجز عن ثبوت ذلك، هل يكون قادحا في عدالته وجرحه ينعزل بهما عن المناصب الدينية ام لا؟ ومن كانت هذه صفته لهذه الطايفة وهم له في غاية الكراهة، هل يجوز ان يوم بهم، وقد جاء «لا يوم الرجل قوما اكثرهم له كارهون» ؟
الجواب::
الحمد لله رب العالمين: هذه المسايل تحتاج الى تقرير اصل جامع في اموال بيت المال، مبني على الكتاب والسنة التي يسنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفاوه الراشدون، كما قال عمر بن عبد العزيز: سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وولاة الامر بعده اشياء، الاخذ بها تصديق لكتاب الله، واستعمال لطاعة الله، وقوة على طاعة الله، ليس لاحد تغييرها ولا النظر في راي من خالفها، ومن اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المومنين ولاه الله ما تولى واصلاه جهنم وساءت مصيرا.وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «اوصيكم بالسمع والطاعة فانه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، واياكم ومحدثات الامور، فان كل بدعة ضلالة» .
والواجب على ولاة الامور وغيرهم من المسلمين العمل من ذلك بما عليه كما قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم}[التغابن: 16] وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اذا امرتكم بامر فاتوا منه ما استطعتم واذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» .
ونحن نذكر ذلك مختصرا فنقول الاموال التي لها اصل في كتاب الله التي يتولى قسمها ولاة الامر ثلاثة: مال المغانم: وهذا لمن شهد الوقعة الا الخمس، فان مصرفه ما ذكره الله في قوله: {واعلموا انما غنمتم من شيء فان لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ان كنتم امنتم بالله}[الانفال: 41] والمغانم ما اخذ من الكفار بالقتال فهذه المغانم وخمسها.
والثاني الفيء: وهو الذي ذكره الله تعالى في سورة الحشر، حيث قال: {وما افاء الله على رسوله منهم فما اوجفتم عليه من خيل ولا ركاب}[الحشر: 6] ومعنى قوله: ما اوجفتم اي: ما حركتم ولا اعملتم ولا سقتم، يقال وجف البعير يجف وجوفا واوجفته اذا سار نوعا من السير فهذا هو الفيء الذي افاءه الله على رسوله، وهو ما صار للمسلمين بغير ايجاف خيل ولا ركاب وذلك عبارة عن القتال، اي ما قاتلتم عليه، فما قاتلوا عليه كان للمقاتلة، وما لم يقاتلوا عليه فهو فيء؛ لان الله افاءه على المسلمين، فانه خلق الخلق لعبادته، واحل لهم الطيبات لياكلوا طيبا ويعملوا صالحا، والكفار عبدوا غيره فصاروا غير مستحقين للمال، فاباح للمومنين ان يعبدوه، وان يسترقوا انفسهم، وان يسترجعوا الاموال منهم، فاذا اعادها الله الى المومنين منهم فقد فاءت؛ اي رجعت الى مستحقها؛ ولهذا الفيء يدخل فيه جزية الرءوس التي توخذ من اهل الذمة ويدخل فيه ما يوخذ منهم من العشور، وانصاف العشور، وما يصالح عليه الكفار من المال: كالذي يحملونه وغير ذلك، ويدخل فيه ما خلوا عنه وتركوه خوفا من المسلمين كاموال بني النضير التي انزل الله فيها سورة الحشر، وقال: {هو الذي اخرج الذين كفروا من اهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر ما ظننتم ان يخرجوا وظنوا انهم مانعتهم حصونهم من الله فاتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بايديهم وايدي المومنين فاعتبروا يا اولي الابصار - ولولا ان كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الاخرة عذاب النار}[الحشر: 2 - 3] .
وهولاء اجلاهم النبي.
وكانوا يسكنون شرقي المدينة فاجلاهم بعد ان حاصرهم، وكانت اموالهم مما افاء الله على رسوله، وذكر مصارف الفيء بقوله: {ما افاء الله على رسوله من اهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم وما اتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله ان الله شديد العقاب}[الحشر: 7] {للفقراء المهاجرين الذين اخرجوا من ديارهم واموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله اوليك هم الصادقون}[الحشر: 8] {والذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر اليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما اوتوا ويوثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فاوليك هم المفلحون}[الحشر: 9] {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين امنوا ربنا انك رءوف رحيم}[الحشر: 10] .
فهولاء المهاجرون والانصار ومن جاء بعدهم الى يوم القيامة، ولهذا قال مالك، وابو عبيد، وابو حكيم النهرواني من اصحاب احمد، وغيرهم: ان من سب الصحابة لم يكن له في الفيء نصيب.
من الفيء ما ضربه عمر رضي الله عنه على الارض التي فتحها عنوة ولم يقسمها: كارض مصر، وارض العراق، الا شييا يسيرا منها، وبر الشام وغير ذلك فهذا الفيء لا خمس فيه عند جماهير الايمة كابي حنيفة، ومالك، واحمد، وانما يرى تخميسه الشافعي، وبعض اصحاب احمد، وذكر ذلك رواية عنه: قال ابن المنذر: لا يحفظ عن احد قبل الشافعي ان في الفيء خمسا كخمس الغنيمة، وهذا الفيء لم يكن ملكا للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته عند اكثر العلماء.
وقال الشافعي: وبعض اصحاب احمد كان ملكا له.
واما مصرفه بعد موته فقد اتفق العلماء على ان يصرف منه ارزاق الجند المقاتلين الذين يقاتلون الكفار، فان تقويتهم تذل الكفار، فيوخذ منهم الفيء، وتنازعوا هل يصرف في ساير مصالح المسلمين ام تختص به المقاتلة، على قولين للشافعي، ووجهين في مذهب الامام احمد، لكن المشهور في مذهبه وهو مذهب ابي حنيفة، ومالك: انه لا يختص به المقاتلة، بل يصرف في المصالح كلها، وعلى القولين: يعطى من فيه منفعة عامة لاهل الفيء.
فان الشافعي قال: ينبغي للامام ان يخص من في البلدان من المقاتلة.
وهو من بلغ ويحصي الذرية وهي من دون ذلك، والنساء الى ان قال: ثم يعطي المقاتلة في كل عام عطاءهم، ويعطي الذرية والنساء ما يكفيهم لسنتهم، قال: والعطاء من الفيء لا يكون الا لبالغ يطيق القتال، قال: ولم يختلف احد ممن لقيه في انه ليس للمماليك في العطاء حق، ولا للاعراب الذين هم اهل الصدقة.
قال: فان فضل من الفيء شيء وضعه الامام في اهل الحصون والازدياد في الكراع والسلاح، وكل ما يقوى به المسلمون، فان استغنوا عنه وحصلت كل مصلحة لهم، فرق ما يبقى عنهم بينهم على قدر ما يستحقون من ذلك المال.
قال: ويعطى من الفيء رزق العمال والولاة وكل من قام بامر الفيء من وال، وحاكم، وكاتب، وجندي ممن لا غنى لاهل الفيء عنه.
وهذا مشكل مع قوله انه لا يعطى من الفيء صبي، ولا مجنون، ولا عبد، ولا امراة، ولا ضعيف لا يقدر على القتال؛ لانه للمجاهدين.
وهذا اذا كان للمصالح فينصرف منه الى كل من للمسلمين به منفعة عامة: كالمجاهدين، وكولاة امورهم من ولاة الحرب، وولاة الديوان، وولاة الحكم، ومن يقريهم القران، ويفتيهم، ويحدثهم، ويومهم في صلاتهم، ويوذن لهم.
ويصرف منه في سداد ثغورهم، وعمارة طرقاتهم، وحصونهم، ويصرف منه الى ذوي الحاجات منهم ايضا، ويبدا فيه بالاهم فالاهم، فيتقدم ذوو المنافع الذين يحتاج المسلمون اليهم على ذوي الحاجات الذين لا منفعة فيهم، هكذا نص عليه عامة الفقهاء من اصحاب احمد، والشافعي، وابي حنيفة، وغيرهم.
قال اصحاب ابي حنيفة يصرف في المصالح ما يعد بها الثغور من القناطر والجسور، ويعطى قضاة المسلمين ما يكفيهم، ويدفع منه ارزاق المقاتلة، وذو الحاجات يعطون من الزكوات ونحوها، وما فضل عن منافع المسلمين قسم بينهم، لكن مذهب الشافعي وبعض اصحاب احمد انه ليس للاغنياء الذين لا منفعة للمسلمين بهم فيه حق، اذا فضل المال واتسع عن حاجات المسلمين كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، لما كثر المال اعطى منهم عامة المسلمين.
فكان لجميع اصناف المسلمين فرض في ديوان عمر بن الخطاب، غنيهم وفقيرهم، لكن كان اهل الديوان نوعين: مقاتلة وهم البالغون، وذرية وهم الصغار والنساء الذين ليسوا من اهل القتال، ومع هذا قالوا يجب تقديم الفقراء على الاغنياء.
الذين لا منفعة فيهم، فلا يعطى غني شييا حتى يفضل عن الفقراء، هذا مذهب الجمهور: كمالك، واحمد في الصحيح من الروايتين عنه، ومذهب الشافعي كما تقدم تخصيص الفقراء بالفاضل.
واما المال الثالث: فهو الصدقات التي هي زكاة اموال المسلمين زكاة الحرث، وهي العشور وانصاف العشور الماخوذة من الحبوب والثمار، وزكاة الماشية وهي الابل، والبقر، والغنم، وزكاة التجارة، وزكاة النقدين، فهذا المال مصرفه ما ذكره الله تعالى في قوله: {انما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمولفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم}[التوبة: 60] .
وفي السنن: ان النبي - صلى الله عليه وسلم - «ساله رجل ان يعطيه شييا من الصدقات فقال: ان الله لم يرض في الصدقات بقسمة نبي ولا غيره، ولكن جزاها ثمانية اجزاء، فان كنت من تلك الاجزاء اعطيتك» وقد اتفق المسلمون على انه: لا يجوز ان يخرج بالصدقات عن الاصناف الثمانية المذكورين في هذه الاية، كما دل على ذلك القران اذا تبين هذا الاصل فنذكر اصلا اخر ونقول: اموال بيت المال فيء بل هذه الازمنة هي اصناف: صنف منها هو من الفيء او الصدقات او الخمس.
فهذا قد عرف حكمه، وصنف صار الى بيت المال بحق من غير هذه، مثل: من مات من المسلمين ولا وارث له.
ومن ذلك ما فيه نزاع،، ومنه ما هو متفق عليه، وصنف قبض بغير حق او بتاويل يجب رده الى مستحقه اذا امكن وقد تعذر ذلك، مثل: ما يوخذ من مصادرات العمال وغيرهم الذين اخذوا من الهدايا واموال المسلمين ما لا يستحقونه فاسترجعه ولي الامر منهم، او من تركاتهم ولم يعرف مستحقه، ومثل ما قبض من الوظايف المحدثة وتعذر رده الى اصحابه.
وامثال ذلك فهذه الاموال التي تعذر ردها الى اهلها لعدم العلم بهم مثلا هي مما يصرف في مصالح المسلمين عند اكثر العلماء، وكذلك من كان عنده مال لا يعرف صاحبه كالغاصب التايب، والخاين التايب، والمرايي التايب ونحوهم.
ممن صار بيده مال لا يملكه ولا يعرف صاحبه، فانه يصرفه الى ذوي الحاجات ومصالح المسلمين.
اذا تبين هذان الاصلان فنقول: من كان من ذوي الحاجات كالفقراء والمساكين، والغارمين، وابن السبيل، فهولاء يجوز، بل يجب ان يعطوا من الزكوات ومن الاموال المجهولة باتفاق المسلمين.
وكذلك يعطوا من الفيء مما فضل عن المصالح العامة التي لا بد منها عند اكثر العلماء كما تقدم، سواء كانوا مشتغلين بالعلم الواجب على الكفاية او لم يكونوا، وسواء كانوا في زوايا او ربط او لم يكونوا.
لكن من كان مميزا بعلم او دين كان مقدما على غيره واحق هذا الصنف من ذكرهم الله بقوله: {للفقراء الذين احصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الارض يحسبهم الجاهل اغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسالون الناس الحافا}[البقرة: 273] فمن كان ما هو مشغول به من العلم والدين الذي احصر به في سبيل الله، قد منعه الكسب هو اولى من غيره.
ويعطي قضاة المسلمين علماءهم منه ما يكفيهم، ويدفع منه ارزاق المقاتلة وذراريهم، لا سيما من بني هاشم الطالبين والعباسيين وغيرهم، فان هولاء يتعين اعطاوهم من الخمس والفيء والمصالح لكون الزكاة محرمة عليهم.
والفقير الشرعي المذكور في الكتاب والسنة الذي يستحق من الزكاة والمصالح ونحوهما، ليس هو الفقير الاصطلاحي الذي يتقيد بلبسة معينة، وطريقة معينة، بل كل من ليس له كفاية تكفيه وتكفي عياله فهو من الفقراء والمساكين.
وقد تنازع العلماء هل الفقير اشد حاجة او المسكين، او الفقير من يتعفف والمسكين من يسال، على ثلاثة اقوال لهم: واتفقوا على ان من لا مال له وهو عاجز عن الكسب فانه يعطى ما يكفيه سواء كان لبسه لبس الفقير الاصطلاحي، او لباس الجند والمقاتلة او لبس الشهود، او لبس التجار او الصناع او الفلاحين، فالصدقة لا يختص بها صنف من هذه الاصناف، بل كل من ليس له كفاية تامة من هولاء: مثل الصانع الذي لا تقوم صنعته بكفايته، والتاجر الذي لا تقوم تجارته بكفايته، والجندي الذي لا تقوم اقطاعه بكفايته، والفقير والصوفي الذي لا يقوم معلومه من الوقف بكفايته، والشاهد والفقيه الذي لا يقوم ما يحصل له بكفايته، وكذلك من كان في رباط او زاوية وهو عاجز عن كفايته، فكل هولاء مستحقون.
ومن كان من هولاء كلهم مومنا تقيا كان لله وليا، فان اولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين امنوا وكانوا يتقون من اي صنف كانوا من اصناف القبلة.
ومن كان من هولاء منافقا او مظهرا لبدعة تخالف الكتاب والسنة من بدع الاعتقادات والعبادات فانه مستحق للعقوبة، ومن عقوبته ان يحرم حتى يتوب.
واما من كان زنديقا: كالحلولية، والمباحية، ومن يفضل متبوعه على النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن يعتقد انه لا يجب عليه في الباطن اتباع شريعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - او انه اذا حصلت له المعرفة والتحقيق سقط عنه الامر والنهي او انه العارف المحقق يجوز له التدين بدين اليهود والنصارى، ولا يجب عليه الاعتصام بالكتاب والسنة، وامثال هولاء.
فان هولاء منافقون زنادقة، واذا ظهر على احدهم فانه يجب قتله باتفاق المسلمين، وهم كثيرون في هذه الازمنة، وعلى ولاة الامور مع اعطاء الفقراء بل والاغنياء بان يلزموا هولاء باتباع الكتاب والسنة، وطاعة الله ورسوله، ولا يمكنوا احدا من الخروج من ذلك ولو ادعى من الدعاوى ما ادعاه، ولو زعم انه يطير في الهواء او يمشي على الماء، ومن كان من الفقراء الذين لم تشغلهم منفعة غاية للمسلمين عن الكسب قادرا عليه، لم يجز ان يعطى من الزكاة عند الشافعي، واحمد، وجوز ذلك ابو حنيفة.
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحل الصدقة لغني ولا لقوي مكتسب» ولا يجوز ان يعطى من الزكاة من يصنع بها دعوة وضيافة للفقراء، ولا يقيم بها سماط لا لوارد ولا غير وارد.
بل يجب ان يعطى ملكا للفقير المحتاج بحيث ينفقها على نفسه وعياله في بيته ان شاء، ويقضي منها ديونه ويصرفها في حاجاته.
وليس في المسلمين من ينكر صرف الصدقات، وفاضل اموال المصالح الى الفقراء والمساكين ومن نقل عنه ذلك، فاما ان يكون من اجهل الناس بالعلم، واما ان يكون من اعظم الناس كفرا بالدين، بل بساير الملل والشرايع، او يكون النقل عنه كذبا او محرفا، فاما من هو متوسط في علم ودين فلا يخفى عليه ذلك، ولا ينهى عن ذلك.
ولكن قد اختلط في هذه الاموال المرتبة السلطانية الحق والباطل، فاقوام كثيرون من ذوي الحاجات، والدين، والعلم، لا يعطى احدهم كفايته، ويتمزق جوعا وهو لا يسال، ومن يعرفه فليس عنده ما يعطيه، واقوام كثيرون ياكلون اموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله، وقوم لهم رواتب اضعاف حاجاتهم، وقوم لهم رواتب مع غناهم، وعدم حاجاتهم، وقوم ينالون جهات كمساجد وغيرها فياخذون معلومها ويستثنون من يعطون شييا يسيرا، واقوام في الربط والزوايا ياخذون ما لا يستحقون، وياخذون فوق حقهم ويمنعون من هو احق منهم حقه او تمام حقه.
وهذا موجود في مواضيع كثيرة، ولا يستريب مسلم ان السعي في تمييز المستحق من غيره، واعطاء الولايات والارزاق من هو احق بها، والعدل بين الناس في ذلك وفعله بحسب الامكان هو من افضل اعمال ولاة الامور، بل ومن اوجبها عليهم، فان الله يامر بالعدل، والاحسان، والعدل واجب على كل احد في كل شيء، وكما ان النظر في الجند المقاتلة والتعديل بينهم وزيادة من يستحق الزيادة، ونقصان من يستحق النقصان، واعطاء العاجز عن الجهاد من جهة اخرى هو من احسن افعال ولاة الامور واوجبها.
فكذلك النظر في حال ساير المرتزقين من اموال الفيء والصدقات والمصالح والوقوف والعدل بينهم في ذلك، واعطاء المستحق تمام كفايته، ومنع من دخل في المستحقين وليس منهم من ان يزاحمهم في ارزاقهم، واذا ادعى الفقر من لم يعرف به الغني وطلب الاخذ من الصدقات، فانه يجوز للامام ان يعطيه بلا بينة بعد ان يعلمه انه لا حظ فيها لغني.
ولا لقوي مكتسب، فان النبي - صلى الله عليه وسلم - «ساله رجلان من الصدقة فلما راهما جلدين صعد فيهما النظر، وصوبه فقال: ان شيتما اعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب» .
واما ان ذكر ان له عيالا فهل يفتقر الى بينة؛ فيه قولان للعلماء مشهوران: هما قولان في مذهب الشافعي، واحمد، واذا راى الامام قول من يقول فيه يفتقر الى بينة، فلا نزاع بين العلماء انه لا يجب ان تكون البينة من الشهود المعدلين، بل يجب انهم لم يرتزقوا على اداء الشهادة، فترد شهادتهم اذا اخذوا عليها رزقا لا سيما مع العلم بكثرة من يشهد بالزور.
ولهذا كانت العادة ان الشهود في العامة المرتزقة بالشهادة لا يشهدون في الاجتهاديات: كالاعشار، والرشد، والعدالة، والاهلية، والاستحقاق، ونحو ذلك، بل يشهدون بالحسيات، كالذي سمعوه وراوه، فان الشهادة بالاجتهاديات ت يدخلها التاويل والتهم، فالجعل يسهل الشهادة فيها بغير تحر، بخلاف الحسيات فان الزيادة فيها كذب صريح لا يقدم عليه الا من يقدم على صريح الزور، وهولاء اقل من غيرهم، بل اذا اتى الواحد من هولاء بمن يعرف صدقه من جيرانه ومعارفه واهل الخبرة الباطنة به قبل ذلك منهم، واطلاق القول بان جميع من بالربط والزوايا غير مستحقين باطل ظاهر البطلان.
كما ان اطلاق القول بان كل من فيهم مستحق لما ياخذه هو باطل ايضا، فلا هذا ولا هذا بل فيهم المستحق الذي ياخذ حقه وفيهم من ياخذ فوق حقه، وفيهم من لا يعطى الا دون حقه، وفيهم غير المستحق حتى انهم في الطعام الذي يشتركون فيه يعطى احدهم افضل مما يعطى الاخر، وان كان اغنى منه خلاف ما جرت عادة اهل العدل الذين يسوون في الطعام بالعدل، كما يعمل في رباطات اهل العدل.
وامر ولي الامر بجميع هولاء بينهم هو من افضل العبادات، واعظم الواجبات، وما ذكر عن بعض الحكام من انه لا يستحق من هولاء الا الاعمى والمكسح، والزمن قول لم يعلمه احد من المسلمين ولا يتصور ان يقول هذا حاكم ممن جرت العادة بان يتولى الحكم، اللهم الا ان يكون من اجهل الناس او افجرهم.
فمعلوم ان ذلك يقدح في عدالته، وانه يجب ان يستدل به على جرحه كما انه ان كان الناقل لهذا عن حاكم قد كذب عليه فينبغي ان يعاقب على ذلك عقوبة مردعة، وامثاله من المفترين على الناس، وعقوبة الامام للكذب المفترى على الناس والمتكلم فيهم وفي استحقاقهم لما يخالف دين الاسلام لا يحتاج الى دعواهم.
بل العقوبة في ذلك جايزة بدون دعوى احد كعقوبته لمن يتكلم في الدين بلا علم، فيحدث بلا علم ويفتي بلا علم.
وامثال هولاء يعاقبون، فعقوبة كل هولاء جايزة بدون دعوى، فان الكذب على الناس والتكلم في الدين وفي الناس بغير حق كثير في كثير من الناس، فمن قال انه لا يستحق الا الاعمى، والزمن، والمكسح فقد اخطا باتفاق المسلمين.
وكذلك من قال ان اموال بيت المال على اختلاف اصنافها مستحقة لاصناف منهم الفقراء، وانه يجب على الامام اطلاق كفايتهم من بيت المال فقد اخطا، بل يستحقون من الزكوات بلا ريب، واما من الفيء والمصالح فلا يستحقون الا ما فضل من المصالح العامة.
ولو قدر انه لم يحصل لهم من الزكوات ما يكفيهم واموال بيت المال مستغرقة بالمصالح العامة كان اعطاء العاجز منهم عن الكسب فرضا على الكفاية، فعلى المسلمين جميعا ان يطعموا الجايع ويكسوا العاري، ولا يدعوا بينهم محتاجا، وعلى الامام ان يصرف ذلك من المال المشترك الفاضل عن المصالح العامة التي لا بد منها.
واما من ياخذ بمصلحة عامة فانه ياخذ مع حاجته باتفاق المسلمين وهل له ان ياخذ مع الغنى كالقاضي، والشاهد، والمفتي، والحاسب، والمقري، والمحدث، اذا كان غنيا فهل له ان يرتزق على ذلك من بيت المال مع غناه قولان مشهوران للعلماء، وكذلك قول القايل ان عناية الامام باهل الحاجات تجب ان تكون فوق عنايته باهل المصالح العامة التي لا بد للناس منها في دينهم ودنياهم، كالجهاد، والولاية، والعلم ليس بمستقيم لوجوه.
احدها: ان العلماء قد نصوا على انه يجب في مال الفيء والمصالح ان يقدم اهل المنفعة العامة، واما مال الصدقات فياخذ نوعان نوع ياخذ بحاجته كالفقراء، والمساكين، والغارمين لمصلحة انفسهم، وابن السبيل، وقوم ياخذون لمنفعتهم: كالعاملين في اصلاح ذات البين، كمن فيه نفع عام كالمقاتلة وولاة امورهم، وفي سبيل الله، وليس احد الصنفين احق من الاخر، بل لا بد من هذا وهذا.
الثاني: ان ما يذكره كثير من القايمين بالمصالح من الجهاد والولايات والعلم من فساد النية، معارض بما يوجد في كثير من ذوي الحاجات من الفسق والزندقة.
وكما ان من ذوي الحاجات صالحين اولياء لله ففي المجاهدين والعلماء اولياء الله، واولياء الله هم المومنون المتقون من اي صنف كانوا، ومن كان من اولياء الله من اهل الجهاد والعلم افضل ممن لم يكن من هولاء فان سادات اولياء الله من المهاجرين والانصار، كانوا كذلك، وقول القايل اليوم في زماننا كثير من المجاهدين والعلماء انما يتخذون الجهاد، والقتال، والاشتغال بالعلم، معيشة دنيوية يحامون بها عن الجاه والمال وانهم عصاة بقتالهم واشتغالهم، مع انضمام معاص ومصايب اخرى لا يتسع الحال لها، والمجاهد لتكون كلمة الله هي العليا، والمعلم ليكون التعلم محض التقرب قليل الوجود او مفقود بلا ريب ان الاخلاص واتباع السنة فيمن لا ياكل اموال الناس اكثر ممن ياكل الاموال بذلك، بل والزندقة تعارضه بما هو اصدق منه وهو ان يقال كثير من اهل الربط والزوايا والمتظاهرين للناس بالفقر انما يتخذون ذلك معيشة دنيوية، هذا مع انضمام كفر وفسوق ومصايب لا يتسع الحال لقولها بمثل دعوى الحلول والاتحاد في العباد اكثر منها في اهل العلم والجهاد.
وكذلك التقرب الى الله بالعبادات البدعية، ومعلوم انه في كل طايفة بر، وفاجر، وصديق، وزنديق، والواجب موالاة اولياء الله المتقين من جميع الاصناف، وبعض الكفار والمنافقين من جميع الاصناف، والفاسق الملي يعطى من الموالاة بقدر ايمانه، ويعطى من المعاداة بقدر فسقه، فان مذهب اهل السنة والجماعة ان الفاسق الملي له الثواب والعقاب اذا لم يعف الله عنه، وانه لا بد ان يدخل النار من الفساق من شاء الله، وان كان لا يخلد في النار احد من اهل الايمان، بل يخلد فيها المنافقون كما يخلد فيها المتظاهرون بالكفر.
الوجه الثالث: ان يقال غالب الذين ياخذون لمنفعة المسلمين من الجند، واهل العلم، ونحوهم محاويج ايضا، بل غالبهم ليس له رزق الا العطاء، ومن ياخذ للمنفعة والحاجة، اولى ممن ياخذ بمجرد الحاجة.
الوجه الرابع: ان يقال العطاء اذا كان لمنفعة المسلمين لم ينظر الى الاخذ هل هو صالح النية او فاسدها، ولو ان الامام اعطى ذوي الحاجات العاجزين عن القتال، وترك اعطاء المقاتلة حتى يصلحوا نياتهم لاهل الاسلام، واستولى الكفار على بلاد الاسلام، فان تعليق العطايا في القلوب متعذر، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ان الله ليويد هذا الدين بالرجل الفاجر، وباقوام لا خلاق لهم» .
وقال: «اني لاعطي رجالا وادع رجالا، والذين ادع احب الي من الذين اعطي، اعطي رجالا لما في قلوبهم من الهلع والجزع، واكل رجالا لما في قلوبهم من الغنى والخير» .
وقال: «اني لاعطي احدهم العطية فيخرج بها يتابطها نارا، قالوا: يا رسول الله، فلم تعطيهم؟ قال: يابون الا ان يسالوني ويابى الله لي البخل» ولما كان عام حنين قسم غنايم حنين بين المولفة قلوبهم من اهل نجد، والطلقاء من قريش، كعيينة بن حصين، والعباس بن مرداس، والاقرع بن حابس، وامثالهم، وبين سهيل بن عمرو، وصفوان بن امية، وعكرمة بن ابي جهل، وابي سفيان بن حرب، وابنه معاوية، وامثالهم من الطلقاء اللذين اطلقهم عام الفتح، ولم يعط المهاجرين والانصار شييا.
اعطاهم ليتالف بذلك قلوبهم على الاسلام وتاليفهم عليه مصلحة عامة للمسلمين، والذين لم يعطهم هم افضل عنده وهم سادات اولياء الله المتقين، وافضل عباد الله الصالحين بعد النبيين المرسلين، والذين اعطاهم منهم من ارتد عن الاسلام قبل موته، وعامتهم اغنياء لا فقراء فلو كان العطاء للحاجة مقدما على العطاء للمصلحة العامة لم يعط النبي - صلى الله عليه وسلم - هولاء الاغنياء السادة المطاعين في عشايرهم، ويدع عطاء من عنده من المهاجرين والانصار الذين هم احوج منهم وافضل.
وبمثل هذا طعن الخوارج على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له اولهم: يا محمد اعدل فانك لم تعدل: قال: ان هذه القسمة ما اريد بها وجه الله تعالى حتى قال النبي: «ويحك ومن يعدل اذا لم اعدل، لقد خبت وخسرت ان لم اعدل فقال له بعض الصحابة: دعني اضرب عنق هذا.
فقال: انه يخرج من ضيضيي هذا قوم يحقر احدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم يقرءون القران لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية، اينما لقيتموهم فاقتلوهم فان في قتلهم اجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة» .
وفي رواية: «لين ادركتهم لاقتلنهم قتل عاد» .
وهولاء خرجوا على عهد امير المومنين علي بن ابي طالب - رضي الله عنه - فقتل الذين قاتلوه جميعهم مع كثرة صومهم وصلاتهم وقراءتهم، فاخرجوا عن السنة والجماعة وهم قوم لهم عناء وورع وزهد لكن بغير علم فاقتضى ذلك عندهم ان العطاء لا يكون الا لذوي الحاجات، وان اعطاء السادة المطاعين الاغنياء لا يصلح لغير الله بزعمهم، وهذا من جهلهم فانما العطاء انما هو بحسب مصلحة دين الله، فكلما كان لله اطوع ولدين الله انفع كان العطاء فيه اولى، وعطاء محتاج اليه في اقامة الدين وقمع اعدايه واظهاره واعلايه اعظم من اعطاء من لا يكون كذلك، وان كان الثاني احوج.
وقول القايل: ان هذه القيود على مذهب الشافعي، دون مذهب مالك، وما نقله من مذهب عمر، فهذا يحتاج الى معرفة بمذاهب الايمة في ذلك، وسيرة الخلفاء في العطاء، واصل ذلك ان الارض اذا فتحت عنوة ففيها للعلماء ثلاثة اقوال: احدها: وهو مذهب الشافعي انه يجب قسمها بين الغانمين، الا ان تستطيب انفسهم فيقفها، وذكر في الام " انه لو حكم حاكم بوقفها من غير طيب انفسهم نقض حكمه؛ لان «النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم خيبر بين الغانمين» ، لكن جمهور الايمة خالفوا الشافعي في ذلك، وراوا ان ما فعله عمر بن الخطاب من جعل الارض المفتوحة عنوة فييا حسن جايز، وان عمر حبسها بدون استطابة انفس الغانمين، ولا نزاع ان كل ارض فتحها عمر بالشام عنوة، والعراق، ومصر، وغيرها لم يقسمها عمر بين الغانمين، وانما قسم المنقولات.
لكن قال مالك وطايفة وهو القول الثاني: انها مختصة باهل الحديبية، وقد صنف اسماعيل بن اسحاق امام المالكية في ذلك بما نازع به الشافعي في هذه المسالة، وتكلم على حججه.
وعن الامام احمد كالقولين لكن المشهور في مذهبه، هو القول الثالث: وهو مذهب الاكثرين: ابي حنيفة، واصحابه، والثوري، وابي عبيد، وهو ان الامام يفعل فيها ما هو اصلح للمسلمين من قسمها او حبسها، فان راى قسمها كما قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر فعل، وان راى ان يدعها فييا للمسلمين فعل كما فعل عمر.
وكما روي ان النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل بنصف خيبر، وانه قسم نصفها وحبس نصفها لنوايبه، وانه فتح مكة عنوة ولم يقسمها بين الغانمين، فعلم ان ارض العنوة يجوز قسمها، ويجوز ترك قسمها، وقد يقسمها بين الغانمين، فعلم ان ارض العنوة يجوز قسمها، ويجوز ترك قسمها، وقد صنف في ذلك مصنفا كبيرا.
اذا عرف ذلك فمصر هي مما فتح عنوة، ولم يقسمها عمر بين الغانمين، كما صرح بذلك ايمة المذاهب من الحنفية، والمالكية، والحنبلية، والشافعية، لكن تنقلت احوالها بعد ذلك كما تنقلت احوال العراق، فان حلفاء بني العباس نقلوه الى المقاسمة بعد المحاوصة، وهذا جايز في احد قولي العلماء، وكذلك مصر رفع عنها الخراج من مدة لا اعلم ابتداءها، وصارت الرقبة للمسلمين، وهذا جايز في احد قولي العلماء.
واما مذهب عمر في الفيء فانه يجعل لكل مسلم فيه حقا، لكنه يقدم الفقراء واهل المنفعة، كما قال عمر - رضي الله عنه -، ليس احد احق بهذا المال من احد انما هو الرجل وبلاوه، والرجل وغناوه، والرجل وسابقته، والرجل وحاجته، فكان يقدم في العطاء بهذه الاسباب وكانت سيرته التفضيل في العطاء بالفضايل الدينية.
واما ابو بكر الصديق - رضي الله عنه - فسوى بينهم في العطاء اذا استووا في الحاجة، وان كان بعضهم افضل في دينه، وقال: انما اسلموا لله واجورهم على الله، وانما هذه الدنيا بلاغ، وروي عنه انه قال: استوى فيهم ايمانهم يعني ان حاجتهم الى الدنيا واحدة، فاعطيهم لذلك لا للسابقة والفضيلة في الدين، فان اجرهم يبقى على الله، فاذا استووا في الحاجة الدنيوية سوى بينهم في العطاء.
ويروى ان عمر في اخر عمره قال: لان عشت الى قابل لاجعلن الناس بيانا واحدا اي ماية واحدة اي صنفا واحدا، وتفضيله كان بالاسباب الاربعة التي ذكرها الرجل وبلاوه وهو الذي يجتهد في قتال الاعداء، والرجل وغناوه وهو الذي يغني عن المسلمين في مصالحهم لولاة امورهم ومعلميهم، وامثال هولاء، والرجل وسابقته وهو من كان من السابقين الاولين، فانه كان يفضلهم في العطاء على غيرهم، والرجل وفاقته، فانه كان يقدم الفقراء على الاغنياء، وهذا ظاهر فانه مع وجود المحتاجين كيف يحرم بعضهم ويعطي لغني لا حاجة له ولا منفعة به، لا سيما اذا ضاقت اموال بيت المال عن اعطاء كل المسلمين غنيهم وفقيرهم، فكيف يجوز ان يعطي الغني الذي ليس فيه نفع عام، ويحرم الفقير المحتاج بل الفقير النافع.
وقد روي عن «النبي - صلى الله عليه وسلم - انه اعطى من اموال بني النضير، وكانت للمهاجرين لفقرهم، ولم يعط الانصار منها شييا لغناهم الا انه اعطى بعض الانصار لفقره» .
وفي السنن: ان النبي - صلى الله عليه وسلم - «كان اذا اتاه مال اعطى الاهل قسمين، والعزب قسما» فيفضل المتاهل على المتعزب؛ لانه محتاج الى نفقة نفسه ونفقة امراته، والحديث رواه ابو داود، وابو حاتم في صحيحه، والامام احمد في رواية ابي طالب، وقال: حديث حسن.
ولفظه عن عوف بن مالك ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «كان اذا اتاه الفيء قسمه من يومه فاعطى الاهل حظين واعطى العزب حظا» ، وحديث عمر رواه احمد، وابو داود، ولفظ ابي داود: عن مالك بن اوس بن الحدثان قال: ذكر عمر يوما الفيء فقال: ما انا باحق بهذا الفيء منكم، وما احد منا باحق به من احد الا انا على منازلنا من كتاب الله، الرجل وقدمه والرجل وبلاوه والرجل وغناوه والرجل وحاجته.
ولفظ احمد: قال كان عمر يحلف على ايمان ثلاث: والله ما احد احق بهذا المال من احد، وما انا احق به من احد، ووالله ما من المسلمين احد الا وله في هذا المال نصيب الا عبدا مملوكا، ولكنا على منازلنا من كتاب الله، فالرجل وبلاوه في الاسلام، والرجل وقدمه والرجل وغناوه في الاسلام والرجل وحاجته، والله لين بقيت لهم لاوتين الراعي بجبل صنعاء حظه في هذا المال، وهو يرعى مكانه.
فهذا كلام عمر الذي يذكر فيه بان لكل مسلم حقا يذكر فيه تقديم اهل الحاجات، ولا يختلف اثنان من المسلمين انه لا يجوز ان يعطى الاغنياء الذين لا منفعة لهم ويحرم الفقراء، فان هذا مضاد لقوله تعالى {كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم}[الحشر: 7] واذا جعل الفيء متداولا بين الاغنياء، فهذا الذي حرمه الله ورسوله، وهذه الاية في نفس الامر.
واما نقل الناقل مذهب مالك بان في المدونة وجزية جماجم اهل الذمة وخراج الارضين، ما كان منها عنوة او صلحا فهو عند مالك جزية، والجزية عنده فيء، قال: ويعطي هذا الفيء اهل كل بلدة افتتحوها عنوة او صالحوا عليها، فيقسم عليهم ويفضل بعض الناس على بعض من الفيء، ويبدا باهل الحاجة حتى يغنوا منه، ولا يخرج الى غيرهم، الا ان ينزل بقوم حاجة فينقل اليهم بعد ان يعطي اهله منه ما يغنيهم عن الاجتهاد، وقال ايضا: قال مالك: واما جزية الارض فما ادري كيف كان يصنع فيها، الا ان عمر قد اقر الارض فلم يقسمها بين الذين افتتحوها، وارى لمن ينزل ذلك به ان يكشف عنه من يرضاه، فان وجد عالما يستفتيه والا اجتهد هو ومن بحضرته راسا.
واما احياء الموات فجايز بدون اذن الامام في مذهب الشافعي، واحمد، وابي يوسف، ومحمد، واشترط ابو حنيفة ان يكون باذن الامام، وقال مالك: ان كان بعيدا عن العمران بحيث لا تباح الناس فيه لم يحتج الى اذنه وان كان مما قرب من العمران، ويباح الناس فيه افتقر الى اذنه، لكن ان كان الاحياء في ارض الخراج فهل يملك بالاحياء، ولا خراج عليه او يكون بيده، وعليه الخراج، على قولين للعلماء هما روايتان عن احمد.
واما من قتل او مات من المقاتلة فانه ترزق امراته واولاده الصغار، وفي مذهب احمد، والشافعي، في احد قوليه وغيرهما: فينفق على امراته حتى تتزوج، وعلى ابنته الصغيرة حتى تتزوج، وعلى ابنه الصغير، حتى يبلغ، ثم يجعل من المقاتلة ان كان يصلح للقتال والا ان كان من اهل الحاجة، والذين يعطون من الصدقة وفاضل الفيء والمصالح اعطى له من ذلك والا فلا.
What's Your Reaction?






