مسالة رجلين اختلفا في علم وفقه ابو بكر وعمر

مسالة رجلين اختلفا في علم وفقه ابو بكر وعمر

مسالة رجلين اختلفا في علم وفقه ابو بكر وعمر
1019 - 7

مسالة:

في رجلين اختلفا، فقال احدهما: ابو بكر الصديق وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - اعلم وافقه من علي بن ابي طالب - رضي الله عنه - وقال الاخر: بل علي بن ابي طالب اعلم وافقه من ابي بكر وعمر، فاي القولين اصوب.

وهل هذان الحديثان وهما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «اقضاكم علي» ، وقوله: «انا مدينة العلم وعلي بابها» صحيحان.

واذا كانا صحيحين هل فيهما دليل ان عليا اعلم وافقه من ابي بكر وعمر - رضي الله عنهم اجمعين -، واذا ادعى مدع ان اجماع المسلمين على ان عليا - رضي الله عنه - اعلم وافقه من ابي بكر وعمر - رضي الله عنهم اجمعين - يكون محقا او مخطيا.

الجواب::

الحمد لله.

لم يقل احد من علماء المسلمين المعتبرين ان عليا اعلم وافقه من ابي بكر وعمر، بل ولا من ابي بكر وحده.

ومدعي الاجماع على ذلك من اجهل الناس واكذبهم، بل ذكر غير واحد من العلماء اجماع العلماء على ان ابا بكر الصديق اعلم من علي، منهم الامام منصور بن عبد الجبار السمعاني المروزي احد الايمة الستة من اصحاب الشافعي.

ذكر في كتابه " تقويم الادلة " على الامام اجماع علماء السنة على ان ابا بكر اعلم من علي، وما علمت احدا من الايمة المشهورين ينازع في ذلك، وكيف وابو بكر الصديق كان بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - يفتي، ويامر، وينهى، ويقضي، ويخطب، كما كان يفعل ذلك اذا خرج هو وابو بكر يدعو الناس الى الاسلام، ولما هاجرا جميعا ويوم حنين، وغير ذلك من المشاهد، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ساكت يقره على ذلك ويرضى بما يقول، ولم تكن هذه المرتبة لغيره.

وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في مشاورته لاهل العلم والفقه والراي من اصحابه يقدم في الشورى ابا بكر وعمر، فهما اللذان يتقدمان في الكلام والعلم بحضرة الرسول على ساير اصحابه، مثل قصة مشاورته في اسرى بدر.

فاول من تكلم في ذلك ابو بكر وعمر، وكذلك غير ذلك، وقد روي في الحديث انه قال لهما: «اذا اتفقتما على امر لم اخالفكما» ولهذا كان قولهما حجة في احد قولي العلماء، وهو احدى الروايتين عن احمد، وهذا بخلاف قول عثمان وعلي.

وفي السنن: عنه انه قال: «اقتدوا باللذين من بعدي ابي بكر وعمر» .

ولم يجعل هذا لغيرهما، بل ثبت عنه انه قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ واياكم ومحدثات الامور، فان كل بدعة ضلالة» .

فامر باتباع سنة الخلفاء الراشدين، وهذا يتناول الايمة الاربعة، وخص ابا بكر وعمر بالاقتداء بهما، ومرتبة المقتدى به في افعاله وفيما سنه للمسلمين فوق سنة المتبع فيما سنه فقط.

وفي صحيح مسلم: «ان اصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا معه في سفر فقال: ان يطع القوم ابا بكر وعمر يرشدوا» .

وقد ثبت عن ابن عباس انه كان يفتي من كتاب الله، فان لم يجد فبما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فان لم يجد افتى بقول ابي بكر وعمر، ولم يكن يفعل ذلك بعثمان وعلي.

وابن عباس حبر الامة واعلم الصحابة وافقههم في زمانه، وهو يفتي بقول ابي بكر وعمر، مقدما لقولهما على قول غيرهما من الصحابة - رضي الله عنهم -.

وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه قال: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التاويل» .

وايضا فابو بكر وعمر - رضي الله عنهما - كان اختصاصهما بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فوق اختصاص غيرهما، وابو بكر كان اكثر اختصاصا فانه كان يسمر عنده عامة الليل يحدثه في العلم والدين، ومصالح المسلمين، كما روى ابو بكر بن ابي شيبة ثنا ابو معاوية عن الاعمش عن ابراهيم عن علقمة عن عمر - رضي الله عنه - قال «رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمر عند ابي بكر في الامر من امور المسلمين وانا معه» .

وفي الصحيحين: عن عبد الرحمن بن ابي بكر «ان اصحاب الصفة كانوا ناسا فقراء، وان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام اربعة فليذهب بخامس او بسادس» .

وان ابا بكر جاء بثلاثة، وانطلق نبي الله - صلى الله عليه وسلم - بعشرة، وان ابا بكر تعشى عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم لبث حتى صليت العشاء ثم رجع، فلبث حتى نعس رسول الله فجاء بعد ما مضى من الليل ما شاء الله، قالت امراته: ما حبسك عن اضيافك؟ قال او عشيتهم، قالت ابوا حتى تجيء عرضوا عليهم العشاء فغلبوهم، وذكر الحديث.

وفي رواية كان يتحدث الى النبي - صلى الله عليه وسلم - الى الليل.

وفي سفر الهجرة لم يصحب غير ابي بكر، ويوم بدر لم يبق معه في العريش غيره، وقال: «ان امن الناس علينا في صحبته وذات يده ابو بكر، ولو كنت متخذا من اهل الارض خليلا لاتخذت ابا بكر خليلا» .

وهذا من اصح الاحاديث المستفيضة في الصحاح من وجوه كثيرة.

وفي الصحيحين: عن ابي الدرداء «قال: كنت جالسا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - اذ اقبل ابو بكر اخذا بطرف ثوبه حتى ابدى عن ركبته، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اما صاحبكم فقد غامر فسلم وقال: اني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فاسرعت اليه ثم ندمت فسالته ان يغفر لي فابى علي فاتيتك، فقال: يغفر الله لك ثلاثا» .

ثم ان عمر ندم فاتى منزل ابي بكر فلم يجده، فاتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمعر، وغضب حتى اشفق ابو بكر، وقال: «انا كنت اظلم يا رسول الله مرتين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ان الله بعثني اليكم فقلتم كذبت، وقال ابو بكر صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل انتم تاركو لي صاحبي، فهل انتم تاركو لي صاحبي فما اوذي بعدها» .

قال البخاري: غامر: سبق بالخير.

وفي الصحيحين: عن ابن عباس قال: وضع عمر على سريره فتكنفه الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه قبل ان يرفع، وانا فيهم، فلم يرعني الا رجل قد اخذ بمنكبي من ورايي، فالتفت فاذا هو علي وترحم على عمر، وقال: ما خلفت احدا احب الي ان القى الله عز وجل بعمله منك، وايم الله ان كنت لاظن ان يجعلك الله مع صاحبيك، وذلك اني كنت كثيرا ما اسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - «يقول: جيت انا وابو بكر وعمر، ودخلت انا وابو بكر وعمر، وخرجت انا وابو بكر وعمر» ، فان كنت ارجو او اظن ان يجعلك الله معهما.

وفي الصحيحين وغيرهما: «انه لما كان يوم احد قال ابو سفيان، لما اصيب المسلمون: افي القوم محمد، افي القوم محمد، افي القوم محمد؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تجيبوه.

فقال: افي القوم ابن ابي قحافة، افي القوم ابن ابي قحافة، افي القوم ابن ابي قحافة؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تجيبوه.

فقال: افي القوم ابن الخطاب، افي القوم ابن الخطاب، افي القوم ابن الخطاب؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تجيبوه فقال لاصحابه: اما هولاء فقد كفيتموهم.

فلم يملك عمر نفسه ان قال: كذبت عدو الله ان الذين عددت لاحياء، وقد بقي لك ما يسوءك» وذكر الحديث.

فهذا امير الكفار في تلك الحال انما سال عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وابي بكر، وعمر، دون غيرهم، لعلمه بانهم رءوس المسلمين: النبي ووزيراه.

ولهذا سال الرشيد مالك بن انس عن منزلتهما من النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته، فقال: منزلتهما في حياته كمنزلتهما منه بعد مماته.

وكثرة الاختصاص والصحبة مع كمال المودة والايتلاف والمحبة والمشاركة في العلم والدين تقتضي انهما احق بذلك من غيرهما.

وهذا ظاهر بين لمن له خبرة باحوال القوم.

اما الصديق فانه مع قيامه بامور من العلم والفقه عجز عنها غيره حتى بينها لهم لم يحفظ له قول مخالف نصا.

وهذا يدل على غاية البراعة.

واما غيره فحفظت له اقوال كثيرة خالفت النص، لكن تلك النصوص لم تبلغهم، والذي وجد من موافقة عمر للنصوص اكثر من موافقة علي، وهذا يعرفه من عرف مسايل العلم واقوال العلماء فيها، وذلك مثل: نفقة المتوفى عنها زوجها، فان قول عمر هو الذي وافق النص، دون القول الاخر، وكذلك مسالة الحرام قول عمر وغيره فيها هو الاشبه بالنصوص من القول الاخر.

وقد ثبت في الصحيحين: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه قال: «قد كان في الامم قبلكم محدثون فان يكن في امتي احد فعمر» .

وفي الصحيحين: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «انه قال: رايت كاني اتيت بقدح لبن فشربت حتى اني لارى الري يخرج من اظفاري، ثم ناولت فضلي عمر، فقالوا: ما اولت يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: العلم» .

وفي الترمذي وغيره: انه قال: «لو لم ابعث فيكم لبعث عمر» .

وايضا فان الصديق استخلفه النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصلاة التي هي عمود الاسلام، وعلى اقامة المناسك التي ليس في مسايل العبادات اشكل منها، واقام المناسك قبل ان يحج النبي - صلى الله عليه وسلم - فنادى: «ان لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان» فاردفه بعلي بن ابي طالب، لينبذ العهد الى المشركين فلما لحقه قال: اميرا او مامورا؟ قال: بل مامورا.

فامر ابا بكر على علي بن ابي طالب.

وكان علي ممن امره النبي - صلى الله عليه وسلم - ان يسمع ويطيع في الحج واحكام المسافرين وغير ذلك لابي بكر، وكان هذا بعد غزوة تبوك الذي استخلف عليا فيها على المدينة، ولم يكن بقي بالمدينة من الرجال الا منافق او معذور او مذنب فلحقه علي فقال اتخلفني مع النساء والصبيان؟ فقال: «اما ترضى ان تكون مني بمنزلة هارون من موسى» .

بين بذلك ان استخلاف علي على المدينة لا يقتضي نقص المرتبة، فان موسى قد استخلف هارون، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - دايما يستخلف رجالا، لكن كان يكون بها رجال.

وعام تبوك خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - بجميع المسلمين ولم ياذن لاحد في التخلف عن الغزاة لان العدو كان شديدا، والسفر بعيدا، وفيها انزل الله سورة براءة.

وكتاب ابي بكر في الصدقات اخر الكتب واوجزها، ولهذا عمل به عامة الفقهاء، وكتاب غيره فيه ما هو متقدم منسوخ، فدل ذلك على انه علم بالسنة الناسخة.

وفي الصحيحين: عن ابي سعيد قال: وكان ابو بكر اعلمنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

وايضا فالصحابة في زمن ابي بكر لم يكونوا يتنازعون في مسالة الا فصلها بينهم ابو بكر وارتفع النزاع، فلا يعرف بينهم في زمانه مسالة واحدة تنازعوا فيها الا ارتفع النزاع بينهم بسببه كتنازعهم في وفاته - صلى الله عليه وسلم - ومدفنه وفي ميراثه، وفي تجهيز جيش اسامة، وقتال مانعي الزكاة، وغير ذلك من المسايل الكبار، بل كان خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم يعلمهم ويقومهم، ويبين لهم ما تزول معه الشبهة.

فلم يكونوا معه يختلفون.

وبعده لم يبلغ علم احد وكماله علم ابي بكر وكماله.

فصاروا يتنازعون في بعض المسايل كما تنازعوا في الجد والاخوة، وفي الحرام، وفي الطلاق الثلاث، وفي غير ذلك من المسايل المعروفة مما لم يكونوا يتنازعون فيه على عهد ابي بكر.

وكانوا يخالفون عمر وعثمان وعليا في كثير من اقوالهم، ولم يعرف انهم خالفوا ابا بكر في شيء مما كان يفتي فيه ويقضي، وهذا يدل على غاية العلم، وقام مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقام الاسلام، فلم يخل بشيء منه، بل دخل الناس من الباب الذي خرجوا منه مع كثرة المخالفين من المرتدين وغيرهم وكثرة الخاذلين، فكل به من علمهم ودينهم ما لا يقاومه فيه احد حتى قام الدين كما كان.

وكانوا يسمون ابا بكر خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم بعد هذا سموا عمر وغيره امير المومنين.

قال السهيلي وغيره من العلماء: ظهر قوله: {لا تحزن ان الله معنا}[التوبة: 40] في ابي بكر في اللفظ كما ظهر في المعنى، فكانوا يقولون: محمد رسول الله، وابو بكر خليفة رسول الله، ثم انقطع هذا الاتصال اللفظي بموته، فلم يقولوا لمن بعده خليفة رسول الله.

وايضا فعلي بن ابي طالب تعلم من ابي بكر بعض السنة، بخلاف ابي بكر فانه لم يتعلم من علي بن ابي طالب كما في الحديث المشهور الذي في السنن: حديث صلاة التوبة عن علي قال: «كنت اذا سمعت من النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا ينفعني الله منه بما شاء ان ينفعني، فاذا حدثني غيره استحلفته، فاذا حلف لي صدقته، وحدثني ابو بكر وصدق ابو بكر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه قال: ما من مسلم يذنب ذنبا ثم يتوضا ويحسن الوضوء ويصلي ركعتين ويستغفر الله الا غفر الله له» .

ومما يبين لك هذا ان ايمة علماء الكوفة الذين صحبوا عمر وعليا: كعلقمة، والاسود، وشريح القاضي، وغيرهم كانوا يرجحون قول عمر على قول علي.

واما تابعو اهل المدينة ومكة والبصرة، فهذا عندهم اظهر واشهر من ان يذكر، وانما الكوفة ظهر فيها فقه علي وعلمه بحسب مقامه فيها مدة خلافته، وكل شيعة علي الذين صحبوه لا يعرف عن احد منهم انه قدمه على ابي بكر وعمر، لا في فقه ولا علم ولا غيرهما، بل كل شيعته الذين قاتلوا معه عدوه كانوا مع ساير المسلمين يقدمون ابا بكر، الا طايفة غلت فيه كالتي ادعت فيه الالهية، وهولاء حرقهم علي بالنار، وطايفة كانت تسب ابا بكر، وكان راسهم عبد الله بن سبا، فلما بلغ عليا ذلك طلب قتله فهرب، وطايفة كانت تفضله على ابي بكر وعمر، قال: لا يبلغني عن احد منكم انه فضلني على ابي بكر وعمر الا جلدته حد المفتري.

وقد روي عن علي من نحو ثمانين وجها واكثر انه قال على منبر الكوفة: خير هذه الامة بعد نبيها ابو بكر وعمر.

وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره، من رواية رجال همدان خاصة التي يقول فيها علي: ولو كنت بوابا على باب جنة لقلت لهمدان ادخلي بسلام من رواية سفيان الثوري، عن منذر الثوري وكلاهما من همدان، رواه البخاري عن محمد بن كثير.

قال: ثنا سفيان الثوري ثنا جامع بن شداد ثنا ابو يعلى منذر الثوري عن محمد بن الحنفية قال قلت لابي: يا ابت من خير الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا بني اوما تعرف؟ فقلت: لا، فقال: ابو بكر، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر، وهذا يقوله لابنه الذي لا يتقيه ولخاصته، ويتقدم بعقوبة من يفضله عليهما.

والمتواضع لا يجوز له ان يتقدم بعقوبة كل من قال الحق، ولا يجوز ان يسميه مفتريا وراس الفضايل العلم، وكل من كان افضل من غيره من الانبياء والصحابة وغيرهم فانه اعلم منه.

قال تعالى: {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}[الزمر: 9] .

والدلايل على ذلك كثيرة وكلام العلماء في ذلك كثير.

واما قوله: «اقضاكم علي» فلم يروه احد من اهل الكتب الستة ولا اهل المسانيد المشهورة لا احمد ولا غيره باسناد صحيح ولا ضعيف، وانما يروى من طريق من هو معروف بالكذب، ولكن قال عمر بن الخطاب: ابي اقرونا، وعلي اقضانا وهذا قاله بعد موت ابي بكر.

والذي في الترمذي وغيره: ان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اعلم امتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل، واعلمها بالفرايض زيد بن ثابت» وليس فيه ذكر علي.

والحديث الذي فيه ذكر علي مع ضعفه فيه ان معاذ بن جبل اعلم بالحلال والحرام وزيد بن ثابت اعلم بالفرايض، فلو قدر صحة هذا الحديث لكان الاعلم بالحلال والحرام اوسع علما من الاعلم بالقضاء؛ لان الذي يختص بالقضاء، انما هو فصل الخصومات في الظاهر، مع جواز ان يكون الباطن بخلافه.

كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «انكم تختصمون الي ولعل بعضكم ان يكون الحن بحجته من بعض، وانما اقضي بنحو ما اسمع، فمن قضيت له من حق اخيه شييا فلا ياخذه فانما اقطع له قطعة من النار» .

فقد اخبر سيد القضاة ان قضاءه لا يحل الحرام، بل يحرم على المسلم ان ياخذ بقضايه ما قضي له به من حق الغير، وعلم الحلال والحرام يتناول الظاهر والباطن، فكان الاعلم به اعلم بالدين.

وايضا فالقضاء نوعان: احدهما: الحكم عند تجاحد الخصمين مثل ان يدعي احدهما امرا يكذبه الاخر فيه، فيحكم فيه بالبينة ونحوها.

والثاني: ما لا يتجاحدان فيه يتصادقان، ولكن لا يعلمان ما يستحق كل منهما كتنازعهما في قسم فريضة، او فيما يجب لكل من الزوجين على الاخر، او فيما يستحقه كل من الشريكين ونحو ذلك، فهذا الباب هو من ابواب الحلال والحرام، فاذا افتاهما من يرضيان بقوله كفاهما ذلك، ولم يحتاجا الى من يحكم بينهما، وانما يحتاجان الى حاكم عند التجاحد، وذاك انما يكون في الاغلب مع الفجور وقد يكون مع النسيان، فاما الحلال والحرام فيحتاج اليه كل احد من بر وفاجر، وما يختص بالقضاء لا يحتاج اليه الا قليل من الابرار.

ولهذا لما امر ابو بكر عمر ان يقضي بين الناس مكث حولا لم يتحاكم اثنان في شيء، ولو عد مجموع ما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذا النوع لم يبلغ عشر حكومات، فاين هذا من كلامه في الحلال والحرام.

الذي هو قوام دين الاسلام.

يحتاج اليه الخاص والعام.

وقوله: «اعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل» اقرب الى الصحة باتفاق علماء الحديث من قوله: «اقضاكم علي» لو كان مما يحتج به.

واذا كان ذلك اصح اسنادا واظهر دلالة علم ان المحتج بذلك على ان عليا اعلم من معاذ بن جبل جاهل، فكيف من ابي بكر وعمر اللذين هما اعلم من معاذ بن جبل، مع ان الحديث الذي فيه ذكر معاذ وزيد يضعفه بعضهم ويحسنه بعضهم.

واما الحديث الذي فيه ذكر علي فانه ضعيف.

واما حديث «مدينة العلم» فاضعف واوهى، ولهذا انما يعد في الموضوعات المكذوبات، وان كان الترمذي قد رواه، ولهذا ذكره ابن الجوزي في الموضوعات "، وبين انه موضوع من ساير طرقه، والكذب يعرف من نفس متنه لا يحتاج الى النظر في اسناده، فان النبي - صلى الله عليه وسلم - اذا كان مدينة العلم، لم يكن لهذه المدينة الا باب واحد، ولا يجوز ان يكون المبلغ عنه واحدا، بل يجب ان يكون المبلغ عنه اهل التواتر الذين يحصل العلم بخبرهم للغايب، ورواية الواحد لا تفيد العلم الا مع قراين، وتلك القراين اما ان تكون منتفية، واما ان تكون خفية عن كثير من الناس او اكثرهم، فلا يحصل لهم العلم بالقران والسنة المتواترة بخلاف النقل المتواتر الذي يحصل به العلم للخاص والعام.

وهذا الحديث انما افتراه زنديق او جاهل ظنه مدحا، وهو مطرق الزنادقة الى القدح في علم الدين اذا لم يبلغه الا واحد من الصحابة.

ثم ان هذا خلاف المعلوم بالتواتر، فان جميع مداين المسلمين بلغهم العلم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير طريق علي - رضي الله عنه -.

اما اهل المدينة ومكة فالامر فيهم ظاهر، وكذلك اهل الشام والبصرة، فان هولاء لم يكونوا يروون عن علي الا شييا قليلا، وانما غالبه كان في اهل الكوفة، ومع هذا فقد كانوا تعلموا القران والسنة قبل ان يتولى عثمان فضلا عن خلافة علي، وكان افقه اهل المدينة واعلمهم تعلموا الدين في خلافة عمر، وقبل ذلك لم يتعلم احد منهم من علي شييا الا من تعلم منه لما كان باليمن، كما تعلموا حينيذ من معاذ بن جبل.

وكان مقام معاذ بن جبل في اهل اليمن وتعليمه لهم اكثر من مقام علي وتعليمه.

ولهذا روى اهل اليمن عن معاذ اكثر مما رووه عن علي.

وشريح وغيره من اكابر التابعين انما تفقهوا على معاذ.

ولما قدم علي الكوفة كان شريح قاضيا فيها قبل ذلك وعلي وجد على القضاء في خلافته شريحا وعبيدة السلماني وكلاهما تفقه على غيره.

فاذا كان علم الاسلام انتشر في مداين الاسلام بالحجاز والشام واليمن والعراق وخراسان ومصر والمغرب قبل ان يقدم الى الكوفة، لما صار الى الكوفة عامة ما بلغه من العلم بلغه غيره من الصحابة، ولم يختص علي بتبليغ شيء من العلم الا وقد اختص غيره بما هو اكثر منه، فالتبليغ العام الحاصل بالولاية حصل لابي بكر وعمر وعثمان منه اكثر مما حصل لعلي.

واما الخاص فابن عباس كان اكثر فتيا منه، وابو هريرة اكثر رواية منه، وعلي اعلم منهما كما ان ابا بكر وعمر وعثمان اعلم منهما ايضا، فان الخلفاء الراشدين قاموا من تبليغ العلم العام بما كان الناس احوج اليه مما بلغه من بلغ بعض العلم الخاص.

واما ما يرويه اهل الكذب والجهل من اختصاص علي بعلم انفرد به عن الصحابة فكله باطل، وقد ثبت عنه في الصحيح انه قيل له: هل عندكم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرا النسمة الا فهما يوتيه الله عبدا في كتابه وما في هذه الصحيفة، وكان فيها عقول الديات، اي اسنان الابل التي تجب فيه الدية، وفيها فكاك الاسير، وفيها لا يقتل مسلم بكافر.

وفي لفظ: هل عهد اليكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شييا لم يعهده الى الناس فنفى ذلك، الى غير ذلك من الاحاديث عنه التي تدل على ان كل من ادعى ان النبي - صلى الله عليه وسلم - خصه بعلم فقد كذب عليه.

وما يقوله بعض الجهال انه شرب من غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - فاورثه علم الاولين والاخرين، من اقبح الكذب البارد، فان شرب غسل الميت ليس بمشروع ولا شرب علي شييا، ولو كان هذا يوجب العلم لشركه في ذلك كل من حضر، ولم يرو هذا احد من اهل العلم.

وكذلك ما يذكر انه كان عنده علم باطن امتاز به عن ابي بكر وعمر وغيرهما، فهذا من مقالات الملاحدة الباطنية ونحوهم الذين هم اكفر منهم، بل فيهم من الكفر ما ليس في اليهود والنصارى، كالذين يعتقدون الهيته ونبوته، وانه كان اعلم من النبي - صلى الله عليه وسلم - وانه كان معلما للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الباطن، ونحو هذه المقالات التي انما يقولها الغلاة في الكفر والالحاد والله سبحانه وتعالى اعلم.

What's Your Reaction?

like
0
dislike
0
love
0
funny
0
angry
0
sad
0
wow
0